تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

سورة «ص» حيث قال : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [الآية : ٧٥] خصص اللعنة أيضا بالإضافة فقال : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) فافهم. (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) قد مر مثله في أول «الأعراف». ومعنى (الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أن إبليس لما عينه وأشار إليه بعينه صار كالمعلوم والمراد منه الوقت القريب من البعث الذي يموت فيه الخلائق كلهم ليشمل الموت اللعين أيضا. وقيل : لم يجب إلى ذلك وأنظر إلى يوم لا يعلمه إلا الله (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) قد مر مباحثه في «الأعراف». ومفعول (لَأُزَيِّنَنَ) محذوف أي أزين لهم المعاصي في الأرض أي في الدنيا التي هي دار الغرور ، أو أراد أنه قدر على الاحتيال لآدم وهو في السماء فهو على التزيين لأولاده وهم في الأرض أقدر ، أو أراد لأجعلن مكان التزيين عندهم الأرض بأن أزين الأرض في أعينهم وأحدثهم أن الزينة هي في الأرض وحدها كقوله :

وإن يعتذر بالمحل من ذي ضروعها

من الضيف يجرح في عراقيبها نصلي

أراد يجرح عراقيبها نصلي ثم استثنى اللعين عباد الله المخلصين لأنه علم أن كيده لا يؤثر فيهم. قال بعض الحذاق : احترز إبليس بهذا الاستثناء من الكذب فيعلم منه أن الكذب في غاية السماحة والإخلاص فعل الشيء خالصا لله من غير شائبة الغير لا أقل من أن يكون حق الله فيه راجحا أو مساويا. ولما ذكر إبليس من الاستثناء ما ذكر (قالَ) الله سبحانه (هذا) يعني الإخلاص طريق مستقيم عليّ أن أراعيه أو عليّ مروره أي على رضواني وكرامتي. وقيل : لما ذكر اللعين أنه يغوي بني آدم إلا من عصمه الله بتوفيقه تضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى مشيئته تعالى فأشير إليه بقول : (هذا) أي تفويض الأمور إلى إرادتي ومشيئتي. (صِراطٌ عَلَيَ) تقريره وتأكيده. ومن قرأ (عَلَيَ) بالتنوين فهو من علو الشرف أي الإخلاص أو طريق التفويض إلى الله والإيمان بقضائه طريق رفيع. (مُسْتَقِيمٌ) لا عوج له. وقال جار الله : هذا إشارة إلى ما بعده وهو قوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) قال الكلبي : المذكورون في هذه الآية هم الذين استثناهم إبليس وذلك أنه لما ذكر (إِلَّا عِبادَكَ) بين به أنه لا يقدر على إغواء المخلصين فصدقه الله تعالى في الاستثناء قائلا (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ) أي ولكن من اتبعك من الغواة فلك تسلط عليهم وهذا يناسب أصول الأشاعرة. وقال آخرون : هذا تكذيب لإبليس وذلك أنه أوهم بما ذكر أن له سلطانا على عباد الله الذين لا يكونون من المخلصين فبين تعالى أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلا إلا الغواة ، لا بسبب الجبر والقسر بل من جهة الوسوسة والتزيين نظيره قوله : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) [إبراهيم : ٢٢] وهذا يناسب أصول الاعتزال (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ)

٢٢١

قال ابن عباس : يريد إبليس ومن تبعه من الغاوين. (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) أي سبع طبقات بعضها فوق بعض أعلاها للموحدين ، والثاني لليهود ، والثالث للنصارى ، والرابع للصابئين ، والخامس للمجوس ، والسادس للمشركين ، والسابع للمنافقين. وعن ابن عباس في رواية ابن جريج : إن جهنم لمن ادعى الربوبية ، ولظى لعبدة النار ، والحطمة لعبدة الأصنام ، وسقر لليهود ، والسعير للنصارى ، والجحيم للصابئين ، والهاوية للموحدين. وقيل : إن قرار جهنم مقسوم بسبعة أقسام لكل قسم باب معين لكل باب جزء من أتباع إبليس مقسوم في قسمة الله سبحانه. والسبب فيه أن مراتب الكفر مختلفة بالغلظ والخفة فلا جرم صارت مراتب العقاب أيضا متفاوتة بحسبها.

ثم عقب الوعيد بالوعد فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) فزعم جمهور المعتزلة أنهم الذين اتقوا جميع المعاصي وإلا لم يفد المدح. وقال جمهور : الصحابة والتابعين هم الذين اتقوا الشرك بالله واحتجوا عليه بأنه إذا اتقى مرة واحدة صدق عليه أنه اتقى ، وكذا الكلام في الضارب والكاتب فليس من شرط صدق الوصف كونه آتيا بجميع أصنافه وأفراده إلا أن الأمة أجمعوا على أن التقوى عن الشرك شرط في حصول هذا الحكم. والآية أيضا وردت عقيب قوله : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) فلزمه اعتبار الإيمان في هذا الحكم. والظاهر أن لا يراد شرط آخر لأن التخصيص خلاف الظاهر فكلما كان أقل كان أوفق لمقتضى الأصل ، فثبت أن المتقين يتناول جميع القائلين بكلمة الإسلام وهي «لا إله إلا الله محمد رسول الله» قولا واعتقادا سواء كان من أهل الطاعة أو من أهل المعصية. ثم إن الجنات أقلها أربع لقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦] ثم قال (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) [الرحمن : ٦٢] وأما العيون فإما أن يراد بها الأنهار المذكورة في قوله : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) [محمد : ١٥] الآية وإما أن يراد بها منابع غير ذلك. ثم إن كل واحد من المتقين يحتمل أن يختص بعين وينتفع بها كل من في خدمته من الحور والولدان ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهوتهم. ويحتمل أن يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون من كل حقد وحسد. فإن قيل : إذا كانوا في جنات فكيف يعقل أن يقول لهم الله تعالى وبعض الملائكة (ادْخُلُوها) فالجواب لعل المراد أنهم لما ملكوا الجنات فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ذلك. ومعنى (بِسَلامٍ) أي مع السلامة من آفات النقص والانقطاع. قوله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) قد مر تفسيره في «الأعراف» (إِخْواناً) نصب على الحال. وكذلك (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) والمراد بالإخوة

٢٢٢

إخوة الدين والتعاطف. والسرر جمع سرير. قيل : هو المجلس الرفيع المهيأ للسرور. وقال الليث : سرير العيش مستقره الذي يطمئن عليه حال سروره وفرحه. والتركيب يدور على العزة والنفاسة ومنه قولهم : «سر الوادي لأفضل موضع منه» ومنه السر الذي يكتم. عن ابن عباس : يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت ، وعن مجاهد : تدور بهم الأسرة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين. والتقابل التواجه نقيض التدابر ، وتقابل الإخوان يوجب اللذة والسرور ليكون كل منهم مقبلا على الآخر بالكلية ، وتقابل الأعداء يكون تقابل التضاد والتمانع فيكون موجبا للتباغض والتخالف ، واعلم أن الثواب منفعة مقرونة بالتعظيم خالصة من الآفات آمنة من الزوال. فقوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) إشارة إلى المنفعة وقوله : (ادْخُلُوها) رمز إلى أنها مقرونة بالتعظيم ، وقوله (وَنَزَعْنا) إلى قوله : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) أي تعب تلويح إلى كونها سالمة من المنغصات إلا أن قوله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ) إشارة إلى نفي المضار الروحانية ، وقوله : (لا يَمَسُّهُمْ) إشارة إلى نفي المضار الجسدانية ، وقوله : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) مفيد لمعنى الخلود. ثم لما ذكر الوعيد والوعد زاده تقريرا وتمكينا في النفوس فقال : (نَبِّئْ عِبادِي) وفيه من التوكيدات ما لا يخفى : منها إشهاد رسوله وإعلامه ، ومنها تشريفهم بإطلاق لفظ العباد عليهم ثم بإضافتهم إلى نفسه ، ومنها التوكيد بـ «أن» وبالفضل وبصيغتي الغفور والرحيم مع نوع تكرر وكل ذلك يدل على أن جانب الرحمة أغلب كما قال : «سبقت رحمتي غضبي» (١).

التأويل : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي النفوس الكافرة (لَوْ كانُوا) مستسلمين لأوامر الله ونواهيه ، وذلك إنما يكون عند استيلاء سلطان الذكر على القلب والروح ، وتنور صفاتها بنور الذكر فيغلب النور على ظلمة النفس وصفاتها وتبدلت أحوالها من الأمّارية إلى الاطمئنان فتمنت حين ذاقت حلاوة الإسلام وطعم الإيمان لو كانت من بدء الخلق مسلمة مؤمنة كالقلب والروح. ثم هدد النفس التي ذاقت حلاوة الإسلام ثم عادت الميشوم إلى طبعها واستحلت المشارب الدنيوية بقوله : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) من القرى البدنية بإفساد استعدادها (إِلَّا وَلَها كِتابٌ) مكتوب في علم الله من سوء أعماله وأحواله (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) متى يظهر منها ما هو سبب هلاكها (وَما يَسْتَأْخِرُونَ)

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب : ١٥ ، ٢٢ ، ٢٨. مسلم في كتاب التوبة حديث : ١٤ ـ ١٦. الترمذي في كتاب الدعوات باب : ٩٩.

٢٢٣

لحظة بعد استيفاء أسباب هلاكها (وَقالُوا) يعني النفوس المتمردة مخاطبا للقلب الذاكر (لَوْ ما تَأْتِينا) بصفات الملائكة المنقادين ، وفيه إشارة إلى أن النفس الأمارة لا تؤمن بما أنزل الله إلى القلوب من أنوار الإلهية حتى تصير مطمئنة مستعدة لهذه الصفات ، ولو أنزلت قبل أوانها وكمال استعداد القلوب ما كانوا إذا منظرين مؤخرين من الهلاك لضيق نطاق طاقتهم (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا) كلمة لا إله إلا الله في قلوب المؤمنين (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢] والمنافق يقول ذلك ولكن لم ينزل في قلبه ولم يحفظ. (وَلَوْ فَتَحْنا) على من أسلكنا الكفر في قلوبهم (باباً مِنَ) سماء القلب لأنكروا فتح الباب. ولقد جعلنا في سماء القلب بروج الأطوار ، فكما أن البروج منازل السيارات فكذلك الأطوار منازل شموس المشاهدات وأقمار المكاشفات وسيارات اللوامع والطوالع (وَزَيَّنَّاها) لأهل النظر السائرين إلى الله (وَحَفِظْناها مِنْ) وساوس الشيطان وهواجس النفس الأمارة ، ولكن من استرق السمع من النفس والشيطان فأدركه شعلة من أنوار تلك الشواهد فيضمحل الباطل ويتبين الحق (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) فيه أن أرض البشرية تميل كنفس الحيوانات إلى أن أرساها الله بجبال العقل وصفات القلب (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) هي أسباب الوصول والوصال (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) وهو جوهر المحبة وإن غذاءه من مواهب الحق وتجلي جماله فقط. ولكل شيء خزانة فلصورة الأجسام خزانة ، ولاسمها خزانة ، ولمعناها خزانة ، وكذا للونها ولطعمها ولخواصها من المنافع والمضار ، وكذا لظلمتها ونورها ولملكها وملكوتها ، وما من شيء إلا وفيه لطف الله وقهره مخزون ، وقلوب العباد خزائن صفات الله تعالى بأجمعها (وَأَرْسَلْنَا) رياح العناية (لَواقِحَ) لأشجار القلوب بأنهار الكشوف وبأثمار الشواهد كما قال بعضهم : إذا هبت رياح الكرم على أسرار العارفين أعتقهم من هواجس أنفسهم ورعونات طبائعهم ، وظهر في القلوب نتائج ذلك وهي الاعتصام بالله والاعتماد عليه. (فَأَنْزَلْنا مِنَ) سماء الهداية (ماءً) الحكمة (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) في أصل الخلقة فإن المخلوق لا يوصف بالحكمة إلا مجازا. وإنا لنحن نحيي قلوب أوليائنا بأنوار جمالنا ، ونميت نفوسهم بسطوة جلالنا (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) بعد إفناء وجودهم ليبقوا ببقائنا (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ) يحشر المستقدمين إلى حظائر قدسه والمستأخرين إلى أسفل سافلين الطبيعة ، خاطب إبليس النفس بقوله : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) أي إلى أن تطلع شمس شواهدنا من مشرق الروح وتصير أرض النفس مشرقة وتتبدل صفاتها الذميمة المظلمة بالأخلاق الروحانية الحميدة (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي يبعث الأرواح في قيامة العشق وهو الوقت المعلوم الذي يتجلى الرب فيه لأرواح العشاق ،

٢٢٤

فينعكس نور التجلي من الأرواح إلى النفوس فتجعلها مطمئنة. (بِما أَغْوَيْتَنِي) أضللتني من طريق الأمارية (لَأُزَيِّنَنَ) للأرواح في أرض البشرية من الأعمال الصالحات التي تورث الأخلاق الحميدة وبها تربية الأرواح وترقيها (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) عما كانوا عليه من الأعمال الروحانية الملكية التي لا تتأتى إلا لعبادك الذين خلصوا من حبس الوجود بجذبات الألطاف. (هذا صِراطٌ) أي هو طريق أهل الاستقامة في السير في الله المنقطعين عن غيره (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) حجة تتعلق بتلك الحجة لهدايتهم وإغوائهم فإنهم بلاهم ، وإن من خصوصية العبودية المضافة إلى الحضرة الحرية عما سواه (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) من الحرص والشره والحقد والحسد والغضب والشهوة والكبر ، أو الأبواب السبعة إشارة إلى الحواس الخمس الظاهرة وإلى الوهم والخيال فإنهما أصلا الحواس الباطنية ، لأن الأول يدرك المعاني والثاني يدرك الصور ، والباقية ـ أعني المفكرة والحافظة والذاكرة ـ من أعوانهما ، وأكثر ما يستعمل الإنسان هذه المشاعر إنما يستعملها في الأحوال الدنيوية المفضية إلى الهلاك ، فلا جرم صارت أبوابا لجهنم. فإذا استعملها في تحصيل السعادات الباقية بحسب تصرف العقل الغريزي صرن مع العقل أبوابا بل أسبابا لحصول الجنة. (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) والسلام من الله الجذبات (آمِنِينَ) من موانع الخروج والدخول بعد الوصول فإن السير في الله لا يمكن إلا بالله وجذباته ولهذا قال جبرائيل ليلة المعراج : لو دنوت أنملة لاحترقت. (وَنَزَعْنا) فيه أن نزع الغل من الصدور لا يكون إلا بنزع الله ، وأن الأرواح القدسية مطهرات عن علائق القوى الشهوانية والغضبية مبرءات من حوادث الوهم والخيال ، ومعنى تقابلهم أن النفوس المصفاة عن كدورات عالم الأجسام ونوازع الخيال والأوهام إذا وقع عليها أنوار جمال الله أو جلاله انعكست منها إلى من في مثل درجاتها كما تتعاكس المرايا الصافية ، المتحاذية ، فيزداد كل منها في نفسها بخفاء صفاتها. وفي قوله : (نَبِّئْ عِبادِي) إشارة إلى أن سلوك السالكين وطير الطائرين يجب أن يكون على قدمي الرجاء والخوف وجناحي الإنس والجن والله الموفق للصواب.

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤)

٢٢٥

فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

القراآت : (إِذْ دَخَلُوا) وبابه مدغما : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف غير هشام إنا نبشرك بسكون الباء وضم الشين : حمزة. الآخرون بالتشديد (تُبَشِّرُونَ) بالتشديد وكسر النون المخففة : نافع مثله. ولكن مشددة النون : ابن كثير. الباقون بفتح النون على أنها علامة رفع (يَقْنَطُ) بكسر النون : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي وخلف وكذلك بابه. الآخرون بالفتح (آلَ لُوطٍ) مدغما حيث كان شجاع (لَمُنَجُّوهُمْ) بالتخفيف : يعقوب وحمزة وعلي وخلف. الباقون بالتشديد (قَدَّرْنا) بالتخفيف حيث كان : أبو بكر وحماد (بَناتِي إِنْ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع (إِنِّي أَنَا) بفتح ياء المتكلم : جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو.

الوقوف : (إِبْراهِيمَ) ه ج لئلا يصير (إِذْ دَخَلُوا) ظرفا لـ (نَبِّئْهُمْ) فإنه محال (سَلاماً) ط (وَجِلُونَ) ه (عَلِيمٍ) ه (تُبَشِّرُونَ) ه (الْقانِطِينَ) ه (الضَّالُّونَ) ه

٢٢٦

(الْمُرْسَلُونَ) ه (مُجْرِمِينَ) ه لا للاستثناء. (آلَ لُوطٍ) ط (أَجْمَعِينَ) ه لا (قَدَّرْنا) لا لأن الجملة بعده مفعول والكسر لدخول اللام في الخبر (الْغابِرِينَ) ه (الْمُرْسَلُونَ) ه لا لأن ما بعده جواب «لما» (مُنْكَرُونَ) ه (يَمْتَرُونَ) ه (لَصادِقُونَ) ه (تُؤْمَرُونَ) ه (مُصْبِحِينَ) ه (يَسْتَبْشِرُونَ) ه (فَلا تَفْضَحُونِ) ه لا للعطف (وَلا تُخْزُونِ) ه (الْعالَمِينَ) ه (فاعِلِينَ) ه ط لابتداء القسم (يَعْمَهُونَ) ه (مُشْرِقِينَ) ه لا لاتصال انقلابها بالصيحة (مِنْ سِجِّيلٍ) ط (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) ه (مُقِيمٍ) ه (لِلْمُؤْمِنِينَ) ه ط لتمام القصة (لَظالِمِينَ) ه لا لاتصال الانتقام بظلمهم (مِنْهُمْ) ه ط لأن الواو للابتداء فلو وصل لشابه الحال وهو محال (مُبِينٍ) ه ط لتمام قصتهم (الْمُرْسَلِينَ) ه لا لأن الواو بعده للحال وقد آتيناهم (مُعْرِضِينَ) ه لا للعطف (آمِنِينَ) ه ط (مُصْبِحِينَ) ه ط للاتصال معنى (يَكْسِبُونَ) ه م لتمام القصص (إِلَّا بِالْحَقِ) ط (الْجَمِيلَ) ه (الْعَلِيمُ) ه (الْعَظِيمَ) ه (لِلْمُؤْمِنِينَ) ه (الْمُبِينُ) ه ج لجواز تعلق الكاف بقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ) أو بقوله : (فَانْتَقَمْنا) ولجواز تعلقها بمحذوف أي أنزلنا عليهم العذاب كما أنزلنا ، وتمام البحث سيجيء في التفسير. (الْمُقْتَسِمِينَ) ه لا (عِضِينَ) ه (أَجْمَعِينَ) ه لا (يَعْمَلُونَ) ه (الْمُشْرِكِينَ) ه (الْمُسْتَهْزِئِينَ) ه لا (آخَرَ) ج لابتداء التهديد مع الفاء (يَعْلَمُونَ) ه (يَقُولُونَ) ه لا لاتصال الأمر بالتسبيح تسلية (السَّاجِدِينَ) ه لا للعطف (الْيَقِينُ) ه.

التفسير : إنه سبحانه عطف (وَنَبِّئْهُمْ) على (نَبِّئْ عِبادِي) ليكون سماع هذه القصص مرغبا في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأولياء ، ومحذرا من المعصية المستتبعة لدركات الأشقياء ، ولما في قصة لوط من ذكر إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين ، وكل ذلك يقوّي ما ذكر من أنه غفور رحيم للمؤمنين ، وأن عذابه عذاب أليم للكافرين. وعند المعتزلة غفور للتائبين معذب لغيرهم. وقد مر تفسير أكثر هذه القصة في سورة هود فنذكر الآن ما هو مختص بالمقام. فقوله : (وَجِلُونَ) معناه خائفون خافهم لامتناعهم من الأكل أو لدخولهم بغير إذن وفي غير وقت. (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) استئناف في معنى تعليل النهي عن الوجل. بشروه بالولد الذكر بكونه عليما فقيل : أرادوا بعلمه نبوته. وقيل : العلم مطلقا. وقوله : (عَلى أَنْ مَسَّنِيَ) في موضع الحال أي مع هذه الحالة استفهم منكرا للولادة في حالة الهرم لأنها أمر عجيب عادة لا لأنه شك في قدرة الله تعالى ولذلك قال : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) «ما» استفهامية دخلها معنى التعجب كأنه قال : فبأي أعجوبة تبشروني أو أنكم لا تبشروني بشيء في الحقيقة لأن ذلك أمر غير متصور في العادة؟ وأحسن ما قيل فيه أن لا يكون قوله : «بما» صلة للتبشير بل يكون سؤالا عن الوجه والطريقة يعني إذا كان الطريق

٢٢٧

المعتاد ممتنعا فبأي طريق تبشرونني بالولد ، فلذلك قالوا في جوابه (بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) أي باليقين الذي لا لبس فيه ، أو بشرناك بالولد بطريق هو حق وذلك قول الله تعالى ووعده وأنه قادر على خلق الولد من غير أبوين فضلا من شيخ فان وعجوز عاقر. قال أبو حاتم : حذف نافع ياء المتكلم مع النون وإسقاط الحرفين لا يجوز. وأجيب بأنه لم يحذف إلا الياء اكتفاء بالكسرة ونون الوقاية لم يوردها كما أوردت في قراءة التشديد ، وإنما كسر نون الجمع لأجل الياء وكلتا اللغتين فصيحة. قيل : عظم فرحه بتلك البشارة فدهش عن الجواب المنتظم فتكلم بالكلام المضطرب. وقيل : طلب مزيد الطمأنينة كقوله : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] عن ابن عباس : يريد بالحق ما قضى الله أن يخرج من صلب إبراهيم إسحق ومن صلب إسحق أكثر الأنبياء. وقوله : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) لا يدل على أنه كان قانطا فقد ينهى عن الشيء ابتداء كقوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) [الأحزاب : ٤٨]. ولذلك أنكر إبراهيم نهيهم بقول : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) أي المخطئون طريق الصواب أو الكافرون نظيره (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧] وفيه أنه لم يستنكر ذلك قنوطا من رحمته ولكن استبعادا له في العادة التي أجراها الله هما لغتان : قنط يقنط مثل ضرب يضرب ، وقنط يقنط مثل علم يعلم. وزعم الفارسي أن الأولى أعلى اللغتين. ثم سأل عما لأجله أرسلهم الله حيث قال : (فَما خَطْبُكُمْ) والخطب الشأن العظيم. فسئل أنهم لما بشروه بالولد الذكر العليم فما وجه السؤال عن مجيئهم؟ وأجاب الأصم بأن المراد ما الأمر الذي وجهتم فيه سوى البشرى؟. وقال القاضي : إنه علم أن المقصود لو كان التبشير فقط لكان الملك الواحد كافيا. وقيل : علم أنه لو كان تمام الغرض البشارة لذكروها أول ما دخلوا قبل أن يوجس إبراهيم منهم خيفة. قلت : لعله استصغر أمر التبشير إما لأجل التواضع وإما لأنه واقعة خاصة فسألهم عن الأمر الذي هو أعظم من ذلك وأعم تعظيما لشأنهم (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا) زعم صاحب الكشاف أن الإرسال هاهنا في معنى التعذيب والإهلاك كإرسال الحجر أو السهم إلى المرمى. وأقول : كأنه لا حاجة إلى هذا التجوز لقوله في سورة الذاريات (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) [الآيتان : ٣٢ ، ٣٣] فالتقدير إنا أرسلنا إليهم لنهلكهم (إِلَّا آلَ لُوطٍ) وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا لاختلاف الجنسين ، فإن القوم موصوفون بالإجرام دون آل لوط. يكون قوله : (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) جاريا مجرى خبر «لكن» كأنه قيل : لكن قوم لوط منجون ، ويكون قوله : (إِلَّا امْرَأَتَهُ) استثناء من الاستثناء أي أرسلنا إليهم لنهلكهم إلا آل لوط (إِلَّا امْرَأَتَهُ) كقول المقر : لفلان علي عشرة إلا ثلاثة إلا واحدا ، وجوز في الكشاف

٢٢٨

أن يكون قوله : (إِلَّا آلَ لُوطٍ) مستثنى من الضمير في (مُجْرِمِينَ) حتى يكون الاستثناء متصلا أي إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم. ولم لا يجوز الاستثناء من الاستثناء بناء على أن (آلَ لُوطٍ) مستثنى من معمول (أُرْسِلْنا) أو (مُجْرِمِينَ) و (إِلَّا امْرَأَتَهُ) من معمول (لَمُنَجُّوهُمْ) وقد عرفت ما فيه على أنه إذا جعل الإرسال بمعنى الإهلاك كما قرره هو آل الأمر إلى ما ذكرنا فلا أدري لم استبعده مع وفور فضله. قال أهل اللغة : قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل جعلت الشيء على مقدار غيره ، ومنه قدر الله الأقوات أي جعلها على مقدار الكفاية ، وقدر الأمور أي جعلها على مقدار ما يكفي في أبواب الخير والشر. وقيل : في معنى قدرنا : كتبنا. وقال الزجاج : دبرنا. وقيل : قضينا. والكل متقارب ، والمشدد في هذا المعنى أكثر استعمالا وأنه جواب سؤال كأنه قيل : ما بالها استثنيت من الناجين؟ فقيل : (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين في الهوالك. ويقال للماضي أيضا غابر وهو من الأضداد. قال في الكشاف : علق فعل التقدير مع أن التعليق من خصائص أفعال القلوب لأنه في معنى العلم. وإنما أسندوا الفعل إلى أنفسهم مع أن التقدير لله عزوجل بيانا لاختصاصهم به تعالى كما يقول خاصة الملك دبرنا كذا أو أمرنا بكذا ولعل المدبر والآمر هو الملك وحده.

ثم إن الملائكة لما بشروا إبراهيم عليه‌السلام بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون إلى قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط وذلك قوله : (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ) أي لوط (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) تنكركم نفسي وتنفر منكم. وذلك أنهم هجموا عليه فلم يعرفهم وخاف أن يطرقوه بشر فلذلك (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي ما جئناك بما توهمت بل جئناك بما فيه فرجك وتشفيك من عدوك وهو العذاب الذي كنت تخوفهم به وهم يشكون في وقوعه. (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) باليقين الثابت. وقال الكلبي : بالعذاب الذي لا شك فيه (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي في آخره وقدم في سورة هود وزاد هاهنا قوله : (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) لأنه إذا ساقهم وكان من ورائهم علم بنجاتهم ، ولا يخفى حالهم. ففي الآية زيادة بيان لكيفية الإسراء ثم زاد في البيان فقال : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) ولم يستثن امرأته اكتفاء بما مر في السورة من قوله : (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ) قال جار الله : إنما أمر باتباع أدبارهم ونهى عن الالتفات ليكون فارغ البال من حالهم فيخلص قلبه لشكر الله ، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب ، ولئلا يشاهدوا عذاب قومهم فيرقوا لهم مع أنهم ليسوا من أهل الرقة عليهم ، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ولا يتحسروا على ما خلفوا. وجوز أن

٢٢٩

يكون النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني ، لأن من يلتفت لا بد أن يقع له أدنى وقفة (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) قال الجوهري : مضى الشيء مضيا ذهب ، ومضى في الأمر مضيا أنفذه. وقال في الكشاف : عدى (وَامْضُوا) إلى (حَيْثُ) تعديته إلى الظرف المبهم لأن (حَيْثُ) مبهم في الأمكنة ، وكذلك الضمير في (تُؤْمَرُونَ) قلت : حاصل الكلام يرجع إلى قوله : اذهبوا إلى المكان الذي تؤمرون بالذهاب إليه ، أو أنفذوا أمر الذهاب إلى هنالك. عن ابن عباس : إنه الشام. وقيل : مصر. وقال المفضل : حيث يقول لكم جبرائيل وكانت قرية معينة ما عمل أهلها عمل قوم لوط. ثم أخبر عن حالهم مجملا فقال : (وَقَضَيْنا) ضمن معنى أوحينا ولذلك عدي بإلى كأنه قيل : وأوحينا. (إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) مقتضيا مبتوتا. ثم فسر ذلك الأمر بقوله : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) أي يستأصلون عن آخرهم حال ظهور الصبح ودخولهم فيه. وفي هذا الإجمال والتفسير تفخيم لشأن الأمر وتعظيم له.

ثم حكى ما أبدى قوم لوط من الفعال بعد نزول الملائكة فقال : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) أي أهل سذوم التي ضرب بقاضيها المثل فقيل أجور من قاضي سذوم. (يَسْتَبْشِرُونَ) بظهور السرور بمجيء الملائكة لأنهم رأوهم مردا حسان الوجوه (قالَ) لوط لما قصدوا أضيافه (إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) بفضيحة ضيفي لأن الضيف يجب إكرامه فإذا أسيء إليه في دار المضيف كان ذلك إهانة وفضيحة للمضيف. يقال : فضحه يفضحه فضحا وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار (وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) مر في «هود» (قالُوا) في جواب لوط (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) أي ألسنا نهيناك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة؟ وكانوا يتعرضون لكل أحد ، وكان لوط عليه‌السلام ينهاهم عن ذلك فأوعدوه نظيره (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) [الشعراء : ١١٦] وقيل : نهوه عن ضيافة الناس وإنزالهم (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي) من الصلب أو أراد نساء أمته كما مر في «هود». قال جار الله (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) شك في قبولهم لقوله كأنه قال وما أظنكم تفعلون. وقيل : إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فبما أحل الله دون ما حرم. ثم قالت الملائكة للوط عليه‌السلام (لَعَمْرُكَ) مبتدأ محذوف الخبر لكثرة الاستعمال أي قسمي أو هو مما أقسم به. والعمر والعمر بالفتح والضم واحد إلّا أنهم خصوا القسم بالمفتوح اتباعا للأخف ، فإن الحلف كثير الدور على ألسنتهم (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ) غوايتهم التي أذهبت عقولهم حتى لم يميزوا بين خطئهم وصوابك (يَعْمَهُونَ) يتحيرون فكيف يقبلون قولك الذي تأمرهم به من ترك البنين إلى البنات؟ وقيل : إنه

٢٣٠

سبحانه خاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقسم بحياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كرامة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أقسم بحياة أحد قط وذلك يدل على أنه أكرم الخلق على الله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس كان ابتداء العذاب من أول الصبح لقوله : (مُصْبِحِينَ) أليس الصبح بقريب؟ وغلبته كانت عند طلوع الشمس قال المفسرون : هي صيحة جبرائيل. قلت : ويحتمل أن تكون صيحة قلب المدائن وإرسال الحجارة عليهم. قال بعض المفسرين : إنما قال : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) وفي سورة هود (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها) [الآية : ٨٢] لأنه أراد هاهنا من شذ من القرية منهم. وقيل : سبب تخصيص هذه السورة بجمع المذكر هو بناء القصة على قوله : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) للمتفرسين. وحقيقة التوسم التثبت في النظر حتى يعرف حقيقة سمة الشيء فعبر به عن التأمل والتفكر (وَإِنَّها) يعني تلك القرى وآثارها (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) ثابت يسلكه الناس المارة من الحجاز إلى الشام يشاهدون آثار قهر الله وغضبه هنالك. قال بعضهم : إنما جمع الآيات في قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) لأنه أشار إلى ما تقدم عن ضيف إبراهيم وقصة لوط وقلب المدينة وإمطار الحجارة عليها وعلى من غاب منهم. وقال في الثانية (وَإِنَّها) أي القرية (لَبِسَبِيلٍ) وهذه واحدة من تلك الآيات فلذلك قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) وقيل : ما جاء من القرآن من الآيات فلجمع الدلائل ، وما جاء من الآية فلوحدانية المدلول عليه ، فلما ذكر عقيبه المؤمنين وهم مقرون بوحدانيته وحد الآية نظيره في «العنكبوت» (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) [الآية : ٤٤].

ثم أجمل قصة قوم شعيب فقال : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) «إن» مخففة من الثقيلة ولذلك دخلت اللام الفارقة في خبرها. كانوا أصحاب غياض ومواضع ذات شجر فنسبوا إليها. والأيكة الشجر الملتف ، والضمير في قوله : (وَإِنَّهُما) يعود إلى قرى قوم لوط وإلى الأيكة. وقيل : بل إلى الأيكة ومدين لأن شعيبا كان مبعوثا إليهما فدل بذكر أحد الموضعين هاهنا ـ وهو الأيكة ـ على الآخر (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) لبطريق واضح. قال الفراء والزجاج : سمي الطريق إماما لأنه يؤم ويتبع. وقال ابن قتيبة : لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده. ثم ختم القصص بقصة ثمود فقال : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) وهو واد بين الشام والمدينة. وجمع المرسلين لأن تكذيب نبي واحد ـ وهو صالح ـ كتكذيب جميع الأنبياء ، أو لأن القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل ، أو أراد صالحا ومن معه من المؤمنين. (وَآتَيْناهُمْ) أي أعطينا رسولهم (آياتِنا) أراد الناقة وكانت فيها آيات خروجها من الصخرة وعظم خلقها وكثرة لبنها إلى غير ذلك كما حكينا

٢٣١

في «الأعراف» (فَكانُوا عَنْها) أي عن النظر فيها والاعتبار بها (مُعْرِضِينَ) وفيه أن التقليد مذموم والاستدلال واجب (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) من أن تنهدم ويتداعى بنيانها أو يقع سقفهم عليهم ، أو آمنين من عذاب الله أو من حوادث الدهر. (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) لم يدفع عنهم شيئا من عذاب الله (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من بناء البيوت الوثيقة ومن جمع الأموال والعدد. ولما فرغ من القصص قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي متلبسة بالفوائد والغايات والحكم الصحيحة منها : اشتغال المكلفين بالعبادة والطاعة حتى لو تركوها وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير الأرض منهم ، وهذا النظم يناسب أصول الاعتزال ، قال الجبائي : فيه بطلان مذهب الجبرية الذين يزعمون أن أكثر ما خلق الله بين السموات والأرض من الكفر والمعاصي باطل. وأجيب بأن أفعال العباد من جملة ما بين السموات والأرض فوجب أن يكون الله خالقها. ويمكن أن يقال في وجه النظم : إن هذا ابتداء شروع في تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصبيره على أذيات قومه بعد اقتصاص أحوال الأمم السالفة ومعاملاتهم مع أنبيائهم ، ويؤيد هذا النظم قوله : (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) معناه أن الله سينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق والعدل فكيف يليق بحكمته وفضله إهمال أمرك؟ ولما صبره على أذى قومه رغبه في الصفح فقال : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) أي فأعرض عنهم إعراضا جميلا بحلم وإغضاء إن كان اللام الجنس فالمراد هذا النوع من الصفح لا الذين يشتمل على حقد واجتهال ومكر ، وإن كان للعهد فلعل المراد ما أمر به في نحو قوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] وقيل : هذا منسوخ بآية السيف والأظهر أن حسن المعاشرة والمخالقة مأمور به ما أمكن فلا حاجة إلى ارتكاب النسخ (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) كثير الخلق (الْعَلِيمُ) الكامل العلم يعلم ما يجري بين الخلائق من الأحوال والأخلاق وإن كثروا وكثرت فيجازيهم يوم القيامة على حسب ذلك. وقيل : أراد أنه الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم ، فاليوم الصفح أصلح فاصفحوا إلى أن يكون السيف أصلح.

ثم حثه على الصفح والتجاوز بذكر النعم العظام التي خصه بها فقال : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) أكثر المفسرين على أن المراد بها فاتحة الكتاب وهو قول عمر وعلي رضي‌الله‌عنهما وابن مسعود وأبي هريرة والحسن وأبي العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة. وذلك أنها سبع آيات. والمثاني جمع مثناة من التثنية أو جمع مثنية لأنها تثنى في كل صلاة. وقال الزجاج : تثنى بما يقرأ بعدها معها. وأيضا قسمت

٢٣٢

بنصفين قسم ثناء وقسم دعاء ، وقد ورد الحديث في هذا المعنى «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» (١) وقد مر في أول الكتاب. وأيضا كلماتها مثناة مثل : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِيَّاكَ) و (إِيَّاكَ الصِّراطَ صِراطَ عَلَيْهِمْ عَلَيْهِمْ) واشتمالها على ثناء الله تعالى وتحميده مقرر ومما يتفرع على هذا القول ما نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنه قال : كان ابن مسعود لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب. فقيل : كأنه رأى أنه تعالى عطف عليه قوله : (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) والعطف يوجب المغايرة فوجب أن تكون السبع المثاني غير القرآن. والجواب أنه قد يكون بعطف الجزء على الكل كقوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٨] أو بالعكس كما في الآية. والمقصود في الوصفين تميز البعض عن الكل تنبيها على مزية ذلك البعض وشرفه. فإن قلت : ليس لعطف الكل على البعض نظير ، والاستدلال بالآية استدلال بصورة النزاع من غير دليل. قلنا : يكفي بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) دليلا على أنه من القرآن. وعن ابن عمر وسعيد بن جبير في رواية : أن السبع المثاني هي السبع الطوال سميت بذلك لما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك ، أو لأنها تثني على الله بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى. وأنكر الربيع هذا القول لأن هذه السورة مكية وأكثر تلك السورة مدنية. وأجيب بأن المراد من الإيتاء إنزالها إلى السماء الدنيا ، والمكية والمدنية في ذلك سيان ، وضعف بأن إطلاق لفظ الإيتاء على ما لم يصل بعد إليه خلاف الظاهر. وقال قوم : السبع المثاني هي التي دون الطوال والمئين وفوق المفصل ، واحتجوا عليه بما روى ثوبان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطاني المئين مكان الإنجيل ، وأعطاني المثاني مكان الزبور وفضلني ربي بالمفصل» (٢). قال الواحدي : والقول في تسمية هذه السور مثاني كالقول في تسمية الطول مثاني. وروي عن ابن عباس وإليه ذهب طاوس أنها هي القرآن لقوله سبحانه : (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣] وأنها سبعة أسباع كرر فيها دلائل التوحيد والنبوة والتكاليف. ومعنى العطف على هذا القول الجمعية كقوله : إلى الملك القرم وابن الهمام. وكأنه قيل : آتيناك ما هو الجامع لكونه سبعا مثاني ولكونه قرآنا عظيما. قال الزجاج ووافقه صاحب الكشاف : و «من» في (مِنَ الْمَثانِي) للبيان أو للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطول ، وللبيان إذا أردت الأسباع.

__________________

(١ ، ٢) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث : ٣٨ ، ٤٠. أبو داود في كتاب الصلاة باب : ١٣٢. الترمذي في كتاب تفسير سورة الفاتحة باب : ١. النسائي في كتاب الافتتاح باب : ٢٣. ابن ماجه في كتاب الأدب باب : ٥٢. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤١ ، ٢٨٥).

٢٣٣

ولما عرف رسوله نعمه الدينية ورغبه فيها نفره من اللذات العاجلة الزائلة لأن كل نعمة وإن عظمت فإنها بالنسبة إلى نعمة القرآن ضيئلة حقيرة ، ومنه الحديث «من لم يتغن بالقرآن أي لم يستغن به ـ فليس منا» (١) وقول أبي بكر : من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا. فمن حق قارئ القرآن الواقف على معانيه أن لا يشغل سره بالالتفات إلى الدنيا وزهرتها. قال الواحدي : إنما يكون مادّا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه ، وإدامة النظر إليه تدل على استحسانه وتمنيه. وقال في الكشاف : معنى (لا تَمُدَّنَ) لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمن له (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي أصنافا من الكفار قاله ابن قتيبة. وقال الجوهري : الأزواج القرناء. وقال بعضهم : لا تمدن عينيك أي لا تحسدنّ أحدا على ما أوتي من الدنيا. وضعف بأن الحسد منهي عنه مطلقا فكيف يحسن تخصيص الرسول به؟ ويمكن أن يجاب بأن المراد منه نهي التكوين كقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤]. أو المراد الغبطة فهي محظورة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجلالة منصبه وإن كانت جائزة لأمته. ويروى أنه وافت من بلاد الشام سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجوهر ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها ولأنفقناها في سبيل الله. فقال لهم الله عزوجل : لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع. وإنما قال في هذه السورة (لا تَمُدَّنَ) بغير واو العطف لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه. ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم أنفسهم وإن لم يحصل لهم في قلبه قدر ووزن فقال : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي على أنهم لم يؤمنوا فيتقوى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون ، وكما أمره بالتكبر على الأغنياء والترفع عنهم إذا كانوا كفارا أمره بالتواضع للفقراء إذا كانوا مؤمنين فقال : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) الخفض نقيض الرفع ، وجناحا الإنسان يداه ، وخفضهما كناية عن اللين والرفق. وإنما قال في سورة الشعراء بزيادة (لِمَنِ اتَّبَعَكَ) [الآية : ٢١٥] لأنه قال قبله (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الآية : ٢١٤] فلو لم يذكر هذه الزيادة لكان الظاهر أن اللام للعهد فصار الأمر بخفض الجناح مختصا بالأقربين من عشيرته فزيد (لِمَنِ اتَّبَعَكَ) [الشعراء : ٢١٥] ليعلم أن هذا التشريف شامل لجميع متبعيه من الأمة. ولما بعثه على الرفق بأهل الإيمان أمره بالإنذار لكل المكلفين فقال : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ)

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب : ٤٤. أبو داود في كتاب الوتر باب : ٢٠. الدارمي في كتاب الصلاة باب : ١٧١. أحمد في مسنده (١ / ١٧٢ ، ١٧٥).

٢٣٤

ويدخل تحت كونه نذيرا كونه مبلغا لجميع التكاليف ، لأن كل ما كان واجبا ترتب على تركه عذاب ، وكل ما كان حراما ترتب على فعله عقاب. ويدخل في كونه مبينا كونه شارحا لجميع مراتب أهل التكاليف من الجنة والنار ، فالإنذار بالنار والإحذار بالجنة هو الإخبار عن موجب الحرمان عنها.

وفي متعلق قوله : (كَما أَنْزَلْنا) وجهان بعد ما مر به في الوقوف : أحدهما أن يتعلق بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) أي أنزلنا عليك ما أنزلنا (عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) ومن هم؟ قيل : أهل الكتاب (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أي أجزاء جمع عضة وأصلها عضوة «فعلة» من عضى الشاة إذا جعلها أجزاء وأعضاء ، أو «فعلة» من عضهته إذا بهته فالمحذوف منها الهاء لا الواو. وعن عكرمة : العضه السحر بلسان قريش يقولون للساحرة عاضهة. ولعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العاضهة والمستعضهة فينقصانها الهاء أيضا. وجمعت العضة بالمعاني جمع العقلاء لما لحقها من الحذف ، فجعلوا الجمع بالواو والنون عوضا عما لحقها من الحذف كسنين. فمعنى الآية أن اليهود اقتسموا القرآن إلى حق وباطل وجزؤه فقالوا بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما. ويجوز أن يراد بالقرآن ما يقرأونه من كتبهم وقد اقتسموه بتحريفهم وتكذيبهم ، والإقرار بالبعض والتكذيب بالبعض كقوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة : ٨٥] وفي هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تكذيب قومه وعداوتهم ، ولهذا وسط بين المتعلق بقوله : (لا تَمُدَّنَ) الآية لأنه مدد للتسلية لما فيه من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ومن الإقبال بالكلية على المؤمنين. الوجه الثاني أن يتعلق بقوله : (النَّذِيرُ الْمُبِينُ) وعلى هذا لا يكون بد من التزام إضمار أو زيادة ، أما الإضمار فأن يكون التقدير : أنا النذير عذابا كما أنزلنا كقولك رأيت كالقمر في الحسن أي وجها كالقمر ، وأما الزيادة فأن تكون الكاف زائدة كقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ويمكن أن يقال : الكاف بمعنى مثل ولا حاجة إلى الالتزام والتقدير : أنذر قريشا مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم إما اليهود ويراد بالعذاب ما جرى على قريظة والنضير فيكون قد جعل المتوقع بمنزلة الواقع وهو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون وقد كان ، وإما غيرهم من أهل مكة أو من قوم صالح. قال ابن عباس : هم الذين اقتسموا طرق مكة ومداخلها أيام الموسم فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان بالله ورسوله. يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر ، ويقول الآخر كذاب ، والآخر شاعر ، فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات وكانوا قريبا من أربعين ، منهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب. وقال

٢٣٥

عكرمة : اقتسموا القرآن استهزاء وكان يقول بعضهم سورة البقرة لي ويقول الآخر سورة آل عمران لي وقال مقاتل : اقتسموه. قال بعضهم سحر ، وبعضهم شعر ، وبعضهم كذب ، وبعضهم أساطير الأولين. وقال ابن زيد : المقتسمون هم الذين تقاسموا بالله ليبيتن صالحا كما سيجيء في سورة النمل ، فرمتهم الملائكة بالحجارة وقتلوهم ، وعلى هذا يكون قوله : (الَّذِينَ جَعَلُوا) منصوبا بالنذير أي أنذر المعضين الذين يجزؤن القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين.

ثم أقسم على سبيل الوعيد فقال : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ) الآية وقد مر تفسير مثله في أول «الأعراف» وذلك قوله (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) [الأعراف : ٦]. والأظهر أن الضمير عائد إلى جميع المكلفين المنذرين ، وأن السؤال يكون عن جميع الأعمال ، وقد يخص الضمير بالمقتسمين والسؤال بالاقتسام. ثم شجع نبيه قائلا (فَاصْدَعْ) أي اجهر (بِما تُؤْمَرُ) وأظهره وفرق بين الحق والباطل. وأصل الصدع الشق والفصل ومنه سمي الصبح صديعا كما سمي فلقا. وصدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا. قال النحويون : الجار محذوف والمعنى بالذي تؤمر به من الشرائع مثل «أمرتك الخير». وجوز أن تكون «ما» مصدرية أي بأمرك وشأنك مصدر من المبني للمفعول. وقالوا : وما زال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية. ثم قال : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة وهذا لا ينافي آية القتال حتى يلزم النسخ على ما ظن بل يؤكدها. ثم أكد النهي عن الاكتراث بهم وقوّى قلبه فقال : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) ولا ريب أنهم طبقة ذو شوكة قدروا على الاستهزاء بالرسول مع جلالة قدره. والآية لا تفيد إلا هذا القدر لكن المفسرين ذكروا عددهم وأسماءهم مع اختلاف بينهم. والأشهر على ما رواه عروة بن الزبير أنهم خمسة نفر من الأشراف : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحرث بن الطلاطلة. وعن ابن عباس : ماتوا كلهم قبل يوم بدر. وقال جبرائيل عليه‌السلام لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظما لأخذه فأصاب عرقا في عقبة فقطعه فمات. وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة فقال : لدغت لدغت فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات ، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي ، وأشار إلى أنف الحرث فامتخط قيحا فمات ، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجر ويضرب وجهه بالشوك حتى مات ، ثم زاد في تسلية نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) من المطاعن فيك وفي

٢٣٦

القرآن لأن الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك. ثم أمره لكشف ما نابه بأربعة أشياء : بالتسبيح والتحميد والسجود والعبادة إلى إتيان اليقين. عن ابن عباس : هو الموت سمي بذلك لأنه أمر متيقن ولا يجب الإخلال بالعبادة ما دام المكلف حيا وهذا كما قيل في تحديد مدة طلب العلم : إنه من المهد إلى اللحد. وكيف يصير الإقبال على الطاعات سببا لزوال ضيق القلب؟ قال المحققون : لأنه ينكشف له أضواء عالم الربوبية فيهون في نظره المصالح الدنيوية فلا يستوحش من فقدانها ولا يستأنس بوجدانها. وقال أهل السنة : إذا نزل بالعبد بعض المكاره فعليه أن يفزع إلى الله بالذكر الدائم والسجود وسائر أنواع العبادة فكأنه يقول : وجب عليّ عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكاره. وقالت المعتزلة : من اعتقد تنزيه الله عن القبائح سهل عليه تحمل المشاق لأنه يعلم أنه تعالى عدل منزه عما لا فائدة فيه ولا غرض فيطيب قلبه.

التأويل : في بشارة إبراهيم إشارة إلى أن الطالب الصادق وإن كان مسنا ضعيف القوى كما قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد. فأنه ينبغي أن لا يقنط من رحمة الله ، ويتقرب إليه بالأعمال القلبية ليتقرب إليه ربه بأصناف الألطاف وجذبات الأعطاف ، فيخرج من صلب روحه ورحم قلبه غلاما عليما بالعلوم اللدنية وهو واعظ الله الذي في قلب المؤمن (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) لأصحاب القلوب المتوسمين بشواهد أحكام الغيب. وما خلقنا سموات الأرواح وأرض الأشباح ، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار والخفيات (إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا لمظهر الحق ، ومظهره هو الإنسان المخصوص بذلك من بين سائر المخلوقات (وَإِنَّ السَّاعَةَ) يعني قيامة العشق (لَآتِيَةٌ) لنفوس الطالبين الصادقين من أصحاب الرياضات لأن أنفسهم تموت بالرياضة ومن مات فقد قامت قيامته (فَاصْفَحِ) أيها الطالب الصادق عن النفس المرتاضة بأن تداويها وتواسيها ، فإن في قيامة العشق يحصل من تزكية النفس في لحظة واحدة ما لا يحصل بالمجاهدة في سنين كثيرة ومن هنا قيل : جذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) لصور المخلوقات ولمعانيها ولحقائقها (الْعَلِيمُ) بمن خلقه مستعدا لمظهرية ذاته وصفاته ومظهريتهما وليس ذلك في السموات والأرض وما بينهما إلا الإنسان الكامل وغيره مختص بمظهرية الصفات دون الذات وان كان ملكا فلهذا قال : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً) أي سبع صفات ذاتية لله تبارك وتعالى : السمع والبصر والكلام والحياة والعلم والإرادة والقدرة (مِنَ الْمَثانِي) أي من خصوصية المظهرية ، والمظهرية الذات والصفات. (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ولهذا صار خلقه عظيما لأنه كان خلقه القرآن (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ)

٢٣٧

(أَزْواجاً) من أهل الدنيا والآخرة (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) بهذا المقام ليصلوا بجناح همتك إليه (عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) الذين قسموا قهر الله على أنفسهم فصاروا مظاهر القهر (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أي جزؤوه في الاستعمال فقوم قرأوه ليقال لهم القراء وبه يأكلون ، وقوم حفظوه ليقال لهم الحفاظ وبه يجرّون الرزق ، وقوم حصلوا تفسيره وتأويله إظهارا للفضل وطلبا للشهرة ، وقوم استنبطوا معانيه وفقه على وفق آرائهم ومذاهبهم فكفروا إذ فسروا القرآن برأيهم. (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) الذين يستعملون الشريعة بالطبيعة استهزاء بدين الله (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) من الهوى والدنيا (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) لأنك لست منهم (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) سجدة الشكر (وَاعْبُدْ رَبَّكَ) بالإخلاص (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي إلى الأبد لأن كل مقام يحصل فيه اليقين بالعيان بعد العرفان فإنه يحصل فوقه مقام آخر مشكوك فيه إلى أن يحصل برد اليقين فيه أيضا ، فهناك مراتب لا تتناهى فاليقين يكون إشارة إلى الأبد والله أعلم.

٢٣٨

سورة النحل مكية غير ثلاث آيات (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) إلخ حروفها سبعة

آلاف وسبعمائة وسبعة كلمها ألف وثمانمائة وأحد وأربعون آياتها مائة

وثمان وعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ

٢٣٩

بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣))

القراآت : تشركون وما بعده بتاء الخطاب : حمزة وعلي وخلف. والآخرون على الغيبة تنزل بالفتحات الثلاث (الْمَلائِكَةَ) بالرفع : سهل وروح وزيد وأبو زيد مثله لكن بضم التاء الفوقانية : جبلة ينزل من الإنزال (الْمَلائِكَةَ) بالنصب : ابن كثير وأبو عمرو ورويس. والباقون بالتشديد من التنزيل. (بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) بفتح الشين : يزيد. الباقون بكسرها ننبت بالنون : يحيى وحماد. الآخرون بياء الغيبة (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ) كلها مرفوعات : ابن عامر وافق حفص والمفضل في (النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ) الباقون : بنصب الجميع على أن (مُسَخَّراتٌ) حال. يسرون ويعلنون بالياء التحتانية فيهما : الخزاز عن هبيرة. الآخرون بتاء الخطاب (يَدْعُونَ) على الغيبة : سهل ويعقوب وعاصم غير الأعشى. الباقون على الخطاب.

الوقوف : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ط (يُشْرِكُونَ) ه (فَاتَّقُونِ) ه (بِالْحَقِ) ط (يُشْرِكُونَ) ه (مُبِينٌ) ه ج (خَلَقَها) ج لاحتمال تمام الكلام واحتمال أن يكون (لَكُمْ) متعلقا به والوقف حينئذ على (لَكُمْ). (تَأْكُلُونَ) ه ص للعطف (تَسْرَحُونَ) ه ص لذلك (الْأَنْفُسِ) ط (رَحِيمٌ) ه لا لأن (الْخَيْلَ) مفعول خلق (وَزِينَةً) ط (ما لا تَعْلَمُونَ) ه (جائِرٌ) ط (أَجْمَعِينَ) ه (تُسِيمُونَ) ه (الثَّمَراتِ) ط (يَتَفَكَّرُونَ) ه (وَالنَّهارَ) ط لمن قرأ (وَالشَّمْسَ) وما بعده بالرفع ومن نصب (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ورفع (النُّجُومُ) وقف على (الْقَمَرَ) ومن نصب الكل وقف على (بِأَمْرِهِ بِأَمْرِهِ) ط (يَعْقِلُونَ) ه لا لأن ما بعده مفعول (سَخَّرَ أَلْوانُهُ) ط (يَذَّكَّرُونَ) ه (تَلْبَسُونَها) ج لأن قوله (وَتَرَى) فعل مستأنف مع اتصال المعنى. (تَشْكُرُونَ) ه لا (تَهْتَدُونَ) ه لا لأن قوله (وَعَلاماتٍ) عطف على (سُبُلاً وَعَلاماتٍ) ط (يَهْتَدُونَ) ه (لا يَخْلُقُ) ط (تَذَكَّرُونَ) ه (لا تُحْصُوها) ط (رَحِيمٌ) ه (وَما تُعْلِنُونَ) ه (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ه ط لأن التقدير : هم أموات (غَيْرُ أَحْياءٍ) ج لاختلاف الجملتين (وَما يَشْعُرُونَ) ه لا لأن ما بعده مفعول (يُبْعَثُونَ) ه (واحِدٌ) ط لأن ما بعده مبتدأ مع الفاء (مُسْتَكْبِرُونَ) ه (وَما يُعْلِنُونَ) ه (الْمُسْتَكْبِرِينَ) ه.

التفسير : هذه السورة تسمى سورة النعم أيضا ، وحكى الأصم عن بعضهم أن كلها مدنية. وقال الآخرون : من أولها إلى قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) مدنية وما سواه مكي. وعن

٢٤٠