تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

نقول : تأخير العقاب إلى الآخرة لا يسمى مغفرة وإلا كان غافرا للكفار. وأيضا إنه تعالى مدح نفسه بهذا والتمدح إنما يحصل بالتفضل لا بأداء الواجب. وعندكم يجب غفران الصغائر لمن اجتنب الكبائر. وجواب الباقي ما مر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش ولو لا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد» قال أهل النظم : إن الكفار طعنوا في نبوته بسبب الطعن في الحشر والنشور ، ثم طعنوا في نبوّته بسبب استبطاء نزول العذاب ، ثم طعنوا في نبوّته بسبب عدم الاعتداد بمعجزاته وذلك قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وقد تقدم مثل هذا في «الأنعام» في تفسير قوله : وقالوا لو لا أنزل عليه آية من ربه [الأنعام : ٨] ويجيء مثل هذه بعينها في هذه السورة. قيل : وليس بتكرار محض لأن المراد بالأول آية مما اقترحوا نحو ما في قوله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ) [الإسراء : ٩٠] الآيات. وبالثاني آية ما لأنهم لم يهتدوا إلى أن القرآن آية فوق كل آية وأنكروا سائر آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لعلهم ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر المعجزات فأجاب سبحانه تسلية لرسوله (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) ما عليك إلا الإتيان بما يصح به دعوى إنذارك ورسالتك (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) من الأنبياء يدعوهم إلى الله بوجه من الهداية والإرشاد يليق بزمانه وبأمته. ولم يجعل الأنبياء شرعا في المعجزات فعلى هذا التقدير المنذر النبي والهادي نبي إلا أن الأول محمد والثاني نبي كل زمان. وقيل : المنذر محمد والهادي هو الله تعالى قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك. والمعنى أنهم إن جحدوا كون القرآن. معجزا فلا يضيقن قلبك بسببه فما عليك إلا الإنذار ، وأما الهداية فمن الله. وقيل : المنذر النبي والهادي هو علي. روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضع يده على صدره فقال : أنا المنذر وأومأ إلى منكب علي فقال : وأنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون بعدي قاله في التفسير الكبير.

ثم أكد المعاني المذكورة في الآيات السابقة بقوله : (اللهُ يَعْلَمُ) لأنه إذا كان عالما بجميع المعلومات قدر على تمييز أجزاء بدن كل مكلف من غيره فلا يستنكر منه البعث ، ويكون نزول العذاب مفوّضا إلى عمله فلا يجوز استعجاله به ، وكذا إنزال الآيات يكون موكولا إلى تدبيره فإن علم أن المكلفين اقترحوها لأجل الاسترشاد ومزيد البيان أظهرها الله تعالى لهم وإلا فلا ، وفيه أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره أمر مدبر بالعلم النافذ مقدر بالحكمة الربانية. وعلى القول الثاني فيه أن من هذه قدرته وهذا علمه هو القادر وحده على هدايتهم بأي طريق شاء ، وعلى هذا احتمل أن يكون (اللهُ) خبر مبتدأ محذوف والجملة مفسرة لـ (هادٍ) أي هو الله. ثم ابتدأ فقيل : (يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُ

١٤١

أُنْثى) قال في الكشاف : لفظة «ما» في (ما تَحْمِلُ) و (ما تَغِيضُ) و (ما تَزْدادُ) إما أن تكون مصدرية والمعنى يعلم حمل كل أنثى ويعلم غيض الأرحام وازديادها أو غيوض ما فيها وزيادته على أن الفعلين غير متعديين فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها. والازدياد «افتعال» من زاد فأبدلت التاء دالا ، وإنه يتعدى ولا يتعدى كثلاثيه. أو موصولة والمراد يعلم ما تحمله من الولد ذكورته وأنوثته وتخاطيط أعضائه وسائر أحواله من السعادة وضدها ومن العلم وضده إلى غير ذلك ، ويعلم ما تغيضه الأرحام أي تنقصه كقوله : (وَغِيضَ الْماءُ) [هود : ٤٤] وما تزداده من العدد فقد يكون واحدا وأكثر ، ومن الخلقة فقد يكون تاما أو مخدجا ، ومن المدة فقد يكون أقل من تسعة أشهر أو أزيد إلى سنتين عند أبي حنيفة ، وإلى أربع عند الشافعي ، وإلى خمس عند مالك ، ومن دم الحيض. قال ابن عباس : كلما سال الحيض يوما زاد في مدة الحمل يوما ليحصل الجبر ويعتدل الأمر. ثم بين كمال علمه ونفاذ أمره بقوله : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) واحد لا يتجاوزه في طرفي التفريط والإفراط ، والمراد بالعندية العلم كما يقال : هذه المسألة عند الشافعي كذا. وذلك أنه سبحانه خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة حسب مشيئته الأزلية وإرادته السرمدية. وقال حكماء الإسلام : وضع أسبابا كلية وأودع فيها قوى وخواص وحرك الأجرام بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية معينة ومناسبات معلومة مقدّرة ، ومن جملتها أفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم ولذلك ختم الآية بقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي هو عالم بما غاب عن الحس وبما حضر له ، أو بما غاب عن الخلق وبما شهدوه أو بالمعدومات وبالموجودات (الْكَبِيرُ) في ذاته لا بحسب الحجمية بل بالرتبة والشرف لأنه أجل الموجودات (الْمُتَعالِ) المنزه عن كل ما يجوز عليه في ذاته في صفاته وفي أفعاله.

ثم زاد في التأكيد فقال : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) أي مستوفى علمه هذان لأنه يعلم السر كما يعلم الجهر لا يتفاوت في علمه أحد الحالين (وَ) سواء عنده (مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ) على أن (سارِبٌ) معطوف على (مَنْ) لا على (مُسْتَخْفٍ) ليتناول معنى الاستواء شخصين : أحدهما مستخف والآخر سارب. وإلا فلم يتناول إلا واحدا هو مستخف وسارب إلا أن يكون «من» في معنى الاثنين حتى كأنه قيل : سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب (بِالنَّهارِ) وفي المستخفي والسارب قولان : أحدهما أن المستخفي هو المستتر الطالب للخفاء في ظلمة الليل ، والسارب من يضطرب في الطرقات ظاهرا بالنهار يبصره كل أحد. يقال : سرب في الأرض سروبا أي ذهب في

١٤٢

سربه بالفتح والسكون وهو الطريق ويؤيده قول مجاهد : معناه سواء من يقدم على القبائح في ظلمات الليالي ومن يأتي بها في النهار الظاهر على سبيل التوالي. وثانيهما نقل الواحدي عن الأخفش وقطرب : المستخفي الظاهر من قولهم : «اختفيت الشيء» أي استخرجته ، والسارب المتواري الداخل سربا بفتحتين ومنه انسرب الوحش إذا دخل في كناسه. وهذا وإن صح من حيث اللغة لكن قرينتي الليل والنهار إنما تساعدان القول الأول ، ولهذا أطبق أكثر المفسرين عليه. ثم ذكر ما يجري في الظاهر مجرى السبب لاستواء علمه بحال المسر والمعلن فقال : (لَهُ) أي لمن أسر ومن جهر ومن استخفى ومن سرب (مُعَقِّباتٌ) جماعات من الملائكة تعقب في حفظه وكلاءته. والأصل معتقبات فأدغمت ، أو هو على أصله من عقبه بالتشديد إذا جاء على عقبه لأن بعضهم يعقب بعضا ، أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه. والتأنيث للمبالغة نحو «نسابة» و «علامة» ، أو لأنه جمع معقبة أي ملائكة معقبة أو جماعة معقبة. وقوله : (مِنْ أَمْرِ اللهِ) ليس من صلة الحفظ لأنه لا قدرة للملك ولا لأحد من الخلق على أن يحفظوا أحدا من قضاء الله وإنما هو صفة أخرى كأنه قيل : له معقبات من أمر الله يحفظونه ، أو له معقبات يحفظونه ، ثم بين سبب الحفظ فقال : (مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي من أجل أن الله أمرهم بحفظه فمن بمعنى الباء وقرأ به عليّ وابن عباس وغيرهما ، ويجوز أن يكون صلة على معنى يحفظونه من بأس الله إذا أذنب بدعائهم له ومسألتهم ربهم أن يمهله رجاء أن يتوب. قال ابن جريج : هو مثل قوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧] صاحب اليمين يكتب الحسنات والذي عن يساره يكتب السيئات. وقال مجاهد : ما من عبد إلا وله ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته. وقيل : المراد يحفظونه من جميع المهالك من بين يديه ومن خلفه لأن كلا من المستخفي والسارب إذا سعى في مهماته فإنما يحذر من الجهتين.

وما الفائدة في تسليط هؤلاء على ابن آدم؟ قال علماء الشريعة : إن الشياطين يدعون إلى المعاصي والشرور وهؤلاء الملائكة يدعون إلى الخيرات والطاعات بالإلهامات الحسنة والإخطارات الشريفة ، وإذا علم ابن آدم أن معه ملائكة يحصون عليه أفعاله وأقواله استحيا منهم وكان ذلك له رادعا قويا ، وقد مر في هذا الباب كلام في «الأنعام» في قوله : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) فليتذكر [الآية : ٦١]. وللآية تفسير آخر منقول عن ابن عباس واختاره أبو مسلم الأصفهاني قال : المعقبات الحرس وأعوان الملوك ، والجملة وهي قوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ) صفة للمستخفي والسارب أو حال منه لكونه نكرة موصوفة أي يستوي في علم الله السر والجهر ، والمستخفي بظلمة الليل والسارب بالنهار مستظهرا

١٤٣

بالمعاونين والأنصار. والمقصود بعث الأمراء والسلاطين على أن يطلبوا الخلاص عن المكاره بعصمة الله لا بالحرس والأعوان ولذلك ختم الآية بقوله (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) ممن يلي أمرهم ويدفع عنهم. قالت الأشاعرة : في هذا الكلام دلالة على أن العبد غير مستقل في الفعل لأنه إذا كفر العبد فلا شك أنه تعالى حكم بكونه مستحقا للذم في الدنيا والعقاب في الآخرة ، فلو كان العبد مستقلا لحصل الإيمان وكان رادا لقضاء الله تعالى. وقالت المعتزلة : هذا معارض بما تقدم عليه من كلام الله وهو قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) لأنه لو ابتدأ بالعبد أول ما يبلغ بالضلال والخذلان كان ذلك من أعظم العقاب مع أنه ما كان منه تغيير. قالوا : وفيه دليل على أنه لا يعاقب أطفال المشركين بذنوب آبائهم لأنهم لم يغيروا ما بأنفسهم من نعمة فيغير الله ما بهم من النعمة إلى العقاب. أجابت الأشاعرة بأن هذا راجع إلى قوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) بين الله سبحانه بذلك أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر حتى قالوا : إذا كان المعلوم أن فيهم من يؤمن أو في أعقابهم من يؤمن فإنه لا يستأصلهم. ورد بأن هذا خلاف الظاهر وقد صرح بذلك في سورة الأنفال في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً) [الآية : ٥٣] الآية. والحق أن ترتب النقمة على تغيير النعمة لا ينافي استناد تغيير النعمة إليه فإنه مبدأ المبادئ وانتهاء الوسائط وسبب الأسباب.

التأويل : (المر) الألف الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، اللام له مقاليد السموات والأرض ، الميم مالك يوم الدين ، الراء رب العالمين من الأزل إلى الأبد. أقسم بهذه الأمور أن الذي أنزل على عبده محمد هو الحق ، وأنه حبل الله الذي به يوصل المؤمن من هبوط عالم الطبيعة إلى ذروة عالم الحقيقة لأنه (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) المحسوسة (بِغَيْرِ عَمَدٍ) فكما أنه رفع السموات بقدرته فكذلك رفع الدرجات برحمته ، أو كما أنه رفع السموات المحسوسة بعمد القدرة كذلك يرفع سموات القلوب بجذبة العناية ، وسخر شمس الروح وقمر القلب أو النفس لتدبير مصالح العالم الصغير. وإنما تظهر هذه الغرائب والعجائب لحصول كمال الإيقان بالرجوع إلى الله والفناء فيه بل البقاء به. ومن حسن تدبيره أنه مد أرض البشرية وجعل فيها رواسي من الأوصاف الروحانية وأنهارا من منابع العناية ، (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) وهي الملكات والأخلاق (جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ملكة روحانية حميدة وأخرى نفسانية وذميمة. فالأولى نورانية كالنهار والأخرى ظلمانية كالليل ، يغلب هذه تارة وتلك أخرى وهذا معنى قوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) وفي أرض الإنسانية

١٤٤

(قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) هي النفس والقلب والروح السر والخفي حيوانية وملكوتية روحانية وجبروتية وعظموتية (وَجَنَّاتٌ) هي هذه الأعيان المستعدة لقبول الفيض عند بلوغها (مِنْ أَعْنابٍ) هي ثمرة النفس من الصفات التي هي أصل الإسكار كالغفلة والحمق والسهو واللهو (وَزَرْعٌ) هو ثمرة القلب فإن القلب كالأرض الطيبة التي منها غذاء الروح (وَنَخِيلٌ) هو الروح ذو الأخلاق الحميدة كالكرم والجود والشجاعة والقناعة والحياء والتواضع والشفقة (صِنْوانٌ) هو السر الجبروتي الكاشف عن أسرار الجبروت بين الرب والعبد فإنه إذا حكى السر للعبد كان المحكي مثالا لما عليه الوجود (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) هو الخفي الواقف على أسرار العظموت التي لا مثل لها ولا أمثال ولا تحكى لعبده كما قال (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] وكما قال :

بين المحبين سر ليس يفشيه

(يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) هو ماء القدرة والحكمة (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) أي ما في استعداد كل مستعد من الفضائل ، أو ما في كل ذرّة من ذرّات المكونات من الخواص والطبائع ، أو ما في كل منها من الآيات الدالة على موجدها (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣] (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) أي ما يظهر من تلك الآيات الاستعدادات في جانبي التفريط والإفراط ، والمراد ما ينقص من أرحام الموجودات أو المعدومات فمهما أوجد شيء نقص من رحم العدم واحد وزاد في رحم الوجود واحد وبالعكس في جانب الإعدام. مستخف بليل العدم وظاهر النهار الوجود له أي لله معقبات من العلم والقدرة من بين يدي المعلوم ومن خلفه أي في حالتي عدمه ووجوده من أزله إلى أبده (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي لأجل أمره حتى لا يخرج من قبضة تدبيره (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من الوجود والعدم (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من استدعاء الوجود أو العدم بلسان استحقاق الوجود أو العدم كما تقتضيه حكمته وتدبيره.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ

١٤٥

شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩))

القراآت : (كَباسِطِ) مثل (بَسْطَةً) [البقرة : ٢٤٧] وقد مر في البقرة أم هل يستوي بياء تحتانية : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل. الآخرون بتاء التأنيث. (يُوقِدُونَ) على الغيبة : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون : على الخطاب إما للكفرة في قوله : (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ) وإما للمكلفين على العموم كما في القراءة الأخرى والضمير يعود إلى الناس المعلوم من سياق الكلام.

الوقوف : (الثِّقالَ) ه ج لاختلاف الفاعل مع اتفاق اللفظ (مِنْ خِيفَتِهِ) ج لذلك (فِي اللهِ) ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف (الْمِحالِ) ه ط للآية وانقطاع النظم (دَعْوَةُ الْحَقِ) ط يبالغه ط (ضَلالٍ) ه (وَالْآصالِ) ه (وَالْأَرْضِ) ط (قُلِ اللهُ) ط (وَلا ضَرًّا) ط (وَالْبَصِيرُ) ه ط للعطف (وَالنُّورُ) ج لاحتمال أن يكون هذا الاستفهام بدلا عن الأوّل (عَلَيْهِمْ) ط (الْقَهَّارُ) ه (رابِياً) ط (مِثْلُهُ) ط (وَالْباطِلَ) ط (جُفاءً) ج لاتفاق الجملتين مع كون «أما» للتفصيل (فِي الْأَرْضِ) ط (الْأَمْثالَ) ه ط (الْحُسْنى)

١٤٦

ط (لَافْتَدَوْا بِهِ) ط (الْحِسابِ) ه لا (جَهَنَّمُ) ج (الْمِهادُ) ه (هُوَ أَعْمى) ط (الْأَلْبابِ) ه لا (الْمِيثاقَ) ط للعطف (سُوءَ الْحِسابِ) ه ط (الدَّارِ) ه لا لأن قوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من (عُقْبَى مِنْ كُلِّ بابٍ) ه ج لحق المحذوف أي قائلين. (عُقْبَى الدَّارِ) ط (فِي الْأَرْضِ) لا (سُوءُ الدَّارِ) ه (وَيَقْدِرُ) ط (الدُّنْيا) ط (مَتاعٌ) ز (مِنْ رَبِّهِ) ط (أَنابَ) ه (بِذِكْرِ اللهِ) الأوّل ط (الْقُلُوبُ) ه (مَآبٍ) ه.

التفسير : لما خوّف عباده بإنزال ما لا مردّ له أتبعه دلائل تشبه اللطف من بعض الوجوه والقهر من بعضها وهي أربعة : البرق والسحاب والرعد والصاعقة. وقد مر في أوّل سورة البقرة تفسير هذه الألفاظ وقول الحكماء في أسباب حدوثها. وانتصاب (خَوْفاً وَطَمَعاً) إما على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع والتقدير ذا خوف وطمع ، أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين ، وإما على أنه مفعول له على تقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع. وإنما وجب تقدير المضاف ليكون فعلا لفاعل الفعل المعلل كما هو شرط نصب المفعول له. ومعنى الخوف والطمع الخوف من وقوع الصواعق والطمع في نزول الغيث. وقيل : يخاف المطر من له فيه ضرر إما بحسب الزمان وإما بحسب المكان ، فمن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر ويطمع فيه من له فيه نفع. وعن ابن عباس أن اليهود سألت النبي عن الرعد فقال : ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب. فعلى هذا الصوت المسموع هو صوت ذلك الملك الموكل المسمى بالرعد. وعن الحسن : خلق من خلق الله ليس بملك. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ينشىء السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك فنطقه الرعد وضحكه البرق». وهذا غير مستبعد من قدرة الله وخصوصا عند من لا يجعل البنية شرطا في الحياة. وقيل : المضاف محذوف أي يسبح سامعو الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له أو متلبسين بسبحان الله والحمد لله. وعن علي رضي‌الله‌عنه : سبحان من سبحت له. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إذا اشتد الرعد : «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك». وقيل : معنى تسبيح الرعد أن هذا الصوت المخصوص لهوله ومهابته يدل على وجود إله قهار كقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤]. قال في الكشاف : ومن بدع المتصوّفة الرعد صعقات الملائكة ، والبرق زفرات أفئدتهم. والمطر بكاؤهم. أما قوله : (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أي ويسبح الملائكة من هيبته وجلاله فقد ذكر جمع من المفسرين أنه عنى بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد فإنه سبحانه جعل له أعوانا. قال ابن عباس : إنهم خائفون من الله لا كخوف ابن آدم فإن أحدهم لا يعرف من

١٤٧

على يمينه ومن على يساره ولم يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء. وقالت الحكماء : إنما تتم الآثار العلوية بقوى روحانية فلكية ، فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار فهذا هو المراد بالملائكة في الآية. قوله : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) قد عرفت أنها نار تتولد من السحاب وتنزل بقوّة شديدة فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان. ووجه الاستدلال بها على الصانع أن النار حارة يابسة وطبيعة السحاب يغلب عليها الرطوبة والبرودة للأجزاء المائية فيه ، وحصول الضد من الضد لا يكون بالطبع وإنما يكون بتدبير القادر المختار وتسخيره.

ولما بين دلائل كمال العلم في قوله : (اللهُ يَعْلَمُ) ودلائل كمال القدرة في هذه الآية قال : (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) لأن إنكار المدلول بعد وضوح الدليل جدال بالباطل وعناد محض ، ويحتمل أن تكون الواو للحال أي فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم ويؤكده ما روي عن ابن عباس في رواية أبي صالح وابن جريج وابن زيد أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد بن ربيعة أقبلا يريدان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك. فقال : دعه فإن يرد الله به خيرا يهده. فأقبل حتى قام عليه فقال : يا محمد ما لي إن أسلمت؟ فقال : لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم. قال : تجعل لي الأمر بعدك. قال : لا ليس ذلك إليّ إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء. قال : فتجعلني على الوبر وأنت على المدر. قال : لا. قال : فما ذا تجعل لي؟ قال : أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها. قال : أوليس ذلك إليّ اليوم؟ وكان أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر عليه من خلفه فاضربه بالسيف. فجعل يخاصم رسول الله ويراجعه ويجادل في الله يقول أخبرني عن ربك أمن نحاس هو أم من حديد ، فدار أربد خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليضربه فاخترط من سيفه شبرا ثم حبسه الله فلم يقدر على سله ، وجعل عامر يومىء إليه فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأى أربد وما يصنع بسيفه فقال : اللهم أكفنيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته وولى عامر هاربا وقال : يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جردا وفرسانا مردا. فقال رسول الله : يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة ـ يريد الأوس والخزرج ـ فنزل عامر بيت امرأة سلولية فلما أصبح ضم عليه سلاحه وخرج وهو يقول : واللات لئن أصحر إليّ محمد وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذنهما برمحي فأرسل الله إليه ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التراب وخرجت على ركبته غدة في الوقت عظيمة فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول : أغدّة كغدة البعير وموت في بيت السلولية؟ ثم مات على ظهر فرسه وأنزل الله الآية

١٤٨

في هذه القصة. قوله : (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) معناه شديد المكر والكيد لأعدائه. والمماحلة شدة المماكرة ومنه تمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه ، ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان ومنه الحديث : «اللهم اجعله ـ أي القرآن ـ لنا شافعا مشفعا ولا تجعله علينا ماحلا مصدّقا» ومنه سنة المحل لشدتها وصعوبة أمرها. وأما عبارات المفسرين فقال مجاهد وقتادة : شديد القوّة. أبو عبيدة : شديد العقوبة. الحسن : شديد النقمة. وقيل : شديد الحقد ومعناه راجع إلى إرادة إيصال الشر إلى مستحقه مع إخفاء تلك الإرادة عنه. ثم أثنى على نفسه بالحقية وشهد على الأصنام بالبطلان فقال : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) فأضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما تضاف الكلمة إلى الحق والمراد أنه سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة إذا أراد فهو حقيق بأن يوجه إليه الدعاء لما في دعوته من الجدوى والنفع بخلاف ما لا فائدة في دعائه. وعن الحسن : الحق هو الله والمعنى له دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب ولهذا أجاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكافرين حين دعا عليهما. وعن ابن عباس : دعوة الحق قوله لا إله إلا الله. وقيل : الدعوة العبادة فإن عبادته هي الحق والصدق وقد سلف تحقيق الحق في أوّل هذا الكتاب في تفسير البسملة. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي الآلهة الذين يدعوهم أو يعبدهم الكفار من دون الله. (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) إلا استجابة كاستجابة الماء من بسط يديه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر به. والحاصل أن الكفار وذلك الطالب كليهما مشترك في الخيبة لاشتراكهما في دعاء الجماد. وقيل : شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فبسطهما ناشرا أصابعه فلا جرم لا يبلغ طلبته. ثم أكد خيبتهم بقوله : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) في ضياع وذهاب عن المنفعة لأنهم إن دعوا الله لا يجيبهم لحقارة أمرهم عنده ، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم.

ثم زاد في الثناء فقال : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإن كان السجود بمعنى وضع الجبهة فذلك ظاهر في المؤمنين لأنهم يسجدون له (طَوْعاً) أي بسهولة ونشاط (وَكَرْهاً) أي على تعب واصطبار ومجاهدة ، وأما في حق الكفار فمشكل ووجهه أن يقال : المراد حق له أن يسجد لأجله جميع المكلفين من الملائكة والثقلين فعبر عن الوجوب بالوقوع ، وإن كان بمعنى الانقياد والخضوع والاعتراف بالإلهية وترك الامتناع عن نفوذ مشيئته فيهم فلا إشكال نظيره قوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران : ٨٣] وقد مر في «آل عمران» أما قوله : (وَظِلالُهُمْ) فقد قال جمع من المفسرين

١٤٩

كمجاهد والزجاج وابن الأنباري : لا يبعد أن يخلق الله للظلال أفهاما تسجد بها لله وتخضع له كما جعل للجبال أفهاما حتى اشتغلت بتسبيحه فظل المؤمن يسجد لله طوعا وهو طائع وظل الكافر يسجد لغير الله كرها ويسجد لله طوعا. وقال آخرون : المراد من سجود الظلال تقلصها وامتدادها بحسب ارتفاع الشمس وانحطاطها فهي منقادة مستسلمة لما أتاح الله لها في الأحوال. وتخصيص الغدوّ والآصال بالذكر لغاية ظهورها وازديادها في الوقتين. ومعنى الغدو والآصال قد مر في آخر «الأعراف». واعلم أنه سبحانه ذكر آية السجدة في النحل بعبارة أخرى فقال : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ) [الآية : ٤٩] لأنه تقدم ذكر ما خلق الله على العموم ولم يكن فيه ذكر الملائكة ولا الإنس بالصريح فعمم ليشمل الإنس وصرح بالملائكة. وقال في «الحج» (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الحج : ١٨] بتكرير «من» لأنه تقدم ذكر المؤمنين وسائر الأديان فقدم ذكر (مَنْ فِي السَّماواتِ) تعظيما لهم ولها وذكر من في الأرض لأنهم هم الذين تقدم ذكرهم. وأما في هذه السورة فقد تقدم ذكر العلويات من الرعد والبرق ، ثم ذكر الملائكة وتسبيحهم ، ثم انجر الكلام إلى ذكر الأصنام والكفار فبدأ في آية السجدة بذكر من في السموات والأرض وذكر الأرض تبعا ولم يذكر من فيها استخفافا بالكفرة وأصنافهم فتبين أنه أورد كل آية بما لاق بمقامها والله تعالى أعلم بمراده.

ثم أخبر عن التسخير بسؤال التقرير ردّا على عبدة الأصنام فقال : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) وهذه حكاية لاعترافهم لأنهم كانوا يعترفون بأنه الإله الأعظم وهذا كما يقول المناظر لصاحبه : أهذا قولك؟ فإذا قال هذا قولي قال هذا قولك فيحكي إقراره استئنافا منه ثم يقول له : فيلزمك على هذا القول كيت وكيت وذلك قوله : (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ) ويجوز أن يكون تلقينا لما ليسوا منكرين له. والهمزة في (أَفَاتَّخَذْتُمْ) للإنكار والمعنى أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم (مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) جمادات عجزة عن تحصيل المنافع والمضارّ لأنفسهم فضلا عن غيرهم. وموضع الإنكار أنهم جعلوا ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من العلم والإقرار سبب الإشراك ، ثم جعلوا مع ذلك أخس الأشياء مكان أشرف الذوات وهذا جهل لا مزيد عليه فلهذا شبههم بالأعمى وشبه جهالاتهم بالظلمات وأنكر أن يكون شيء منهما مساويا لنقيضه فقال : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) جمع الظلمات ووحد النور لأن السبل المنحرفة غير محصورة والصراط المستقيم واحد. ثم أكد الإنكار المذكور بقوله : (أَمْ جَعَلُوا) والمراد بل جعلوا (لِلَّهِ شُرَكاءَ) خالقين مثل خلقه (فَتَشابَهَ الْخَلْقُ) أي خلق

١٥٠

الله وخلقهم (عَلَيْهِمْ) أي ليس لهذه الشركاء خلق مثل خلق الله حتى يشتبه الأمر عليهم بل ليس لهم خلق أصلا بل كان ما سوى الله عاجز عن الخلق بدليل قوله : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) المتوحد بالربوبية الذي لا يغالب وما عداه مربوب ومقهور. قالت المعتزلة : للعبد فعل وتأثير ولكنا لا نقول إنه يخلق كخلق الله لأن العبد يفعل لجلب منفعة أو دفع مضرة والله تعالى منزه عن ذلك. وأجيب بأن المخالفة من بعض الوجوه لا تقدح في المماثلة من وجه آخر ، فلو كان فعل العبد كالتحريك مثلا واقعا بقدرته لكان مثلا للتحريك الواقع بقدرة الله تعالى وهذا الإشكال وارد أيضا على من يثبت للعبد كسبا. ثم ضرب مثلا آخر للحق وذويه والباطل ومنتحليه فقال : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ) أي مياهها والوادي الفضاء المنخفض عن الجبال والتلال الذي يجري فيه السيل. وقيل : الوادي اسم للماء من ودى إذا سال ، والمعنى سالت مياه. قال الفارسي : لا نعلم فاعلا جمع على «أفعلة» إلا هذا وكأنه حمل على «فعيل» فجمع على «أفعلة» كجريب وأجرية كما أن فعيلا حمل على فاعل فجمع على «أفعال» مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر. وقال غيره : نظير واد وأودية ناد وأندية. ومعنى التنكير في أودية أن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض. قال في الكشاف : معنى (بِقَدَرِها) بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم بدليل قوله : (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) وقال الواحدي : معناه سالت مياه الأودية بقدر الأودية فإن صغر الوادي قل الماء وإن اتسع كثر الماء. والزبد هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل ونحوه. ومعنى (رابِياً) قال الزجاج : طافيا فوق الماء. وقال غيره : زائدا بسبب انتفاخه من ربا يربو إذا زاد. ثم قال سبحانه إظهارا للكبرياء كما هو ديدن الملوك (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ) «من» لابتداء الغاية أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء. أو للتبعيض بمعنى بعضه زبد مثله أراد به الأجسام المتطرقة المتفرقة الرابية. والإيقاد على الشيء قسمان : أحدهما أن لا يكون ذلك الشيء في النار كالآجر في قوله : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) [القصص : ٣٨] والثاني أن يكون في النار كأنواع الفلز ولهذا قال هاهنا بزيادة لفظة (فِي النَّارِ) قال في الكشاف : فائدة قوله (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ) مثل فائدة قوله (بِقَدَرِها) لأنه جمع بين الماء والفلز في النفع في قوله : (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) أي وأما ما ينفعهم به من الماء والفلز فذكر وجه الانتفاع بالفلز وهو اتخاذ الحلي من الذهب والفضة واتخاذ سائر أثاث البيت وأمتعته من الحديد والنحاس والرصاص والأسرب وما يتركب منها والمتاع كل ما تمتع به. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَ

١٥١

وَالْباطِلَ) أي يضرب الأمثال للحق والباطل ومثله في آخر الآية فاختصر الكلام بأن حذف الأمثال من الأوّل والحق والباطل من الثاني تأكيدا للمقصود مع رعاية الاختصار. ثم شرع في تتميم المثل قائلا (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) نصب على الحال وهو اسم لما ينفيه السيل. يقال : جفأ الوادي بالهمزة جفأ إذا رمى بالقذر والزبد ، وكذلك القدر إذا رمت بزبدها عند الغليان (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) حاصل المثل أن الوادي إذا جرى طفا عليه زبد وذلك الزبد يبطل ويبقى الماء النافع في العيون والآبار والأنهار ، وكذا الأجساد المتطرقة إذا أديبت لأجل اتخاذ الحلي أو سائر الأمتعة انفصل عنها خبث وزبد فيبطل ويتلاشى ويبقى ذلك الجوهر المنتفع به أزمنة متطاولة. وتطبيق المثل على الحق والباطل أنه سبحانه أنزل من سماء الوحي ماء بيان القرآن فسالت أودية القلوب بقدرها فإن كل قلب إنما يحصل فيه من أنوار علم القرآن ما يليق بذلك القلب على قدر استعداده. ثم إنه يختلط بذلك البيان شكوك وشبهات ولكنها بالآخرة تضمحل ويبقى العلم واليقين ، فزبد السيل والفلز مثل للباطل في سرعة اضمحلاله وانسلاخه من المنفعة ، والماء والفلز الصافي مثل للحق في البقاء والانتفاع به.

ثم ذكر أحوال السعداء وتبعات الأشقياء فقال (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) أي فيما دعاهم إليه من التوحيد والنبوة والتكاليف (الْحُسْنى) أي المثوبة الحسنى وهي الجنة (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) مبتدأ آخر خبره الجملة الشرطية بعده. وقيل : إن الكلام متصل بما قبله أي يضرب الله الأمثال لهذين الفريقين. وقوله : (الْحُسْنى) صفة لمصدر استجابوا أي الاستجابة الحسنى. وقوله : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ) كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين ومن ذلك قوله (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) قال الزجاج : لأن كفرهم أحبط أعمالهم. وقال غيره : سوء الحساب المناقشة فيه. وعن النخعي : هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء. وقال الحكماء : هو ظهور آثار الملكات الردية والهيئات الذميمة على النفس ولم يكن قبل ذلك له شعور بها لاشتغاله بعالم الحس. (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) لأنهم أقبلوا على الدنيا وأعرضوا عن المولى فلا جرم إذا ماتوا فارقوا معشوقهم فأورثهم الحرمان والخسران والاحتراق بنار الفراق. ثم أنكر بعد هذه البيانات أن يسوّى بين الناقد والبصير والجاهل الضرير فقال (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما) أي أن الذي (أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) القلب (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) أي لا ينتفع بالأمثال إلا (أُولُوا الْأَلْبابِ) الذين يعبرون من القشر إلى الباب. ثم وصفهم بقوله : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) ويجوز أن يكون نصبا على المدح وأن يكون مبتدأ خبره (أُولئِكَ) أما عهد الله فعن ابن عباس : هو المذكور في

١٥٢

قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) [الأعراف : ١٧٢] وقيل : هو كل ما قام عليه دليل عقلي أو سمعي من الأفعال والتروك ولا عهد أوكد من الحجة بدليل أن من حلف على الشيء فإنما يلزمه الوفاء به إذا ثبت بالدليل جوازه (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) تأكيد للوفاء بالعهد بعبارة أخرى تلزم الأولى كقولك : لما وجب وجوده لزم أن يمتنع عدمه. وقيل : الوفاء بعهد الله إشارة إلى ما كلف الله العبد به ابتداء ، وعدم نقض الميثاق أراد به مما التزمه العبد بالنذر. وقيل : الوفاء بالعهد عهد الربوبية والعبودية والميثاق أعم لشموله كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله ومن سائر المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد ، والوفاء بالعهد أمر مستحسن في العقول والشرائع كلها قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عاهد الله فغدر كانت فيه خصلة من النفاق» (١) (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) إفراد لما بينه وبين العباد بالذكر فقيل : المراد صلة الرحم. وقيل : هو مؤازة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعاونته ونصرته في الجهاد. وقيل : رعاية جميع حقوق الناس بالشفقة عليهم والنصيحة في كل حال وكل حين ومن ذلك عيادة المريض وشهود الجنائز ومراعاة الرفقاء والجيران والخدم ومن يطيف به حتى الهرة والدجاجة (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) وإن أتوا بكل ما قدروا عليه في باب التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله خوفا من وعيده كله (وَيَخافُونَ) خصوصا (سُوءَ الْحِسابِ) ويلزم ذلك أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا. وقيل : الخشية نوعان : خشية الجلال كالعبد إذا حضر بين يدي السلطان ومن ذلك خشية الملائكة (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٥٠] وإلى هذا أشار بقوله : (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) وخشية أن يقع في العبادة خلل أو نقص يوجب فسادها أو نقصان ثوابها. وإليه الإشارة بقوله : (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ).

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا) عن المعاصي وعلى الطاعات وعلى المصائب (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) لا لأجل أن يقال ما أورعه وما أزهده وما أصبره وغير ذلك من الأغراض الفاسدة ، وإنما يصبر على التكاليف لأنها أحكام المعبود الحق ويصبر على الرزايا لأنها قسمة قسام متصرف في ملكه كيف يشاء ، أو لأنه مشغول بالمقدر والقاضي لا بالقدر والقضاء. وقد يرضى العاشق بالضرب والإيلام لالتذاذه بالنظر إلى وجه معشوقه فهكذا العارف يصبر على البلايا والمحن لاستغراقه في بحر العرفان وفيضان أنوار المعروف عليه. (وَأَقامُوا

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب : ٢٤. مسلم في كتاب الإيمان حديث : ١٠٦. أبو داود في كتاب السنّة باب : ١٥. الترمذي في كتاب الإيمان باب : ١٤. النسائي في كتاب الإيمان باب : ٢٠. أحمد في مسنده (٢ / ١٨٩ ، ١٩٨) بلفظ : «أربع من كن فيه كان منافقا أو كانت فيه خصلة من الأربع كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ..... وإذا عاهد غدر».

١٥٣

الصَّلاةَ) ولا يمتنع دخول النوافل فيها لقوله : «ما زال العبد يتقرّب إلي بالنوافل حتى أحببته» (١). (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) يتناول النفل لأنه في السر أفضل ، والفرض لأنه في الجهر أفضل كما مر في أواخر سورة البقرة (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون بالتوبة وهي الخصلة الحسنة المعصية. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ بن جبل «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها» (٢). وقيل لا يقابلون الشر بالشر وإنما يقابلونه بالخير كما روي عن الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا. وعن ابن عباس : يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيىء غيرهم. يروى أن شقيق بن إبراهيم البلخي دخل على عبد الله بن المبارك متفكرا فقال : من أين أتيت؟ قال : من بلخ. فقال : وهل تعرف شقيقا؟ فقال : نعم. فقال : كيف طريقة أصحابه؟ فقال : إذا منعوا صبروا وإذا أعطوا شكروا فقال عبد الله : هكذا طريقة كلابنا ، وإنما الكاملون الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا. وقيل : مراد الآية أنهم إذا رأوا منكرا أمروا بتغييره (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) عاقبة الدنيا وهي الجنة التي أرادها الله تعالى أن تكون مرجع أهلها. والعقبى مصدر كالعاقبة ومثله البشرى والقربى ، ويجوز أن يكون مضافا إلى الفاعل والمعنى أولئك لهم أن يعقب أعمالهم الدار التي هي الجنة. ومعنى (جَنَّاتُ عَدْنٍ) تقدم في سورة براءة (وَمَنْ صَلَحَ) معطوف على فاعل (يَدْخُلُونَها) ويجوز أن يكون مفعولا معه. قال ابن عباس : يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعمل مثل أعمالهم. وقال الزجاج : بين أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة. قال الواحدي : والأول أصح لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة فلو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ، ويمكن أن يوجه قول الزجاج بأن المقصود بشارة المؤمن بأن أهل الصلاح من أصوله وفصوله وأزواجه يجتمعون به في دار الثواب فقد يمكن أن يكونوا جميعا في الجنة ولا يجتمعون في موضع. ولقائل أن يقول : الدخول أعم من الاجتماع ولا دلالة للعام على الخاص فصح اعتراض الواحدي. والآباء جمع أبوي كل واحد منهم فكأنه قيل : من آبائهم وأمهاتهم. وليس في الآية ما يدل على التمييز بين زوجه وزوجة ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه ويؤيده ما روي عن سودة أنه لما هم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطلاقها قالت : دعني يا رسول الله أحشر في زمرة نسائك.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب : ٣٨.

(٢) رواه الترمذي في كتاب البر باب : ٥٥. الدارمي في كتاب الرقاق باب : ٧٤. أحمد في مسنده (٥ / ١٥٣ ، ١٥٨).

١٥٤

قال ابن عباس : لهم خيمة من درة مجوّفة طولها فرسخ وعرضها فرسخ لها أبواب مصاريعها من ذهب يدخل عليهم الملائكة من كل باب يقولون لهم سلام عليكم بما صبرتم على أمر الله. وقال أبو بكر الأصم : من كل باب من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر ويقولون : نعم ما أعقبكم الله بعد الدار الأولى. وهذا يناسب قول حكماء الإسلام : إن لكل مرتبة من مراتب الكمالات جوهرا قدسيا وروحا علويا يختص بتلك الصفة ، فبعد المفارقة يفيض على النفس الكاملة من ملك الصبر كمال مخصوص ، ومن ملك الشكر كذلك وعلى هذا القياس. وقد يستدل بالآية على أن الملك أفضل من البشر وإلا فلم يكن دخولهم على المؤمنين موجبا لتحيتهم وإكرامهم. ويمكن أن يجاب بأن وجه التكريم هو مجيئهم بإذن الله ومن عنده لا مجرد المجيء : والباء في قوله : (بِما صَبَرْتُمْ) يتعلق بالسلام. والمعنى إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم على الطاعات وعن المحرمات. وقيل : يتعلق بمحذوف أي هذا الثواب بسبب صبركم أو بدل صبركم. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. ثم أتبع أحوال السعداء أحوال الأشقياء وقد مر تفسيره في أوّل «البقرة» على أن الضد قد يعلم من الضد بسهولة وقد مر آنفا. وقوله : (سُوءُ الدَّارِ) في مقابلة (عُقْبَى الدَّارِ) كأن العاقبة لا تطلق إلا على العاقبة الحميدة كقوله (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] لأن غير الحميدة لا تستأهل لأن تكون عاقبة.

وقال في الكشاف : المراد سوء عاقبة الدنيا ولا حاجة إلى هذا الإضمار بناء على ما قلنا. قال : ويجوز أن يراد بالدار جهنم وبسوئها عذابها ذكر أهل النظم أنه لما بين سوء حال الناقصين كان لقائل أن يقول : فما بالهم قد فتح الله عليهم أبواب الرزق في الدنيا فأجاب بقوله : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) والمراد أن الدنيا دار امتحان لا دار جزاء ، فقد يتفق أن يكون الجاهل الكافر خليّ البال والعالم المؤمن رديّ الحال ولا تعلق لهذا المعنى بالكفر والإيمان. والتركيب للحصر أي هو وحده يوسع الرزق على من يشاء كأهل مكة و (يَقْدِرُ) أي يضيق ومعناه أنه يعطيه بقدر الضرورة وسد الرمق لا يفضل منه شيء (وَفَرِحُوا) يعني أهل مكة وأضرابهم بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح تحدث بنعمة الله وإظهارا لفضله عليهم (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) ونعيمها في جنب نعيم الآخرة (إِلَّا مَتاعٌ) شيء نزر يتمتع به أياما قلائل ثم بعد ذلك حسرات لا نهاية لها ، ومثل هذا لا يوجب الفرح بل لا يجوّزه. ثم حكى نوعا آخر من قبائح الكفرة فقال : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وقد مر مثله في هذه السورة وذكرنا أنه ليس بتكرار

١٥٥

محض إلا أن قوله في جوابهم (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أقبل على الحق وحقيقته دخل في نوبة الخير فيه غموض. وأجيب بأنه يجري مجرى التعجب كأنه قيل : ما أعظم عنادكم بعد ما أنزلت من الآيات الباهرة أن الإضلال والهداية من الله ، أو المراد لا تشتغلوا بطلب الآيات ولكن تضرعوا إلى الله في طلب الهدايات فإن الذي أضله الله يرى الآية سحرا ، والذي هداه يراها معجزة. وقال الجبائي : المعنى إن الله يضل من يشاء عن طريق الصواب ويهدي إليه أقواما آخرين فلو لا أنكم تستحقون العقاب لهداكم لهداكم إلى الصواب بإنزال ما اقترحتموه. وقيل : المراد أنه تعالى أنزل آيات ظاهرة ولكن الإضلال والهداية من الله فلو شاء لهداكم فلا فائدة في تكثير المعجزات (الَّذِينَ آمَنُوا) بدل ممن أناب (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ) عن ابن عباس : يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت. والاطمئنان بآيات الوعد لا ينافي الوجل من آيات الوعيد حيث قال (إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال : ٢] أو المراد أن علمهم بكون القرآن معجزا يوجب حصول الطمأنينة لهم بأنه سبحانه واحد لا شريك له صادق في وعده ووعيده وبأن محمدا نبي حق (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) التحقيق فيه أن الإنسان متوسط الرتبة بين عالم الأرواح وعالم الأجساد ، فإذا توجه إلى عالم الجسد اشتاق إلى التصرف فيه فيظهر له هناك أمور ضرورية في التعيش أدونها ليس بأهون من خرط القتاد فيتوزع فكره وتضطرب أحواله ، أما إذا توجه إلى عالم الروح فإنه يزول الاضطراب ويتوحد المطلب ويحصل الاستغراق في بحر العرفان والاستنارة بنور الإيقان ، ومن وقع في لجة البحر لا يبالي أين وقع :

أنا الغريق فما خوفي من البلل

وقيل : إن الإكسير إذا وقعت منه ذرة على النحاس انقلب ذهبا صافيا باقيا على كر الدهور ، فإكسير جلال الله إذا وقع في القلب السليم كيف لا يقلبه جوهرا صافيا نورانيا آمنا من التغير والزوال (الَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ خبره (طُوبى لَهُمْ) وجوّز في الكشاف أن يكون بدلا على حذف المضاف أي قلوب الذين آمنوا. و (طُوبى) مصدر من طاب يطيب كبشرى وواو منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها واللام للبيان مثل «سقيا لك». والمعنى طيب لهم على الدعاء أو الخبر. عن ابن عباس : فرح وقرة عين. الضحاك : غبطة لهم. قتادة : حسنى لهم. الأصم : خير وكرامة. الزجاج : عيش طيب. والكل متقارب والعبارة الجامعة أن أطيب الأشياء في كل الأمور حاصل لهم. وقيل : طوبى شجرة في الجنة. حكى الأصم أن أصلها في دار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي دار كل مؤمن منها غصن. روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «طوبى شجرة غرسها الله بيده تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور

١٥٦

الجنة» وعن بعضهم أن طوبى هي الجنة بالحبشية والمآب المرجع.

التأويل : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ) برق أنوار الجلال فيغلب عليكم خوف الانقطاع واليأس ، ويريكم برق أضواء الجمال فيغلب عليكم طمع الوصل ورجاء الاستئناس (وَيُنْشِئُ السَّحابَ) النوال والأفضال (الثِّقالَ) بمطر القبول والإقبال (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ) وهو الملك المخلوق من نور الهيبة والجلال فتقع الهيبة في قلوب الخلق كلهم حتى الملائكة فيسبحون من خيفته ، ويرسل صواعق القهر (فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) من أهل الخذلان فيحرق حسن استعدادهم في قبول الإيمان. ومن نتائج ذلك أنهم يجادلون في ذات الله وفي صفاته كالفلاسفة الذين لا يتابعون الأنبياء والشرائع ، وكبعض المتكلمين من أهل الأهواء والبدع (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) أي دعوته حق لمن دعاه فيستجيبه كما قالت السموات والأرض أتينا طائعين وأيضا له دعاة يدعون الخلق بالحق إلى الحق (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي بغير الحق (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) إذ لا يؤثر في الخلق نصحهم كمن يبسط يده إلى الماء إراءة إلى الحق أنه يريد شربه (وَما هُوَ بِبالِغِهِ) فلا يستجابون على الحقيقة وإن استجيبوا في الظاهر لأنهم استجابوا لهم على الهوى كما دعوا إلى الحق بالهوى يدل عليه قوله : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء والصلحاء (طَوْعاً) ومن أرواح الكافرين والمنافقين والشياطين (كَرْهاً) بالتذليل والتسخير تحت الأحكام والتقدير (وَظِلالُهُمْ) أي نفوسهم فإن النفوس ظلال الأرواح ، وليس السجود من شأنها لأنها أمارة بالسوء إلا ما رحم الرب فإنها تسجد بتبعية الروح. معنى آخر : ولله يسجد من في سموات القلوب من صفات القلوب والأرواح والعقول ، طوعا ومن في أرض النفوس من صفات النفس والقوى الحيوانية والسبعية والشيطانية كرها ، وظلالهم وهي آثارها ونتائجها. آخر : ولله يسجد الأرواح في الحقيقة وظلالهم وهي أجسادهم بالتبعية ، وهذا السجود بمعنى وضع الجبهة ، وخص الوقتان بالذكر لأن آثار القدرة فيهما أكثر ، وإن أريد الانقياد والتسخير احتمل أن يراد بالوقتين وقتا الانتباه والنوم ، ففي الأول تطلع شمس الروح من أفق الجسد ، وفي الثاني تغرب فيه أنزل من سماء القلوب ماء المحبة. (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ) النفوس (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) من الأخلاق الذميمة النفسانية والحيوانية ، أو أنزل من سماء الأرواح ماء مشاهدة أنوار الجمال (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ) القلوب (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) من الأوصاف البشرية ، أو أنزل من سماء الأسرار ماء كشوف الجمال (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ) الأرواح (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) من أنانية الروحانية ، أو أنزل من سماء الجبروت ماء تجلي صفات

١٥٧

الألوهية (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ) الأسرار بقدرها (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ) زبد الوجود المجازي (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ) من البقاء في نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فلا تبقي ولا تذر وهي التذكية بالفناء (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) وهي التحلية بالبقاء الحقيقي (أَوْ مَتاعٍ) وهو التمتع به (زَبَدٌ مِثْلُهُ) مثل زبد البشرية وهو زبد المعرفة والتوحيد (فَأَمَّا الزَّبَدُ) في الأحوال كلها (فَيَذْهَبُ جُفاءً) بالفناء (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) من البقاء بالله (فَيَمْكُثُ فِي) أرض الوحدة المستعدة لقبول الفيض الإلهي. (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) وهي العناية الأزلية التي الاستجابة من نتائجها كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء : ١٠١] (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) حين دعاهم للوصول والوصال لو حصل لهم ما في أرض البشرية من أنواع اللذات والحظوظ وأضعافها لجعلوه فداء ألم عذاب القطيعة. (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي انفصلوا عما سواه ليتصلوا به (سِرًّا) بالانقطاع عما يشغل بواطنهم (وَعَلانِيَةً) بالانفصال عما يشغل ظواهرهم (وَيَدْرَؤُنَ) بالأعمال والأحوال الحسنة في صدق الطلب الأحوال السيئة من الوقائع والفترات (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ) تبركا وتيمنا بهم تبعا لهم من كل باب دخلوه بالاستقلال على أقدام السير بالله إلى الله (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) عن غير الله وعلى صدق الطلب (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) القلوب أربعة : قلب قاس كقلوب الكفار والمنافقين فاطمئنانه بالدنيا وشهواتها رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، وقلب ناس وهو قلب المسلم المذنب كقوله : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥] فاطمئنانه بالتوبة فتاب عليه وهدى ، وقلب مشتاق وهو قلب المؤمن فاطمئناته بذكر الله كما في الآية. وقلب وحداني وهو قلب الأنبياء وخواص الأولياء فاطمئنانه بالله وصفاته كقول الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] أي بتجلي صفات الأحياء ، وإذا صار القلب مطمئنا انعكس نور الاطمئنان من رآة قلبه على نفسه فتصير مطمئنة أيضا فيستحق بجذبات العناية لخطاب (ارْجِعِي) [الفجر : ٢٨] ثم أشار إلى أنّ الاطمئنان ثمرة غرس شجرة الإيمان والعمل الصالح في أرض القلب فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. فالإشارة بطوبى إلى حقيقة شجرة «لا إله إلا الله» مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة ولم يكن إلا في قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبتبعيته في قلوب المؤمنين ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طوبى شجرة أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة». فافهم.

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ

١٥٨

يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

القراآت : متابي وعقابي ومآبي بالياء في الحالين : يعقوب والسرنديبي عن قنبل وافق سهل وعباس في الوصل (بَلْ زُيِّنَ) ونحوه بالإدغام : علي وهشام (وَصُدُّوا) بضم الصاد وكذا في «حم المؤمن» : عاصم وحمزة وعلي وخلف ويعقوب. الباقون بفتحها. (وَيُثْبِتُ) مخففا من الإثبات : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم. الآخرون بالتشديد من التثبيت الكافر لمن على التوحيد : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير. الباقون (الْكُفَّارُ) على الجمع.

الوقوف : (بِالرَّحْمنِ) ط (إِلَّا هُوَ) ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل. (مَتابِ) ٥ (الْمَوْتى) ط لأن جواب «لو» محذوف أي لكان هذا القرآن. (جَمِيعاً) ط في الموضعين (وَعْدُ اللهِ) ط (الْمِيعادَ) ه (أَخَذْتُهُمْ) ج للاستفهام مع الفاء (عِقابِ) ه (بِما كَسَبَتْ) ج لحق الخبر المحذوف التقدير كمن ينفع ولا يضر ، ولأن قوله : (وَجَعَلُوا) يصلح استئنافا أو حالا بإضمار «قد» (شُرَكاءَ) ط (سَمُّوهُمْ) ط لحق الاستفهام (مِنَ الْقَوْلِ)

١٥٩

ط (عَنِ السَّبِيلِ) ه (هادٍ) ه (أَشَقُ) ج لاتفاق الجملتين مع النفي في الثانية (واقٍ) ه (الْمُتَّقُونَ) ه ط لأن التقدير فما يتلى عليك مثل الجنة وللوصل وجه يذكر في التفسير. (الْأَنْهارُ) ط (وَظِلُّها) ط (اتَّقَوْا) ق قد قيل : والوصل أجوز لأن الجمع بين بيان الحالين أدل على الانتباه (النَّارُ) ه (بَعْضَهُ) ط (وَلا أُشْرِكَ بِهِ) ط (مَآبِ) ه (عَرَبِيًّا) ط (الْعِلْمِ) لا لأن ما بعده جواب. (واقٍ) ه (وَذُرِّيَّةً) ط (بِإِذْنِ اللهِ) ط (كِتابٌ) ه (وَيُثْبِتُ) ج والوصل أجوز لتمام مقصود الكلام (الْكِتابِ) ه (الْحِسابُ) ه (أَطْرافِها) ط (لِحُكْمِهِ) ط (الْحِسابِ) ه (جَمِيعاً) ط (كُلُّ نَفْسٍ) ط (الدَّارِ) ه (مُرْسَلاً) ط (وَبَيْنَكُمْ) ط للعطف (الْكِتابِ) ه.

التفسير : عن ابن عباس والحسن (أَرْسَلْناكَ) كما أرسلنا الأنبياء قبلك (فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) وقال آخرون : معنى التشبيه كما أرسلنا إلى أمم وآتيناهم كتبا تتلى عليهم كذلك آتيناك هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم فلم اقترحوا غيره؟ وقال في الكشاف : معناه مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني أرسلناك إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات. ثم فسر كيف أرسله فقال : (فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء. ثم ذكر مقصود الإرسال فقال (لِتَتْلُوَا) أي لتقرأ (عَلَيْهِمُ) الكتاب العظيم (الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ) وحال هؤلاء أنهم يكفرون (بِالرَّحْمنِ) للمفسرين خلاف في تخصيص لفظ الرحمن بالمقام فقال جار الله : المراد كفرهم بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء وما بهم من نعمة فمنه ، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال مثل هذا القرآن المعجز المصدق لسائر الكتب عليهم. وعن ابن عباس في رواية الضحاك : نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اسجدوا للرحمن فقالوا وما الرحمن؟ فقيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ) لهم إن الرحمن الذين أنكرتم معرفته (هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الواحد القهار المتعالي عن الشركاء. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في نصرتي عليكم (وَإِلَيْهِ مَتابِ) رجوعي فيثيبني على مصابرتكم. وقيل : نزلت في صلح الحديبية حين أرادوا كتاب الصلح فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي عليه‌السلام : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل بن عمرو والمشركون : ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة ـ يعنون مسيلمة الكذاب ـ اكتب باسمك اللهم وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون. فأنزل الله الآية. فعلى هاتين الروايتين كان الذم متوجها على كفرهم بإطلاق هذا الاسم على غير الله تعالى لا على جحودهم أو إشراكهم. روي أن أهل مكة قعدوا في فناء الكعبة فأتاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرض عليهم الإسلام فقال له رؤساؤهم ـ كأبي جهل وعبد الله بن أمية المخزومي ـ سير

١٦٠