تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

ابن عباس : أي عبادتي ، وحمله على تقبله الأدعية السابقة في الآية غير بعيد (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي) طلب المغفرة لا يوجب سابقة الذنب لأن مثل هذا إنما يصدر عن الأنبياء والأولياء في مقام الخوف والدهشة على أن ترك الأولى لا يمتنع منهم وحسنات الأبرار سيئات المقربين. أما قوله : (وَلِوالِدَيَ) فاعترض عليه بأنه كيف استغفر لأبويه وهما كافران؟ وأجيب بأنه قال ذلك بشرط الإسلام ، وزيف بأن قوله تعالى : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤] مستثنى من الأشياء التي يؤتسى فيها بإبراهيم ، ولو كان استغفاره مشروطا بإسلام أبيه لكان استغفارا صحيحا فلم يحتج إلى الاستثناء. وقيل : أراد بوالديه آدم وحواء والصحيح في الجواب أنه استغفر له بناء على الجواز العقلي والمنع التوفيقي بعد ذلك لا ينافيه (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) أي يثبت مستعار من قيام القائم على الرجل ومثله قولهم «قامت الحرب على ساقها» أو أسند إلى الحساب قيام أهله إسنادا مجازيا ، أو المضاف محذوف مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢]. ثم عاد إلى بيان الجزاء والمعاد لأن دعاء إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد انجر إلى ذكر الحساب فقال : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً) إن كان الخطاب لكل مكلف أو للنبي والمراد أمته فلا إشكال ، وإن كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمعناه التثبت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله إلا عالما بجميع المعلومات ، أو المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يقولون ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير. وعن ابن عيينة : تسلية للمظلوم وتهديد للظالم. قلت : لأنه لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لزم أن يكون غافلا عن الظلم أو عاجزا عن الانتقام أو راضيا بالظلم وكل ذلك مناف لوجوب الوجود المستلزم لجميع الكمالات (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي أبصارهم كقوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ) [مريم : ٤] شخص بصر الرجل إذا بقيت عينه مفتوحة لا تطرف وذلك إنما يكون عند غاية الحيرة وسقوط القوة (مُهْطِعِينَ) مسرعين قاله أبو عبيدة. والغالب من حال من يبقى بصره شاخصا من شدة الخوف أن يبقى واقفا ، فبين الله تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد لأنهم مع شخوص أبصارهم يكونون مسرعين نحو ذلك البلاء. وقال أحمد بن يحيى : المهطع الذي ينظر في ذل وخضوع. وقيل : هو الساكت (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) رافعيها وهذا أيضا بخلاف المعتاد لأن الغالب ممن يشاهد البلاء أنه يطرق رأسه لكيلا يراه (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) الطرف تحريك الأجفان على الوجه الذي خلق وجبل عليه. وسمى العين بالطرف تسمية بفعلها أي لا يرجع إليهم أن يطرفوا بعيونهم ، والمراد دوام الشخوص المذكور. وقيل : أي لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) والهواء الخلاء الذي يشغله الأجرام. وصف قلب الجبان به لأنه لا قوة فيه ، ويقال للأحمق أيضا قلبه هواء. والمعنى

٢٠١

أن قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخواطر والأفكار لعظم ما نالهم ، وعن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العذاب. والأظهر أن هذه الحالة لهم عند المحاسبة لتقدم قوله : (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) وقيل : هي عند ما يتميز السعداء من الأشقياء. وقيل : عند إجابة الداعي والقيام من القبور. وعن ابن جريج : أراد أن أفئدة الكفار في الدنيا صفر من الخير خاوية منه. قال أبو عبيدة : جوف لا عقول لهم (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) مفعول ثان لأنذروا اليوم يوم القيامة ، واللام في العذاب للمعهود السابق من شخوص الأبصار وغيره ، أو للمعلوم وهو عذاب النار. ومعنى (أَخِّرْنا) أمهلنا (إِلى) أمد وحد من الزمان (قَرِيبٍ) أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى (أَوَلَمْ تَكُونُوا) على إضمار القول أي فيقال لهم ذلك. وإقسامهم إما بلسان الحال حيث بنوا شديدا وأملوا بعيدا ، وإما بلسان المقال أشرا وبطرا وجهلا وسفها. و (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) جواب القسم. ولو قيل «ما لنا من زوال» على حكاية لفظ المقسمين لجاز من حيث العربية. والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء أو لا تنتقلون إلى دار أخرى هي دار الجزاء كقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل : ٣٨].

ثم زادهم توبيخا بقوله : (وَسَكَنْتُمْ) استقررتم (فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصي وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) بالأخبار والمشاهدة والبيان والعيان (كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) من أصناف العقوبات (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) قال جار الله : أراد صفات ما فعلوا وما فعل بهم وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم. وقال غيره : المراد ما أورد في القرآن من دلائل القدرة على الإعادة والإبداء وعلى العذاب المعجل والمؤجل. ثم حكى مكر أولئك الظلمة فقال : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) أي مكرهم العظيم الذين استفرغوا فيه جهدهم. وقيل : الضمير عائد إلى قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ) [الأنفال : ٣٠] وقيل : أراد ما نقل أن نمروذ حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتا وربط قوائمه الأربع بأربع نسور ، وكان قد جوعها ورفع من الجوانب الأربعة على التابوت عصيا أربعا وعلق على كل واحدة منها قطعة من اللحم ، ثم إنه جلس مع صاحبه في ذلك التابوت. فلما أبصرت النسور ذلك اللحم تصاعدت في جو الهواء ثلاثة أيام وغابت الأرض عن عين نمروذ ورأى السماء بحالها ، فعكس تلك العصيّ التي عليها اللحوم فهبطت النسور إلى الأرض. وضعفت هذه الرواية لأنه لا يكاد يقدم عاقل على مثل هذا الخطر. (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) إن كان مضافا إلى

٢٠٢

الفاعل فالمعنى ومكتوب عند الله مكرهم فيجازيهم عليه بأعظم من ذلك ، وإن كان مضافا إلى المفعول فمعناه وعنده مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يستحقونه فيأتيهم به من حيث لا يشعرون. أما قوله : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ) من قرأ بكسر اللام الأولى ونصب الثانية فوجهان : أحدهما أن تكون «إن» مخففة من الثقيلة فزوال الجبال مثل لعظم مكرهم وشدته أي وإن الشأن كان مكرهم معدا لذلك. وثانيهما أن تكون «إن» نافية واللام المكسورة لتأكيد النفي كقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] والمعنى ومحال أن تزول الجبال بمكرهم على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه الثابتة على حالها أبد الدهر. ومن قرأ بفتح اللام الأولى ورفع الثانية فإن مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة ، والمعنى كما مر.

ثم إنه سبحانه أكد كونه مجازيا لأهل المكر على مكرهم بقوله : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) قال جار الله : قدم المفعول الثاني ـ وهو الوعد ـ على المفعول الأول ليعلم أنه غير مخلف الوعد على الإطلاق. ثم قال : (رُسُلَهُ) تنبيها على أنه إذا لم يكن من شأنه إخلاف الوعد فكيف يخلفه رسله الذين هم صفوته. والمراد بالوعد قوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] ونحوهما من الآيات. قوله : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) قد مر في أول «آل عمران» (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) قال الزجاج : انتصاب يوم على البدل من (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ) أو على الظرف للانتقام ، والأظهر انتصابه باذكر كما مر في الوقوف. ومعنى قوله : (وَالسَّماواتُ) أي وتبدل السموات. قال أهل اللغة : التبديل التغيير وقد يكون في الذوات كقولك «بدلت الدراهم دنانير» وفي الأوصاف كقولك «بدلت الحلقة خاتما» إذا أذبتها وسوّيتها خاتما فنقلتها من شكل إلى شكل. وتفسير ابن عباس يناسب الوجه الثاني قال : هي تلك الأرض وإنما تغير فتسير عنها جبالها وتفجر بحارها وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت ، وتبدل السماء بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبوابا. وعن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدّها مدّ الأديم العكاظي فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا» وهذا القول يناسب مذهب الحكماء في أن الذوات لا يتطرق إليها العدم وإنما تعدم صفاتها وأحوالها. نعم جوزوا انعدام الصور مع أنها جواهر عندهم. وتفسير ابن مسعود يناسب الوجه الأول قال : يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة. وعن علي كرم الله وجهه : تبدل أرضا من فضة وسموات من ذهب. وعن الضحاك : أرضا من فضة بيضاء كالصحائف. وقيل : لا يبعد أن يجعل الله الأرض

٢٠٣

جهنم والسموات الجنة. (وَبَرَزُوا لِلَّهِ) قد ذكرناه في أول السورة. وتخصيص (الْواحِدِ الْقَهَّارِ) بالموضع تعظيم وتهويل وأنه لا مستغاث وقتئذ إلى غيره ولا حكم يومئذ لأحد إلا له يتفرد في حكمه ويقهر ما سواه.

ومن نتائج قهره قوله : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ) قرن بعضهم مع بعض لأن الجنسية علة الضم أو مع الشياطين الذين أضلوهم. قالت الحكماء : هي الملكات الذميمة والعقائد الفاسدة التي اكتسبوها في تعلق الأبدان. وقوله : (فِي الْأَصْفادِ) أي القيود إما أن يتعلق بمقرنين وإما أن يكون وصفا مستقلا أي مقرنين مصدفين. وقيل : الأصفاد الأغلال. والمعنى قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. وحظ العقل فيه أن الملكات الحاصلة في جوهر النفس إنما تحصل بتكرير الأفعال الصادرة من الجوارح والأعضاء.(سَرابِيلُهُمْ) جمع سربال وهو القميص (مِنْ قَطِرانٍ) هو ما يتحلب أي يسيل من شجر يسمى الأبهل فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحره وحدّته ، وقد تبلغ حرارته الجوف ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار ، وقد يستسرج به وهو أسود اللون منتن الريح فيطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلأوه لهم كالسرابيل فيجمع عليهم اللذع والحرقة والاشتعال والسواد والنتن ، على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين والوجه العقلي فيه أن البدن بمنزلة القميص للنفس ، وكل ما يحصل للنفس من الآلام والغموم فإنما يحصل بسبب هذا البدن ، فلهذا البدن لذع وحرقة في جوهر النفس بنفوذ الشهوة والحرص والغضب وسائر آثار الملكات الردية فيه. ومن قرأ من قطران فالقطر النحاس والصفر المذاب والآني المتناهي حره. قال ابن الأنباري : وتلك النار لا تبطل ذلك السربال ولا تفنيه كما لا تهلك النار أجسادهم والأغلال التي كانت عليهم (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) خص الوجه بالذكر لأنه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه فعبر به عن الكل. قوله : (لِيَجْزِيَ) اللام متعلقة بـ (تَغْشى) أو بجميع ما ذكر كأنه قيل : يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي (اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) قال الواحدي : أراد نفوس الكفار لأن ما سبق لا يليق إلا بهم. ويحتمل أن يراد كل نفس مجرمة ومطيعة لأنه تعالى إذا عاقب المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المطيعين لطاعتهم. ثم أشار إلى القرآن أو إلى ما في السورة أو إلى ما مر من قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً) إلى هاهنا فقال (هذا بَلاغٌ) كفاية (لِلنَّاسِ) في التذكير والموعظة لينصحوا (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) بهذا البلاغ. ثم رمز إلى استكمال القوّة النظرية بقوله : (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) وإلى استكمال القوّة العملية بقوله : (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به دعتهم المخافة إلى استكمال النفس بحسب القوتين والله ولي التوفيق.

٢٠٤

التأويل : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) الروح (رَبِّ اجْعَلْ) بلد القلب (آمِناً) من وسوسة الشيطان وهواجس النفس وآفات الهوى (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَ) هم الفؤاد والسر والخفي (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) وهو كل ما سوى الله. فصنم النفس الدنيا ، وصنم القلب العقبى ، وصنم الروح الدرجات العلى ، وصنم السر العرفان والقربات ، وصنم الخفي الركون إلى المكاشفات والمشاهدات وأنواع الكرامات (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ) فيه نكتتان : إحداهما لم يقل «ومن عصاك» إشارة إلى أن عصيان الله لا يستحق المغفرة والرحمة ، والثانية لم يقل «فأنا أغفره وأرحم عليه» لأن عالم الطبيعة البشرية يقتضي المكافأة وإنما المغفرة والرحمة من شأن الغني المطلق (أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) هم صفات الروح والعقل والسر والخفي (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) وهو وادي النفس (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) على ما سواك وهو كعبة القلب حرام أن يكون بيتا لغير الله «لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن». وفيه أنه توسل في إجابة الدعاء بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكأنه قال : إن ضيعت هاجر وإسماعيل فقد ضيعت محمدا. وفي قوله : (لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) إشارة إلى أنه لو لا تعلق الروح بالجسد وحلوله بأرض القالب لم يمكن استكمال الروح بالأعمال البدنية ، وأنه لو لا غرض هذا الاستكمال لم يحصل ذلك التعلق (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً) الصفات الناسوتية (تَهْوِي) إلى الصفات الروحانية (وَارْزُقْهُمْ مِنَ) ثمرات الصفات اللاهوتية (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) هذه النعمة الجسيمة التي ليس ينالها الملائكة المقربون ، وفي هذا سر عظيم لا يمكن إفشاؤه. (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي) من حقائق الدعاء (وَما نُعْلِنُ) من ظاهر القصة (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ) في أرض المعاملات الصورية ولا في سماء القلوب من الغيوب (عَلَى الْكِبَرِ) أي بعد تعلق الروح بالقالب (إِسْماعِيلَ) السر (وَإِسْحاقَ) الخفي (مُقِيمَ الصَّلاةِ) دائم العروج فإن الصلاة معراج المؤمن (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي) استرني وامنحني بصفة معرفتك (وَلِوالِدَيَ) من الآباء العلوية والأمهات السفلية لئلا يحجبوني عن رؤيتك يوم يقوم حسابك بكمالية كل نفس ونقصانها لأكون في حساب الكاملين لا في حساب الناقصين. (وَلا تَحْسَبَنَ) أي لم يكن (اللهَ غافِلاً) في الأزل بل الكل بقضائه وقدره و (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) ليبلغوا إلى ما قدر لهم من الأعمال فإنها مودعة في الأعمار ، وبذلك يصل كل من أهل السعادة والشقاوة إلى منازلهم (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) فيه من إبطال مذهب التناسخية. زعموا أن نفوسهم لا تزال تتعلق بالأبدان (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) تعلقتم بأبدان مثل أبدانهم منهمكين في ظلمات الأخلاق الذميمة (وَعِنْدَ اللهِ) مقدار (مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) بحيث يؤثر في إزالة الجبال عن أماكنها ولكنه لا تحرك شعرة إلا بإذن الله بقضائه (يَوْمَ تُبَدَّلُ) أرض البشرية بأرض القلوب فتضمحل ظلماتها بأنوار

٢٠٥

القلوب ، وتبدل سموات الأسرار بسموات الأرواح فإن شموس الأرواح إذا تجلت لكواكب الأسرار انمحت أنوار كواكبها بسطوة أشعة شموسها ، بل تبدل أرض الوجود المجازي عند إشراق تجلي أنوار هويته بحقائق أنوار الوجود الحقيقي كما قال : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [الزمر : ٦٩] وحينئذ (بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) فإن شموس الأرواح تصير مقهورة في تجلي نور الألوهية. (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) يوم التجلي (مُقَرَّنِينَ) في قيود الصفات الذميمة لا يستطيعون البروز لله. (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) المعاصي وظلمات النفوس فهم محجوبون بهما عن الله (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ) نار الحسرة والقطيعة (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) الذين نسوا عالم الوحدة (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) قبل المفارقة فإن الانتباه بالموت لا ينفع (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) فيعبدوه ولا يتخذوا إلها غيره من الدنيا والهوى والشيطان (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) عالم الشهود فيخرجوا من قشر الوجود ، والله أعلم.

تم الجزء الثالث عشر ، ويليه الجزء الرابع عشر أوله تفسير سورة الحجر

٢٠٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الرابع عشر من أجزاء القرآن الكريم

سورة الحجر مكية بالإجماع

وحروفها ألف وسبعمائة وواحد وسبعون

وكلماتها ستمائة وأربعة وخمسون

وآياتها تسع وتسعون

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ

٢٠٧

يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠))

القراآت : ربما بفتح الباء مخففة : أبو جعفر ونافع وعاصم غير الشموني. وربما بضم الباء خفيفة : الشموني. الباقون بالفتح والتشديد (ما نُنَزِّلُ) بالنون (الْمَلائِكَةَ) بالنصب : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. ما تنزل بضم التاء وفتح الزاي المشددة (الْمَلائِكَةَ) بالرفع : أبو بكر وحماد الباقون مثله ، ولكن بفتح التاء ما تنزل بالإدغام : البزي وابن فليح سكرت خفيفة : ابن كثير فتحنا بالتشديد : يزيد الريح على التوحيد : حمزة وخلف (صِراطٌ عَلَيَ) بكسر اللام ورفع الياء على النعت : يعقوب الآخرون علي جارا ومجرورا (وَعُيُونٍ) بكسر العين : حمزة وعلي وابن كثير وابن ذكوان والأعشى ويحيى وحماد. الباقون بضمها (نَبِّئْ عِبادِي) مثل نبئنا عبادي أني بالفتح فيهما : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. والآخرون بالإسكان.

الوقوف (الر) قف كوفي (مُبِينٍ) ه (مُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ) ه (مَعْلُومٌ) ه (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) ه (لَمَجْنُونٌ) ه ط لأن التحضيض له صدر الكلام (الصَّادِقِينَ) ه (مُنْظَرِينَ) ه (لَحافِظُونَ) ه (الْأَوَّلِينَ) ه (يَسْتَهْزِؤُنَ) ه (الْمُجْرِمِينَ) ه (الْأَوَّلِينَ) ه (يَعْرُجُونَ) ه (مَسْحُورُونَ) ه (لِلنَّاظِرِينَ) لا (رَجِيمٍ) لا ه (مُبِينٌ) ه (مَوْزُونٍ) ه (بِرازِقِينَ) ه (خَزائِنُهُ) ز لاتفاق الجملتين مع الفصل بين معنيي الجمع في التقدير والتفريق في التنزيل. (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) ج لاحتمال ما بعده الاستئناف أو الحال (بِخازِنِينَ) ه (الْوارِثُونَ) ه (الْمُسْتَأْخِرِينَ) ه (يَحْشُرُهُمْ) ط (عَلِيمٌ) ه (مَسْنُونٍ) ه ج لاتفاق الجملتين مع تقدم المفعول في الثانية (السَّمُومِ) ه (مَسْنُونٍ) ه (ساجِدِينَ) ه

٢٠٨

(أَجْمَعُونَ) ه لا (إِلَّا إِبْلِيسَ) ط (السَّاجِدِينَ) ه (مَسْنُونٍ) ه (رَجِيمٌ) ه (الدِّينِ) ه (يُبْعَثُونَ) ه (مِنَ الْمُنْظَرِينَ) لا ه (الْمَعْلُومِ) ه (أَجْمَعِينَ) لا ه (الْمُخْلَصِينَ) ه (مُسْتَقِيمٌ) ه (الْغاوِينَ) ه (أَجْمَعِينَ) ه (أَبْوابٍ) ط (مَقْسُومٌ) ه (وَعُيُونٍ) ه لإرادة القول بعده (آمِنِينَ) ه (مُتَقابِلِينَ) ه (بِمُخْرَجِينَ) ه (الرَّحِيمُ) لا (الْأَلِيمُ) ه.

التفسير قال جار الله : (تِلْكَ) إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآي والكتاب والقرآن المبين السورة. وتنكير القرآن للتفخيم وقال آخرون : الكتاب والقرآن المبين هو الكتاب الذي وعد الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى تلك الآيات آيات ذلك الكتاب الكامل في كونه كتابا وفي كونه قرآنا مفيدا للبيان. أما قوله (رُبَما يَوَدُّ) فذكر السكاكي أن فيه سبع لغات أخر بعد المشهورة : رب بالراء مضمومة ، والباء مخففة مفتوحة أو مضمومة أو مسكنة ، ورب بالراء مفتوحة والباء كذلك مشددة ، وربة بالتاء مفتوحة والباء كذلك أي مفتوحة مخففة أو مشددة ، وإنما دخل على المضارع مع أنه مختص بالماضي لأن المترقب في أخبار الله بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل : ربما ود. و «ما» هذه كافة أي تكف رب عن العمل فتتهيأ بذلك للدخول على الفعل. وقيل : إن «ما» بمعنى شيء أي رب شيء يوده الذين كفروا. ورب للتقليل فأورد عليه أن تمنيهم يكثر ويتواصل فما معنى التقليل؟ وأجيب بأنه على عادة العرب إذا أرادوا التكثير ذكروا لفظا وضع لأجل التقليل كما إذا أرادوا اليقين ذكروا لفظا وضع للشك. والمقصود إظهار الترفع والاستغناء عن التصريح بالتعريض فيقولون : ربما ندمت على ما فعلت ، ولعلك تندم على فعلك. وإن كان العلم حاصلا بكثرة الندم ووجوده بغير شك أرادوا لو كان الندم قليلا أو مشكوكا فيه لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من الغم القليل كما يحذرون من الكثير ، ومن الغم المظنون كما من المتيقن. فمعنى الآية لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة كان جديرا بالمسارعة إليه فكيف وهو يودونه في كل ساعة. وقوله (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) إخبار عن ودادتهم كقولك «حلف بالله ليفعلن». ولو قيل «لو كنا مسلمين» جاز من حيث العربية كقولك «حلف بالله لأفعلن». ومتى تكون هذه الودادة؟ قال الزجاج : إن الكافر كلما رأى حالا من أحوال العذاب أو رأى حالا من أحوال المسلم ود لو كان مسلما. وعلى هذا فقد قيل في وجه التقليل : إن العذاب يشغلهم عن كثير التمني فلذلك قلل. وقال الضحاك : هي عند الموت إذا شاهد أمارات العذاب. وقيل : إذا اسودت وجوههم. روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا كان يوم القيامة اجتمع أهل النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة. فقال الكفار لهم : ألستم مسلمين؟ قالوا : بلى. قالوا : فما أغنى عنكم من

٢٠٩

إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ فيغضب الله لهم فيأمر لكل من كان من أهل القبلة بالخروج فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. وقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآية». وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : ما يزال الله يرحم المؤمنين ويخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بشفاعة الملائكة والأنبياء حتى إنه تعالى في آخر الأمر يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنة فهناك يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين (ذَرْهُمْ) ظاهره أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه يخليهم وشأنهم ، فاحتجت الأشاعرة به على أنه سبحانه وتعالى قد يصد عن الإيمان ويفعل بالمكلف ما يكون مفسدة في الدين. وقالت المعتزلة : ليس هذا إذنا وتجويزا وإنما هو تهديد ووعيد وقطع طمع النبي عن ارعوائهم ، وفيه أنهم من أهل الخذلان ولا يجيء منهم إلا ما هم فيه ، ولا زاجر لهم ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ. وفي الآية تنبيه على أن إيثار التلذذ والتمتع وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين (وَ) معنى (يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) يشغلهم الرجاء عن الإيمان والطاعة. لهيت عن الشيء بالكسر ألهى لهيا إذا سلوت عنه وتركت ذكره وأضربت عنه. وألهاني غيره. عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خط خطا وقال : هذا الإنسان. وخط آخر إلى جنبه وقال : هذا أجله. وخط آخر بعيدا منه فقال : هذا الأمل. فبينما هو كذلك إذ جاءه الأقرب (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) سوء صنيعهم مزيد تأكيد للتهديد.

ثم ذكر ما هو نهاية في الزجر والتحذير فقال (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ) أي مكتوب (مَعْلُومٌ) وهو أجلها الذي كتب في اللوح. قال جار الله : قوله (وَلَها كِتابٌ) جملة واقعة صفة لقرية والواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف. وذكر السكاكي في المفتاح أن هذا سهو لأن الفصل بين الموصوف والصفة لا يجوز ولكن الجملة حال من قرية ومثل هذا جائز ، ولو كان ذو الحال نكرة محضة كقولك «جاءني رجل وعلى كتفه سيف» لعدم التباس الحال بالوصف لمكان الفاصلة بالواو ، وكيف وقد زادت الفاصلة في الآية بكلمة (إِلَّا) وذو الحال قريب من المعرفة إذ التقدير : وما أهلكنا قرية من القرى من قبل إفادة من الاستغراق. قال قوم : المراد بهذا الهلاك عذاب الاستئصال الذي كان ينزله الله بالمكذبين المعاندين من الأمم السالفة. وقال آخرون : أراد الموت والأول أقرب لأنه في الزجر أبلغ وكأنه قيل : إن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العاقل فإن لكل أمة وقتا معينا في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر. وقيل : أراد مجموع الأمرين. قال صاحب النظم : إذا كان السبق واقعا على شخص فمعناه جاز وخلف كقولك «سبق زيد عمرا» أي جازه وخلفه وأنه قصر عنه وما بلغه ، وإذا كان واقعا على زمان فعلى العكس كقولك «سبق فلان

٢١٠

عام كذا» معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه. فمعنى الآية أنه لا يحصل أجل أمة قبل وقته ولا بعده كما في كل حادث ، وقد مر بحث الأجل في أول سورة الأنعام. وأنث الأمة أولا ثم ذكرها آخرا في قوله (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) حملا على اللفظ والمعنى ، وحذف متعلق (يَسْتَأْخِرُونَ) وهو عنه للعلم به. ولما بالغ في تهديد الكفار شرع في تعديد بعض شبههم ومطاعنهم في النبي. فالأولى أنهم كانوا يحكمون عليه بالجنون لأنهم كانوا يسمعون منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يوافق آراءهم ولا يطابق أهواءهم وإنما نادوه (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) مع أنهم كانوا لا يقرون بنزول الوحي عليه تعكيسا للكلام استهزاء وتهكما ، وأرادوا يا أيها الذي نزل عليه الوحي في زعمه واعتقاده وعند أصحابه وأتباعه ، الثانية. (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) «لو ما» حرف تحضيض مركب من «لو» المفيدة للتمني ومن «ما» المزيدة ، فأفاد المجموع الحث على الفعل الداخل هو عليه والمعنى : هلا تأتينا بالملائكة ليشهدوا على صدقك ويعضدوك على إنذارك؟ والمراد هلا تأتينا بملائكة العذاب إن كنت صادقا في أن تكذيبك يقتضي التعذيب العاجل؟ فأجاب الله سبحانه عن شبههم بقوله (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) قالت المعتزلة : أي تنزيلا متلبسا بالحكمة والمصلحة والغاية الصحيحة ، ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا فإن أمر التكليف حينئذ يؤول إلى الاضطرار والإلجاء ، ولا فائدة تعود عليكم لأنه تعالى يعلم إصراركم على الكفر فيصير إنزالهم عبثا ، أو لا حكمة في إنزالهم لأنهم لو نزلوا ثم لم تؤمنوا وجب عذاب الاستئصال وذلك قوله (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) فإن التكليف يزول عند نزول الملائكة وقد علم الله من المصلحة أن لا يهلك هذه الأمة ويمهلهم لما علم من إيمان بعضهم أو إيمان أولادهم. وقالت الأشاعرة : إلا بالحق أي إلا بالوحي أو العذاب. قال صاحب النظم : لفظ «إذن» مركبة من «إذ» بمعنى «حين» ومن «أن» الدالة على مجيء فعل بعده ، فخففت الهمزة بحذفها بعد نقل حركتها وكأنه قيل : وما كانوا منظرين إذ أن كان ما طلبوا. وقال غيره : «إذن» جواب وجزاء تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذابهم. ثم أنكر على الكفار استهزاءهم في قولهم (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) فقال على سبيل التوكيد (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ثم دل على كونه آية منزلة من عنده فقال (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) لأنه لو كان من قول البشر أو لم يكن آية لم يبق محفوظا من التغيير والاختلاف. وقيل : الضمير في (لَهُ) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] والقول الأول أوضح. ووجه حفظ القرآن قيل : هو جعله معجزا مباينا لكلام البشر حتى لو زادوا فيه شيئا ظهر ذلك للعقلاء ولم يخف ، فلذلك بقي مصونا عن التحريف. وقيل : حفظ بالدرس

٢١١

والبحث ولم يزل طائفة يحفظونه ويدرسونه ويكتبونه في القراطيس باحتياط بليغ وجد كامل حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن في حرف من كتاب الله لقال له بعض الصبيان : أخطأت. ومن جملة إعجاز القرآن وصدقه أنه سبحانه أخبر عن بقائه محفوظا عن التغيير والتحريف وكان كما أخبر بعد تسعمائة سنة فلم يبق للموحد شك في إعجازه. وهاهنا نكتة هي أنه سبحانه تولى حفظ القرآن ولم يكله إلى غيره فبقي محفوظا على مر الدهور بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتول حفظها وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم ووقع التحريف.

ثم ذكر أن عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء كذلك ، والغرض تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي الكلام إضمار والتقدير (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) رسلا إلا أنه حذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه. ومعنى (فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) في أممهم وأتباعهم وقد مر معنى الشيعة في آخر «الأنعام» قال جار الله : معنى أرسلنا فيهم جعلناهم رسلا فيما بينهم. قال الفراء : إضافة الشيع إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله (حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة : ٩٥] و (بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) [القصص : ٤٤] وقوله (وَما يَأْتِيهِمْ) حكاية حال ماضية. وإنما كان الاستهزاء بالرسل عادة الجهلة في كل قرن لأن الفطام عن المألوف شديد وكون الإنسان مسخرا لأمر من هو مثله أو أقل حالا منه في المال والجاه والقبول أشد ، على أن السبب الكلي فيه هو الخذلان وعدم التوفيق من الله سبحانه ووقوعهم مظاهر القهر في الأزل. قوله (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) السلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط. وقالت الأشاعرة : الضمير في (نَسْلُكُهُ) يجب عوده الى أقرب المذكورات وهو الاستهزاء الدال عليه (يَسْتَهْزِؤُنَ) وأما الضمير في قوله (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) فيعود إلى الذكر لأنه لو عاد إلى الاستهزاء وعدم الإيمان بالاستهزاء حق وصواب لم يتوجه اللوم على الكفار ، ولا يلزم من تعاقب الضمائر عودها على شيء واحد وإن كان الأحسن ذلك. والحاصل أن مقتضى الدليل عود الضمير إلى الأقرب إلا إذا منع مانع من اعتباره. وقال بعض الأدباء منهم : قوله (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) تفسير للكناية في قوله (نَسْلُكُهُ) أي نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به فثبتت دلالة الآية على أن الكفر والضلال والاستهزاء ونحوها من الأفعال كلها بخلق الله وإيجاده. وقالت المعتزلة : الضميران يعودان إلى الذكر لأنه شبه هذا السلك بعمل آخر قبله وليس إلا تنزيل الذكر. والمعنى مثل ذلك الفعل نسلك الذكر في قلوب المجرمين. ومحل (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) نصب على الحال أي غير مؤمن به أو هو بيان لقوله (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) والحاصل أنا نلقيه في قلوبهم مكذبا مستهزأ به غير مقبول نظيره ما إذا أنزلت

٢١٢

بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت : كذلك أنزلها باللئام تعني مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية. واعترض بأن النون إنما يستعمله الواحد المتكلم إظهارا للعظمة والجلال ومثل هذا التعظيم إنما يحسن ذكره إذا فعل فعلا يظهر له أثر قويّ كامل ، أما إذا فعل بحيث يكون منازعه ومدافعه غالبا عليه فإنه يستقبح ذكره على سبيل التعظيم ، والأمر هاهنا كذلك لأنه تعالى سلك استماع القرآن وتحفيظه وتعليمه في قلب الكافر لأجل أن يؤمن به ، ثم إنه لم يلتفت إليه ولم يؤمن به فصار فعل الله كالهدر الضائع وصار الشيطان كالغالب المدافع فكيف يحسن ذكر النون المشعر بالتعظيم في هذا المقام؟ أما قوله (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) فقيل : أي طريقتهم التي بينها الله في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم وبالذكر المنزل عليهم ، وهذا يناسب تفسير المعتزلة ، وفيه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم. وقيل : قد مضت سنة الله في الأولين بأن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم وهذا قول الزجاج ، ويناسب تفسير الأشاعرة. ثم حكى إصرارهم على الجهل والتكذيب بقوله (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا) أي هؤلاء الكفار (فِيهِ يَعْرُجُونَ) يتصاعدون (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) هو من سكر الشراب أو من سكر سدّ الشق يقال : سكر النهر إذا سدّه وحبسه من الجري. والتركيب يدل على قطع الشيء من سننه الجاري عليه ومنه السكر في الشراب لأنه ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو. فمعنى الآية حيرت أبصارنا ووقع بها من فساد النظر ما يقع بالرجل السكران ، أو حبست عن أفعالها بحيث لا ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقائقها. عن ابن عباس : المراد لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه وإلى عبادة الملائكة الذين هم من خشية ربهم مشفقون لتشككوا في تلك الرؤية وبقوا مصرين على كفرهم وجهلهم كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر وما خص به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله. قال في الكشاف : ذكر الظلول يعني أنه قال (فَظَلُّوا) ولم يقل «فباتوا» ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون. وقال : إنما سكرت ليدل على أنهم يبتون القول بأن ذلك ليس إلا تسكيرا للأبصار. وقيل : الضمير في (فَظَلُّوا) للملائكة أي لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عيانا لقالوا : إن السحرة سحرونا وجعلونا بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها. وهاهنا سؤال وهو أنه كيف جاز من جم غفير أن يصيروا شاكين فيما يشاهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح؟ وأجيب بأنهم قوم مخصوصون لم يبلغوا مبلغ التواتر وكانوا رؤساء قليلي العدد فجاز تواطؤهم على المكابرة والعناد لا سيما إذا جمعهم غرض معتبر كدفع حجة أو غلبة خصم.

٢١٣

ولما أجاب عن شبه منكري النبوة بما أجاب وكان القول بالنبوة مفرعا على القول بالصانع أتبعه دلائل ذلك فقال (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) وهي اثنا عشر عند أهل النجوم ، وذلك أنهم قسموا نطاق الفلك الثامن عندهم باثني عشر قسما متساوية ، ثم أجيز بمنتهى كل قسم وبأوله مبتدأة من أول الحمل نصف دائرة عظيمة مارة بقطبي الفلك فصار الفلك أيضا منقسما باثنتي عشرة قطعة كل منها تشبه ضلعا من أضلاع البطيخ تسمى برجا. ولا شك أن هذه البروج مختلفة الطباع ، كل ثلاثة منها على طبيعة عنصر من العناصر الأربعة فلذلك يسمى الحمل والأسد والقوس مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. ثم إن كانت أجزاء الفلك مختلفة في الماهية على ما يجوّزه المتكلمون ، أو كانت متساوية في تمام الماهية مختلفة في التأثير كما يقول به الحكيم ، فعلى التقديرين يكون اختصاص كل جزء بطبيعة معينة أو بتأثير معين مع تساوي الكل في حقيقة الجسمية دالا على صانع حكيم ومدبر قدير. الدليل الآخر قوله (وَزَيَّنَّاها) أي بالشمس والقمر والنجوم (لِلنَّاظِرِينَ) بنظر الاعتبار والاستبصار. وقال المنجمون : إن الكواكب الثابتة كلها على الفلك الثامن وهذا لا ينافي الآية على ما يمكن أن يسبق إلى الوهم ، لأنها سواء كن في سماء الدنيا أو في سموات أخر فوقها فلا بد أن يكون ظهورها في السماء الدنيا فتكون السماء الدنيا مزينة بها ، والآية لا تدل إلا على هذا القدر. ونظير هذه الآية قوله تعالى في «حم السجدة» (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [فصلت : ١٢] ومثله في سورة الملك. الدليل الثالث قوله (وَحَفِظْناها) أي البروج أو السماء (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) نصب على الاستثناء المنقطع أي لكن من استرق وجائز أن يكون مخفوضا أي إلا ممن استرق. وعن ابن عباس : يريد الخطفة اليسيرة (فَأَتْبَعَهُ) أي أدركه ولحقه (شِهابٌ مُبِينٌ) ظاهر للمبصرين والشهاب شعلة نار ساطع ، وقد يسمى الكوكب شهابا لأجل لمعانه وبريقه. قال ابن عباس : كانت الشياطين لا يحجبون من السموات وكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها على الكهنة ، فلما ولد عيسى عليه‌السلام منعوا من ثلاث سموات ، فلما ولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا من السموات كلها وهذا هو المراد بحفظ السموات كما لو حفظ أحدنا منزله ممن يتجسس ويخشى منه الفساد. والاستراق السعي في استماع الكلام مستخفيا. قال الحكماء : إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس ، فإذا بلغ النار التي دون الفلك احترق بها واشتعل لدهنية فيه فيحدث منها أنواع النيران من جملتها الشهب ، فلا ريب أنها كانت موجودة قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنها لم تكن مسلطة

٢١٤

على الشياطين. وإنما قيض كونها رجوما للشياطين في زمن عيسى عليه‌السلام ثم في زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أسئلة : كيف يجوز أن يشاهد هؤلاء الجن واحدا كان أو أكثر من جنسهم يسترقون السمع فيحرقون ، ثم إنهم مع ذلك يعودون لمثل صنيعهم؟ والجواب : إذا جاء القضاء عمي البصر ، فإذا قيض الله لطائفة منهم الحرق لطغيانها قدر له من الدواعي المطمعة في درك المقصود ما عندها يقدم على العمل المفضي الى الهلاك والبوار.

آخر : قد ورد في الأخبار أن ما بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، فهؤلاء الجن إن قدروا على خرق السماء ناقض قوله سبحانه (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) [الملك : ٣] وإن لم يقدروا فكيف يمكنهم استماع أسرار الملائكة من ذلك البعد البعيد ، ولم لا يسمعون كلام الملائكة حال كونهم في الأرض؟ وأجيب بأنا سلمنا أن بعد ما بين كل سماء ذلك القدر إلا أن نحن الفلك لعله قدر قليل ، وقد روى الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه قال : بينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار فقال : ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا؟ قالوا : كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يرمى لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ثم سبح أهل السماء وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ، ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ولا يزال ينتهي ذلك الخبر من سماء إلى السماء إلى أن ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، ويتخطف الجن فيرمون فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون» (١).

آخر : الشياطين مخلوقون من نار فكيف تحرق النار النار؟ والجواب : أن الأقوى قد يبطل الأضعف وإن كان من جنسه.

آخر : إن هذا الرجم لو كان من معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف بقي بعد وفاته؟ الجواب : هذا من المعجزات الباقية والغرض منه إبطال الكهانة.

آخر : إن الشهب قد تحدث بالقرب من الأرض وإلا لم يمكن الإحساس بها فكيف

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب السلام حديث ١٢٤. الترمذي في كتاب تفسير سورة ٣٤ باب : ٣. أحمد في مسنده (١ / ٢١٨).

٢١٥

تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك حين الاستراق؟ وأجيب بأن البعد عندنا غير مانع من السماع فلعله تعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقعوا في تلك المواضع سمعوا كلام الملائكة.

آخر : لو كان يمكنهم نقل أخبار الملائكة إلى الكهنة فكيف لم يقدروا على نقل أسرار المؤمنين إلى الكفار؟ وأجيب بأنه تعالى أقدرهم على شيء وأعجزهم عن شيء ولا يسأل عما يفعل. وأقول : لعل السبب فيه أن نسبتهم إلى الروحانيات أكثر.

آخر : إذا جوّزتم في الجملة اطلاع الجن على بعض المغيبات فقد ارتفع الوثوق عن إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بعض الغيوب فلا يكون دليلا على صدقه. لا يقال : إنه تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنا نقول : صدق هذا الكلام مبني على صحة نبوّته ، فلو أثبتنا صحة نبوّته به لزم الدور؟ والجواب : أنا نعرف صحة نبوّته بدلائل أخر حتى لا يدور ، ولكن لا ريب أن إخباره عن بعض المغيبات مؤكد لنبوّته وإن لم يكن مثبتا لها.

الدليل الرابع : قوله (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) وقد مرّ تفسير مثله في أوّل سورة الرعد.

الدليل الخامس قوله : (وَأَنْبَتْنا فِيها) أي في الأرض أو في الجبال الرواسي (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) بميزان الحكمة ومقدر بمقدار الحاجة ، وذلك أن الوزن سبب معرفة المقدار فأطلق اسم السبب على المسبب. وقيل : أي له وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة. وقيل : أراد أن مقاديرها من العناصر معلومة وكذا مقدار تأثير الشمس والكواكب فيها. وقيل : أي مناسب أي محكوم عليه عند العقول السليمة بالحسن واللطافة. يقال : كلام موزون أي مناسب ، وفلان موزون الحركات. وقيل : أراد ما يوزن من نحو الذهب والفضة والنحاس وغيرها من الموزونات كأكثر الفواكه والنبات. (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها) أي في الأرض أو في تلك الموزونات (مَعايِشَ) ما يتوصل به إلى المعيشة وقد مر في أول «الأعراف». (وَمَنْ) عطف على معايش أي جعلنا لكم من (لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) أو عطف على محل لكم لا على المجرور فقط فإنه لا يجوز في الأكثر إلا بإعادة الجار والتقدير : وجعلنا لكم معايش لمن لستم له برازقين ، وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين رازقهم في الحقيقة هو الله تعالى وحده لا الآباء والسادات والمخاديم ، ويدخل فيه بحكم التغليب غير ذوي العقول في الأنعام والدواب والوحش والطير كقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي

٢١٦

الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] وقد يذكر غير من يعقل بصفة من يعقل بوجه ما من الشبه كقوله : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل : ١٨] والدواب تشبه ذوي العقول من جهة أنها طالبة لأرزاقها عند الحاجة. يحكى أنه قلت مياه الأودية في بعض السنين واشتد عطش الوحوش فرفعت رأسها إلى السماء فأنزل الله المطر. ثم بين غاية قدرته ونهاية حكمته فقال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) قال جمع من المفسرين : أراد بالشيء هاهنا المطر الذي هو سبب لأرزاق بني آدم وغيرهم من الطير والوحش ، وذلك أنه لما ذكر معايشهم بين أن خزائن المطر الذي هو سبب المعايش عنده أي في أمره وحكمه وتدبيره. قوله : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) عن ابن عباس : يريد قدر الكفاية. وقال الحكم : ما من عام بأكثر مطرا من عام آخر ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون ، وربما كان في البحر ، واعلم أن لفظ الآية لا يدل على هذين القولين فلو ساعدهما نقل صحيح أمكن أن يقبلهما العقل والا كان شبه تحكم والظاهر عموم الحكم ، وإن ذكر الخزائن تمثيل لاقتداره على كل مقدور. والمعنى إن جميع الممكنات مقدورة ومملوكة له يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء ، وهي إن كانت غير متناهية بالقوّة لأن كلا منها يمكن أن يقع في أوقات غير محصورة على سبيل البدل ، وكذا الكلام في الأحياز وسائر الأعراض والأوصاف. فاختصاص ذلك الخارج إلى الوجود بمقدار معين وشكل معين وحيز ووقت معين إلى غير ذلك من الصفات المعينة دون أضدادها لا بد أن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر وهو المراد من قوله : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) وقد يتمسك بالآية بعض المعتزلة في أن المعدوم شيء. قيل : المراد أن تلك الذوات والماهيات كانت مستقرة عند الله بمعنى أنها كانت ثابتة من حيث إنها حقائق وماهيات ، ثم إنه تعالى نزل أي أخرج بعضها من العدم إلى الوجود.

الدليل السادس : قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ) ومن قرأ الريح فاللام للجنس (لَواقِحَ) قال ابن عباس : معناه ملاقح جمع ملقحة لأنها تلقح السحاب بمعنى أنها تحمل الماء وتمجه في السحاب ، أو لأنها تلقح الشجر أي تقوّيها وتنميها إلى أن يخرج ثمرها. قاله الحسن وقتادة والضحاك. وقد جاء في كلام العرب «فاعل» بمعنى «مفعل» قال :

ومختبط مما تطيح الطوائح

يريد المطاوح جمع مطيحة. وقال ابن الأنباري : تقول العرب : أبقل النبت فهو باقل أي مبقل. وقال الزجاج : معناه ذوات لقحة لأنها تعصر السحاب وتدره كما تدر اللقحة

٢١٧

كما يقال رامح أي ذو رمح ـ ولابن وتامر أي ذو لبن وذو تمر. وقيل : إن الريح في نفسها لاقح أي حالة للسحاب أو للماء من قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً) [الأعراف : ٥٧] أو حاملة للخير والرزق كما قيل لضدها الريح العقيم (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي جعلناه لكم سقيا قال أبو عليّ : يقال سقيته الماء إذا أعطاه قدر ما يروى ، وأسقيته نهرا أي جعلته شربا له. والذي يؤكد هذا اختلاف القراء في قوله : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) [النحل : ٦٦] ولم يختلفوا في قوله : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) [الدهر : ٢١] ويقال : سقيته لشفته وأسقيته لماشيته وأرضه. (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أي نحن الخازنون للماء لا أنتم أراد عظيم قدرته وعجز من سواه الدليل السابع : قوله (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) والغرض الاستدلال بانحصار الإحياء والإماتة فيه على أنه واحد في ملكه. قال أكثر المفسرين : إنه وصف النبات فيما قبل فهذا الإحياء مختص بالحيوان ، ومنهم من يحمله على القدر المشترك بين إحياء النبات وبين إحياء الحيوان (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) مجاز عن بقائه بعد هلاك ما عداه كما مر في آخر «آل عمران» في قوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الآية : ١٨٠] قوله : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا) عن ابن عباس في رواية عطاء (الْمُسْتَقْدِمِينَ) يريد أهل طاعة الله ، والمستأخرين يريد المتخلفين عن طاعته. ويروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغب الناس في الصف الأول في الجماعة فازدحم الناس عليه فأنزل الله الآية. والمعنى إنا نجزيهم على قدر نياتهم. وقال الضحاك ومقاتل : يعني في صف القتال. وقال ابن عباس في رواية أبي الجوزاء : كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان قوم يتقدمون إلى الصف الأول لئلا يروها ، وآخرون يتخلفون ويتأخرون ليروها ، وكان قوم إذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم فنزلت. وقيل : المستقدمون هم الأموات والمستأخرون هم الأحياء. وهذا القول شديد المناسبة لما قبل الآية ولما بعدها. وقيل : المستقدمون هم الأمم السالفة والمستأخرون هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال عكرمة : المستقدمون من خلق ، والمستأخرون من لم يخلق بعد. والظاهر العموم وأن علمه تعالى شامل لجميع الذوات والأحوال الماضية والمستقبلة فلا ينبغي أن تخص الآية بحالة دون أخرى. ثم نبه على أن الحشر والنشر أمر واجب ولا يقدر على ذلك أحد إلا هو فقال : (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) فلحكمته بني أمر العباد على التكليف والجزاء ، ولعلمه قدر على توفية مقادير الجزاء.

الدليل الثامن : الاستدلال على خلق الإنسان خاصة وذلك أنه لا بد من انتهاء الناس

٢١٨

إلى إنسان أول ضرورة امتناع القول بوجود حوادث لا أول لها. وقد أجمع المفسرون على أنه آدم عليه‌السلام ، ورأيت في كتب الشيعة عن محمد بن علي الباقر رضي‌الله‌عنه أنه قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر ، وكيف كان فلا بد من إنسان هو أول الناس. والأقرب أنه تعالى خلق آدم من تراب ثم من طين ثم من حمإ مسنون ثم من صلصال كالفخار. وقد كان قادرا على خلقه من أيّ جنس من الأجسام كان ، بل كان قادرا على خلقه ابتداء. وإنما خلقه على هذا الترتيب لمحض المشيئة ، أو لما كان فيه من زلة الملائكة والجن ، أو لغير ذلك من المصالح ، ولا شك أن خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشيء من شكله وجنسه ، والصلصال الطين اليابس الذي يصلصل أي يصوّت وهو غير مطبوخ فإذا طبخ فهو فخار. وقيل : هو تضعيف صل إذا أنتن. والحمأ الأسود المتغير من الطين ، وكذلك الحمأة بالتسكين. والمسنون المصوّر من سنة الوجه أي صورته قاله سيبويه. وقال أبو عبيدة : المسنون المصبوب المفرغ أي أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصورة من الجواهر المذابة. وقال ابن السكيت : سمعت أبا عمرو يقول : معناه متغير منتن وكأنه من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فالذي يسيل منهما سنين ولا يكون إلا منتنا. قال في الكشاف : قوله : (مِنْ حَمَإٍ) صفة صلصال أي خلقه من صلصال كائن من حمإ. قلت : ولا يعبد أن يكون بدلا أي خلقه من حما. قال : وحق مسنون بمعنى مصوّر أن يكون صفة لصلصال كأنه أفرغ الحمأ فصوّر منها تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر. قوله : (وَ) (الْجَانَ) قال الحسن ومقاتل وقتادة وهو رواية عطاء عن ابن عباس يريد إبليس. ـ وعن ابن عباس ـ في رواية أخرى : هو أبو الجن كآدم أبي الناس وهو قول الأكثرين. والتركيب يدل على السبق والتواري عن الأعين وقد مر فيما سلف ولا سيما في تفسير الاستعاذة في أول الكتاب (خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) قال ابن عباس : أي من قبل خلق آدم و (السَّمُومِ) الريح الحارة النافذة في المسام تكون في النهار وقد تكون بالليل. ومسام البدن الخروق الخفية التي يبرز منها العرق وبخار الباطن ، ولا شك أن تلك الريح فيها نار ولها لفح على ما ورد في الخبر أنه لفح جهنم. قال ابن مسعود : هذه السموم جزءا من سبعين جزءا من سموم النار التي خلق الله منها الجان. ولا استبعاد في خلق الله الحيوان من النار فإنا نشاهد السمندل قد يتولد فيها. وعلى قاعدة الحكيم : كل ممتزج من العناصر فإنه يمكن أن يغلب عليه أحدها ، وحينئذ يكون مكانه مكان الجزء الغالب والحرارة مقوية للروح لا مضادة لها. ثم إنه لما استدل بحدوث الإنسان الأول على كونه قادرا مختارا ذكر بعده واقعته. والمراد بكونه بشرا أنه يكون جسما كثيفا يباشر ويلاقي ، والملائكة والجن لا يباشرون للطافة أجسامهم.

٢١٩

والبشرة ظاهر الجلد من كل حيوان. (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) عدلت خلقته وأكملتها أو سويت أجزاء بدنه بتعديل الأركان والأخلاط والمزاج التابع لذلك اعتدالا نوعيا أو شخصيا. (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر. فمن زعم أن الروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن فمعناه ظاهر ، ومن قال إنه جوهر مجرد غير متحيز ولا حال في متحيز فمعنى النفخ عنده تهيئة البدن لأجل تعلق النفس الناطقة به. قال جار الله :ليس ثم نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه. وتمام الكلام في الروح سوف يجيء إن شاء الله في قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) [الإسراء : ٨٥]. ولا خلاف في أن الإضافة في قوله : (رُوحِي) للتشريف والتكريم مثل «ناقة الله» و «بيت الله». والفاء في قوله : (فَقَعُوا) تدل على أن وقوعهم في السجود كان واجبا عليهم عقيب التسوية والنفخ من غير تراخ. قال المبرد : قوله (كُلُّهُمْ) أزال احتمال أن بعض الملائكة لم يسجدوا. وقوله : (أَجْمَعُونَ) أزال احتمال أنهم سجدوا متفرقين ، وقال سيبويه والخليل (أَجْمَعُونَ) توكيد بعد توكيد ، ورجح الزجاج هذا القول لأن أجمع معرفة فلا يقع حالا ، ولو صح أن يكون حالا وكان منتصبا لأفاد المعنى الذي ذكره المبرد. ثم استثنى إبليس من الملائكة وقد سلف وجه الاستثناء في أول سورة البقرة. ثم استأنف على تقدير سؤال سائل هل سجد؟ فقال : (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) يعني إباء استكبار.

ثم قال سبحانه وتعالى خطاب تقريع وتعنيف لا تعظيم وتشريف (يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) وقال بعض المتكلمين : خاطبه على لسان بعض رسله لأن تكليم الله بلا واسطة منصب شريف فكيف يناله اللعين؟ قال جار الله : حرف الجر مع أن محذوف ومعناه أيّ غرض لك في الامتناع من السجود (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) اللام لتأكيد النفي أي لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد (لِبَشَرٍ) وحاصل شبهة اللعين أنه روحاني لطيف وآدم جسماني كثيف ، وأصله نوراني شريف وأصل آدم ظلماني خسيس ، فعارض النص بالقياس فلا جرم أجيب بقوله : (فَاخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة أو من السماء أو من جملة الملائكة. وضرب يوم الدين أي يوم الجزاء حدا للعنة جريا على عادة العرب في التأبيد كما في قوله : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٧] أو أراد اللعن المجرد من غير تعذيب حتى إذا جاء ذلك اليوم عذب بما ينسى اللعن معه. قال صاحب الكشاف : وأقول : هذا إن أريد باللعن مجرد الطرد عن الحضرة. أما إن أريد به الإبعاد عن كل خير فيتعين الوجه الأول إلا عند من أثبت لإبليس رجاء العفو. وإنما ذكر اللعنة هاهنا بلام الجنس لأنه ذكر آدم بلفظ الجنس حيث قال : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً) ولما خصص آدم بالإضافة إلى نفسه في

٢٢٠