تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

وقيل : إن ألم النفس أشد من ألم البدن ، فلم قدم دفع ألم البدن على دفع ألم القلب؟ وأجيب بأن الخوف النفسي كان قليلا لتقدم بشارة جبريل فكان التذكر كافيا (فَإِمَّا تَرَيِنَ) أصله ترأيين مثل تسمعين خففت الهمزة وسقطت نون الإعراب للجزم ثم ياء الضمير للساكنين وذلك بعد لحوق نون التأكيد وقد مر في قوله : و (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) [الإسراء : ٢٣] إذا لتأكيد هذه الصورة يقصد به أن الشرط مما سيقع غالبا فإن مريم لا بد أن ترى أحد من البشر عادة. عن أنس بن مالك : الصوم هنا الصمت. وعن ابن عباس مثله. وقال أبو عبيدة : كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم. وقيل : أراد الصيام إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم. قال القفال : لعل مثل هذا النذر يجوز في شرعنا لأن الاحتراز عن كلام البشر يجرد الفكر لذكر الله تعالى وهو قربة ، ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق والتشديد ولا حرج في الإسلام. وفي الكشاف : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صوم الصمت. وروي أنه دخل أبو بكر الصديق على امرأة وقد نذرت أنها لا تتكلم فقال أبو بكر : إن الإسلام هدم هذا فتكلمي. وفي أمرها بهذا النذر معنيان : أحدهما أن كلام عيسى أقوى في إزالة التهمة وفيه أن تفويض الأمر إلى الأفضل أولى ، والثاني أن السكوت عن جدال السفهاء أصون للعرض ومن أذل الناس سفيه لم يجد مشافها. وكيف أخبرتهم بالنذر؟ قيل : بالإشارة وإلا لزم النقض. وقيل : خص هذا الكلام بالقرينة العقلية. وقوله : (إِنْسِيًّا) أراد المبالغة في نفي الكلام أو أراد أني أكلم الملائكة دون الإنس وهذا أشبه بقوله : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ). (فَأَتَتْ بِهِ) أي بعيسى (قَوْمَها تَحْمِلُهُ) الجملة حال. عن وهب : قال أنساها كربة الميلاد وما سمعت من الناس ما كان من بشارة الملائكة ، فلما كلمها جاءها مصداق ذلك فاحتملته فأقبلت به إلى قومها. وعن ابن عباس : أن يوسف النجار انتهى بمريم إلى غار فلبثوا فيه أربعين يوما حتى طهرت من نفاسها ، ثم جاءت تحمله فكلمها عيسى في الطريق فقال : يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه. فلما دخلت به على قومها تباركوا وقالوا : (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) بديعا من فرى الجلد ، وليس في هذا ما يوجب تعييرا أو ذما لأن أمرها كان خارجا عن المعتاد ، ويحتمل أن يراد إنه أمر منكر خارج عن طريق العفة والصلاح فيكون توبيخا ويؤكده قولهم : (يا أُخْتَ هارُونَ) الآية.

واختلفوا في هارون فقيل : كان أخاها من أبيها من أمثل بني إسرائيل وهذا أظهر لأن حمل اللفظ على الحقيقة أولى من غيره. وقيل : يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم عنوا هارون النبي أخا موسى عليهما‌السلام وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة

٤٨١

الأخوة وبينهما ألف سنة وأكثر. وعن السدي : كانت من أولاده والمراد أنها واحدة منهم كما يقال يا أخا همدان أي يا واحدا منهم. وقيل : أرادوا رجلا صالحا في زمانها أي كنت عندنا مثله في الصلاح. ويحكى أنه تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمى هارون تبركا به وباسمه. وقيل : كان رجلا طالحا معلنا بالفسق فسموها به وبالتشبيه بسيرته. ويروى أنهم هموا برجمها (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) أي أن عيسى هو الذي يحكم. وبم عرفت ذلك؟ إما بأن كلمها في الطريق أو بالإلهام أو بالوحي إلى زكريا أو يقول جبريل على أن أمرها بالسكوت بعد ما سبق من البشارة قيل : كان المستنطق لعيسى زكريا. وعن السدي : لما أشارت إليه غضبوا وقالوا لسخريتها بنا أشد علينا من زناهم ثم (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ) قال جار الله : «كان» لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح للقريب والبعيد ، وهاهنا للزمان القريب عن الحال بدلالة الحال ، أو هو حكاية حال ماضية أي كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس (صَبِيًّا) في المهد حتى تكلم هذا ، ويحتمل أن يقال : «كان» زائدة نظرا إلى أصل المعنى وإن كان يفيد زيادة ارتباط مع رعاية الفاصلة ، أو هي تامة (صَبِيًّا) حال مؤكدة. يروى أنه كان يرضع فلما سمع مقالتهم ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه وتكلم مع جاره وأشار بسبابته قائلا : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) فكان فيه أوّلا رد قول النصارى : (آتانِيَ الْكِتابَ) هو الإنجيل والتوراة أي فهمها. وقيل : أكمل الله عقله واستنبأه طفلا بل في بطن أمه. وقيل : أراد أنه سبق في قضائه ، أو جعل الآتي لا محالة كأنه قد وجد والأول أظهر وصغر الجسم لا مدح في كمال العقل وخرق العادة فيه أكذا قالوا إن كمال عقله في ذلك الوقت خارق للعادة. فيكون المعجز متقدما على التحدي وهو غير جائز ولو كان نبيا في ذلك الوقت وجب أن يشتغل ببيان الشرائع والأحكام ولو وقع ذلك لاشتهر ونقل. والجواب أن بعض معجزات النبي لا بد أن يكون مقرونا بالتحدي ، أما الكل فممنوع ، وبعبارة أخرى لا بد أن يكون مقرونا بفعل خارق عن العادة ، ولكن كل فعل خارق للعادة فإنه لا يلزم اقترانه بالتحدي ، وكذا الكلام في بيان الشرائع فإن بعض أوقات النبي لا بد أن يقترن به التحدي دون كل أوقاته وحالاته ، على أنه أشار إلى بعض التكاليف بقوله : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) كما يجيء. وعن بعضهم أنه كان نبيا لقوله : (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) ولكنه ما كان رسولا لأنه ما جاء بالشريعة في ذلك الوقت ومعنى كونه نبيا أنه رفيع القدر عليّ الدرجة ، وضعف بأن النبي في عرف الشرع أخص من ذلك. ومعنى قوله : (مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) نفاعا حيثما كنت روي ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل معلما للخير ، وضلال كثير من أهل الكتاب باختلافهم فيه لا يقدح في منصبه كما قيل :

٤٨٢

عليّ نحت القوافي من معادنها

وما عليّ إذا لم تفهم البقر

وهذه سنة الله في أنبيائه ورسله كلهم (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) [الفرقان : ٣١] يروى أن مريم سلمت عيسى إلى المكتب فقالت للمعلم : أدفعه إليك على أن لا تضربه. فقال له : اكتب. فقال له : أي شيء أكتب؟ فقال : اكتب «أبجد» فقال : لا أكتب شيئا لا أدري. ثم قال : إن لم تعلم ما هو فأنا أعلمك. الألف من آلاء الله ، والباء من بهاء الله والجيم من جمال الله ، والدال من أداء الحق إلى الله. وقيل : البركة أصلها من بروك البعير والمعنى جعلني ثابتا في دين الله مستقرا فيه. وقيل : البركة هي الزيادة والعلو فكأنه قال : جعلني في جميع الأشياء غالبا منجحا إلى أن يكرمني الله بالرفع إلى السماء. عن قتادة أنه رأته امرأة وهو يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص فقالت : طوبى لبطن حملتك وثدي أرضعت به. فقال عيسى عليه‌السلام مجيبا لها : طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يك جبارا شقيا.

(وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) أي بأدائهما إما في وقتهما المعين وهو وقت البلوغ ، وإما في الحال بناء على أنه كان مع صغره كامل العقل تام التركيب بحيث يقوى على أداء التكاليف ويؤيده قوله (ما دُمْتُ حَيًّا) وقيل : الزكاة هاهنا صدقة الفطر. وقيل : تطهير البدن البدن من دنس الآثام. وقيل : أوصاني بأن آمركم بهما. وفي قوله : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) دلالة وإشارة إلى تبرئة أمه من الزنا وإلا لم يكن الرسول المعصوم مأمورا بالبر بها. قال بعض العلماء : لا تجد العاق إلا جبارا شقيا وتلا قوله : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) ولا تجد سيىء الملكة إلا مختالا فخورا. وقرأ (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) [النساء : ٣٦] وإنما نفى عن عيسى الشقاوة ولم ينف عنه المعصية كما نفى عن يحيى لما جاء في الخبر «ما أحد من بني آدم إلا أذنب أو هم بذنب إلا يحيى بن زكريا» ومن عقائد أهل السنة أن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر. قوله : (وَالسَّلامُ عَلَيَ) قالت العلماء : إنما عرف السلام هاهنا بعد تنكيره في قصة يحيى لأن النكرة إذا تكررت تعرفت على أن تعريف الجنس قريب من تنكيره. وقيل : إن الأول من الله والقليل عنه كثير.

قليل منك يكفيني

قليلك لا يقال له قليل

وإني لأرضى منك يا هند بالذي

لو أبصره الواشي لفرت بلابله

بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى

وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله

٤٨٣

والثاني من عيسى والكثير منه لا يبلغ معشار سلام الله. عن بعضهم أن عيسى عليه‌السلام قال ليحيى : أنت خير مني سلم الله عليك وسلمت على نفسي. وأجاب الحسن بأن تسليمه على نفسه هو تسليم الله عليه. وقال جار الله : في هذا التعريف تعريض باللعنة على متهمي مريم وأعدائها من اليهود لأنه إذا زعم أن جنس السلام خاصته فقد عرض بأن ضده عليهم نظيره في قصة موسى (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [طه : ٤٧] يعني أن العذاب على من كذب وتولى. يروى أنه كلمهم بهذه الكلمات ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان. وعن اليهود والنصارى أنهم أنكروا تكلم عيسى في المهد قائلين إن هذه الواقعة مما يتوفر الدواعي على نقلها ، فلو وجدت لا شتهرت وتواترت مع شدة غلو النصارى فيه وفي مناقبه. وأيضا إن اليهود مع شدة عداوتهم له لو سمعوا كلامه في المهد بالغوا في قتله ودفعه في طفوليته. وأجاب المسلمون من حيث العقل بأنه لو لا كلامه الذي دلهم على براءتها من الذي قذفوها به لأقاموا عليها الحد ولم يتركوها ، ولعل حاضري كلامه قليلون فلذلك لم يبلغ مبلغ التواتر ، ولعل اليهود لم يحضروا هناك فلذلك لم يشتغلوا وقتئذ بدفعه والله أعلم. (ذلِكَ) الموصوف بالصفات المذكورة من قوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) إلى آخره هو (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) وفي كونه ابن لهذه المرأة نفى كونه ابنا على ما زعمت الضالة وأكد هذا المعنى بقوله : (قَوْلَ الْحَقِ) فإن كان الحق هو اسم الله فهو كقوله : «كلمة الله» وانتصابه على المدح ، وإن كان بمعنى الثابت والصدق فانتصابه على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة كقولك «هو عبد الله الحق» و (قَوْلَ الْحَقِ) من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل (حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة : ٩٥] قد مر آنفا. وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر ، أو بدل ، أو خبر مبتدأ محذوف. ومعنى تمترون تشكون من المرية الشك ، أو المراد يتمارون من المراء اللجاج وذلك أن اليهود قالوا : ساحر كذاب ، وقالت النصارى ابن الله وثالث ثلاثة.

ثم صرح ببطلان معتقدهم فقال : (ما كانَ لِلَّهِ) ما صح له وما استقام (أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) كما لا يستقيم أن يكون له شريك ، وقد مر مثل هذه الآية في سورة البقرة. والذي نزيده هاهنا أن بعضهم قال : معنى الآية ما كان الله أن يقول لأحد إنه ولدي لأن هذا الخبر كذب والكذب لا يليق بحكمته تعالى. وزعم الجبائي بناء على هذا التفسير أنه ليس لله أن يفعل كل شيء لأن قوله : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) كقولنا «ما كان لله أن يظلم» فلا يليق شيء منها بحكمته وكمال إلهيته. وأجيب بأن الكذب على الله محال ، والظلم تصرف في ملك الغير فلا يتصوّر في حقه. فإن أردتم هذا المعنى فلا نزاع ، وإن أردتم شيئا آخر

٤٨٤

فما الدليل على استحالته؟! احتج بعض الأشاعرة بالآية على قدم كلام الله لأن قوله : (كُنْ) إن كان قديما فهو المطلوب ، وإن كان محدثا احتاج في حدوثه إلى قوله آخر وتسلسل. واستدلت المعتزلة بها على حدوث كلامه قالوا : إن قوله : (إِذا قَضى) للاستقبال وذلك القول متأخر عن القضاء المحدث ، والمتأخر عن المحدث محدث. وأيضا الفاء في (فَيَكُونُ) للتعقيب والقول متقدم عليه بلا فصل ، والمتقدم على المحدث بزمان قليل محدث ، وكلا الاستدلالين ضعيف لأنه لا نزاع في حدوث الحروف وإنما النزاع في كلام النفس. وأيضا قوله : (كُنْ) عبارة عن نفاذ قدرته ومشيئته وإلا فليس ثم قول لأن الخطاب مع المعدوم عبث ومع الموجود تحصيل الحاصل. ومن الناس من زعم أن المراد من قوله : (كُنْ) هو صفة التكوين فإنها زائدة على صفة القدرة لأنه قادر على عوالم أخر سوى هذا وغير مكون لها ، ولعل هذا الزاعم سمى تعلق القدرة بالمقدور تكوينا. ومن قرأ (وَإِنَّ اللهَ) بالفتح فمعناه ولأن الله (رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) وفيه أن الربوبية هي سبب العبادة فمن لم تصح ربوبيته لم يستحق أن يعبد ، ولا رب بالحقيقة إلا الله لانتهاء جميع الوسائط والأسباب إليه ، فلا يستحق العبادة إلا هو. وهاهنا نكتة هي أن الله تعالى لا يصح أن يقول : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) فالتقدير قل : يا محمد بعد إظهار البراهين الباهرة على أن عيسى عبد الله (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) قال أبو مسلم الأصفهاني : إنه من تتمة كلام عيسى وما بينهما اعتراض. وعن وهب بن منبه : عهد إليهم حين أخبرهم عن حاله وصفته أن كلنا عبيد الله تعالى (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي من بين أهل الكتاب. قال الكلبي : هم اليهود والنصارى. وقيل : النصارى اختلفوا ثم اتفقوا على أن يرجعوا إلى علماء زمانهم وهم يعقوب ونسطور وملكا فقيل للأول : ما تقول في عيسى؟ فقال : هو الله هبط إلى الأرض فخلق وأحيا ثم صعد إلى السماء فتبعه على ذلك خلق كثير وهم اليعقوبية. وسئل الثاني فقال : هو ابن الله فتابعه جم غفير وهم النسطورية ، وسئل الثالث فقال : كذبوا وإنما كان عبدا مخلوقا نبيا يطعم وينام فصارا خصمه وهو المؤمن المسلم. وقيل : كانوا أربعة والرابع اسمه إسرائيل فقال : هو إله وأمه إله والثلاثة أقانيم والروح واحد. واعلم أن بحث الحلول والاتحاد فيه طول وقد ينجر الكلام فيه إلى مقامات يصعب الترقي إليها ، فلذلك ضل فيه من ضل وزل عنه من زل والله سبحانه أعلى من جميع ذلك وأجل (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي من شهودهم هذا الجزاء والحساب في ذلك اليوم ، أو من زمان شهودهم ، أو من مكان شهودهم فيه وهو الموقف. ويحتمل أن يكون المشهد من الشهادة أي من يشهد عليهم

٤٨٥

الملائكة والأنبياء أو جوارحهم فيه بالكفر والقبائح ، أو من مكان الشهادة أو وقتها. وقيل : هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه يوم ولادته. ومعنى «من» التعليل أي الويل لهم من أجل المشهد وبسببه قال أهل البرهان : إنما قال هاهنا (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وفي جم الزخرف (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) [الآية : ٦٥] لأن الكفر أبلغ من الظلم ، وقصة عيسى في هذه السورة مشروحة وفيها ذكر نسبتهم إياه إلى الله حتى قال : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) فذكر بلفظ الكفر ، وقصتهم في الزخرف مهملة فوصفهم بلفظ دونه وهو الظلم. قلت : ويحتمل أن يقال : الظلم إذا أريد به الشرك كان أخص من الكفر فعمم أولا ثم خصص لأن البيان بالمقام الثاني أليق (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) صيغتان للتعجب والمراد أن هاتين الحاستين منهم جديران بتعجب منهما في ذلك اليوم بعد ما كانوا صما وعميا في الدنيا ، وذلك لكشف الغطاء ولحاق العيان بالخبر. والتعجب استعظام الشيء بسبب عظمه ، ثم جوز استعمال لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير سبب. قال سفيان : قرأت عند شريح (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) [الصافات : ١٢] فقال : إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم. فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال : إن شريحا شاعر يعجبه علمه وعبد الله أعلم بذلك منه. والمعنى أنه صدر من الله فعل لو صدر مثله عن الخلق لدل على حصول التعجب في قلوبهم. وقيل : معنى الآية التهدد بما سيسمعون وسيبصرون مما يسوءهم. وقيل : أراد أسمع بهؤلاء وأبصر أي عرفهم مآل القوم الذين يأتوننا ليعتبروا وينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم. وقال الجبائي أن يراد أسمع الناس بهؤلاء وأبصرهم ليعتبروا بسوء عاقبتهم والوجه هو الأول يؤيده قوله : (لكِنِ الظَّالِمُونَ) أي لكنهم فوضع المظهر موضع المضمر. (الْيَوْمَ) وهو يوم التكليف (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث أغفلوا النظر والاستماع وتركوا الجد والاجتهاد في تحصيل الزاد للمعاد وهو (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) لتحسر أهل النار فيه. وقيل : أهل الجنة أيضا إذا رأى الأدنى مقام الأعلى ، والأول أصح لأن هذه الخواطر لا توجد في الجنة لأنها دار السرور. و (إِذْ) بدل من يوم الحسرة أو منصوص بالحسرة. ومعنى (قُضِيَ الْأَمْرُ) فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عنه فقال : «يؤتى بالموت فيذبح كما يذبح الكبش والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرح وأهل النار غما إلى غم» (١) قال أرباب المعقول : إن الموت عرض فلا يمكن أن يصير حيوانا فالمراد أنه لا

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب : ٥١. مسلم في كتاب الجنة حديث ٤٠ ، ٤٣. الترمذي في كتاب الزهد باب : ٣٩. ابن ماجه في كتاب الزهد باب : ٣٨. أحمد في مسنده (٢ / ١١٨ ، ١٢١).

٤٨٦

موت بعد ذلك. عن الحسن (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) متعلق بقوله : (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وقوله : (وَأَنْذِرْهُمْ) اعتراض. ويحتمل أن يتعلق بـ (أَنْذِرْهُمْ) أي أنذرهم على هذه الحال غافلين غير مؤمنين. ويحتمل أن يكون «إذ» ظرفا لـ (أَنْذِرْهُمْ) أي أنذرهم حين قضي الأمر ببيان الدلائل وشرح أمر الثواب والعقاب. ثم أخبر عنهم أنهم في غفلة (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ثم قرر بقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ) أن أمور الدنيا كلها تزول وأن الخلق كلهم يرجعون إلى حيث لا يملك الحكم إلا الله وفيه من التخويف والإنذار ما فيه.

التأويل : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) الأزلي (مَرْيَمَ) القلب (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها) تفردت من أهل الدنيا متوجها إلى جانب شروق النور الإلهي (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ) حجاب الخلوة والعزلة (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) وهو نور الإلهام الرباني والخاطر الرحماني كقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢١] (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) كما تمثل روح التوحيد بحروف «لا إله إلا الله» لانتفاع الخلق به. (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ) ظنا منها أنه يشغلها عن الله. (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ) الوارد الرباني (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) طاهرا عن لوث الظلمة الإنسية وهو النفس المطمئنة القدسية. (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) خاطر من عالم البشرية (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أطلب غير ما خلقت لأجله وهو التوجه إلى عالم الروح المجرد (فَحَمَلَتْهُ) بالقوة القريبة من الفعل (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) لافتقاره إلى العبور على منازل الشريعة والطريقة (فَأَجاءَهَا) مخاض الطلب والتعب (إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) وهي كلمة «لا إله إلا الله» التي كان أصلها ثابتا في أرض نفسها (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) قال بعض أهل التحقيق : هذه كلمة يذكرها الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم. قال علّي عليه‌السلام يوم الجمل : يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وعن بلال : ليت بلالا لم تلده أمه. وقيل : إن مريم قالت ذلك لعلمها بأن الله تعالى يدخل النار خلقا كثيرا بسبب تهمتها وبسبب الغلو والتقصير في حق ابنها قلت : إن مريم القلب قالت يا ليتني مت عن اللذات الجسمية قبل هذا الوقت الذي فزت باللذات الحقيقية وكنت نسيا منسيا ، فإن الخمول راحة والشهرة آفة (فَناداها) بلسان الحال من تحت تصرفها من آلات القوى (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ) أي تحت تصرفك (سَرِيًّا) هو الغلام الموعود أو جدول الكشوف والعلوم الدينية (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) بالمداومة على الذكر (تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) من المشاهدات والمكاشفات حالا فحالا (فَكُلِي وَاشْرَبِي) من

٤٨٧

خوان الأفضال وبحر النوال من مادته «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (١) (وَقَرِّي عَيْناً) بأنوار الجمال في حجرة الوصال (فَإِمَّا تَرَيِنَ) من السوانح البشرية (أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) كما قيل الدنيا يوم ولنا فيه صوم أي الالتفات لغير الله. (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها) من عادة الجهال إنكار أحوال أهل الكمال. (يا أُخْتَ هارُونَ) النفس المطمئنة أو الأمارة بناء على أن هارون كان صالحا أو طالحا و (ما كانَ أَبُوكِ) وهو الروح المفارق (امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ) وهي القالب (بَغِيًّا) تستأنس إلى غير عالم الطبيعة التي خلقت لأجلها (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) فيه أن هذا القوم هم أهل الإشارات (فِي الْمَهْدِ) مهد السر وذلك المتولد من نفخ الروح في مريم القالب ليس ابنا لله ولا محلا له ولا نفسه. (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ) فقوم عبدوا الله لأجله ، وقوم عبدوه طمعا في جنته ، وقوم عبدوا الهوى وذلك قوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أَسْمِعْ بِهِمْ) أي بأهل الله (وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) فإنهم بالله يسمعون وبه يبصرون.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التمني باب : ٩. مسلم في كتاب الصيام حديث ٥٧. الموطأ في كتاب الصيام حديث ٥٨. أحمد في مسنده (٣ / ٨).

٤٨٨

الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥))

القراءات : (رَبِّي إِنَّهُ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو (مُخْلَصاً) بفتح اللام : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل. الباقون بكسرها. إبراهام وما بعده : هشام والأخفش عن ابن ذكوان إذا ابتلي بالياء التحتانية وكذلك في سورة الحج : قتيبة (نُورِثُ) بالتشديد : رويس.

الوقوف : (إِبْراهِيمَ) ط (نَبِيًّا) ه (شَيْئاً) ه (سَوِيًّا) ه (لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) ط (عَصِيًّا) ه (وَلِيًّا) ه (يا إِبْراهِيمُ) ط ج وقد يوصل ويوقف على (آلِهَتِي). (مَلِيًّا) ه (سَلامٌ عَلَيْكَ) ج للابتداء بسين الاستقبال مع أن القائل واحد (لَكَ رَبِّي) ط (حَفِيًّا) ه (وَأَدْعُوا رَبِّي) ز لانقطاع النظم والوصل أولى لأن عسى لطمع الإجابة بالدعاء (شَقِيًّا) ه (مِنْ دُونِ اللهِ) لا لأن ما بعده جواب لما (وَيَعْقُوبَ) ط (نَبِيًّا) ه (نَبِيًّا) ه (عَلِيًّا) ه (مُوسى) ز للابتداء بأن مع أن المراد بالذكر إخلاص موسى (نَبِيًّا) ه (نَجِيًّا) ه (نَبِيًّا) ه (إِسْماعِيلَ) ز لما مر (نَبِيًّا) ه ج للأية مع العطف (وَالزَّكاةِ) ط (مَرْضِيًّا) ه (إِدْرِيسَ) ز (نَبِيًّا) ه (عَلِيًّا) ه (مَعَ نُوحٍ) ز على تقدير ومن ذريته إبراهيم وما بعده قوم إذا تتلى عليهم ، وكذا وجه من وقف على (ذُرِّيَّةِ آدَمَ) أو على (إِسْرائِيلَ) والأصح أن الكل عطف على ذرية آدم والوقف على قوله : (وَاجْتَبَيْنا) لئلا يحتاج إلى الحذف وليرجع ثناء السجود والبكاء إلى الكل (وَبُكِيًّا) ه (غَيًّا) ه (شَيْئاً) ه لا بناء على أن (جَنَّاتِ) بدل من (الْجَنَّةَ) ه (بِالْغَيْبِ) ط (مَأْتِيًّا) ه (سَلاماً) ه (وَعَشِيًّا) ه (تَقِيًّا) ه (بِأَمْرِ رَبِّكَ) ج لاختلاف الجملتين (ذلِكَ) ج لأن قوله : (وَما كانَ) معطوف على (نَتَنَزَّلُ) مع وقوع العارض (نَسِيًّا) ج ه ، لأن ما بعده بدل أو خبر مبتدأ محذوف (لِعِبادَتِهِ) ط (سَمِيًّا) ه.

التفسير : إن الذين أثبتوا معبودا سوى الله منهم من أثبت معبودا حيا عاقلا كالنصارى ، ومنهم من عبد معبودا جمادا كعبدة الأوثان ، وكلا الفريقين ضال إلا أن الفريق الثاني أضل. وحين بين ضلال الفريق الأول شرع في بيان ضلال الفريق الثاني تدرجا من الأسهل إلى الأصعب. وإنما بدأ بقصة إبراهيم عليه‌السلام لأنه كان أبا العرب وكانوا مقرين بعلوّ شأنه وكمال دينه فكأنه قال لهم : إن كنتم مقلدين فقلدوه في ترك عبدة الأوثان

٤٨٩

وعبادتها ، وإن كنتم مستدلين فانظروا في الدلائل التي ذكرها على أبيه. والمراد بذكر الرسول إياه في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس كقوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) [الشعراء : ٦٩] وإلا فهو سبحانه هو الذي يذكره في تنزيله. وقوله : (إِذْ قالَ) بدل من (إِبْراهِيمَ) وما بينهما اعتراض ، ولمكان هذا الاعتراض صار الوقف على (إِبْراهِيمَ) مطلقا. وجوز في الكشاف أن يتعلق «إذ» بـ (كانَ) أو بـ (صِدِّيقاً نَبِيًّا) أي كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات. والصديق من أبنية المبالغة فهي إما مبالغة صادق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ، وإما مبالغة مصدق وذلك لكثرة تصديقه الحق وهذا أيضا بالحقيقة يعود إلى الأول ، لأن مصدق الحق لا يعتبر تصديقه. إلا إذا كان صادقا جدا في أقواله مصدقا لجميع من تقدم من الأنبياء والكتب ، وكان نبيا في نفسه رفيع القدر عند الله وعند الناس بحيث جعل واسطة بينه وبين عباده. وقيل : إن «كان» بمعنى «صار» والأصح أنه بمعنى الثبوت والاستمرار أي إنه لم يزل موصوفا بالصدق والنبوة في الأوقات الممكن له ذلك فيها. والتاء في (يا أَبَتِ) عوض من ياء الإضافة وقد مر في أول سورة يوسف. أورد على أبيه الدلائل والنصائح وصدر كلا منها بالنداء المتضمن للرفق واللين استمالة لقلب أبيه وامتثالا لأمر ربه على ما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أوحى الله إلى إبراهيم إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة القدس وأدنيه من جواري». فقوله : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) منسيّ المفعول لا منويه فإن الغرض نفي الفعلين على الإطلاق دون التقييد. و «ما» موصولة أو موصوفة أي الذي لا يسمع أو معبودا لا يسمع و (شَيْئاً) مفعول به من قوله : «أغن عني وجهك» أي ادفعه. ويجوز أن يكون بمعنى المصدر أي شيئا من الإغناء ، وعلى هذا يجوز أن يقدر نحوه مع الفعلين السابقين أي لا يسمع شيئا من السماع إلى آخره. وحاصل الدليل أن العبادة غاية الخضوع فلا يستحقها إلا أشرف الموجودات لا أخسها وهو الجماد غاية عذرهم عن تلك هي أنها تماثيل أشياء يتصوّر نفعها أو ضرها كالكواكب وغيرها فيقال لهم : أليس الكواكب وسائر الممكنات تنتهي في الاحتياج إلى واجب الوجود؟ فإذا جعل شيء من هذه الأشياء معبودا فقد شورك الممكن والواجب في نهاية التعظيم وهذا مما ينبو عنه الطبع السليم ، ورفع الوسائط من البين أدخل في الإخلاص وأقرب إلى الخلاص. وقوله : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي) تنبيه ونصيحة وفيه أن هذا العلم تجدد له حصوله فيكون أقرب إلى التصديق. وفي قوله : (مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) فائدة

٤٩٠

هي أنه لم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال : إن معي طائفة من العلم ليست معك فلا تستنكف ، وهب أنا في مفازة وعندي معرفة بالدلالة دونك (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) مستويا مؤدّيا إلى المقصود وهو صلاح المعاش والمعاد. استدل أرباب التعليم بالآية بأنه لا بد من الاتباع. وأجيب بأنه لا يلزم من اتباع النبي اتباع غيره. والإنصاف أن هذا الطريق أسهل.

ثم أكد المعنى المذكور بنصيحة أخرى زاجرة عما هو عليه فقال : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) أي لا تطعه فإن عبادة الأصنام هي طاعة الشيطان. ثم أسقط حصة نفسه إذ لم يقل إن الشيطان عدوّ لبني آدم بل قدّم حق ربه فقال : (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) حين ترك أمره بالسجود عنادا واستكبارا لا نسيانا وخطأ ، نبهه بهذه النصيحة على وجود الرحمن ثم على وجود الشيطان ، وأن الرحمن مصدر كل خير ، والشيطان مظهر كل شر بدلالة الموضوع اللغوي ، وهذا القدر كاف من التنبيه لمن تأمل وأنصف. ثم بين الباعث على هذه النصيحة فقال : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ) وفيه مع التخويف من سواء العاقبة أنواع من الأدب إذ ذكر الخوف والمس ونكر العذاب. قال الفراء : معنى أخاف أعلم. والأكثرون على أنه محمول على ظاهره لأن إبراهيم عليه‌السلام لم يكن جازما بموت أبيه على الكفر وإلا لم يشتغل بنصحه. والخوف على الغير ظن وصول الضرر إلى ذلك الغير مع تألم قلبه من ذلك كما يقال : أنا خائف على ولدي. وذكروا في الولي وجوها منها : أنه إذا استوجب عذاب الله كان مع الشيطان في النار والمعية سبب الولاية أو مسببها غالبا ، وإطلاق أحدهما على الآخر مجاز. وليس هناك ولاية حقيقة لقوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [الزخرف : ٦٧] (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) [إبراهيم : ٢٢] ومنها أن حمل العذاب على الخذلان ومنها أن الولي بمعنى التالي والتابع قال جار الله : جعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أتباعه وأوليائه أكبر من نفس العذاب ، لأن ولاية الشيطان في مقابلة رضا الرحمن وقال عز من قائل : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] وإذا كان رضوان الله أكبر من نعيم الجنة فولاية الشيطان أعظم من عذاب النار. ثم إن الشيخ قابل ملاطفات إبراهيم بالفظاظة والغلظة قائلا (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) فقدم الخبر على المبتدأ إشعارا بأنه عنده أعنى. وفي هذا الاستفهام ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته. وفي قوله : (يا إِبْراهِيمُ) دون أن يقول : «يا بني» في مقابلة (يا أَبَتِ) تهاون به كيف لا وقد صرح بالإهانة قائلا (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) باللسان أي لأشتمنك أو باليد أي لأقتلنك وأصله الرمي بالرجام. ثم هاهنا إضمار أي

٤٩١

فاحذرني (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي زمانا طويلا من الملاوة ، أو أراد مليا بالذهاب والهجران مطيقا له قويا عليه قبل أن أثخنك بالضرب.

فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على التمرد والجهالة (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ) يعني سلام توديع ومتاركة كقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] وفيه أن متاركة المنصوح إذا ظهر منه آثار اللجاج من سنن المرسلين ، ويحتمل أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له ورفقا به بدليل قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) بليغا في البر والإلطاف وقد مر في آخر «الأعراف». احتج بالآية بعض من طعن في عصمة الأنبياء قال : إنه استغفر لأبيه الكافر وهو منهي عنه لقوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣] الآية. ولقوله في الممتحنة (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) إلى قوله : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤] فلو لم يكن هذا معصية لم يمنع من التأسي به. والجواب لعل إبراهيم عليه‌السلام في شرعه لم يجد ما يدل على القطع بتعذيب الكافر أو لعل بهذا الفعل منه من باب ترك الأولى ، أو لعل الاستغفار بمعنى الاستبطاء كقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤] والمعنى سأسأل ربي أن يخزيك بكفرك ما دمت حيا. والجواب في الحقيقة ما مر في آخر سورة التوبة في قوله عز من قائل (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) [التوبة : ١١٤] والمنع من التأسي لا يدل على المعصية ، فلعل الاستغفار مع ذلك الشرط كان من خصائصه كما أن كثيرا من الأمور كانت مباحة للرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي محرمة علينا. ثم صرح بما تضمنه السلام من التوديع والهجران فقال : (وَأَعْتَزِلُكُمْ) أي أهاجر إلى الشام (وَ) أعتزل (ما تَدْعُونَ) أي ما تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) وقد يعبر بالدعاء عن العبادة لأنه منها ومن وسائطها ، يدل على هذا التفسير قوله : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ) أما قوله : (وَأَدْعُوا رَبِّي) فيحتمل معنيين : العبادة والدعاء كما يجيء في سورد الشعراء. وفي قوله : (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) تعريض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم وعبادتها مع التواضع وهضم النفس المستفاد من لفظ (عَسى).

قال العلماء : ما خسر على الله أحد فإن إبراهيم لما ترك أباه الكافر وقومه فرارا بدينه عوّضه الله أولادا مؤمنين أنبياء وذلك قوله : (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ) شيئا (مِنْ رَحْمَتِنا) عن الحسن : هي النبوة. وعن الكلبي : المال والولد. والأظهر أنها عامة في ذلك كل خير ديني ودنيوي ولسان الصدق الثناء الحسن ، عبر

٤٩٢

باللسان عما يوجد به كما عبر باليد عما يطلق بها وهو العطية وقد مر تحقيق الإضافة في أول يونس في قوله : (قَدَمَ صِدْقٍ) [يونس : ٢] تبرأ إبراهيم من أبيه ابتغاء مرضاة الله فسماه الله أبا بالمؤمنين (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [الحج : ٧٨] ، وتل ولده للجبين ففداه الله بذبح عظيم ، وأسلم نفسه لرب العالمين فجعل النار عليه بردا وسلاما ، وأشفق على هذه الأمة فقال وابعث فيهم رسولا ، فأشركه الله في الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلوات الخمس ، ووفى في حق سارة كما قال تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٧] فجعل موطىء قدمه مباركا (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة : ١٢٥] وعادى كل الخلق في الله حين قال (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٧٧] فلا جرم اتخذه الله خليلا. ثم قفى قصة إبراهيم بقصة موسى عليه‌السلام لأنه تلوه في الشرف. والمخلص بكسر اللام الذي أخلص العبادة عن الشرك والرياء وأخلص وجهه لله ، وبالفتح الذي أخلصه الله و (كانَ رَسُولاً نَبِيًّا) الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء والنبي الذي ينبىء عن الله عزوجل وإن لم يكن معه كتاب ، وكان المناسب ذكر الأعم قبل الأخص إلا أن رعاية الفاصلة اقتضت عكس ذلك كقوله في طه (بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) [طه : ٧] (الْأَيْمَنِ) من اليمين أي من ناحية اليمنى من موسى أو هو من اليمن صفة للطور أو للجانب (وَقَرَّبْناهُ) حال كونه (نَجِيًّا) أي مناجيا شبه تكليمه إياه من غير واسطة ملك بتقريب بعض الملوك واحدا من ندمائه للمناجاة والمسارة. وعن أبي العالية أن التقريب حسي ، قربه حتى سمع صريف القلم الذي كتبت به التوراة والأول أظهر ، ومنه قولهم للعبادة «تقرب» وللملائكة «أنهم مقربون». (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا) أي من أجلها أي بعض رحمتنا فيكون (أَخاهُ) بدلا و (هارُونَ) عطف بيان كقولك «رأيت رجلا أخاك زيدا». و (نَبِيًّا) حال من هارون. قال ابن عباس : كان هارون أكبر من موسى فتنصرف الهبة إلى معاضدته وموازرته. وذلك بدعاء موسى في قوله : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) [طه : ٢٩] وخص إسماعيل بن إبراهيم بصدق الوعد وإن كان الأنبياء كلهم صادقين فيما بينهم وبين الله أو الناس ، لأنه المشهور المتواصف من خصاله من ذلك : أنه وعد نفسه الصبر على الذبح فوفى به. وعن ابن عباس أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه واعد رجلا ونسي ذلك الرجل فانتظره من الضحى إلى قريب من غروب الشمس. وسئل الشعبي عن الرجل يعد ميعاده إلى أي وقت ينتظره؟ فقال : إذا واعدته في وقت الصلاة فانتظره إلى وقت صلاة أخرى. وكان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لغيرهم ولأن الابتداء بالإحسان الديني والدنيوي بمن هو أقرب أولى (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] «بدأ بمن تعول» ويحسن

٤٩٣

أن يقال : أهله أمته كلهم أقارب أو أباعد من حيث إنه يلزمه في جميعهم ما يلزم المرء في أهله خاصة من قضاء حقوق النصيحة والشفقة ورعاية مصالحهم الدينية والدنيوية. وعلى القولين يندرج في الصلاة الصلوات المفروضة والمندوبة كصلاة التهجد وغيرها ، وأما الزكاة فالأقرب أنها الصدقة المفروضة. وعن ابن عباس أنها طاعة الله والإخلاص لأن فاعلها يزكو بها عند الله. وأما إدريس فالأصح أنه اسم عجمي بدليل منع الصرف كما مر مرارا في آدم ويعقوب وغيرهما. وقيل : «افعيل» من الدرس لكثرة دراسته كتاب الله ، ولعل معناه بالأعجمية قريب من الدراسة فظنه القائل مشتقا منها.

وفي رفعته أقوال منها : أن المكان العليّ شرف النبوة والزلفى عند الله ، وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة ، وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب ، وأول من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود ، واسمه أخنوخ من أجداد نوح لأنه نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وأهل التنجيم بعضهم يسمونه هرمس ولهم نوادر في استخراج طوالع المواليد ينسبونه إليه. وقيل : إن الله تعالى رفعه إلى السماء وإلى الجنة وهو حي لم يمت. وقال آخرون : رفع إلى السماء وقبض روحه. عن ابن عباس أنه سأل كعبا عن قوله : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) قال : جاء خليل من الملائكة فسأله أن يكلم ملك الموت حتى يؤخر قبض روحه ، فحمله ذلك الملك بين جناحيه فصعد به ، فلما كان في السماء الرابعة إذ بملك الموت يقول : بعثت لأقبض روح إدريس في السماء الرابعة وأنا أقول : كيف ذلك وهو في الأرض؟ فالتفت إدريس فرأى ملك الموت فقبض روحه هناك. وعن ابن عباس أنه رفع إلى السماء السادسة. وعن الحسن : المراد أنه رفع إلى الجنة ولا شيء أعلى منها. (أُولئِكَ) المذكورون من لدن زكريا إلى إدريس هم (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ) «من» للبيان لأن جميع الأنبياء منعم عليهم (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) هي للتبعيض وكذا في قوله : (وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ) والمراد بمن هو من ذرية آدم إدريس لقربه منه ، وبذرية من حمل مع نوح إبراهيم عليه‌السلام لأنه من ولد سام بن نوح ، وبذرية إبراهيم إسماعيل ، وبذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم لأن مريم من ذريته. (وَمِمَّنْ هَدَيْنا) يحتمل العطف على من الأولى والثانية وفي هذا الترتيب تنبيه على أن هؤلاء الأنبياء اجتمع لهم مع كمال الأحساب شرف الأنساب ، وأن جميع ذلك بواسطة هداية الله وبمزية اجتنائه واصطفائه. ثم إن جعلت (الَّذِينَ) خبرا لـ (أُولئِكَ) كان إذا يتلى كلاما مستأنفا ، وإن جعلته صفة له كان خبرا وقد عرفت في الوقوف سائر الوجوه من قرأ يتلى بالتذكير لأن تأنيث الآيات غير

٤٩٤

حقيقي والفاصل حاصل. والبكي جمع باك «فعول» كسجود في «ساجد» أبدلت الواو ياء وأدغمت وكسر ما قبلها للمناسبة. ومن زعم أنه مصدر فقدسها لأنها قرينة سجدا. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» (١) أراد بالآيات التي فيها ذكر العذاب. وقال غيره : إطلاق الآيات والحديث المذكور يدل على العموم لأن كل آية إذا فكر فيها المفكر صح أن يسجد عندها ويبكي. قلت : لعل المراد بآيات الله ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة ، لأن القرآن حينئذ لم يكن منزلا واختلفوا في السجود. فقيل : هو الخشوع والخضوع. وقيل : الصلاة. وقيل : سجدة التلاوة على حسب ما تعبدنا به. ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا يتعبدون بالسجود. قال الزجاج : الإنسان في حال خروره لا يكون ساجدا فالمراد خروا متهيئين للسجود. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرؤا القرآن بحزن فإنه نزل بحزن» (٢). وعن ابن عباس : إذا قرأتم سجدة «سبحان» فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وقالت العلماء : يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال : اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة «سبحان» قال : اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك. وإن قرأ ما في هذه السورة قال : اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهديين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك.

ولما مدح هؤلاء الأنبياء ترغيبا لغيرهم من سيرتهم وصف أضدادهم لتنفير الناس عن طريقتهم قائلا (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) وهو عقب السوء كما مر في آخر «الأعراف» فإضاعة الصلاة في مقابلة الخرور سجدا ، واتباع الشهوات بإزاء البكاء. عن ابن عباس : هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الأخت من الأب. وعن إبراهيم النخعي ومجاهد : أضاعوها بالتأخير. وعن علي رضي‌الله‌عنه في قوله : (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور. وعن قتادة : هو في هذه الأمة (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) قال جار الله : كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد. وقال الزجاج : هو على حذف المضاف أي جزاء غي كقوله : (يَلْقَ أَثاماً) [الفرقان : ٦٨] أي مجازاة أثام. وقيل : غيا من طريق الجنة. وقيل : هو واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها احتج بعضهم بقوله : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ) على أن تارك الصلاة كافر وإلا لم يحتج إلى

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة ١٧٦. كتاب الزهد باب ١٩.

(٢) رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب : ١٧٦.

٤٩٥

تجديد الإيمان. والجواب أنه إذا كان المذكورون هم الكفرة أو اليهود ـ كما رويناه عن ابن عباس ـ سقط الاستدلال. واحتجت الأشاعرة في أن العمل ليس من الإيمان لأن العطف دليل التغاير. وأجاب الكعبي بأنه عطف الإيمان على التوبة مع أنها من الإيمان ، ومنع من أن التوبة من الإيمان ولكنها شرطه لأنها العزم على الترك والإيمان إقرار باللسان ، وإنما حذف الموصوف هاهنا وقال في الفرقان (وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) [الفرقان : ٧٠] لأنه أوجز في ذكر المعاصي فأوجز في التوبة وأطال هناك فأطال هناك. وهذا الاستثناء بحسب الغالب فقد يتوب عن كفره ويؤمن ولم يدخل بعد وقت الصلاة ، أو كانت المرأة حائضا ثم مات فهو من أهل النجاة مع أنه لم يعمل صالحا. ومعنى (لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) لا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم بل يضاعف لهم تفضلا تنبيها على أن تقدم الكفر لا يضرهم بعد أن يتوبوا ، ويحتمل أن ينتصب (شَيْئاً) على المصدر أي شيئا من الظلم. ومعنى (جَنَّاتِ عَدْنٍ) قد مر في سورة التوبة في قوله : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) [التوبة : ٧٢] وصفها الله تعالى بالإقامة والدوام خلاف ما عليه جنان الدنيا. ولما كانت الجنة مشتملة على جنات عدن أبدلت منها ، ويحتمل انتصابها على الاختصاص وكذا انتصاب «التي». قال جار الله : عدن علم بمعنى العدن وهو الإقامة وهو علم لأرض الجنة لكونها مكان إقامة ولو لا ذلك لما ساغ الإبدال ، لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة. ولما ساغ وصفها بـ «التي» ومعنى (بِالْغَيْبِ) مع الغيبة أي وعدوها وهي غائبة عنهم غير حاضرة ، أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها ، أو الباء للسببية أي وعدها عباده بسبب تصديق الغيب والإيمان به خلاف حال المنافقين. وقوله : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) بالأول أنسب وهو مفعول بمعنى «فاعل» ، أو على أصله لأن ما أتاك فقد أتيته. وجوز في الكشاف أن يكون. من قولك : «أتى إليك إحسانا» أي كان وعده مفعولا منجزا. قوله : (إِلَّا سَلاماً) استثناء متصل على التأويل لأن اللغو فضول الكلام وما لا طائل تحته كما تقدم في يمين اللغو في «البقرة» وفي «المائدة» أي إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغوا فلا يسمعون لغوا إلا ذلك كقولهم «عتابك السيف». أو استثناء منقطع أي لا يسمعون فيها إلا قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة ، ويجوز أن يكون متصلا بتأويل آخر وهو أن معنى السلام الدعاء بالسلامة وأهل دار السلام عن الدعاء بالسلامة أغنياء ، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لو لا ما فيه من فائدة الإكرام. وفي الآية تنبيه ظاهر على وجوب اتقاء اللغو حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. ثم إنه سبحانه من عادته ترغيب كل قوم بما أحبوه في الدنيا فلذلك ذكر أساور من الذهب والفضة لبس الحرير التي كانت للعجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة ، وكانت من عادة أشرف

٤٩٦

اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء لأنها العادة الوسطى المحمودة للمتنعمين منهم فوعدهم بذلك قائلا : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) هذا قول الحسن. ولا يكون ثم ليل ولا نهار ولكن على التقدير أي يأكلون على مقدار الغداة إلى العشي. وقيل : أراد دوام الرزق كما تقول : أنا عند فلان صباحا ومساء تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين. وقوله : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ) كقوله في «الأعراف» (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها) [الأعراف : ٤٣] وهي استعارة أي تبقى عليهم الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث منه. قال القاضي : في الآية دلالة على أن الجنة يختص بدخولها من كان متقيا غير مرتكب للكبائر. وأجيب بمنع الاختصاص وبأنه يصدق على صاحب الكبيرة أنه اتقى الكفر.

سئل هاهنا أن قوله تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ) كلام الله وقوله بعده : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) خطاب ليس من كلام الله فما وجه العطف بينهما؟ وأجيب بأنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح ، فظاهر قوله : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) خطاب جماعة لواحد وأنه لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول كما روي أن قريشا بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهل يجدونه في كتابهم. فسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه ، وقالت اليهود : نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمان اليمامة عن خصال ثلاث فلم يعرف فاسألوه عنهن ، فإن أخبركم بخصلتين منها فاتبعوه ، فاسألوه عن فئة أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فلم يدر كيف يحيب ، فوعدهم الجواب ولم يقل : إن شاء الله. فاحتبس الوحي عليه أربعين يوما ـ وقيل خمسة عشر يوما ـ فشق عليه ذلك مشقة شديدة. وقال المشركون : ودعه ربه وقلاه. فنزل جبرائيل عليه‌السلام فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبطأت عني حتى ساء طني واشتقت إليك. قال : كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست. فأنزل الله الآية وأنزل قوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) [الكهف : ٢٣] وسورة الضحى. ومعنى التنزل على ما يليق بهذا الموضع هو النزول على مهل أي نزولنا في الأحايين وقتا غب وقت ليس إلا بأمر الله عزوجل. ثم أكد جبرائيل ما ذكره بقوله : (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا) من الجهات والأماكن أو من الأزمنة الماضية والمستقبلة وما بينهما من المكان والزمان الذي نحن فيه فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ، أو من زمان إلى زمان إلا بأمر ربك ومشيئته. وقيل : له ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة (وَما بَيْنَ ذلِكَ) وهو ما بين النفختين أربعون سنة. وقيل : ما مضى

٤٩٧

من أعمارنا وما غبر منها والحال التي نحن فيها أو ما قبل وجودنا وبعد فنائنا. وقيل : الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا. والسماء التي وراءنا ، وما بين السماء والأرض وعلى الأقوال فالمراد أنه المحيط بكل شيء لا يخفى عليه خافية. ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة فكيف يقدم على فعل إلا بأمره!

وقال أبو مسلم : في وجه النظم إن قوله : (وَما نَتَنَزَّلُ) من قول أهل الجنة لمن بحضرتهم أي ما ننزل الجنة إلا بأمر ربك. أما قوله : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) فعلى القول الأول معناه أنه ما كان امتناع النزول إلا لعدم الإذن ولم يكن لترك الله إياكم لقوله : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) [الضحى : ٣] وعلى قول غير أبي مسلم هو تأكيد لإحاطته تعالى بجميع الأشياء ، وأنه لا يجوز عليه أن يسهو عن شيء ما البتة. وعلى قول أبي مسلم المراد أنه ليس ناسيا لأعمال العاملين فيثيب كلا منهم بحسب عمله فيكون من تتمة حكاية قول أهل الجنة ، أو ابتداء كلام من الله تعالى خطابا لرسوله ويتصل به قوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي بل هو ربهما (وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ) الفاء للسببية لأن كونه رب العالمين سبب موجب لأن يعبد (وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) لم يقل «على عبادته» لأنه جعل العبادة بمنزلة القرن في قولك للمحارب «اصطبر لقرنك» أي أوجد الاصطبار لأجل مقاومته. ثم أكد وجوب عبادته بقوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي ليس له مثل ونظير حتى لا تخلص العبادة له ، وإن عديم النظير لا بد أن يصبر على مواجب إرادته وتكاليفه خصوصا إذا كانت فائدتها راجعة إلى المكلف. وقيل : أراد أنه لا شريك له في اسمه وبيانه في وجهين : أحدهما أنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن إلا أنهم لم يطلقوا لفظ الله على من سواه. وعن ابن عباس : أراد لا يسمى بالرحمن غيره. قلت : وهذا صحيح ولعله هو السر في أنه لم يكرر لفظ «الرحمن» في سورة تكريره في هذه السورة. وثانيهما هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل لأن التسمية على الباطل كلا تسمية.

التأويل : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) الأزلي (إِبْراهِيمَ) القلب (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) للتصديق ثلاث مراتب : صادق صدق في أقواله ، وصادق صدق في أخلاقه وأحواله ، وصديق صدق في قيامه مع الله في الله بالله وهو الفاني عن نفسه الباقي بربه (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) الروح الذي يعبد صنم الدنيا بتبعية النفس (قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) اللدني (ما لَمْ يَأْتِكَ) لما ذكرنا أن القلب محل للفيض الإلهي أقبل من الروح كالمرآة فإنها تقبل النور لصفائها وينعكس النور عنها لكثافتها وصقالتها (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) السر (وَيَعْقُوبَ) الخفي (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) أسمعنا موسى القلب من جانب طور الروح لا من جانب وادي النفس الذي

٤٩٨

هو على أيسر (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ) أي الجسم والنفس والقلب والروح بالصلاة له توجه كل منهم توجها يليق بحاله ، وبالزكاة أي تزكية كل واحد منهم من الأخلاق الذميمة (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) في مقعد صدق عند مليك مقتدر (خَرُّوا) بقلوبهم على عتبة العبودية (سُجَّداً) بالتسليم للأحكام الأزلية (وَبُكِيًّا) بكاء السمع يذوبان الوجود على نار الشوق والمحبة (عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) أي بغيبتهم عن الوجود قبل التكوين كقوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١] (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ) رؤية الله على ما جاء في الحديث : «وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوّا وعشيا» (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) المقدور في علم الله ، وتنادى أهل العزة من سرادقات العزة أن يا أهل الطبيعة أفيقوا من المتمنيات فإنا ما ننزل من عالم الغيب. إلا بأمر ربك (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) ليحتاج إلى تذكير متمن ، بل هو رب سموات الأرواح وأرض الأجساد وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار له (فَاعْبُدْهُ) بأركان الشريعة بجسدك وبآداب الطريقة بنفسك وبالإعراض عن الدنيا والإقبال على المولى بقلبك وبالفناء في الله والبقاء به بروحك وبسرك. (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ) نظيرا في المحبوبية لك. والله أعلم بالصواب.

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) وَقالُوا اتَّخَذَ

٤٩٩

الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

القراآت : (أَإِذا) مثل (أَإِنَّكُمْ) في «الأنعام» (يَذْكُرُ) من الذكر : ابن عامر ونافع وعاصم وسهل وروح والمعدل عن زيد. والآخرون بتشديد الذال من التذكر مدغما. (ثُمَّ نُنَجِّي) من الإنجاء : عليّ وروح والمعدل عن زيد. الآخرون بالتشديد (خَيْرٌ مَقاماً) بضم الميم : ابن كثير. الباقون بفتحها. ريا بالتشديد : أبو جعفر ونافع عن ورش وابن ذكوان والأعشى وحمزة في الوقف ، وعن حمزة أيضا بالهمزة في الوقف ليدل على أصل اللغة. الآخرون بهمز بعدها يا (وَوَلَداً) وما بعده بضم الواو سكون اللام : حمزة وعليّ. الآخرون بفتحهما يكاد على التذكير : نافع وعليّ ينفطرن من الانفطار : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وخلف وابن عامر والمفضل وأبو بكر وحماد والخزاز عن هبيرة. الباقون (يَتَفَطَّرْنَ) من التفطر.

الوقوف : (حَيًّا) ه (شَيْئاً) ه (جِثِيًّا) ه ج للآية وللعطف (عِتِيًّا) ه ج لذلك (صِلِيًّا) ه (وارِدُها) ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى (مَقْضِيًّا) ه تقريبا للنجاة من الورود مع أن «ثم» لترتيب الأخبار (جِثِيًّا) ه (آمَنُوا) لا لأن ما بعده مفعول «قال» (نَدِيًّا) ه (وَرِءْياً) ه (مَدًّا) ه لأن «حتى» لانتهاء مدد الضلالة أو لابتداء الرؤية وجواب «إذا» محذوف وهو «آمنوا» (السَّاعَةَ) ط لابتداء التهديد (جُنْداً) ه (هُدىً) ه (مَرَدًّا) ه (وَوَلَداً) ه ط لابتداء الاستفهام للتقريع (عَهْداً) ط ه للردع (كَلَّا) ط (مَدًّا) ه لا للعطف (فَرْداً) ه (عِزًّا) ه (كَلَّا) ط (ضِدًّا) ه (أَزًّا) ه لا للتعجيل (عَلَيْهِمْ) ط (عَدًّا) ه ط (وَفْداً) ه ط (وِرْداً) ه لئلا تشتبه الجملة بالوصف لهم (عَهْداً) ه م حذرا من إيهام العطف (وَلَداً) ه ط (إِدًّا) ه لا لأن ما بعده صفة (هَدًّا) ه لا لأن التقدير لأن دعوا (وَلَداً) ه ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف (وَلَداً) ه ط (عَبْداً) ه ط (فَرْداً) ه (وُدًّا) ه (مِنْ قَرْنٍ) ط (رِكْزاً) ه.

٥٠٠