تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

الآيات (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا) الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود ، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك واستوجبوا عذاب الاستئصال على ما أجرى الله تعالى به عادته. والحاصل أن المانع من إرسال الآيات التي اقترحوها هو أن الاقتراح مع التكذيب موجب للهلاك الكلي ، وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعث إليهم إلى يوم القيامة ، ويحتمل أن يراد أنهم مقلدون لآبائهم فلا يؤمنون البتة كما لم يؤمنوا فيكون إرسال الآيات ضائعا. ثم استشهد عى ما ذكر بقصة صالح وناقته لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة يبصرها صادرهم وواردهم وهذا معنى قوله (مُبْصِرَةً) أو المراد حال كون الناقة آية بينة يبصر المتأمل بها رشده (فَظَلَمُوا) أنفسهم بقتلها أو فكفروا (بِهَا) بمعنى أنهم جحدوا كونها من الله قاله ابن قتيبة (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ) المقترحة (إِلَّا تَخْوِيفاً) من نزول العذاب العاجل بمعنى أن من أنكرها وقع عليه ، أو المراد وما نرسل بآيات القرآن وغيرها من المعجزات إلا إنذارا بعذاب الآخرة على المعنى المذكور. وحين امتنع من إرسال الآيات المقترحة على رسوله للمصارف المذكورة قوى قلبه بوعد النصر بالغلبة فقال : (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ) أي واذكر إذا أوحينا إليك أن ربك (أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي أنهم في قبضته وقدرته فلا يقدرون على خلاف إرادته فينصرك ويقويك حتى تبلغ الرسالة. عن الحسن : حال بينهم وبينه أن يقتلوه كما قال : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] وقيل : أراد بالناس أهل مكة ، وأحاط في معنى الاستقبال إلا أن خبر الله تعالى لما كان واجب الوقوع عبر عنه بلفظ الماضي ، وعد نبيه بأنه سيهلك قريشا في وقعة بدر.

أما قوله : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) ففيه أقوال : الأول أنه تعالى أراه في المنام مصارع كفار قريش حتى قال : والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يأتي الأرض ويقول : هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان ، فلما سمع قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية وكانوا يستعجلون بما وعد. الثاني : أنه رؤياه التي رأى أن يدخل مكة وبذلك أخبر أصحابه ، فلما منع من البيت الحرام عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم. وقال عمر لأبي بكر : قد أخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا ندخل البيت فنطوف به. فقال أبو بكر : إنه لم يخبر أنا نفعل ذلك في هذه السنة فسنفعل ذلك في سنة أخرى. فلما جاء العام القابل دخلها وأنزل الله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) [الفتح : ٢٧]. الثالث : قول سعيد بن المسيب وابن عباس في رواية عطاء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك. الرابع وهو قول أكثر المفسرين : أن المراد بهذه الرؤيا هي حديث الإسراء. ثم اختلفوا ، فالأكثرون على أن

٣٦١

الرؤيا بمعنى الرؤية يقال : رأيت بعيني رؤية ورؤيا ، أو سماها رؤيا على قول المكذبين حين قالوا لعلها رؤيا رأيتها وخيال خيل إليك. والأقلون على أن الإسراء كان في المنام وقد مر هذا البحث في أول السورة. قوله : (وَالشَّجَرَةَ) فيه تقديم وتأخير ، والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. قال الأكثرون : إنها شجرة الزقوم لقيت في القرآن حيث لعن طاعموها. قال عز من قائل : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) أو وصفت باللعن لأنه إلا بعاد وهي في أصل الجحيم أبعد مكان من الرحمة ، أو العرب تقول لكل طعام مكروه ضارّ ملعون. والفتنة فيها أن أبا جهل وغيره قالوا : زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر ثم يقول ينبت فيها الشجر فأنزل الله تعالى هذه الآية. ونظيره قوله : (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) [الصافات : ٦٣]. ومن شاهد حال السمندل والنعامة كيف يتعجب من قدرة الله على إنبات الشجرة من جنس لا تعمل فيه النار. وعن ابن عباس : الشجرة الملعونة بنو أمية. وعنه هي الكشوث التي تتلوى بالشجر تجعل في الشراب. وقيل : هي الشيطان. وقيل : اليهود سؤال : أي تعلق لحديث الرؤيا والشجرة إلى ما قبله من الكلام؟ جوابه كأنه قيل : إنهم لما طلبوا هذه المعجزات ثم إنك لم تظهرها صار عدم ظهورها شبهة في أنك لست بصادق في دعوى النبوة إلا أن وقوع هذه الشبهة لا ينبغي أن يكون سببا في توهين أمرك. ألا ترى أن ذكر تلك الرؤيا والشجرة صار سببا لوقوع الشبهة العظيمة ، ثم إنها ما أوجبت ضعفا في أمرك ولا فتورا في اجتماع المحقين عليك. ثم ذكر سببا آخر في أنه تعالى لا يظهر المقترحات عليهم فقال : (وَنُخَوِّفُهُمْ) بمخاوف الدنيا والآخرة (فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) متماديا.

التأويل : (لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) يشتمل معنيين لأنهم إن كانوا أكبر منه أو أمثالا له طلبوا طريقا إلى إزعاج صاحب العرش ونزع الملك منه قهرا ، وإن كانوا أدون منه طلبوا إليه الوسيلة بالخدمة والعبودية على أن الناقص لا يصلح للإلهية وهذا قريب من التفسير : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) لكل ذرة من ذرات الموجودات ملكوت لقوله : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) [يس : ٨٣] والملكوت باطن الكون وهو الآخرة ، والآخرة حيوان لا جماد لقوله : (إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) [العنكبوت : ٦٤] فلكل ذرة لسان ملكوتي ناطق بالتسبيح والحمد تنزيها لصانعه وحمدا له على ما أولاه من نعمه ، وبهذا اللسان ينطق الحصى في كف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبه تنطق الأرض يوم القيامة (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) [الزلزلة : ٤] وبه تنطق الجوارح (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت : ٢١] وبه نطق السموات والأرض (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١]

٣٦٢

و (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) في الأزل إذا أخرج من العدم من يكفر به ويجحده (غَفُوراً) لمن تاب عن كفره : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) فيه إشارة إلى أن من قرأ القرآن بتمامه وصل إلى أعلى معارج القدس وأقصى مدارج الأنس كما جاء في الحديث «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق» (١). قال أبو سليمان الخطابي : جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة فمن استوفى جميع آي القرآن استولى على أقصى درجات الجنة. قال المحققون : استيفاء جميع آي القرآن هو أن يتخلق بأخلاقه وصفاته بل بأخلاق الله وصفات الله. وهذا يكون بعد العبور عن الحجب الظلمانية والنورانية فيكون بينه وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا. لم يقل «ساترا» لأن الحجاب يستر الواصل عن المنقطع ولا يستر المنقطع عن الواصل فيكون الواصل مستورا بالحجاب المنقطع. (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ) لأنهم من سوء مزاجهم لا يكادون يقبلون الغذاء الصالح ، فالحلاوة في مذاقهم مرارة (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) من ظلمهم لأنهم وضعوا المسحور مكان المبعوث أي (خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) أي لو كانت قلوبكم التي في صدوركم أشد من الحجارة والحديد فالله قادر على إحيائه وتليينه في قيام قيامة العشق (يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) من شرف من عبيده ، فبتشريف الإضافة يظهر منه القول الأحسن وهو الدعاء إلى الله بلا إله إلا الله مخلصا ، والفعل الأحسن وهو أن يكون متأدبا بآداب الشريعة والطريقة ، والخلق الأحسن وهو أن يكون محسنا إليهم بلا طمع الإحسان والشكر منهم ويتجاوز عن سيئاتهم ويعيش فيهم بالنصيحة ، يأمرهم بالمعروف بلا عنف وينهاهم عن المنكر بلا فضيحة (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) إذ لم يعيشوا بالنصيحة. (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) فيه أن فضل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على داود كفضل القرآن على الزبور. (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ) من قرى قالب الإنسان (إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها) بموت قلبه وروحه قبل موت قالبه فمن مات فقد قامت قيامته (أَوْ مُعَذِّبُوها) بأنواع الرياضات والمجاهدات ففي السير إلى الله ذوبان الأفعال ، وفي السير بالله ذوبان الصفات ، وفي السير في الله ذوبان الذات : (أَحاطَ بِالنَّاسِ) علم مقتضى كل نفس من الخير والشر (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ) كان الوحي يصل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مبدأ أمره بطريق المنام وكان في ذلك اختبار للناس ، فمن وقته يظهر الموافق من المنافق والصديق من الزنديق ، وهكذا كان في شجرة وجود إبليس ابتلاء للناس ولم يكن للمحيط بأحوال الناس حاجة إلى الابتلاء ولكنه يعامل معاملة المختبر والله أعلم بالصواب.

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب ١٨. أحمد في مسنده (٢ / ١٩٢ ، ٤٧١).

٣٦٣

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١)وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً(٧٢))

القراآت : (أَخَّرْتَنِي) بالياء في الحالين : ابن كثير غير الهاشمي عن ابن فليح وسهل ويعقوب وأفق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو في الوصل. الباقون بالحذف (وَرَجِلِكَ) بكسر الجيم : حفص وأبو زيد عن المفضل الآخرون بسكونها. أن نخسف ، أو نرسل ، أن نعيدكم ، فنرسل ، فنغرقكم كلها بالنون : ابن كثير وأبو عمرو. والباقون على الغيبة إلا يعقوب ويزيد فإنهما قرأ فتغرقكم بالتاء الفوقانية على أن الضمير للريح من الرياح على الجمع يزيد : (هذِهِ أَعْمى) بالإمالة (أَعْمى) بالتفخيم : أبو عمرو ونصير والبرجمي ورويس. وقرأ حمزة وعلي غير نصير وخلف ويحيى وحماد جميعا بالإمالة. الباقون جميعا بالتفخيم.

الوقوف : (إِبْلِيسَ) ط (طِيناً) ه لاتحاد فاعل فعل قبله وفعل بعده بلا حرف عطف (عَلَيَ) ز لحق القسم المحذوف مع اتحاد الكلام (قَلِيلاً) ه (مَوْفُوراً) ه (وَعِدْهُمْ) ط للعدول (غُرُوراً) ه (سُلْطانٌ) ط (وَكِيلاً) ه (مِنْ فَضْلِهِ) ط (رَحِيماً) ه (إِلَّا إِيَّاهُ) ج (أَعْرَضْتُمْ) ط (كَفُوراً) ه (وَكِيلاً) ه لا للعطف (تَبِيعاً) ه (تَفْضِيلاً) ه (بِإِمامِهِمْ) ج (فَتِيلاً) ه (سَبِيلاً).

٣٦٤

التفسير : قال أهل النظم : إنه لما ذكر أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من قومه في بلية عظيمة ومحنة شديدة ، أراد أن يبين أن جميع الأنبياء كانوا كذلك حتى آدم عليه‌السلام. وأيضا إن القوم كان منشأ نزاعهم واقتراحاتهم الفاسدة أمرين : الكبر والحسد. فبين الله سبحانه أن هذه عادة قديمة سنها إبليس لعنة الله عليه. وأيضا لما وصف القوم بزيادة الطغيان عقيب التخويف أراد أن يذكر السبب لحصول هذا الطغيان وهو قول إبليس (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) وهذه القصة ذكرها الله تعالى في سبع سور : البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص. ونحن قد استقصينا القول فيه فلا حاجة إلى الإعادة فلنقتصر على تفسير الألفاظ. قال جار الله (طِيناً) حال إما من الموصول والعامل فيه (أَسْجُدُ) معناه أأسجد له وهو طين في الأصل؟ وإما من الراجع إلى الموصول من الصلة تقديره أأسجد لمن كان في وقت خلقه طينا؟ ومعنى الاستفهام إنكار أمر الأشرف على زعمه بخدمة الأدون ولذلك (قالَ أَرَأَيْتَكَ) أي أخبرني عن هذا الذي كرمته أي فضلته (عَلَيَ) لم كرمته وأنا خير منه؟ فاختصر الكلام لكونه معلوما. ويمكن أن يقال : هذا مبتدأ والاستفهام فيه مقدر معناه أخبرني أهذا الذي كرمته عليّ؟ والإشارة هنا تفيد الاستحقار. وقيل : إن هذا مفعول : (أَرَأَيْتَكَ) لأن الكاف لمجرد الخطاب كأنه قال على وجه التعجب والإنكار : أبصرت أو علمت هذا بمعنى لو أبصرته أو علمته لكان يجب أن لا يكرّم عليّ. ثم ابتدأ فقال لئن أخرتني واللوم موطئة للقسم المحذوف وجوابه (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) لأستأصلنهم بالإغواء من احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا من الحنك. ومنه ما ذكر سيبويه «أحنك الشاتين» أي آكلهما. وقال أبو مسلم : هو افتعال من الحنك يقال منه حنك الدابة يحنكها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به كأنه يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه. وإنما ظن إبليس بهم ذلك لأنه سمع قول الملائكة في حقهم (تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] أو نظر إليه فتوسم أنه خلق شهواني إلى غير ذلك من قواه السبعية والوهمية والبهيمية ، أو قاس ذرية آدم عليه حين عمل وسوسته فيه. وضعفه جار الله بأن الظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة (قالَ) أي الله تعالى (اذْهَبْ) ليس المراد منه نقيض المجيء وإنما المراد امض لشأنك الذي اخترته خذلانا وتخيلة وإمهالا. ثم رتب على الإمهال قوله : (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ) أراد جزاؤهم وجزاؤك فغلب المخاطب على الغائب لأنه الأصل في المعاصي وغيره تبع له. وجوز في الكشاف أن يكون الخطاب لتابعيه على طريقة الالتفات. وانتصب (جَزاءً مَوْفُوراً) على المصدر والعامل فيه معنى تجازون المضمر ، أو

٣٦٥

المدلول عليه بقوله : (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ) أو على الحال الموطئة. والموفور الموفر من قولهم «فر لصاحبك عرضه فرة». وقيل : هو بمعنى الوافر.

ثم أكد الإمهال والخذلان بقوله : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) أفزه الخوف واستفزه أزعجه واستخفه ، وصوته دعاؤه إلى معصية الله. وقيل : الغناء واللهو واللعب (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) قال الفراء وأبو عبيدة : أجلب من الجلبة والصياح أي صح عليهم. وقال الزجاج : أي أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك. فالإجلاب الجمع والباء في (بِخَيْلِكَ) زائدة. وقال ابن السكيت : الإجلاب الإعانة ، والخيل يقع على الفرسان قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا خيل الله اركبي. وعلى الأفراس جميعا. والرجل بسكون الجيم جمع راجل كتاجر وتجر وصاحب وصحب. وبكسر الجيم صفة معناه وجمعك الرجل. وتضم جيمه أيضا مثل ندس وندس وحذر وحذر. عن ابن عباس : كل راكب وراجل في معصية الله فهو من خيل إبليس وجنوده. وقيل : يحتمل أن يكون لإبليس جند من الشياطين بعضها راكب وبعضها راجل ، والأقرب أن هذا كلام ورد تمثيلا فقد يقال للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك. قال في الكشاف : مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم ، وأجلب عليهم بجند من خيالة ورجالة حتى إذا استأصلهم. أما المشاركة في الأموال فهي كل تصرف في المال لا على وجه الشرع سواء كان أخذا من غير عوض أو وضعا في غير حق كالربا والغضب والسرقة. وقيل : هي تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة. والمشاركة في الأولاد دعوى الولد بغير سبب وتحصيله بالدعاء إلى الزنا ، أو تسميتهم بعبد اللات وعبد العزى ، أو تربيتهم لا كما ينبغي حتى ينشأوا غير راشدين ولا مؤدبين ولا متدينين بدين الحق. (وَ ـ عِدْهُمْ) بتزيين المعاصي في أعينهم وترغيبهم فيها وتثقيل الطاعات والعبادات عليهم وتنفيرهم عنها ، وهذه قضية كلية وربما يخصه المفسرون ، فعن بعضهم أن المراد وعدهم بأنه لا جنة ولا نار. وقيل : تسويف التوبة. وقيل : بالكرامة على الله بالأنساب والأحساب. وقيل : بشفاعة الأصنام والأماني الباطلة وإيثار العاجل عى الآجل. ثم نفى أن يكون لوعد الشيطان عاقبة حميدة فقال : (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) لأنه إنما يدعو إلى الذات البهيمية أو السبعية أو الخيالية ، وأكثرها دفع الآلام وكلها لا أصل لها ولا دوام. ومن أراد الاستقصاء في هذا الباب فعليه بمطالعة باب «ذم الغرور من كتاب إحياء علوم الدين» للشيخ الإمام محمد الغزالي رحمه‌الله.

٣٦٦

ولما قال للشيطان على سبيل الوعيد والتهديد افعل ما تقدر عليه ربط جأش سائر المكلفين بقوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢] قال الجبائي : المراد كل عباده لأنه استثنى متبعيه في غير هذا الموضع قائلا : إلّا من تبعك [الحجر : ٤٢] وقال أهل السنة : المراد عباد الله المخلصين. ثم زاد في تقوية جانب المكلف فختم الآية بقوله : (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) فهو يدفع كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه. ثم عدد على بني آدم بعض ما أنعم به عليهم ليكون تذكيرا لهم وتحذيرا فقال : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ) أي يسير لأجلكم (الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) والإزجاء سوق الشيء حالا بعد حال (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) الربح بالتجارة (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) فلذلك هداكم إلى مصالح المعاش المؤدية إلى منافع المعاد (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) أي خوف الغرق (فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ) ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه في حوادثكم (إِلَّا إِيَّاهُ) وحده فإنكم تعقدون برحمته رجاءكم ، أو المراد ضل من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم ولكن الله هو الذي ترجونه وحده فكان الاستثناء منقطعا (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ) من ذلك الضر وأخرجكم (إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) عن الإخلاص (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) لنعمة الله لأنه عند الشدة يتمسك برحمة الله وفي الرخاء يعرض عنه. ثم أنكر عليهم سوء معاملتهم قائلا : (أَفَأَمِنْتُمْ) تقديره أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض (أَنْ يَخْسِفَ) أصله دخول الشيء في الشيء ومنه عين خاسفة للتي غارت حدقتها في الرأس ، وخسف القمر دخل تحت الحجاب وهو دائرة الظل عند الحكماء (بِكُمْ) حال ، وإنما قال : (جانِبَ الْبَرِّ) لأنه ذكر البحر في الآية الأولى وهو جانب والبر جانب ، وخسف جانب البر بهم قلبه وهم عليه فالخسف تغييب تحت التراب كما أن الغرق تغييب تحت الماء ، فهبوا أنكم نجوتم من هول البحر فهل أمنتم من هول البر فإنه قادر على تسليط آفات البر عليكم. إما من جانب التحت بالخسوف ، وإما من جانب الفوق بإمطار الحجارة وذلك أن (يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ) حاصبا وهي الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء. وقال الزجاج : الحاصب التراب الذي فيه حصباء ، فالحاصب ذو الحصباء كاللابن والتامر. ولا يخفي أن هذين العذابين أشد من غرق البحر. (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) يصرف ذلك عنكم (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى) بأن يقوي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى ركوب البحر (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً) وريحا لها قصيف أي صوت شديد أو القاصف الكاسر. وقوله : (مِنَ الرِّيحِ) بيان له (فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) بسبب كفركم (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) مطالبا يتبعنا لإنكار ما نزل بكم أو لنصرفه عنكم فهو كقوله : (وَلا يَخافُ عُقْباها) [الشمس : ١٦].

٣٦٧

ثم أجمل ذكر النعمة بقوله : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) وقد ذكر المفسرون في تكريمه وجوها منها : الخط فيه يقدر الإنسان على إيداع العلوم التي استنبطها ـ هو أو غيره ـ الدفاتر فتبقى على وجه الدهر مصونة عن الاندراس محفوظة عن الانطماس (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) [العلق : ٣ ، ٤] ومنها الصورة الحسنة (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) [غافر : ٦٤] ، ومنها القامة المعتدلة (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] ومنها أن كل شيء يأكل بقية إلا ابن آدم. يحكى عن الرشيد أنه حضر لديه طعام فأحضرت الملاعق ـ وعنده أبو يوسف ـ فقال له : جاء في تفسير جدك ابن عباس أن هذا التكريم هو أنه جعل لهم أصابع يأكلون بها فرد الملاعق وأكل بأصابعه. ومنها ما قال الضحاك : إنه النطق والتمييز فإن الإنسان يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه بخلاف سائر الحيوان ، ويدخل الأخرس في هذا الوصف لأنه يعرف بالإشارة أو الكتابة ، ويخرج الببغاء ونحوه لأنه لا يقدر على تعريف جميع الأحوال على الكمال. ومنها تسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم ، فالأرض لهم كالأم الحاضنة (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ) [طه : ٥٥] وهي لهم فراش ومهاد ، والماء ينتفعون به في الشرب والزراعة والعمارة وماء البحر ينتفع به في التجارة واستخراج الحلي منه ، والهواء مادة الحياة ولولا هبوب الرياح لاستولى النتن على المعمورة ، والنار ينتفع بها في الطبخ والإنضاج ودفع البرد وغير ذلك ، وانتفاعهم بالمركبات المعدنية والنباتية والحيوانية ظاهر. وبالجملة فهذا العالم بأسره كقرية معمورة أو خوان معد ، والإنسان فيه كالرئيس المخدوم والملك المطاع ، فأي تكريم يكون أزيد من هذا؟ ولا شك أن الإنسان ـ لكونه مستجمعا للقوة العقلية القدسية وللقوتين الشهوية البهيمية والغضبية السبعية ولقوّتي الحس والحركة الإرادية وللقوى النباتية وهي الاغتذاء والنموّ والتوليد ـ يكون أشرف مما لم يستجمع الجميع سوى المجردات المحضة. وقال بعضهم : إن هذا التكريم هو أنه تعالى خلق آدم بيده وأبدع غيره بواسطة «كن». يروى عن زيد بن أسلم أن الملائكة قالت : ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطنا في الآخرة. فقال : وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له «كن» فكان.

ثم خص بعض أنواع التكريم بالذكر فقال : (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) قال ابن عباس : في البر أي على الخيل والبغال والحمير وفي البحر أي على السفن (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من كل غذاء نباتي أو حيواني ألطفه وألذه. واعلم أن التكريم لا يدل على التفضيل لأن تكريم زيد لا ينافي تكريم غيره بأزيد من ذلك ولذلك ختم التكريم بقوله :

٣٦٨

(وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) فسر بعض الأشاعرة الكثير هاهنا بمعنى الجميع فشنع عليه جار الله بأنه شجى في الحلق وقذى في العين لبشاعة قول القائل : وفضلناهم على جميع ممن خلقنا. والإنصاف أن كون الكثير مفيدا لمعنى الجميع لا يوجب هذا التشنيع ، لأنه لا يلزم من إفادة اللفظ معنى لفظ آخر بمعنى أنه يرجع الحاصل إلى ذلك بدلالة الالتزام ، أو بحكم العرف أن يوضع ذلك اللفظ موضعه وينطق به على أن التفسير لا يقوم مقام المفسر البتة ، لأن هذا معجز دون ذلك فكيف يبقى الذوق بحاله؟ وأيضا فالحاصل هو قولنا على جميع من خلقنا لا على جميع ممن خلقنا ، فإن الدعوى هو أن كثيرا من الشيء أقيم مقام كل ذلك الشيء لا كل من ذلك الشيء حتى تلزم البشاعة من قبل الجمع بين لفظي الكل و «من» التبعيضية. هذا وإن الحق في المسألة هو إجراء الكلام على ظاهره ، وإن الآية تدل على أنه حصل في مخلوقات الله شيء لا يكون للإنسان تفضيل عليه ، لأنه سبحانه ذكر في هذا الكلام في معرض المدح ، ولو كان الإنسان مفضلا على الكل لم يقع من الله تعالى الاقتصار على ذكر البعض. وكل من أثبت هذا القسم قال : إنه هو الملائكة. فلزم القول بأن كل الإنسان ليس أفضل من كل الملائكة بل بعض الملك أفضل من أكثر الإنسان وإن كان يوجد في خواص الإنسان من هو أفضل من عوام الملائكة بل من خواصهم ، وإلى هذا ذهب ابن عباس واختاره الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط. وأما أن كل الملائكة أفضل من كل البشر ـ على ما زعم جار الله وأمثاله ـ فإنه تحكم محض.

ولما ذكر أنواع كرامات الإنسان في الدنيا شرح أحوال درجاته في الآخرة فقال : (يَوْمَ نَدْعُوا) وهو منصوب بإضمار «اذكر» أو بقوله : (فَضَّلْناهُمْ) على عادة الله في الإخبار أي ونفضلهم في هذا اليوم بما نعطيهم من الكرامة والثواب ، وعلى هذا يكون التكريم في الدنيا والتفضيل في الآخرة ولا وقف على (تَفْضِيلاً) والإمام في اللغة كل ما يؤتم به من نبي أو مقدّم في الدين أو كتاب أو دين. والباء في قوله : (بِإِمامِهِمْ) للإلصاق كما تقول أدعوك باسمك. عن أبي هريرة مرفوعا أنه ينادى يوم القيامة يا أمة إبراهيم يا أمة موسى يا أمة عيسى يا أمة محمد ، فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم ، ثم ينادى يا أتباع فرعون وفلان وفلان من رؤساء الضلال وأكابر الكفر. ويجوز أن يتعلق الباء بمحذوف وهو الحال والتقدير : تدعو كل أناس متلبسين بإمامهم أي يدعون وإمامهم في نحو «ركب بجنوده». وروى الضحاك وابن زيد أنه ينادى في القيامة يا أهل القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل. وقال الحسن : يدعون بكتابهم الذي فيه أعمالهم

٣٦٩

فيقال : يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر. وهو قول الربيع وأبي العالية أيضا. قال صاحب الكشاف : ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع «أن» وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهامتهم. والحكمة في ذلك في رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين عليهما‌السلام وأن لا يفتضح أولاد الزنا. ثم قال : وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بيان حكمته؟ وقال في التفسير الكبير : كل خلق يظهر من الإنسان حسن كالعفة والشجاعة والعلم ، أو قبيح كأضدادها فالداعي إلى تلك الأفعال خلق باطن كالإمام له وكالمنبع والمنشأ ، ويوم القيامة إنما يظهر الثواب والعقاب بناء على الأفعال الناشئة من تلك الأخلاق (فَمَنْ أُوتِيَ) هو في معنى الجمع ولذلك قيل في جزائه (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ) وخص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم لأن قراءة أصحاب الشمال كلا قراءة لما يعرض لهم فيه من الحياء والخجل والتتعتع (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) الدنيا (أَعْمى) لا خلاف أن المراد بهذا العمى عمى القلب. وأما قوله : (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) فيحتمل أن يراد به عمى البصر كقوله : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) [طه : ٢٥] وفي هذا زيادة العقوبة. ويحتمل أن يراد عمى القلب. قال ابن عباس : المراد ومن كان أعمى في هذه النعم التي عددها من قوله : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي) إلى قوله : (تَفْضِيلاً) فهو في الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى بالطريق الأولى ، لأن الضلال عن معرفة أحوال الآخرة أقرب وقوعا ، فعلى هذا يكون الأعمى في الموضعين في الدنيا ، ومثله ما روى أبو روق عن الضحاك. من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرته في خلق السماء والأرض والبحار والجبال والناس والدواب ، فهو عن أمر الآخرة وتحصيل العلم به أعمى. قال المفسرون : لا يبعد أن يكون أعمى على هذا التفسير «أفعل» التفضيل ودليله قراءة أبي عمر وبإمالة الأول وتفخيم الثاني ، لأن الأول ألفه واقعة في الطرف فكانت عرضة للإمالة ومظنة لها بخلاف الثاني فإن تمامه بمن فكانت ألفه في حكم وسط الكلمة. هذا قول صاحب الكشاف تابعا لأبي علي الفارسي. وأقول : في هذا الوجه نظر ، لأن الإمالة ليست مختصة بآخر الكلمة مثل «شيئان» «والكافرين» ونحوهما ولهذا قرىء بإمالة كليهما مع قيام هذا الاحتمال في الثاني ، ولعل من لم يمل الثاني راعى المشاكلة بينه وبين أضل والله أعلم. قال الحسن : في الآخرة أي في الدار الآخرة وذلك أنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل. وقيل : المراد بالعمى في الآخرة أنه لا يهتدي إلى طريق الجنة وإلى طيباتها والابتهاج ، بها ولا يمكن أن يراد بها الجهل بالله لأن أهل الآخرة يعرفون الله بالضرورة.

٣٧٠

التأويل : (مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) أي بكلمات المبتدعة ومقالات أهل الطبيعة (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) لأنهم بخصوصية العبودية تخلصوا عن رق الكونين وتعلق العالمين (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) في تربيتهم وتهيئة صلاح أحوالهم. (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ) فلك الشريعة في بحر الحقيقة (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) جذبة العناية (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ) إلى بر الوصول والوصال (أَعْرَضْتُمْ) بحجب العجب ورؤية الأعمال (حاصِباً) من مطر القهر (قاصِفاً) من ريح الابتلاء ببليات البدع والأهواء (فَيُغْرِقَكُمْ) في بحر الشهوات (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) بالكرامات البدنية العامة للمؤمن والكافر وهي تخمير طينته بيده وتصويره في الرحم بنفسه ، وبالكرامات الروحانية العامة وهي أن نفخ فيه من روحه وشرفه بخطاب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وأنطقه بجواب (بَلى) وأولده على الفطرة وأرسل الرسل وأنزل الكتب ، وبالكرامات الروحانية الخاصة من النبوة والولاية والهداية والجذبة كما قال : (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي عبرنا بهم من بر البشرية وبحري الروحانية إلى ساحل الربانية (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ) طيبات المواهب ونوال الكشوف (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ) أي على الملائكة لأنهم الخلق الكثير من مخلوقات الله. وبيان تفضيله حسن استعداده في قبول فيض نور الله بلا واسطة وهو المراد بالأمانة في قوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) [الأحزاب : ٧٢] (نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) من الدنيا والآخرة وغير هما فيقال : يا أهل الدنيا ويا أهل الآخرة ويا أهل الله (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) فيه إشارة إلى أن أهل الله لا يؤتون كتابهم كما لا يحاسبون حسابهم ، وأهل الشمال يؤتون الكتاب ولكنهم لا يقدرون على القراءة لأنهم عمي والقراءة تحتاج إلى الإبصار بالأبصار وبالبصائر والله أعلم.

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ

٣٧١

عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩))

القراآت : (خَلْفَكَ) ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو وأبو بكر وحماد. الآخرون (خِلافَكَ) بكسر الخاء بالألف (وَنُنَزِّلُ مِنَ) مخففا : أبو عمرو ويعقوب. الباقون بالتشديد وياء تحتانية وناء بجانبه مثل «ناع» : يزيد وابن ذكوان (وَنَأى) بفتح النون وإمالة الهمزة مثل «رمى». حمزة غير خلف والعجلي وحماد ويحيى وعباس وأبو شعيب ونصير مثله ولكن بكسر النون على غير نصير ، وخلف والعجلي وخلف لنفسه. الباقون بفتحتين كرمى.

الوقوف : (خَلِيلاً) ه (قَلِيلاً) ه لا لتعلق «إذا» (نَصِيراً) ه (قَلِيلاً*) ه (تَحْوِيلاً) ه (وَقُرْآنَ) ه (الْفَجْرِ) ط (مَشْهُوداً) ه (نافِلَةً لَكَ) قف والوصل أولى لأن «عسى» وعد على التهجد (مَحْمُوداً) ه (نَصِيراً) ه (وَزَهَقَ الْباطِلُ) ط (زَهُوقاً) ه (لِلْمُؤْمِنِينَ) ه لا لأن ما بعده من صلة «ما» (خَساراً) ه (بِجانِبِهِ) ج لعطف حملتي الظرف (يَؤُساً) ه (شاكِلَتِهِ) ط (سَبِيلاً) ه (عَنِ الرُّوحِ) ط (قَلِيلاً) ه (وَكِيلاً) ه لا (مِنْ رَبِّكَ) ط (كَبِيراً) ه (ظَهِيراً) ه (مَثَلٍ) ز لعطف المتفقين معنى المختلفين لفظا (كُفُوراً) ه.

التفسير : لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على بني آدم وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس الأشقياء. عن ابن عباس في رواية عطاء أن وفد ثقيف قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب ، لا نعشر ـ أي لا تؤخذ عشور أموالنا ـ ولا نحشر ولا نجبي في صلاتنا أي لا نسجد ، وكل ربا لنا فهو لنا ، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا ، وأن تمتعنا باللات سنة ولا نكسرها بأيدينا عند رأس الحول ، وأن تمنع من قصد وادينا وجّ فعضد شجره فإذا سألتك العرب لم فعلت ذلك؟ فقل : إن الله أمرني به وجاؤا بكتابهم فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لثقيف لا يعشرون ولا يحشرون فقالوا : ولا يجبون ، فسكت رسول الله ثم قالوا للكاتب : اكتب «ولا يجبون»

٣٧٢

والكاتب ينظر إلى رسول الله. فقام عمر بن الخطاب فسل سيفه وقال : أسعرتم قلب نبينا يا معشر ثقيف أسعر الله قلوبكم نارا. فقالوا : لسنا نكلمك إنما نكلم محمدا. وقال عمر : أما ترون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه فأنزل الله الآية. وهذه القصة وقعت بعد الهجرة فلهذا قال المفسرون إنها ليست بمكية. وروي أن قريشا قالوا له اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة فنزلت. وقال الحسن : إن الكفار أخذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة قبل الهجرة فقالوا : كف يا محمد عن ذم آلهتنا وشتمها ، ولو كان ذلك حقا كان فلان وفلان بهذا الأمر أحق منك. فوقع في قلب رسول الله أن يكف عن شتم آلهتهم. وعن سعيد بن جبير أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستلم الحجر فتمنعه قريش ويقولون : لا ندعك حتى تستلم بآلهتنا فوقع في نفسه أن يفعل ذلك مع كراهية فنزلت. قال القفال : من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأقصى ما يقدرون عليه ، فتارة كانوا يقولون : لو عبدت آلهتنا عبدنا آلهك فنزلت : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) [الكافرون : ١ ، ٢] وقوله : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم : ٩] وتارة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والنسوان الجميلة ليترك ادعاء النبوة فنزلت (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا) [طه : ١٣١] وأخرى دعوه إلى طرد المؤمنين فنزل : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) [الأنعام : ٥٢] وكل ذلك دليل على أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه ويزيلوه عن منهجه. فلو لم يكن شيء من الروايات المذكورة موجودا لكان للآية محمل صحيح. والمعنى وإن الشأن قاربوا أن يخدعوك فاتنين. وأصل الفتنة الاختبار ومنه فتن الصائغ الذهب ثم استعمل في كل من أزال الشيء عن حده وجهته ، وذلك في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن وافتراء على الله من تبديل الوعد بالوعيد وغير ذلك (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ) أي لو اتبعت مرادهم لا تخذوك (خَلِيلاً) ولكنت لهم وليا وخرجت من ولايتي (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) لولا تثبيتنا وعصمتنا لك (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) لقاربت أن تميل إلى مرادهم (شَيْئاً قَلِيلاً) أي ركونا قليلا. قال ابن عباس : يريد حيث سكت عن جوابهم.

قال قتادة : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين. ثم توعده في ذلك أشد الوعيد فقال : (إِذاً لَأَذَقْناكَ) أي لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركون لأذقناك (ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. والضعف عبارة عن ضم الشيء إلى مثله. وقال صاحب الكشاف : المراد عذاب الممات وهو عذاب القبر ، وعذاب الحياة وهو عذاب حياة الآخرة أي عذاب النار. والعذاب

٣٧٣

يوصف بالضعف كقوله : (فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) [ص : ٦١] بمعني مضاعفا فكان أصل الكلام عذابا ضعفا في الحياة الدنيا وعذابا ضعفا في الممات ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ، ثم أضيفت الصفة كإضافة الموصوف فقيل : ضعف الحياة وضعف الممات كما لو قيل : لأذقناك أليم الحياة وأليم الممات. وقال في التفسير الكبير : حاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون إليه همك لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ، ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة. والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله تعالى في حق الأنبياء أكثر فكانت ذنوبهم وكذا عقوبتهم أعظم نظير (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب : ٣٠]. ثم إن إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه لأن دليل الخطاب لا حجة فيه فقد يرتقى الضعف إلى مالا حد له كما جاء في الحديث : «من سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (١) (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) يعني لو أذقناك ذلك لم تجد أحدا يخلصك من عذابنا. واعلم أن القرب من الفتنة لا يدل على الوقوع فيها. والتهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها فلا يلزم من الآية طعن في عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفيه أنه لا عصمة من المعاصي إلا بتوفيق الله وتثبيته على الحق. وقالت المعتزلة : المراد بهذا التثبيت الألطاف الصارفة عن ذلك وهي ما أخطر الله بباله من ذكر وعده ووعيده كونه نبيا من عنده. وأجيب بأنه لو لم يوجد المقتضى للإقدام على ذلك الفعل المحذور لم يكن إلى إيجاد المانع حاجة ، وليس ذلك المقتضي إلا القدرة مع الداعي ولا ذلك المانع إلا داعية أخرى معارضة للداعي الأول وقد أوجدها الله تعالى عقيب ذلك.

ثم ذكر طرفا آخر من مكايدهم فقال : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) «إن» مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة كما في الآية الأولى ومعنى (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ليزعجونك كما مر في قوله : (وَاسْتَفْزِزْ) [الآية : ٦٤] والأرض إما أرض مكة ، كما قال قتادة ومجاهد ويرد عليه أن «كاد» للمقاربة لا للحصول لكن الإخراج قد حصل لقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) [محمد : ١٣] ويمكن أن يقال : إنهم هموا بإخراجه ولكن الله منعهم من ذلك حتى هاجر بأمر ربه ، فأطلق الإخراج على إرادة الإخراج مجوزا

__________________

(١) رواه الدارمي في كتاب المقدمة باب ٤٤. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٤. أحمد في مسنده (٤ / ٣٦٢).

٣٧٤

يؤيده قوله : (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ) وهو معطوف على (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) أي لا يبقون بعد إخراجك إلا زمانا قليلا أي لو أخرجوك لاستؤصلوا لكنه لم يقع الاستئصال فدل ذلك على عدم وقوع الإخراج. ومن جوز وقوع الإخراج قال : المراد بعدم اللبث أنهم أهلكوا ببدر بعد إخراجه بقليل. واما أرض المدينة على ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم وقالوا : يا أبا القاسم إن الأنبياء بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مهاجر إبراهيم ، فلو خرجت إلى الشام لآمنا بك واتبعناك. وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم ، فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم. فعسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أميال من المدينة أو بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازما على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين الله فنزلت الآية فرجع. وعلى هذا القول تكون هذه الآية أيضا مدنية ، والخلاف في معنى الخلف كما مر في قوله : (بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) [التوبة : ٨١] وقرىء : وإذا لا يلبثوا بحذف النون على إعمال «إذن» فتكون الجملة برأسها معطوفة على جملة قوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ). ثم بين أن عادته تعالى جارية بأن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم فإنه يهلكهم فقال (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا) وهو منصوب على المصدر المؤكد أي سن الله ذلك سنة (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) لأن الأسباب الكلية في الأزل اقتضت توزع كل من أجزاء الزمان على حادث معين بسبب معين ، فتبديل إحدى الحوادث وتحويلها إلى وقت آخر يقتضي تغيير الأسباب عن أوضاعها وهو محال عقلا وعادة.

وقال أهل النظم : لما قرر الإلهيات والمعاد والجزاء أردفها بذكر أشرف الطاعات وهي الصلاة. وأيضا لما قال : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) أمره بالاشتغال بعبادته تفويضا للأمور إلى الله وتعويلا على فضله في دفع شر أعدائه نظيره قوله في سورة طه : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) [طه : ١٣٠]. ذهب كثير من المفسرين كابن قتيبة وسعيد بن جبير منقولا عن ابن عباس ، أن دلوك الشمس هو غروبها. وعلى هذا لا تشمل الآية صلاتي الظهر والعصر. وأكثر الصحابة والتابعين على أن دلوك الشمس زوالها عن كبد السماء ويؤيده ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أتاني جبرائيل لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر. قالوا : واشتقاقه من الدلك لأن الإنسان يدلك عينيه إذ ينظر إليها وهي في كبد السماء. وعلى هذا التفسير تشمل الآية جميع الصلوات الخمس. وحمل كلام الله على ما هو أكثر فائدة أولى واللام

٣٧٥

بمعنى الوقت أو للتعليل أي أدم الصلاة في هذا الوقت أو لأجل دخول هذا الوقت (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أي ظلمته. قال الكسائي : غسق الليل غسوقا أي أظلم ، والاسم الغسق بفتح السين والتركيب يدور على السيلان ومنه يقال : غسقت العين إذا هملت وكأن الظلام انهمل على الدنيا وتراكم. وهذا عند سيبويه الشفق الأبيض ، فاستدل به بعض الشافعية على أن أول وقت العشاء الآخرة يدخل بغروب الشفق الأحمر لأن المحدود إلى غاية يكون مشروعا قبل حصول تلك الغاية. وهذا الاستدلال مبني على أن الغاية لا تدخل في ذي الغاية ، وعلى أن الآية يجب أن تشمل جميع الصلوات ، وللخصم المنع في المقامين. ثم إن المفسرين أجمعوا على أن المراد بقرآن الفجر هو صلاة الصبح تسمية للشيء ببعض أجزائه ، ومثله تسمية الصلاة ركوعا وسجودا وقنوتا. قال جار الله : إنه حجة علي ابن علية والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن. قلت : أجزاء الصلاة أعم من أركانها ولهذا قسمت الفقهاء الصلاة إلى أركان وأبعاض وهيئات فلا يتم هذا الاعتراض.

وفي الآية مسائل : الأولى : استدل بعض الشيعة بها على جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقا. وأجيب بأن الآية مخصوصة بفعل الرسول أو بقوله:«صلوا كما رأيتموني أصلي» (١) ويستثنى منه عذر السفر والمطر لعدم الدليل المخصص في تلك الصورة فلزم إبقاؤها على الجواز الأصلي.

الثانية : استدل بعض الشافعية بها على أن التغليس في صلاة الصبح أفضل من التنوير لوجوه منها : أنه أضاف القرآن إلى الفجر والتقدير : أقم قرآن الفجر. وظاهر الآية للوجوب فلا أقل من الندب حتى لا تكثر مخالفة الدليل. والفجر انفجار ظلمة الليل فيلزم أن تكون إقامة الفجر في أول الوقت أفضل. ومنها أنه خص الفجر بإضافة القراءة إليه فدل ذلك على أن طول القراءة في هذه الصلاة مطلوب ، ولن يتم هذا المطلوب إلا إذا شرع في أدائه في أول الوقت. ومنها أنه وصف قرآن الفجر بكونه مشهودا فقيل : أي يشهده الكثير من المصلين في العادة ، أو من حقه أن يكون مشهودا بالجماعة الكثيرة. وقال أكثر المفسرين : معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح تنزل هؤلاء وتصعد هؤلاء في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار. وقيل : إنهم يجتمعون خلف الإمام تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الصبح قبل أن تعرج ملائكة الليل. فإذا فرغ

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأذان باب ١٨. الدارمي في كتاب الصلاة باب ٤٢. أحمد في مسنده (٥ / ٥٣).

٣٧٦

الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل ومكثت ملائكة النهار. ثم إن ملائكة الليل إذا صعدت قالت : يا رب إنا تركنا عبادك يصلون لك ، وتقول ملائكة النهار : ربنا لقينا عبادك وهم يصلون. فيقول الله لملائكته : اشهدوا فإني قد غفرت لهم. والغرض أن المكلف إذا شرع في صلاة الصبح في آخر الظلمة الذي هو أول الفجر كانت ملائكة الليل حاضرين بعد. ثم إذا امتدت هذه الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة بالكل أو بالأكثر وحضرت ملائكة النهار ، وهذا المعنى لا يحصل إذا ابتدئ بها وقت التنوير. قال أهل التحقيق : إذا شرع في صلاة الصبح في أول وقتها شاهد في أثنائها انقلاب العالم من الظلمة ـ التي هي نظيرة الموت ـ إلى الضياء الذي هو نظير الحياة ، فإنه يفيء عقله من هذه الحالة إلى عجيب صنع الخلاق المدبر للأنفس والآفاق ، فيزداد بصيرة وإيقانا ومعرفة وإيمانا ، وتنفتح عليه أبواب المكاشفة والمشاهدة. وإذا كان هذا المعنى في الجماعة الكثيرة صارت نفوسهم كالمرايا المشرقة المتقابلة المتعاكسة أضواؤها الواقعة على كل منها ، فيزداد كل منهم نورية وبهاء. فيحتمل أن يكون قوله : (مَشْهُوداً) إشارة إلى هذه الأحوال المشاهدة. ولا ريب أنه إذا شرع في الصلاة أول انتباهه من النوم قبل أن يرد على لوح عقله وفكره النقوش الفاسدة من الأمور الدنيوية الدنية ، كان أولى فإن الأنبياء ما بعثوا إلا لإزالة مثل هذه الأمراض عن النفوس.

ثم حث على قيام الليل فقال : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) قال أبو عبيدة وابن الأعرابي : هذا من الأضداد لأنه يقال : هجد الرجل إذا نام وهجد أيضا إذا صلى من الليل ، ويوسط الأزهري فقال : الهجود في الأصل هو النوم بالليل ، ولكن تاء التفعل فيه لأجل التجنب به ومنه «تأثم» «وتحرج» إذا ألقى الإثم والحرج عن نفسه. فكأن به المتهجد يدفع الهجود عن نفسه. وبوجه آخر لما كان غرض المصلي بالليل أن يطيب رقاده وهجوده بعد الموت سمي بذلك الاعتبار متهجدا. وربما يقال : سمي تهجدا لأن الأصل فيه أن يرقد ثم يصلي ثم يرقد ثم يصلي ، فهو صلاة بعد رقاد كما كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولداود كما جاء في الحديث : «أفضل القيام قيام داود كان ينام ثلثه ويقوم سدسه ثم ينام ثلثه ويقوم سدسه» (١) قال جار الله : معنى (وَمِنَ اللَّيْلِ) وعليك بعض الليل (فَتَهَجَّدْ بِهِ) وقال في التفسير الكبير : تقديره وأقم الصلاة في بعض الليل فتهجد به أي بالقرآن. ومعنى نافلة زائدة كما مر في أول «الأنفال». ثم من ذهب إلى أن صلاة الليل

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الصيام باب ٣١.

٣٧٧

كانت واجبة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. زعم أن معناها كونها فريضة له زائدة على الصلوات الخمس ، أو المراد أن فرضيتها نسخت عنك فصارت تطوعا زائدة على الفرائض. ويرد عليه أن الأمر ظاهره الوجوب فيكون بين قوله : (فَتَهَجَّدْ) وبين قوله (نافِلَةً) تعارض ، وكذا الاعتراض على قول من يقول إن صلاة الليل لم تكن واجبة عليه. ويمكن أن يجاب عنه بأن قوله : (نافِلَةً) قرينة صارفة للوجوب إلى الندب. وعن مجاهد والسدي أن كل طاعة يأتي بها النبي سوى المكتوبة فإن تأثيرها لا يكون في كفارة الذنوب لأنه غفر له ذنبه ما تقدم منه وما تأخر ، وإنما تكون مؤثرة في زيادة الدرجات وكثرة الثواب ولا كذلك حال الأمة فكأنه قيل للنبي : إن هذه الطاعات زوائد ونوافل في حقك لا في حق غيرك ، لأن غيرك يحتاج إليها في تكفير السيئات ومن تقييد التهجد بقوله : (نافِلَةً لَكَ) يعلم أن قوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ) عام له ولكل أمته وإن كان ظاهره خطابا معه.

ثم وعده على إقامة الفرائض والنوافل بقوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ) ولا ريب أن «عسى» من الكريم أطماع واجب قال في الكشاف : انتصب (مَقاماً مَحْمُوداً) على الظرف أي عسى أن يبعثك يوم القيامة فيقيمك مقاما محمودا ، أو ضمن يبعثك معنى يقيمك ، أو هو حال أي يبعثك ذا مقام محمود ، وقيل : إنه مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات. والأولى أن يخص ذلك بالشفاعة لأنه الحمد إنما يكون بإزاء إنعام ولا إنعام للنبي على أمته في الآخرة إلا إنعام الشفاعة ، أو لا إنعام أجل منها لأن السعي في تخليص الغير من العقاب أهم من السعي في إيصال الثواب إليه ، ويؤيده رواية أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي. وأما ما روي عن حذيفة أن المقام المحمود هو أن يجمع الناس في صعيد واحد ولا تتكلم نفس ، فأول مدعو محمد فيقول : لبيك وسعديك والشر ليس إليك ، والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك رب البيت. فليس بقوي لأن هذا القول من محمد لا يوجب حمدا له من أمته إلا أن يكون من مقامات الشفاعة فيرجع إلى الأول. وقيل : أراد مقاما تحمد عاقبته. وروى الواحدي عن ابن مسعود أن ذلك حين يقعد محمد معه على العرش وزيف بلزوم التحيز له تعالى. قوله : (مُدْخَلَ صِدْقٍ) و (مُخْرَجَ صِدْقٍ) مصدران بمعنى الإدخال والإخراج ، والإضافة إلى الصدق لأجل المبالغة نحو «حاتم الجود» أي إدخالا يستأهل أن يسمى إدخالا ولا يرى فيه ما يكره. قال الحسن وقتادة : نزلت حين أمر بالهجرة يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة ، وقيل : إن اليهود لما قالوا له اذهب إلى الشام فإنه مسكن الأنبياء وعزم

٣٧٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الذهاب إليه فكأنه قيل له المعبود واحد في كل البلاد (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) فداوم على الصلاة وارجع إلى مقرك ومسكنك. (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي) في المدينة (مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي) منها إلى مكة (مُخْرَجَ صِدْقٍ) أي افتحها لي فعلى هذين القولين يكون الكلام عودا إلى الواقعة المذكورة في قوله (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) والأولى أن يقال إنه عام في كل ما يدخل فيه ويلابسه ثم يتركه من أمر ومكان. وقيل : أراد إدخاله مكة ظاهرا عليها بالفتح وإخراجه منها آمنا من المشركين. وقيل : إدخاله الغار وإخراجه منه سالما. وقيل : إدخاله فيما حمله من عظيم الأمر وهو النبوّة ، وإخراجه منه مؤديا لما كلفه من غير تفريط. وقيل : أراد رب أدخلني الصلاة وأخرجني منها مع الصدق والإخلاص والقيام بلوازم الحضور ، أو أدخلني في مجاري دلائل التوحيد وأخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول. وقال صاحب الكشاف : أدخلني القبر إدخالا مرضيا وأخرجني منه عند البعث ملقى بالكرامة. يدل على هذا التفسير ذكره على أثر ذكر البعث (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) حجة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني أو ملكا وعزا ناصرا للإسلام وذويه.

ثم شرفه باستجابة دعائه بقوله : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُ) أي الإسلام (وَزَهَقَ الْباطِلُ) اضمحل الشرك من زهقت نفسه إذا خرجت (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) غير ثابت في كل وقت وإن اتفقت له دولة وصولة كانت كنار العرفج. عن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما لقبائل العرب. صنم كل ـ قوم بحيالهم ـ فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : جاء الحق وزهق الباطل. فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة ـ وكان من قوارير صفر ـ فقال : يا علي ارم به. فحمله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى صعد فرمى به فكسره ، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون : ما رأينا رجلا أسحر من محمد فلا جرم كذبهم الله وصدق نبيه بقوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ) «من» للبيان كقوله : (مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] أو للتبعيض أي ننزل ما هو شفاء. وهو هذا القرآن أو بعض هذا الجنس. وقيل : زائدة. ولما كانت إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة ذكر كون القرآن شفاء من الأمراض الروحانية كالعقائد الفاسدة والأخلاق الدميمة ومن الأمراض الجسمانية أيضا لما في قراءته من التيمن والبركة وحصول الشفاء للمرض كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله». ثم بين أنه رحمة للمؤمنين لما فيه من كيفية اقتناص العلوم الجليلة والأخلاق الفاضلة التي بها يصل الإنسان إلى جوار الملائكة

٣٧٩

المقرّبين بل إلى جناب رب العالمين ، ولما كان قبول القابل شرطا في ظهور الأثر من الفاعل فلا جرم (لا يَزِيدُ) القرآن (الظَّالِمِينَ) الذي وضعوا التكذيب مقام التصديق والشك موضع الإيقان والاطمئنان (إِلَّا خَساراً) لأن البدن غير النقي كلما غذوته زدته شرا فلا يزال سماع القرآن يزيد المشركين غيظا وحنقا ويدعوهم ذلك إلى زيادة ارتكاب الأعمال القبيحة وهلم جرا إلى أن يدفع الله مكرهم ونكرهم.

ثم ذكر قبح شيمة الإنسان الذي جبل عليه فقال : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) أي على هذا الجنس بالصحة والغنى. وعن ابن عباس أنه الوليد بن المغيرة. وفي التخصيص نظر إلا أن يكون سبب النزول (أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) النأي البعد ، والباء للتعدية أو للمصاحبة وهو تأكيد للإعراض ، لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه أي ناحيته. والنأي بالجانب أن يلوي عن عطفه ويوليه ظهره ، أو أراد الاستكبار لأن هذا الفعل من شأن المستكبرين. ومن قرأ ناء فإما من النوء بمعنى النهوض مستثقلا ، وإما مقلوب كقولهم «راء» في رأى. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) من مرض أو فقر (كانَ يَؤُساً) شديد اليأس من روح الله. والحاصل أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي وظفر بالمقصود الدني نسي المنعم الحقيقي ، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف حتى كاد يتلف أو يدنف ، وكلتا الخصلتين مذمومة ولا مقتضى لهما إلا العجز والطيش وكل بقدر كما قال : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي كل واحد من الخلائق إنما يتيسر له أن يعمل على سيرته وطريقته التي تشاكل حاله التي جبل عليها من قولهم «طريق ذو شواكل» وهي الطرق التي تتشعب منه. (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) لأنه الذي خلق كل شيء ورباه وهو عالم بخاصية كل نفس وبمقتضى جوهرها المشرق ، أو المظلم سواء قلنا إن النفوس مختلفة بالماهيات ، أو هي متساوية الحقائق واختلاف أحوالها لاختلاف أمزجة أبدانها ، كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار وتسود وجهه.

ولما انجر الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل هو عليه لزم البحث عن ماهية الروح فلذلك قال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) ذكر المفسرون في سبب نزوله أن اليهود قالوا لقريش : سلوا محمدا عن ثلاث : عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح. فإن أجاب عن الأولين وأبهم الثالثة فهو نبي لأن ذكر الروح مبهم في التوراة ، وإن أجاب عن الكل أو سكت فليس بنبي. فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح إذ قال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي مما استأثر الله بعلمه فندموا على سؤالهم. ومن الناس من طعن في هذه الرواية لوجوه منها : أن الروح ليس أعلى شأنا من الله تعالى ، وإذا كانت معرفة الله تعالى

٣٨٠