تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

على الهيئة التي رآها الملك بعينها ، فتعجب من وفور علمه وحدسه ـ وكان قد علم من حاله ما علم من نزاهة ساحته وعدم مسارعته في الخروج من السجن ـ وقد وصف له الشرابي من جده في الطاعة والإحسان إلى سكان السجن ما وصف فعظم اعتقاده فيه فعند ذلك (قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) ويندرج في المكانة كمال القدرة والعلم. أما القدرة فظاهرة ، وأما العلم فلأن كونه متمكنا من أفعال الخير يتوقف على العلم بأفعال الخير وبأضدادها ، وكونه أمينا متفرع عن كونه حكيما لأن لا يفعل الفعل لداعي الشهوة وإنما يفعله لداعي الحكمة. قال المفسرون : لما حكى يوسف رؤيا الملك وعبرها بين يديه قال له الملك : فما ترى أيها الصديق؟ قال : أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا وتبني الخزائن والأهراء وتجمع الطعام فيها فيأتيك الخلق من النواحي ويمتارون منك ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد من قبلك ، فقال الملك : ومن لي بهذا الشغل؟ فقال يوسف : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) اللام للعهد أي ولني خزائن أرض مصر. والخزائن جمع الخزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ (إِنِّي حَفِيظٌ) للأمانات وأموال الخزائن (عَلِيمٌ) بوجوه التصرف فيها على وجه الغبطة والمصلحة. وقيل : حفيظ لوجوه أياديكم عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والشفقة. قال الواحدي : هذا الطلب خطيئة منه فكانت عقوبته أن أخر عنه المقصود سنة. عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته لكن لما قال ذلك أخره الله تعالى عنه سنة». وقال آخرون : إن التصرف في أمور الخلق كان واجبا عليه لأن النبي يجب عليه رعاية الأصلح لأمته بقدر الإمكان ، وقد علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضنك فأراد السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم ، وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى دفع الظلم والضر عن الناس إلا بالاستعانة من كافر أو فاسق فله أن يستظهر به ، على أن مجاهدا قد زعم أن الملك كان قد أسلم. وقيل : كان الملك يصدر عن رأيه فكان في حكم التابع لا المتبوع. ووصف نفسه عليه‌السلام بالحفظ والعلم على سبيل المبالغة لم يكن لأجل التمدح ولكن للتوصل إلى الغرض المذكور. (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك التقريب والإنجاء من السجن (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أرض مصر وهي أربعون فرسخا في أربعين. (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) هو أو نشاء نحن على القراءتين والمراد بيان استقلاله بالتقلب والتصرف فيها بحيث لا ينازعه أحد. (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) فيه أن الكل من الله وبتيسيره. وقالت المعتزلة : تلك المملكة لما لم تتم إلا بأمور فعلها الله صارت كأنها من قبل الله تعالى ، وعلقوا أيضا المشيئة بالحكمة ورعاية الأصلح. والأشاعرة ناقشوا في هذا القيد. (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ

١٠١

الْمُحْسِنِينَ) لأن إضاعة الأجر تكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حقه تعالى. (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من أجر الدنيا أو خير في نفسه. وفي قوله المحسنين وقوله : (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) إشارة إلى أن يوسف كان في الزمان السابق من المحسنين ومن المتقين ففيه دلالة على نزاهة يوسف عن كل سوء. قال سفيان بن عيينة : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة ، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق. يروى أن الملك توجه وختمه بخاتمه وردّاه بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت فقال له : أما السرير فأشدّ به ملكك ، وأما الخاتم فأدبر به أمرك ، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي. فقال : قد وضعته إجلالا لك وإقرارا بفضلك. فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوّض الملك إليه أمره وعزل قطفير ، ثم مات بعد فزوّجه الملك امرأته فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيرا مما طلبت فوجدها عذراء فولدت له ولدين : إفرائيم وميشا. وأقام العدل بمصر وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها ، ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب ، ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم جميعا فقالوا : والله ما رأينا كاليوم ملكا أجل ولا أعظم منه فقال للملك : كيف رأيت صنع الله بي فيما خوّلني مما ترى؟ قال : الرأي رأيك. قال : فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم ، وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس. وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا فذلك قوله سبحانه : (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) لم يعرفوه لأن طول العهد ينسي ولاعتقادهم أنه قد هلك أو لذهابه عن أوهامهم حين فارقوه مبيعا بدراهم معدودة ثم رأوه ملكا مهيبا جالسا على السرير في زي الفراعنة ، ويحتمل أن يكون بينه وبينهم مسافة وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج. وإنما عرفهم لأن أثر تغيير الهيئات عليهم كان أقل لأنه فارقهم وهم رجال ولم يغيروا زيهم عما هو عادتهم ، ولأن همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم ، ويحتمل أن يكون عرفهم بالوحي. وعن الحسن ما عرفهم حتى تعرفوا له. (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) هو ما يحتاج إليه في كل باب ومنه جهاز العروس والميت. قال الليث : جهزت القوم تجهيزا إذا تكلفت لهم جهازا للسفر. قال : وسمعت أهل البصرة يحكون الجهاز بالكسر. وقال الأزهري : القراء كلهم على فتح الجيم والكسر لغة جيدة (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) قال العلماء : لا بد من كلام يجر هذا الكلام فروي أنه

١٠٢

لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم : من أنتم؟ وما شأنكم فإني أنكركم. قالوا : نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد وجئنا نمتار. فقال : لعلكم جئتم عيونا؟ قالوا : معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب. قال : كم أنتم؟ قالوا : كنا اثني عشر فهلك منا واحد. فقال : فكم أنتم هاهنا؟ قالوا : عشرة قال : فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا : هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك. قال : فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون؟ قالوا : إنا ببلاد لا يعرفنا أحد. قال : فدعوا بعضكم عندي رهينا وأتوني بأخيكم من أبيكم يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم. فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا في يوسف فخلفوه عنده. وقيل : كانوا عشرة فأعطاهم عشرة أحمال فقالوا : إن لنا شيخا كبيرا وأخا آخر فبقي معه ولا بد لهما من حملين آخرين. فاستدل الملك ببقائه عند أبيه على زيادة محبته إياه وكونه فائقا في الجمال والأدب فاستدعى منهم إحضاره. وقيل : لعلهم لما ذكروا أباهم قال يوسف : فلم تركتموه وحيدا فريدا؟ فقالوا : بل بقي عنده واحد. فقال لهم : لم خصه بهذا المعنى لأجل نقص في جسده؟ قالوا : لا بل لزيادة محبته. فقال : إن أباكم رجل عالم حكيم ، ثم إنه خصه بمزيد المحبة مع أنكم فضلاء أدباء فلا بد أن يكون هو زائدا عليكم في الكمال والجمال فائتوني به لأشاهده. والأوّل قول المفسرين ، والآخران محتملان. ولما طلب منهم إحضار الأخ جمع لهم بين الترغيب والترهيب فالأوّل قوله : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) المضيفين وكان قد أحسن ضيافتهم أو زاد لكل من الأب والأخ الغائب حملا ، والثاني (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) مجزوم على النهي أو لأنه داخل في حكم الجزاء كأنه قيل : فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) سنخادعه عنه ونجتهد حتى ننتزعه من يده (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) كل ما في وسعنا في هذا الباب أو لقادرون على ذلك. (وَقالَ لِفِتْيانِهِ) أو لفتيته قراءتان وهما جمع فتى كالأخوان والإخوة في أخ ففعلة للقلة ووجهه أن هذا العمل من الأسرار فوجب كتمانه عن العدد الكثير ، وفعلان للكثرة ووجهه أنه قال : (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) والرحال عدد كثير ويناسبه الجم الغفير من الغلمان الكيالين ، والبضاعة ما قطع من المال للتجارة ، والرحال جمع رحل والمراد به هاهنا ما يستصحبه الرجل معه من الأثاث. والأكثرون على أنه أمر بوضع بضاعتهم في رحالهم على وجه لا يعرفون بدليل قوله : (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) وفرغوا ظروفهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا وكانت بضاعتهم النعل والأدم. وقيل : أمر بوصفها على

١٠٣

وجه عرفوها ، والمعنى لعلهم يعرفون حق ردّها. أما السبب الذي لأجله أمر يوسف بذلك فقيل : ليعلموا كرم يوسف فيبعثهم ذلك على المعاودة. وقيل : خاف أن لا يكون عند أبيه من البضاعة ما يدعوهم إلى الرجوع ، أو أراد به التوسعة على أبيه لأن الزمان كان زمان قحط ، أو لأن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته لؤم ، أو أراد أن يرجعوا ليعرفوا سبب الرد لأنهم أولاد الأنبياء فيحترزوا أن يكون ذلك على سبيل السهو ، أو أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم عيب ولا منة فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه. وقيل : (يَرْجِعُونَ) متعد أي لعلهم يردونها. (قالُوا : يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أرادوا قول يوسف (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ) لأن إنذار المنع بمنزلة المنع يؤيده قراءة من قرأ (نَكْتَلْ) بالنون أي نرفع المانع ونأخذ من الطعام ما نحتاج إليه ، ويحتمل أن يراد بالمنع أنهم إذا طلبوا الطعام لأبيهم والأخ المخلف فلعله منع من ذلك ، ويقوّي هذا الاحتمال قراءة الغيبة أي يكتل أخونا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا. (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ) ضمنوا كونهم حافظين له فقال يعقوب : إنكم ذكرتم مثل هذا الكلام في يوسف فهل يكون أماني الآن إلا كأماني فيما قبل يعني كما لم يحصل الأمان وقتئذ فكذا الآن. والظاهر أن هاهنا إضمارا والتقدير فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم وقال : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) و (حافِظاً) نصب على التمييز واحتمل الثاني الحال نحو «لله درّه فارسا» (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أرجو أن لا يجمع عليّ مصيبتين. وقيل : إنه تذكر يوسف فقال : فالله خير حافظا أي ليوسف لأنه كان يعلم أنه حي (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) هو عام في كل ما يستمتع به ويجوز أن يراد به هاهنا الطعام أو الأوعية. أما قوله (ما نَبْغِي) فالبغي بمعنى الطلب و «ما» نافية أو استفهامية. المعنى ما نطلب شيئا وراء ما فعل بنا من الإحسان أو ما نريد منك بضاعة أخرى أو أيّ شيء نطلب وراء هذا نستظهر بالبضاعة المردودة إلينا. (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) في رجوعنا إلى الملك (وَنَحْفَظُ أَخانا) فما يصيبه شيء مما يخافه (وَنَزْدادُ) باستصحاب أخينا وسق بعير زائدا على أوساق أباعرنا فأيّ شيء نبغي وراء هذه المباغي؟!. ويجوز أن يكون البغي بمعنى الكذب والتزيد في القول على أن «ما» نافية أي ما نكذب فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه ، وكانوا قالوا له : إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا تلك الكرامة. قال في الكشاف : فعلى هذا التفسير لا يكون قوله : (وَنَمِيرُ) معطوفا على معنى قوله : (هذِهِ بِضاعَتُنا) وإنما يكون قوله : (هذِهِ بِضاعَتُنا) بيانا لصدقهم ، وقوله : (وَنَمِيرُ) معطوفا على (ما نَبْغِي) أو يكون كلاما مبتدأ أي ونبغي أن نمير كما تقول : سعيت في حاجة فلان ويجب أو ينبغي أن أسعى ويجوز أن يراد ما نبغي

١٠٤

ما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا. ثم بينوا كونهم مصيبين في رأيهم بقولهم : (هذِهِ بِضاعَتُنا) نستظهر بها ونمير أهلنا إلى آخره. يقال : ماره يميره إذا أتاه بميرة أي بطعام (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي ذلك المكيل لأجلنا قليل نريد أن ينضاف إليه ما يكال لأجل أخينا. وقال مقاتل : ذلك إشارة إلى كيل بعير أي ذلك القدر سهل على الملك لا يضايقنا فيه ولا يطول مقامنا بسببه ، واختاره الزجاج. وجوز في الكشاف أن يكون هذا من كلام يعقوب يعني أن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد. (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً) تعطوني ما أثق به من عند الله وهو الحلف (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) استثناء من أعم العام في المفعول وقد يقع مثل هذا الاستثناء في الإثبات إذا استقام المعنى نحو «قرأت إلا يوم كذا» وإن شئت فأوّله بالنفي أي لا تمتنعون من الإتيان به لعلة من العلل إلا بعلة واحدة هي أن يحاط بكم أي تهلكوا جميعا قاله مجاهد ، أو تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به قاله قتادة : (عَلى ما نَقُولُ) من طلب الموثق وإعطائه (وَكِيلٌ) مطلع رقيب. قال جمهور المفسرين : إنما نهاهم أن يدخلوا من باب واحد خوفا عليهم من إصابة العين. وهاهنا مقامان : الأوّل أن الإصابة بالعين حق لإطباق كثير من الأمه ولما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول : أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة. أي جامعة لشر من لمه إذا جمعه أو المراد ملمة والتغيير للمزاوجة. وعن عبادة بن الصامت قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول النهار فرأيته شديد الوجع ، ثم عدت إليه آخر النهار فرءته معافى. فقال : إن جبرائيل عليه‌السلام أتاني فرقاني وقال : بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من كل عين وحاسد الله يشفيك. قال : فأفقت. وروي أنه دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت أم سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا : يا رسول الله أصابته العين. قال : أفلا تسترقون له من العين؟ وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر» (١). وقالت عائشة : كان يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين. المقام الثاني في الكشف عن حقيقته. قال الجاحظ : يمتد من العين أجزاء فتتصل بالشخص المستحسن فتؤثر وتسري فيه كتأثير اللسع والسم. واعترض الجبائي وغيره بأنه لو كان كذلك لأثر في غير المستحسن كتأثيره في المستحسن. وأجيب بأن المستحسن إن كان صديقا حصل للعائن عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله ،

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الطب باب : ٣٦. مسلم في كتاب السلام حديث ٤١ ، ٤٢. أبو داود في كتاب الطب باب : ١٥. الترمذي في كتاب الطب باب : ١٩. المو طأ في كتاب العين حديث : ١. أحمد في مسنده (١ / ٢٧٤).

١٠٥

وإن كان عدوا حصل له خوف شديد من حصوله ، وعلى التقديرين يسخن الروح وينحصر في داخل القلب ويحصل في الروح الباصرة كيفية مسخنة مؤثرة ، فلهذا السبب أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العائن بالوضوء ومن أصابته العين بالاغتسال منه. وقال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي : لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقا به. وقال الحكماء : ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة بل قد يكون التأثير نفسانيا محضا أو وهميا كما للماشي على الجذع ، أو تصوّريا كما في الحركات البدنية ، وقد يكون للنفوس خواص عجيبة تتصرف في غير أبدانها بحسبها فمنها المعجز ومنها السحر ومنها الإصابة بالعين. أما الجبائي وغيره ممن أنكر العين فقد قالوا : إن أولاد يعقوب اشتهروا بمصر وتحدث الناس بكمالهم وجمالهم وهيئتهم فلم يأمن يعقوب أن يخافهم الملك الأعظم على ملكه فيحبسهم. وقيل : إنه كان عالما بأن الملك ولده إلا أن الله تعالى لم يأمره بإظهاره وكان غرضه أن يصل بنيامين إليه في غيبتهم قاله إبراهيم النخعي. واعلم أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد والقدرة ولكنه بعد السعي البليغ يجب أن يعلم أن كل ما يدخل في الوجود فهو بقضاء الله وقدره وأن الحذر لا يغني عن القدر فلهذا قال يعقوب : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) فقوله الأوّل مبني على رعاية الأسباب والوسائط ، وقوله الثاني إلى آخر الآية إشارة إلى الحقيقة وتفويض الأمر بالكلية إلى مسبب الأسباب. وقد صدقه الله تعالى في ذلك بقوله : (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) قال ابن عباس : ما كان ذلك التفرق يردّ قضاء الله تعالى. وقال الزجاج وابن الأنباري : لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم عند الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم. وقال آخرون : ما كان يغني عنهم رأي يعقوب شيئا قط حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم وأخذ الأخ وتضاعف المصيبة على الأب (إِلَّا حاجَةً) استثناء منقطع أي ولكن حاجة (فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) وهي إظهار الشفقة والنصيحة ، أو الخوف من إصابة العين ، أو من حسد أهل مصر ، أو من قصد الملك. ثم مدحه الله تعالى بقوله : (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ) يعنى علمه بأن الحذر لا يدفع القدر (لِما عَلَّمْناهُ) «ما» مصدرية أو موصولة أي لتعليمنا إياه ، أو للذي علمناه. وقيل : العلم الحفظ والمراقبة. وقيل : المضاف محذوف أي لفوائد ما علمناه وحسن آثاره وإشارة إلى كونه عاملا بعلمه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) مثل علم يعقوب أو لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة في العلم. وقيل : المراد بأكثر الناس المشركون لا يعلمون أن الله تعالى كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة.

١٠٦

التأويل : لما تبين لملك الروح قدر يوسف القلب وأمانته وصدقه وحسن استعداده سعى في خلاصه من سجن صفات البشرية ليكون خالصا له في كشف حقائق الأشياء ، ولم يعلم أنه خلق لصلاح جميع رعايا مملكة روحانية وجسمانية. كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في جسد بني آدم مضغة : إن صلحت صلح بها سائر الجسد وإن فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب» (١). وللقلب اختصاص آخر بالله دون سائر المخلوقات قال سبحانه : «لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن». (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ) أرض الجسد فإن لله تعالى في كل عضو من الأعضاء خزانة من اللطف إن استعمله الإنسان فيما خلق ذلك العضو لأجله ، وخزانة من القهر إن استعمله في ضده (إِنِّي حَفِيظٌ) للخزائن (عَلِيمٌ) باستعمالها فيما ينفعها دون ما يضرها (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا) فيه أن إصابة اللطف من تلك الخزائن دون القهر موكولة إلى مشيئة الله تعالى. (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) وهم الأوصاف البشرية (فَعَرَفَهُمْ) يوسف القلب لأنه ينظر بنور الله (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) لبقائهم في الظلمة وحرمانهم عن النور. (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ) يشير إلى أن يوسف القلب لما التجأت إليه الأوصاف البشرية بدل صفاتها الذميمة النفسانية بالصفات الحميدة الروحانية ، فاستدعى منهم إحضار بنيامين السر لأن السر لا يحضر مع القلب إلا بعد التبديل المذكور ، وإذا حضر معه يوفى بأوفى الكيل ما لم يوف إلى الأوصاف البشرية (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) فيه أن البضاعة كل عمل من الأعمال البدنية التي تحيا بها الأوصاف البشرية إلى حضرة يوسف مردودة إليها ، لأن القلب مستغن عنها. وإنما الأوصاف البشرية محتاجة إليها لأن النفس تتأدب وتتزكى بها كما قال تعالى (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) [الإسراء : ٧] وأن تربية القلب بالأعمال القلبية كالنيات الصالحة ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نية المؤمن خير من عمله. وكالعزائم الخالصة والأخلاق الحميدة والتوكل والإخلاص. ثم قال : كمال تربية القلب بالتخلية وتجلي صفات الحق وصفات ذاته (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) من صفة الأمارية إلى المأمورية والاطمئنان فيستحق بجذبة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] (رُدَّتْ إِلَيْنا) فوائده ما ترجع إلى يوسف القلب (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) الأعضاء والجوارح نحصل لهم قوّة زائدة على الطاعة بواسطة رسوخ الملكة له (وَنَحْفَظُ أَخانا) من الحوادث النفسانية والوساوس الشيطانية (وَنَزْدادُ) بواسطة حضور السر عند القلب (كَيْلَ بَعِيرٍ) من الفوائد الربانية (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) لمن يسره الله (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) مع

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب : ٣٩. مسلم في كتاب المساقاة حديث : ١٠٧. ابن ماجه في كتاب الفتن باب : ١٤. الدارمي في كتاب البيوع باب : ١.

١٠٧

الفوائد الربانية (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) إلا أن يغالب عليكم الأحكام الأزلية (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) لا تتقربوا إلى القلب بنوع واحد من المعاملات فللأسباب مدخل في التقريب إلا أن الكل موكول إلى مسبب الأسباب.

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣))

القراآت : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالإضافة وبياء الغيبة في الفعلين : سهل ويعقوب. بالنون وبالتنوين : عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون : بالنون وعلى الإضافة. (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا) وبابه بالألف ثم الياء : أبو ربيعة عن البزي وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة. الباقون : بياء ثم همزة على الأصل (لِي أَبِي) بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وافق ابن كثير في أبي.

الوقوف : (يَعْمَلُونَ) ه (لَسارِقُونَ) ه (تَفْقِدُونَ) ه (زَعِيمٌ) ه (سارِقِينَ) ه (كاذِبِينَ) ه (فَهُوَ جَزاؤُهُ) ط (الظَّالِمِينَ) ه (مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) ط (لِيُوسُفَ)ط(يَشاءَ

١٠٨

اللهُ) ط لأن ما بعده مستأنف (نَشاءُ) ط (عَلِيمٌ) ه (مِنْ قَبْلُ) ط (مَكاناً) ج (تَصِفُونَ) ٥ (مَكانَهُ) ج الثلاثة لانقطاع النظم مع اتصال المعنى (الْمُحْسِنِينَ) ه عنده لا لتعلق «إذا» بما قبلها (لَظالِمُونَ) ه (نَجِيًّا) ط (يُوسُفَ) ط للابتداء بالنفي مع فاء التعقيب (يَحْكُمَ اللهُ لِي) ج لاحتمال ما بعده الابتداء أو الحال (الْحاكِمِينَ) ه (سَرَقَ) ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل (حافِظِينَ) ه (أَقْبَلْنا فِيها) ط لاختلاف الجملتين والابتداء بأنّ. (لَصادِقُونَ) ه (أَمْراً) ط (جَمِيلٌ) ط (جَمِيعاً) ط (الْحَكِيمُ) ه.

التفسير : روي أنهم لما أتوه بأخيهم بنيامين أنزلهم وأكرمهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة ، فبقي بنيامين وحده فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه. فقال يوسف : بقي أخوكم وحيدا فأجلسه معه على مائدته. ثم أمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتا وقال : هذا لا ثاني له فاتركوه معي فآواه إليه أي أنزله في المنزل الذي كان يأوي إليه ، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح. ولما رأى تأسفه لأخ هلك قال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال : من يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل. فبكى يوسف وقام إليه وعانقه و (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) قال وهب : أراد إني أقوم لك مقام أخيك في الإيناس وعدم التوحش. وقال ابن عباس وسائر المفسرين : أراد تعريف النسب لأن ذلك أقوى في إزالة الوحشة ولا وجه لصرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة (فَلا تَبْتَئِسْ) افتعال من البؤس الشدّة والضر أراد نهيه عن اجتلاب الحزن (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من دواعي الحسد والأعمال المنكرة التي أقدموا عليها. يروى أن بنيامين قال ليوسف : أنا لا أفارقك. فقال له يوسف : قد علمت اغتمام والدي بي فإذا حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن أنسبك إلى ما ليس يحسن. قال : أنا راض بما رضيت. قال : فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك أنك قد سرقته فذلك قوله سبحانه (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) والسقاية مشربة يسقى بها وهي الصواع كان يسقى بها الملك أو الدواب ثم جعلت صاعا يكال به. وكان مستطيلا من ذهب أو فضة مموهة بالذهب أو مرصعا بالجواهر أقوال (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) نادى مناد ومعناه راجع إلى الإيذان والإعلام إلا أن التشديد يفيد التكثير أو التصويت بالنداء (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) أراد أصحاب العير كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا خيل الله اركبي» والعير الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء. وقيل : هي قافلة الحمير كأنها جمع عير وأصلها «فعل» بالضم كسقف فأبدلت الضمة كسرة لأجل الياء كما في «بيض» ثم كثر في الاستعمال حتى قيل لكل قافلة عير. وهاهنا سؤال وهو أنه كيف جاز لنبي الله أن يرضى بنسبة قومه إلى السرقة وهم برآء؟ وأجاب العلماء بأنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم لأنهم لما لم يجدوا السقاية

١٠٩

غلب على ظنونهم أنهم أخذوها ، أو المؤذن ذكر ما ذكر على سبيل الاستفهام ، أو المراد أنهم سرقوا يوسف عليه‌السلام من أبيهم ، أو المراد أن فيكم سارقا وهو الأخ الذي رضي بذلك البهتان فلا ذنب لأن الخصم رضي بأن يقال في حقه ذلك. ثم إن إخوة يوسف (قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) قيل : صواع اسم للصاع والسقاية وصف (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ) أي بالصواع (حِمْلُ بَعِيرٍ) من طعام جعلا لمن حصله (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) كفيل هو من قول المؤذن وفيه أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم أيضا إذا كان معلوما فكأن حمل بعير كان عندهم شيئا معلوما كوسق مثلا إلا أن هذه كفالة مال لرد السرقة وهو كفالة ما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئا على رد السرقة ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم (قالُوا تَاللهِ) التاء مبدلة من الواو فضعفت عن التصرف في سائر الأسماء وجعلت فيما هو أحق بالقسم وهو اسم الله عزوجل. حلفوا على أمرين معجبين : أحدهما أنهم علموا أن إخوة يوسف ما جاءوا لأجل الفساد في الأرض بالنهب والغصب ونحو ذلك حتى روي أنهم دخلوا وأفواه دوابهم مشدودة خوفا من أن تتناول زرعا أو طعاما لأحد في الطرق والأسواق ، وكانوا مواظبين على أنواع الطاعات ورد المظالم حتى حكي أنهم ردوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم. وثانيهما أنهم ما وصفوا قط بالسرقة. (قالُوا) أي أصحاب يوسف : (فَما جَزاؤُهُ) قال في الكشاف : الضمير للصواع والمضاف محذوف أي فما جزاء سرقته إن كنتم من الكاذبين في جحودكم وادعائكم البراءة؟ قلت : ويحتمل أن يعود إلى السارق ، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة فلذلك استفتوا في الجزاء حتى (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) أي جزاؤه الرق. قال الزجاج : وقوله (فَهُوَ جَزاؤُهُ) زيادة في البيان أي فأخد السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كما يقال حق السارق القطع جزاؤه لتقرر ما ذكر من استحقاقه ، ويجوز أن يكون مبتدأ وباقي الكلام جملة شرطية مرفوعة المحل بالخبرية على أن الأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو ليكون الضمير الثاني عائد إلى المبتدأ والأول إلى «من» ولكنه وضع المظهر مقام المضمر للتأكيد والمبالغة. وجوز في الكشاف أن يكون (جَزاؤُهُ) خبر مبتدأ محذوف أي المسئول عنه جزاؤه ، ثم أفتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه. أما قوله : (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) فيحتمل أن يكون من بقية كلام إخوة يوسف وأن يكون من كلام أصحاب يوسف والله أعلم. ثم قال لهم المؤذن ومن معه : لا بد من تفتيش أوعيتكم فانصرف بهم إلى يوسف (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) لنفي التهمة والوعاء كل ما إذا وضع فيه شيء أحاط به.

١١٠

قال قتادة : كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثما مما قذفهم به حتى إذا لم يبق إلا أخوه قال : ما أظن هذا أخذ شيئا. فقالوا : والله لا تتركه حتى تنظر في رحله فنظر. (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث. (مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) فأخذوا برقبته وحكموا برقيته. ثم قال سبحانه (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الكيد العظيم (كِدْنا لِيُوسُفَ) يعني علمناه إياه وأوحينا به إليه. والكيد مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة ونهايته إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر به في أمر مكروه ولا سبيل إلى دفعه ، وقد سبق فيما تقدم أن أمثال هذه الألفاظ في حقه تعالى محمولة على النهايات لا على البدايات. وما هذا الكيد؟ قيل : هو أن إخوة يوسف سعوا في إبطال أمره والله تعالى نصره وقواه. وقيل : الكيد يستعمل في الخير أيضا والمعنى كفعلنا بيوسف من الإحسان إليه ابتداء فعلنا به انتهاء. وقيل : تفسير هذا الكيد هو قوله : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) لأن حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم مثلي ما سرق فما كان يوسف قادرا على حبس أخيه بناء على دين الملك وحكمه. ومعنى (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) هو أن الله كاد له فأجرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق حتى توصل بذلك إلى أخذ أخيه ، وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى بعض الأغراض الدينية والدنيوية. ثم مدحه على الهداية إلى هذه الحيلة كما مدح إبراهيم على ما حكى عنه من دلائل التوحيد والبراءة من إلهية الكوكب ثم القمر ثم الشمس فقال : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) فوقه أرفع درجة منه في علمه. ثم إن أطلق على الله تعالى أنه ذو علم كان هذا العام مخصوصا لأنه لا عليم فوقه ، وإن قيل : إنه عالم بلا علم كما يقوله بعض المعتزلة كان النص باقيا على عمومه ، وإن قلنا إن الكل بمعنى المجموع كان المعنى وفوق جميع العلماء عليم هم دونه في العلم وهو الله تعالى. والميل إلى هذا التفسير لأن قوله : (لَذُو عِلْمٍ) مشعر بكون علمه زائدا على حقيقته ووصفه تعالى عين ذاته ، وفي هذا البحث طول وفي الرمز كفاية. يروى أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء وأقبلوا عليه وقالوا له : ما الذي صنعت ففضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل ، ما يزال لنا منكم بلاء متى أخذت هذا الصاع؟ فقال : بنو راحيل هم الذين لا يزال منكم عليهم البلاء ، ذهبتم بأخي فأهلكتموه ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم فعند ذلك (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) عنوا به يوسف. واختلف في تلك السرقة فعن سعيد بن جبير أن جده أبا أمه كان يعبد الوثن فأمرته أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادتها. وقيل : سرق عناقا من أبيه أو دجاجة ودفعها إلى مسكين. وقيل : كانت لإبراهيم عليه‌السلام منطقة يتوارثها أكابر ولده فورثها إسحق

١١١

ثم وقعت إلى ابنته عمة يوسف فحضنت يوسف إلى أن شب فأراد يعقوب أن ينتزعه منها وكانت تحبه حبا شديدا فشدت المنطقة على يوسف تحت ثيابه ثم زعمت أنه قد سرقها ، وكان في شرعهم استرقاق السارق فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها. وقيل : إنهم كذبوا عليه وبهتوه حسدا وغيظا. (فَأَسَرَّها يُوسُفُ) قال الزجاج وغيره : الضمير يعود إلى الكلمة أو الجملة كأنه قيل : فأسر الجملة في نفسه ولم يبدها لهم ، ثم فسرها بقوله : (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) والمعنى أنه قال هذه الجملة على سبيل الخفية. وطعن الفارسي في هذا الوجه فقال : إن هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل ، والحق أن القرآن حجة على غيره. وقيل : الضمير عائد إلى الإجابة أي أسر يوسف إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر. وقيل : يعود إلى المقالة أو السرقة أي لم يبين يوسف أن تلك السرقة كيف وقعت وأنه ليس فيها ما يوجب الذم والعار. وعن ابن عباس أنه قال : عوقب يوسف ثلاث مرات : عوقب بالحبس لأجل همه بها ، وبالحبس الطويل لقوله : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) وبقولهم : (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) لقوله : (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) ومعنى (شَرٌّ مَكاناً) شر منزلة لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم على التحقيق وقلتم أكله الذئب (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) المراد أنه يعلم أني لست بسارق في التحقيق ولا أخي ، أو الله أعلم بأن الذي وصفتموه هل يوجب ذما أم لا.

قال ابن عباس : لما قال يوسف هذا القول غضب يهوذا وكان إذا غضب وصاح لم تسمع صوته حامل إلا وضعت وقام شعره على جلده فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه. فقال لبعض إخوته : اكفوني أسواق أهل مصر وأنا أكفيكم الملك فقال يوسف لابن صغير له : مسه فمسه فذهب غضبه وهم أن يصيح فركض يوسف رجله على الأرض ليريه أنه شديد وجذبه فسقط فعند ذلك (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) في السن أو في القدر وهو أحب إليه منا (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) استعبادا أو رهنا حتى نبعث الفداء إليك فلعل العفو أو الفداء كان جائزا أيضا عندهم (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) لو فعلت ذلك أو من المحسنين إلينا بأنواع الكرامة ورد البضاعة إلى رحالنا أو أرادوا الإحسان إلى أهل مصر حيث أعتقهم بعد ما اشترى رقابهم بالطعام (قالَ) يوسف (مَعاذَ اللهِ) من (أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً) أي إذا أخذنا غيره (لَظالِمُونَ) في مذهبكم لأن استعباد غير من وجد الصواع في رحله ظلم عندكم ، أو أراد إن الله أمرني وأوحى إليّ بأخذ بنيامين فلو أخذت غيره كنت عاملا بخلاف الوحي (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) حيث لم يقبل الشفاعة أي يئسوا والزيادة للمبالغة. (خَلَصُوا) اعتزلوا عن الناس خالصين لا يخالطهم غيرهم (نَجِيًّا) مصدر والمضاف محذوف أي ذوي نجوى ، أو المراد أنهم

١١٢

التناجي في أنفسهم لاستجماعهم بذلك واندفاعهم فيه بجد واهتمام كما يقال : رجل جور ورجال عدل ، أو صفة لموصوف محذوف أي فوجا نجيا بمعنى مناجيا بعضهم لبعض كالعشير بمعنى المعاشر. وفيم كان تناجيهم؟ الجواب في تدبير أمرهم على أيّ وجه يذهبون وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم فعند ذلك (قالَ كَبِيرُهُمْ) في السن وهو روبيل ، أو في القدر وهو شمعون لأنه كان رئيسهم ، أو في العقل والرأي وهو يهوذا. وقوله : (ما فَرَّطْتُمْ) إما أن تكون «ما» صلة أي ومن قبل هذا قصرتم (فِي) شأن (يُوسُفَ) ولم توفوا بعهدكم أباكم ، وإما أن تكون مصدرية محله الرفع على الابتداء وخبره بالظرف تقديره ومن قبل تفريطكم أي وقع من قبل تقصيركم في حقه ، أو النصب عطفا على مفعول ألم تعلموا كأنه ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا وتفريطكم من قبل ، وإما أن تكون موصولة بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي قدمتموه في شأن يوسف من الجناية والخيانة ومحل الموصول الرفع أو النصب على الوجهين. (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) فلن أفارق أرض مصر (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) في الانصراف (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) بالخروج منها أو بالانتصاف من أخذ أخي أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب.

ثم إنه بقي ذلك الكبير في مصر وقال لغيره من الإخوة : (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) قاله بناء على ما شاهد من استخراج الصواع من وعائه ، أو أراد أنه سرق في قول الملك وأصحابه كقول قوم شعيب (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : ٨٧] أي في زعمك واعتقادك ، أو المراد إن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة. وإطلاق اسم أحد الشبيهين على الآخر جائز أو القوم ما كانوا حينئذ أنبياء فلا يبعد منهم الذنب. وعن ابن عباس أنه قرأ (سَرَقَ) مشددا مبنيا للمفعول أي نسب إلى السرقة. وعلى هذا فلا إشكال ، ومما يدل على أنهم بنوا الأمر على الظاهر قوله (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) أي إلا بقدر ما تيقناه من رؤية الصواع في وعائه (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ) للأمر الخفي (حافِظِينَ) فإن الغيب لا يعلمه إلا الله. وعن عكرمة أن الغيب الليل معناه لعل الصواع دس في رحله بالليل من حيث لا يشعر ، أو ما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق قاله مجاهد والحسن وقتادة ، أو ما علمنا أنا إذا قلنا إن شرع بني إسرائيل هو استرقاق السارق أخذ أخونا بتلك الحيلة. ثم بالغوا في إزالة التهمة فقالوا : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) الأكثرون على أنها مصر. وقيل : قرية على باب مصر وقع فيها التفتيش أي أرسل إلى أهلها فاسألهم عن كنه القصة (وَ) اسأل أصحاب (الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) وكانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب. وقيل : قوما من أهل صنعاء. وقال ابن الأنباري : إن يعقوب كان من أكابر الأنبياء فلا يبعد أن يحمل سؤال القرية على الحقيقة بأن ينطق الله الجمادات لأجله معجزة ، فالمراد اسأل

١١٣

القرية والعير والجدران والحيطان فإنها تجيبك بصحة ما ذكرنا. وقيل : إن الشيء إذا ظهر ظهورا تاما فقد يقال سل عنه السماء والأرض وجميع الأشياء ويراد إنه ليس للشك فيه مجال. ثم زادوا في تأكيد نفي التهمة قائلين (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) وليس غرضهم إثبات صدقهم فإن ذلك يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه ولكن الإنسان إذا ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده أنا صادق فتأمل فيما ذكرته ليزول عنك الشك. وهاهنا إضمار التقدير فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم فعند ذلك : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) وقد مر تفسيره في أول السورة. ولكن المفسرين زادوا شيئا آخر فقيل : المراد أنه خيل إليكم أنه سرق وما سرق. وقيل : أراد سوّلت لكم أنفسكم إخراج بنيامين والمصير به إلى مصر طلبا للمنفعة فعاد من ذلك شر وضرر وألححتم عليّ في إرساله معكم ولم تعلموا أن قضاء الله ربما جاء على خلاف تقديركم. وقيل : أراد فتواهم وتعليمهم وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته. واعترض على هذا القول بأنه كيف يجوز على يعقوب السعي في إخفاء حكم الله تعالى؟ وأجيب بأن ذلك الحكم لعله كان مخصوصا بما إذا كان المسروق له مسلما وكان الملك في ظن يعقوب كافرا ، ولما طال بلاؤه ومحنته علم بحسن الظن والرجاء أنه سبحانه سيجعل له فرجا ومخرجا عما قريب ، أو لعله علم بالوحي أن يوسف حي وكان بنيامين والكبير الذي قال : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) قد بقيا في مصر فلذلك قال : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ) أي بالثلاثة الغائبين (جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بحالي (الْحَكِيمُ) في كل ما يفعله من الابتلاء والإبلاء.

التأويل : لما دخل الأوصاف البشرية ومعهم السر (عَلى يُوسُفَ) القلب (آوى) القلب السر (إِلَيْهِ) لأنه أخوه الحقيقي بالمناسبة الروحانية (فَلا تَبْتَئِسْ) إذا وصلت بي (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) معك في مفارقتي لأن السر مهما كان مفارقا من قلب مقارنا للأوصاف كان محروما عن كمالات هو مستعد لها (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ) جهز القلب الأوصاف بما يلائم أحوالها (جَعَلَ السِّقايَةَ) وهي مشربة كان منها شربه (فِي رَحْلِ أَخِيهِ) لأنهما رضيعا لبان واحد (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) سرقتم في الأول يوسف القلب وشريتموه بثمن بخس من متاع الدنيا وشهواتها ، وسرقتم في الآخر مشربة ليست من مشاربكم ، وفيه أن من ادعى الشرب من مشارب الرجال وهو طفل بعد أخذ بالسرقة واستردت منه (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) من علف الدواب ومراتع الحيوانات لأنه ليس مستحقا للشرب من مشارب الملوك (لَقَدْ عَلِمْتُمْ) أنا من المقبولين المقبلين على يوسف القلب لا نريد الإفساد في أرض الدنيا كما قالت الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] (وَما كُنَّا سارِقِينَ) إذ

١١٤

أخذنا يوسف القلب وألقيناه في غيابة الجب البشرية بل سعينا في أن ينال مملكة مصر العبودية ليكون عزيزا فيها ونحن أذلاء له (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) أي لكل شارب مشرب ولكل شرب فدية. ففدية الشارب من مشرب الدنيا صنعته وحرفته وكسبه ، وفدية الشارب من مشرب الآخرة الدنيا وشهواتها ، وفدية الشارب من شرب المحبة بذل الوجود (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) الذين وضعوا صواع الملك في غير موضعه طمعا في أن يكونوا حريف الملك وشريبه (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي كما كاد الأوصاف البشرية في الابتداء بيوسف القلب إذ ألقوه في جب البشرية كدنا بهم عند قسمة الأقوات من خزانة الملك فجعلنا قسمتهم من مراتع الحيوانات يأكلون كما تأكل الأنعام ، وقسمة بنيامين السر من مشربة الملك. (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ) آتيناه علم الصعود (عَلِيمٌ) بجذبه من المصعد الذي يصعد إليه بالعلم المخلوق إلى مصعد لا يصعد إليه إلا بالعلم القديم وهو السير في الله بالله إلى الله ، وهذا صواع لا تسعه أوعية الإنسانية (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) فيه إشارة إلى السر والقلب مع أنهما مخصوصان بالحظوظ الأخروية والروحانية فإنهما قابلان للاسترقاق من الشهوات الدنياوية والنفسانية. ولما رأت الأوصاف البشرية عزة القلب وعرفت اختصاص البشرية أرادت أن تفدي نفسها وسيلة إلى يعقوب الروح فقالت : (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ قالَ مَعاذَ اللهِ) أن نقبل بالصحبة والمخالطة (إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا) من الصدق والمحبة والإخلاص عنده أي لا تكون صحبتنا بالكراهية والنفاق وإنما تكون بعلة الجنسية (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا) من صحبة القلب (خَلَصُوا) عن الأوصاف الذميمة للتناجي (قالَ كَبِيرُهُمْ) هو العقل ألم تعلموا أن أباكم وهو الروح (قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) يوم الميثاق أن لا تعبدوا إلا الله (فَلَنْ أَبْرَحَ) أرض فناء القلب وهي الصدر. والحاصل أن صفة العقل لما تخلصت عن الأوصاف البشرية خرجت عن أوامر النفس وتصرفاتها وصارت محكومة لأوامر الروح مستسلمة لأحكام الحق. (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ) الروح على أقدام العبودية وتبديل الأخلاق (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) لأنه وجد في رحله مشربة المحبة التي بها يكال الحب على وفده. (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ) عند ارتحالنا من الغيب إلى الشهادة (حافِظِينَ) لأنه جعل السقاية في رحله في غيبتنا. (وَسْئَلِ) أهل مصر الملكوت وأرواح الأنبياء والأولياء (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ) فيه أن للنفس تزيينات وللأوصاف البشرية خيالات يتأذى بها يعقوب الروح لكن عليه أن يصبر على إمضاء أحكام الله وتنفيذ قضائه (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي) فيه أن متولدات الروح من القلب والأوصاف وغيرها وإن تفرقوا وتباعدوا عن الروح في الجسد للاستكمال فإن الله بجذبات العناية يجمعهم في مقعد صدق عنده مليك مقتدر (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بافتراقهم (الْحَكِيمُ) بما في التفريق والجمع من الفوائد.

١١٥

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١))

القراآت : (مُزْجاةٍ) بالإمالة : حمزة وعلي وخلف (حُزْنِي) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو. قالوا إنك على الخبر أو على حذف حرف الاستفهام : ابن كثير ويزيد. (أَإِنَّكَ) بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وهشام يدخل بينهما مدة. أينك بهمز ثم ياء : نافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد آينك بهمزة ممدودة ثم ياء : أبو عمرو وزيد وقالون. من يتقي بالياء في الحالين : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل. الباقون بغير ياء (إِنِّي أَعْلَمُ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو

١١٦

عمرو (رَبِّي إِنَّهُ) بالفتح أيضا : أبو جعفر وأبو عمرو أبي إذ بالفتح أيضا عندهم (إِخْوَتِي) ربي بفتح الياء أيضا : يزيد والنجاري عن ورش وقالون غير الحلواني والله أعلم.

الوقوف : (كَظِيمٌ) ه (الْهالِكِينَ) ه (لا تَعْلَمُونَ) ه (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) ط (الْكافِرُونَ) ه (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) ط (الْمُتَصَدِّقِينَ) ه (جاهِلُونَ) ه (لَأَنْتَ يُوسُفُ) ط (أَخِي) ز لتعجيل الشكر مع اختلاف الجملتين. (عَلَيْنا) ط لاحتمال أنه ابتداء إخبار من الله ، وإن كان من قول يوسف جاز الوقف أيضا لاتحاد القائل مع الابتداء بأن (الْمُحْسِنِينَ) ه (لَخاطِئِينَ) ه (الْيَوْمَ) ط لاختلاف الجملتين نفيا وإثباتا أو خبرا ودعاء (لَكُمْ) ط لاحتمال الاستئناف والحال أوضح (الرَّاحِمِينَ) ه (يَأْتِ بَصِيراً) ج لطول الكلام واعتراض الجواب مع اتفاق الجملتين (أَجْمَعِينَ) ه (تُفَنِّدُونِ) ه (الْقَدِيمِ) ه (بَصِيراً) ج لاحتمال أن يكون ما بعده جواب «لما» وقوله (أَلْقاهُ) حالا بإضمار «قد» (ما لا تَعْلَمُونَ) ه (خاطِئِينَ) ه (رَبِّي) ط (الرَّحِيمُ) ه (آمِنِينَ) ه (سُجَّداً) ج (مِنْ قَبْلُ) ز لتمام الجملة لفظا دون المعنى. (حَقًّا) ط لتمام بيان الجملة الأولى وابتداء جملة عظمى (إِخْوَتِي) ط (لِما يَشاءُ) ط (الْحَكِيمُ) ه (الْأَحادِيثِ) ج لحق حذف حرف النداء مع اتصال الكلام (وَالْآخِرَةِ) ج لانقطاع النظم مع اتصال الثناء بالدعاء (بِالصَّالِحِينَ) ه.

التفسير : لما سمع يعقوب ما سمع من حال ابنه ضاق قلبه جدا (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي أعرض عن بنيه الذين جاءوا بالخبر وفارقهم (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) الأسف أشد الحزن. والألف فيه مبدل من ياء الإضافة ونداء الأسف كنداء الويل وقد مر في المائدة. والتجانس بين لفظي الأسف ويوسف لا يخفى حسنه وهو من الفصاحة اللفظية. وكيف تأسف على يوسف دون أخيه الآخر الذي أقام بمصر والرزء الأحدث أشد؟ الجواب لأن الحزن الجديد يذكر العتيق والأسى يجلب الأسى ، ولأن رزء يوسف كان أصل تلك الرزايا فكان الأسف عليه أسفا على الكل ولأنه كان عالما بحياة الآخرين دون حياة يوسف (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي من البكاء الذي كان سببه الحزن. قال الحكماء : إذا كثر الاستعبار أوجب كدورة في سواد العين مائلة فيكون منها العمى لإيلام الطبقات ولا سيما القرينة وانصباب الفضول الردية إليها. قال مقاتل : لم يبصر ست سنين حتى كشفه الله تعالى بقميص يوسف. وقال آخرون : لم يبلغ حد العمى وكان يدرك إدراكا ضعيفا ، أو المراد بالبياض غلبة البكاء كأن العين ابيضت من بياض ذلك الماء. روي أنه لم تجف عين

١١٧

يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سأل جبريل ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟ وجد سبعين ثكلى. قال : فما كان له من الأجر؟ قال : أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله ساعة قط. ونقل أن جبريل عليه‌السلام دخل على يوسف حين ما كان في السجن فقال : إن بصر أبيك ذهب من الحزن عليك. فوضع يوسف يده على رأسه وقال : ليت أمي لم تلدني فلم أكن حزنا على أبي ، قال أكثر أهل اللغة : الحزن والحزن لغتان بمعنى. وقال بعضهم : الحزن بالضم فالسكون البكاء ، والحزن بفتحتين ضد الفرح. وقد روى يونس عن أبي عمرو قال : إذا كان في موضع النصب فتحوا كقوله (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً) [التوبة : ٩٢]. وإذا كان في موضع الجر أو الرفع ضموا كقوله من الحزن. وقوله : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) قال : هو في موضع رفع بالابتداء. قيل : كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟ وأجيب بأن المنهي من الجزع هو الصياح والنياحة وضرب الخد وشق الثوب لا البكاء ونفثة المصدور ، فلقد بكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ولده إبراهيم وقال : القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون. ومما يدل على أن يعقوب عليه‌السلام أمسك لسانه عن النياحة وعما لا ينبغي قوله : (فَهُوَ كَظِيمٌ) «فعيل» بمعنى «مفعول» أي مملوء من الغيظ على أولاده من غير إظهار ما يسوءهم ، أو مملوء من الحزن مع سد طريق نفثة المصدور من كظم السقاء إذا شده على ملئه ، أو بمعنى الفاعل أي الممسك لحزنه غير مظهر إياه. والحاصل أنه غرق ثلاثة أعضاء شريفة منه في بحر المحنة : فاللسان كان مشغولا بذكر (يا أَسَفى) والعين كانت مستغرقة في البكاء ، والقلب كان مملوءا من الحزن. ومثل هذا إذا لم يكن بالاختيار لم يدخل تحت التكليف فلا يوجب العقاب. يروى أن ملك الموت دخل على يعقوب فقال له : جئتني لتقبضني قبل أن أرى حبيبي؟ قال : لا ولكن جئت لأحزن لحزنك وأشجو لشجوك. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم تعط أمة من الأمم (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) عند المصيبة إلا أمة محمد ، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وإنما قال يا أسفا» وضعف هذه الرواية فخر الدين الرازي في تفسيره وقال : من المحال أن لا تعرف أمة من الأمم أن الكل من الله وأن الرجوع لا محالة إليه. وأقول : هذا نوع من المكابرة فإن منكري المبدأ والمعاد أكثر من حصباء الوادي ، على أن المراد من الإعطاء الإرشاد إلى هذا الذكر وخصوصا عند المصيبة وقد أخبر الصادق عليه‌السلام أن هذا مما خصت هذه الأمة به والله أعلم. (قالُوا) الأظهر أنهم ليسوا أولاده الذين تولى عنهم وإنما هم جماعة كانوا في الدار من خدمه وأولاد أولاده. (تَاللهِ تَفْتَؤُا) أراد «لا تفتؤ» فحذف حرف النفي

١١٨

لعدم الإلباس إذ لو كان إثباتا لم يكن بد من اللام والنون. قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة : أي لا تزال تذكر. وعن مجاهد : لا تفتر من حبه كأنه جعل الفتور والفتوء أخوين. قال أبو زيد : ما فتئت أذكره أي ما زلت لا يتكلم به إلا مع الجحد (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) وصف بالمصدر للمبالغة. والحرض فساد في الجسم والعقل للحزن والحب حتى لا يكون كالأحياء ولا كالأموات ، أرادوا أنك تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تشفى على الهلاك أو تهلك فأجابهم بقوله : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) قالت العلماء : إذا أسر الإنسان حزنه كان هما ، وإذا لم يقدر على إسراره فذكر لغيره كان بثا. فالبث أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلى الناس. فمعنى الآية إني لا أذكر الحزن الشديد ولا القليل إلا مع الله ملتجئا إليه وداعيا له فخلوني وشكايتي. وهذا مقام العارفين الصديقين كقول نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعوذ بك منك». ويحتمل أن يكون هذا معنى توليه عنهم أي تولى عنهم إلى الله والشكاية إليه.

يحكى أنه دخل على يعقوب رجل وقال له : ضعف جسمك ونحف بدنك وما بلغت سنا عاليا. فقال : الذي بي لكثرة غمومي. فأوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟ فقال : يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي فغفر له. فكان بعد ذلك إذا سأل قال : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) وروي أنه أوحي إلى يعقوب إنما وجدت ـ أي غضبت ـ عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء ثم المساكين فاصنع طعاما وادع عليه المساكين. وقيل : اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت. واعلم أن حال يعقوب في تلك الواقعة كانت مختلفة ؛ فتارة كان مستغرقا في بحار معرفة الله ، وتارة كان يستولي عليه الحزن والأسف فلهذا كانت هذه الحادثة بالنسبة إليه كإلقاء إبراهيم في النار ، وكابتلاء إسحق بالذبح ، وكان شغل همه بيوسف بغير اختيار منه ، وكذا تأسفه عليه ، وما روي أنه عوتب على ذلك فلأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وبالحقيقة كانت واقعة يعقوب أمرا خارق العادة أراد الله تعالى بذلك ابتلاءه وتمادي أسفه وحزنه وإلا فمع غاية شهرته وشدة محبته وقرب المسافة بينه وبين ابنه كيف خفي حال يوسف ولم لم يبعث يوسف إليه رسولا بعد تملكه وقدرته ، ولم زاد في حزن أبيه بحبس أخيه عنده؟! أما قوله : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فمعناه أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون ، فأرجو أن يأتيني الفرج من حيث لا أحتسب. وقيل : إنه رأى ملك الموت في المنام فقال له : يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال : لا يا نبي الله. ثم أشار إلى جانب مصر وقال : اطلبه هاهنا. وقيل : إنه كان

١١٩

قد رأى أمارات الرشد والكمال في يوسف فعلم أن رؤياه صادقة لا تخطىء. وقال السدي : أخبره بنوه بسيرة الملك وكمال حاله في أقواله وأفعاله أنه ابنه ، أو علم أن بنيامين لا يسرق وسمع أن الملك ما آذاه فغلب على ظنه أن الملك هو يوسف. وقيل : أوحى الله تعالى إليه أنه سيلقى ابنه ولكنه ما عين الوقت فلذلك قال ما قال. ثم دعا بنيه على سبيل التلطف فقال : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ) وهو طلب الشيء بالحاسة كالتسمع والتبصر ومثله التجسس بالجيم. وقد قرىء بهما وربما يخص الجيم بطلب الخبر في ضد الخير (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) من فرجه وتنفيسه وقرىء بالضم أي من رحمته التي تحيا بها العباد. قال الأصمعي : الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه ، والتركيب يدل على الحركة والهزة فكل ما تهتز بوجوده وتلتذ به فهو روح (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) لأن هذا اليأس دليل على أنه اعتقد أن الله تعالى غير قادر على كل المقدورات ، أو غير عالم بجميع المعلومات ، أو ليس بجواد مطلق ولا حكيم لا يفعل العبث ، وكل واحدة من هذه العقائد كفر فضلا عن جميعها اللهم إني لا أيأس من روحك فافعل بي ما أنت أهله. ثم هاهنا إضمار والتقدير فقبلوا وصية أبيهم وعادوا إلى مصر (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) أي الملك القادر المنيع (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) الفقر والحاجة إلى الطعام وعنوا بأهلهم من خلفهم (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها من أزجيته إذا دفعته قال سبحانه (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) [النور : ٤٣] ومنه قولهم : «فلان يزجي العيش» أي يدفع الزمان بالقليل. قال الكلبي : هي من لغة العجم. وقيل : لغة القبط. والأصح أنها عربية لوضوح اشتقاقها. قيل : كانت بضاعتهم الصوف والسمن. وقيل : الصنوبر والحبة الخضراء. وقيل : سويق المقل والأقط. وقيل : دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بنقص لأنها لم يكن عليها صورة يوسف وكانت دراهم مصر ينقش عليها صورته. (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) الذي هو حقنا. (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) واعلم أنهم طلبوا المسامحة بما بين الثمنين وأن يسعر لهم بالرديء كما يسعر بالجيد. واختلف العلماء في أنه هل كان ذلك منهم طلب الصدقة؟ فقال سفيان بن عيينة : إن الصدقة كانت حلالا على الأنبياء سوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال آخرون : أرادوا بالصدقة التفضل بالإغماض عن رداءة البضاعة وبإيفاء الكيل والصدقات محظورة على الأنبياء كلهم. وقوله : (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) يمكن تنزيله على القولين لأن كل إحسان يبتغى به وجه الله فإن ذلك لا يضيع عنده والصدقة العطية التي ترجى بها المثوبة عند الله ومن ثم لم يجوز العلماء أن يقال : الله تعالى متصدق أو اللهم تصدق علي بل يجب أن يقال : اللهم أعطني أو تفضل علي أو ارحمني.

١٢٠