تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

كان يعقوب أمرهم بالتحسس من يوسف وأخيه والمتحسس يجب عليه أن يتوسل إلى مطلوبه بجميع الطرق كما قيل : الغريق يتعلق بكل شيء. فبدأوا بالعجز والاعتراف بضيق اليد وإظهار الفاقة فرقق الله تعالى قلبه وارفضت عيناه فعند ذلك قال : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ) وقيل : أدوا إليه كتاب يعقوب : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد ، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء. أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله تعالى وجعلت النار عليه بردا وسلاما ، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله ، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه ، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا إنه سرق وإنك حبسته لذلك ، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ذلك. وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب : «اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا». وقوله : (هَلْ عَلِمْتُمْ) استفهام يفيد تعظيم الواقعة ومعناه ما أعظم الأمر الذي ارتكبتم من يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه كما يقال للمذنب : هل تدري من عصيت. وفيه تصديق لقوله سبحانه : (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) [يوسف : ١٥] وأما فعلهم بأخيه فتعريضهم إياه للغم بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه وإيذاؤهم له بالاحتقار والامتهان. وقوله : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) جار مجرى الاعتذار عنهم كأنه قال : إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال ما كنتم في أوان الصبا وزمان الجهالة. والغرة إزالة للخجالة عنهم فإن مطية الجهل الشباب وتنصحا لهم في الدين أي هل علمتم قبحه فتبتم لأن العلم بالقبح يدعو إلى التوبة غالبا فآثر كما هو عادة الأنبياء حق الله على نفسه في المقام الذي يتشفى المغيظ وينفث المصدور ويدرك ثأره الموتور. وقيل : إنما نفى العلم عنهم لأنهم لم يعملوا بعلمهم. ولما كلمهم بذلك (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) عرفوه بالخطاب الذي لا يصدر إلا عن حنيف مسلم عن سنخ إبراهيم ، أو تبسم عليه‌السلام فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم ، أو رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء كان ليعقوب وسارة مثلها (قالَ أَنَا يُوسُفُ) صرح بالاسم تعظيما لما جرى عليه من ظلم إخوته كأنه قال : أنا الذي ظلمتموني على أشنع الوجوه والله أوصلني إلى أعظم المناصب ، أنا ذلك الأخ الذي قصدتم قتله ثم صرت كما ترون ولهذا قال : (وَهذا أَخِي) مع أنهم كانوا يعرفونه لأن مقصوده أن يقول وهذا أيضا كان مظلوما كما كنت صار منعما عليه من الله وذلك قوله : (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أي بكل خير دنيوي

١٢١

وأخروي أو بالجمع بعد التفريق (إِنَّهُ) أي الشأن (مَنْ يَتَّقِ) عقاب الله (وَيَصْبِرْ) عن معاصيه وعلى طاعته (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أراد أجرهم فاكتفى من الربط بالعموم. ومن قرأ (يَتَّقِي) بإثبات الياء فوجهه أن يجعل «من» بمعنى «الذي» ، ويجوز على هذا الوجه أن يكون قوله : (وَيَصْبِرْ) في موضع الرفع إلا أنه حذفت الحركة للتخفيف أو المشاكلة. وفي الآية دليل على براءة ساحة يوسف ونزاهة جانبه من كل سوء وإلا لم يكن من المتقين الصابرين.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) اعتراف منهم بتفضيله عليهم بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين وصورة الأحسنين. ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا أنبياء وإن احتج به بعضهم لأن الأنبياء متفاوتون في الدرجات (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [البقرة : ٢٥٣] (وَإِنْ كُنَّا) وإن شأننا أنا كنا خاطئين. قال أبو عبيدة : خطىء وأخطأ بمعنى واحد. وقال الأموي : المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره ومنه قولهم : «المجتهد يخطىء ويصيب». والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي. قال أبو علي الجبائي : إنهم لم يعتذروا عن ذلك الذي فعلوا بيوسف لأنه وقع منهم قبل البلوغ ومثل ذلك لا يعد ذنبا ، وإنما اعتذروا من حيث إنهم أخطئوا بعد ذلك حين لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنه حي وأن الذئب لم يأكله. واعترض عليه فخر الدين الرازي بأنه يبعد من مثل يعقوب أن يبعث جمعا من الصبيان من غير أن يبعث معهم رجلا بالغا عاقلا ، فالظاهر أنه وقع ذلك منهم بعد البلوغ. سلمنا لكن ليس كل ما لا يجب الاعتذار عنه لا يحسن الاعتذار عنه ، ولما اعترفوا بفضله عليهم وبكونهم متعمدين للإثم (قالَ) يوسف (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) لا تأنيب ولا توبيخ. وقيل : لا أذكر لكم ذنبكم. وقيل : لا مجازاة لكم عندي على ما فعلتهم. وقيل : لا تخليط ولا إفساد عليكم واشتقاقه من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه إزالة الثرب كالتجليد والتقريد لإزالة الجلد والقراد وذلك لأنه إذا ذهب منه الثرب كان في غاية الهزال والعجف فصار مثلا للتقريع المدنف المضني. وقوله : (الْيَوْمَ) إما أن يتعلق بالتثريب أو بالاستقرار المقدر في عليكم أي لا أثربكم اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره. ثم ابتدأ فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم ليكون عقاب الدارين مزالا عنهم. وأصل الدعاء أن يقع على لفظ المستقبل فإذا أوقعوه لفظ الماضي فذلك للتفاؤل ، ويحتمل أن يكون (الْيَوْمَ) متعلقا بالدعاء فيكون فيه بشارة بعاجل غفران الله لتجدد توبتهم وحدوثها في ذلك اليوم. يروى أن إخوته لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشيا ونحن نستحيي منك لما فرط منا فيك. فقال يوسف : إن أهل مصر وإن ملكت

١٢٢

فيهم فإنهم ينظرون إليّ شزرا ويقولون : سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أخذ يوم الفتح بعضادتي باب الكعبة فقال لقريش : ما ترونني فاعلا بكم؟ قالوا : نظن خيرا أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أقول ما قال أخي يوسف (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ). قال عطاء الخراساني : طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ ، ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) وقول يعقوب : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ) ولما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيهم فقالوا ذهبت عيناه فقال : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) كقولك جاء البنيان محكما ومثله (فَارْتَدَّ بَصِيراً) أو المراد يأت إلي وهو بصير دليله قوله : (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) قيل : هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنة أوحى الله إليه أن فيه عافية كل مبتلي وشفاء كل سقيم. وقالت الحكماء : لعله علم أن أباه ما كان أعمى وإنما صار ضعيف البصر من كثرة البكاء فإذا ألقى عليه قميصه صار منشرح الصدر فتقوى روحه ويزول ضعفه. روي أن يهوذا حمل القميص وقال : أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخا بالدم فأفرحه كما أحزنته ، فحمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخا. عن الكلبي : كان أهله نحوا من سبعين إنسانا. وقال مسروق : دخل قوم يوسف مصر وهم ثلاثة وتسعون من بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم نحو من ستمائة ألف.

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) خرجت من عريش مصر فصل من البلد فصولا انفصل منه وجاوز حيطانه ، وفصل مني إليه كتاب إذا نفذ وإذا كان فصل متعديا كان مصدره الفصل (قالَ أَبُوهُمْ) لمن حوله من قومه (إِنِّي لَأَجِدُ) بحاسة الشم (رِيحَ يُوسُفَ) قال مجاهد : هبت ريح فصفقت القميص ففاحت رائحة الجنة في الدنيا فعلم يعقوب أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص. قال أهل التحقيق : إن الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عند انقضاء مدة المحنة ومجيء أوان الروح والفرح من مسيرة ثمان ، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب البلدين في مدة ثمانين سنة أو أربعين عند الأكثرين وكلاهما معجزة ليعقوب خارقة للعادة ، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب وكل صعب فإنه في زمان الإقبال سهل. وقوله : (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) جوابه محذوف أي لو لا تفنيدكم إياي لصدّقتموني. والتفنيد النسبة إلى الفند وهو الخرف وتغير العقل من هرم يقال : شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة لأنها لم تكن ذات رأي فتفند في الكبر. (قالُوا)

١٢٣

يعني الحاضرين عنده (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أي فيما كنت فيه قدما من البعد عن الصواب في إفراط محبة يوسف كما قال بنوه (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [يوسف : ٨]. وقيل : لفي شقائك القديم بما تكابد على يوسف من الأحزان. قال الحسن : إنما قالوا هذه الكلمة الغليظة لاعتقادهم أن يوسف قد مات. (فَلَمَّا أَنْ جاءَ) «أن صلة» أي فلما جاء مثل (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) [هود : ٧٤] وقيل : هي مع الفعل في محل الرفع بفعل مضمر أي فلما ظهر أن جاء البشير وهو يهوذا (أَلْقاهُ) طرحه البشير أو يعقوب على وجهه (فَارْتَدَّ بَصِيراً) أي انقلب من العمى إلى البصر أو من الضعف إلى القوة (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) جوز في الكشاف أن يكون مفعوله محذوفا وهو قوله : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) أو قوله : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) ويكون قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ) كلاما مستأنفا. والظاهر أن مفعوله قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وذلك أنه كان قال لهم : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). روي أنه سأل البشير كيف يوسف؟ فقال : هو ملك مصر. قال : ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال : على دين الإسلام. قال : الآن تمت النعمة. ثم إن أولاده أخذوا يعتذرون إليه فوعدهم الاستغفار. قال ابن عباس والأكثرون : أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر لأنه أرجى الأوقات إجابة. وعن ابن عباس في رواية أخرى أخر إلى ليلة الجمعة تحريا لوقت الإجابة. وقيل : أخر لتعرف حالهم في الإخلاص. وقيل : استغفر لهم في الحال ووعدهم دوام الاستغفار في الاستقبال. فقد روي أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. روي أنه قام إلى الصلاة في وقت السحر فلما فرغ رفع يديه وقال : اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم فأوحي إليه أن الله قد غفر لك ولهم أجمعين. وروي أنهم قالوا له ـ وقد علتهم الكآبة ـ وما يغني عنا عفوكما إن لم يعف عنا ربنا فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرت لنا عين أبدا. فاستقبل الشيخ القبلة قائما يدعو وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى جهدوا وظنوا أنهم هلكوا نزل جبريل فقال : إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة. واختلاف الناس في نبوتهم مشهور ، يحكى أنه وجه يوسف إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه ، وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم فتلقوا يعقوب وهو يمشي ويتوكأ على يهوذا ، فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا أهذا فرعون مصر؟ قال : لا هذا ولدك. فلما لقيه قال يعقوب : السلام عليك يا مذهب الأحزان. فأجابه يوسف وقال : يا أبت بكيت حتى ذهب بصرك ألم تعلم

١٢٤

أن القيامة تجمعنا؟ قال : بلى ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك. ومعنى (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) ضمهما إليه واعتنقهما. قال ابن إسحق : كانت أمه باقية إلى ذلك الوقت أو ماتت إلا أن الله تعالى أحياها ونشرها من قبرها تحقيقا لرؤيا يوسف. وقيل : المراد بأبويه أبوه وخالته لأن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين حتى قيل إن بنيامين بالعبرية ابن الوجع ، ولما توفيت أمه تزوج أبوه بخالته فسماها الله تعالى أحد الأبوين لأن الخالة تدعى أما لقيامها مقام الأم ، أو لأن الخالة أم كما أن العم أب فكيف وقد اجتمع هاهنا الأمران. قال السدي : كان دخولهم على يوسف قبل دخولهم على مصر كأنه حين استقبلهم نزل لأجلهم في خيمة أو بيت هناك فدخلوا عليه وضم إليه أبويه (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ) فعلى هذا جاز أن يكون الاستثناء عائدا إلى الدخول. وعن ابن عباس : ادخلوا مصر أي أقيموا بها. وقوله : (إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) تعلق بالدخول المكيف بالأمن فكأنه قيل : اسلموا وأمنوا في دخولكم وإقامتكم إن شاء الله وجواب الشرط بالحقيقة محذوف والتقدير ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين ، أراد الأمن على أنفسهم وأموالهم وأهليهم بحيث لا يخافون أحدا وكانوا فيما سلف يخافون ملك مصر ، أو أراد الأمن من القحط والشدة أو من تعييره إياهم بالجرم السالف.

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) السرير الرفيع الذي كان يجلس عليه (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) لسائل أن يقول : السجود لا يجوز لغير الله فكيف سجدوا ليوسف؟ وأيضا تعظيم الأبوين تالي تعظيم الله سبحانه فمن أين جاز سجدة أبويه له؟ والجواب عن ابن عباس في رواية عطاء أن المراد خرّوا لأجل وجدانه سجدا لله فكانت سجدة الشكر لله سبحانه ، وكذا التأويل في قوله : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] أي أنها سجدت لله تعالى لأجل طلب مصلحتي وإعلاء منصبي. وأحسن من هذا أن يقال : إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكرا على لقائه ، أو يراد بالسجدة التواضع التام على ما كانت عادتهم في ذلك الزمان من التحية ، ولعلها ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجبهة. واعترض على هذا الوجه بأن لفظ الخرور يأباه. وأجيب بأن الخرور قد يعني به المرور قال تعالى : (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) [الفرقان : ٧٣] أي لم يمروا. وقيل : الضمير عائد إلى إخوته فقط. ورد بأن قوله : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) من قبل ينبو عنه. وأجيب بأن التعبير لا يلزم أن يكون مطابقا للرؤيا من كل الوجوه فيحتمل أن تكون السجدة في حق الإخوة التواضع التام ، وفي حق أبويه مجرد ذهابهما من كنعان إلى مصر ، ففيه تعظيم تام للولد. وقيل : إنما سجد الأبوان لئلا تحمل الأنفة إخوته على عدم السجود فيصير سببا

١٢٥

لثوران الفتن وإحياء الأحقاد والضغائن ، أو لعله تعالى أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية لا يعرفها إلا الله تعالى ، ورضي بذلك يوسف موافقة لأمر الله ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن يوسف لما رأى سجودهم له اقشعر جلده ولكن لم يقل شيئا وكأن الأمر بتلك السجدة كان من تمام التشديد والبلية والله أعلم. (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) يقال : أحسن به وإليه بمعنى. (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) لم يذكر إخراجه من البئر لأنه نوع تثريب للإخوة وقد قال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) ولأنه لم يكن نعمة لأنه حينئذ صار عبدا وصار مبتلى بالمرأة ولأن هذا الإخراج أقرب وأشمل (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي من البادية سمى المكان باسم المصدر لظهور الشخص فيه من بعيد ، وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش يتنقلون في المياه والصحارى. قال ابن الأنباري : بدا موضع معروف هنالك. روي عن ابن عباس أن يعقوب كان قد تحول إليه وسكن فيه ومنه قدم إلى يوسف ، على هذا كان يعقوب وولده أهل الحضر والبدو قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا والمعنى جاء بكم من قصد بدا ذكره الواحدي في البسيط. قال الجبائي والكعبي والقاضي : إنه تعالى أخبر عن يوسف أنه أضاف الإحسان إلى الله ونسب النزغ إلى الشيطان وهو الإفساد والإغراء ، ففيه دليل على أن الخير من الله دون الشر. وأجيب بأنه إنما راعى الأدب وإلا فليس فعل الشيطان إلا الوسوسة ، وأما صرف الداعية إلى الشر فلا يقدر عليه إلا الله تعالى فإن العاقل لا يريد ضرر نفسه. (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) فإذا أراد حصول أمر هيأ أسبابه وإن كان في غاية البعد عن الأوهام. (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بالوجه الذي تسهل به الصعاب (الْحَكِيمُ) في أفعاله حتى تجيء على الوجه الأصوب والنحو الأصلح. يحكى أن يوسف أخذ بيد يعقوب وطاف به في خزائنه فأدخله خزائن الورق والذهب وخزائن الحلي والثياب والسلاح وغير ذلك ، فلما أدخله خزائن القراطيس قال : يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل! قال : أمرني جبريل. قال : أو ما تسأله؟ قال : أنت أبسط إليه مني فسأله قال جبريل : الله أمرني بذلك لقولك : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف : ١٣] قال : فهلا خفتني. ثم إن يعقوب أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثم عاد إلى مصر وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة ، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له قال : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) شيئا من ملك الدنيا أو من ملك مصر لأنه كان دون ملك فوقه (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) بعضا من ذلك لأنه لا يمكن أن يحصل للإنسان في العمر المتناهي والاستعداد المعين المحصور سوى المتناهي من السعادات الدنيوية والكمالات الأخروية (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) منادى ثان أو صفة النداء الأول أي مبدعهما على النحو الأفضل من مادة سابقة

١٢٦

كالدخان أو من عدم محض (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لا يتولى إصلاح مهماتي في الدارين غيرك. ولما قدم النداء والثناء كما هو شرط الأدب الحسن ذكر المسألة فقال (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) أراد الوفاة على حال الإسلام والختم بالحسنى كقول يعقوب لولده : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢] (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) من آبائي أو على العموم.

قيل : الصلاح أول درجات المؤمنين الصالحين فالواصل إلى الغاية وهي النبوة كيف يليق به أن يطلب البداية؟ والجواب إن أراد الإلحاق بالآباء فظاهر ، وإن أراد العموم فكذلك لأن طلب الصلاح غير الإلحاق بأهل الصلاح فإن اجتماع النفوس المشرقة بالأنوار الإلهية له أثر عظيم وفوائد جمة كالمرآة المستنيرة المتقابلة التي يتعاكس أضواؤها ويتكامل أنوارها إلى حيث لا تطيقها العيون الضعيفة ، هذا مع أن الختم على الصلاح نهاية مراتب الصديقين. وهاهنا بحث للأشاعرة وهو أن التوفي على الإسلام والإلحاق بأهل الصلاح لو لم يكن من فعل الله تعالى كان طلبه من الله جاريا مجرى قول القائل : افعل يا من لا يفعل. وهل هذا إلا كتشنيع المعتزلة علينا إذ كان الفعل من الله فكيف يجوز أن يقول للمكلف افعل مع أنه ليس بفاعل؟ أجاب الجبائي والكعبي بأن المراد ألطف بي بالإقامة على الإسلام إلى أن أموت فألحق بالصلحاء. ورد بأنه عدول عن الظاهر مع أن كل ما في مقدور الله من الألطاف فقد فعله في حق الكل. سؤال آخر : الأنبياء يعلمون أنهم يموتون على الإسلام البتة ، فما الفائدة في الطلب؟ الجواب : العلم الإجمالي لا يغني عن العلم التفصيلي ولا سيما في مقام الخشية والرهبة. وقال في التفسير الكبير : المطلوب هاهنا حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر وهي الاستسلام لحكم الله والرضا بقضائه. وعن قتادة وكثير من المفسرين أنه تمنى الموت واللحوق بدار البقاء في زمرة الصلحاء ولم يتمن الموت نبي قبله ولا بعده.

قال أهل التحقيق : لا يبعد من الرجل العاقل إذا كمل عقله أن تعظم رغبته في الموت لوجوه منها : أن مراتب الموجودات ثلاث : المؤثر الذي لا يتأثر وهو الإله تعالى وتقدس ، والمتأثر الذي لا يؤثر وهو عالم الأجساد فإنها قابلة للتشكيل والتصوير والصفات المختلفة والأعراض المتضادة ، ويتوسطهما قسم ثالث هو عالم الأرواح لأنها تقبل الأثر والتصرف من العالم الإلهي ، ثم إذا أقبلت على عالم الأجساد تصرفت فيه وأثرت. وللنفوس في التأثير والتأثر مراتب غير متناهية لأن تأثيرها بحسب تأثرها مما فوقها والكمال الإلهي غير متناه فإذن لا تنفك النفس من نقصان ما ، والناقص إذا حصل له شعور

١٢٧

بنقصانه وقد ذاق لذة الكمال بقي في القلق وألم الطلب ولا سبيل له إلى دفع هذا القلق والألم إلا الموت فحينئذ يتمنى الموت. ومنها أن سعادات الدنيا ولذاتها سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها ، ثم إنها مخلوطة بالمنغصات والأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها بل ربما كانت حصة الأراذل أكثر فلا جرم يتمنى العاقل موته ليتخلص من هذه الآفات. ومنها أن اللذات الجسمانية لا حقيقة لها لأن حاصلها يرجع إلى دفع الآلام ، وقد قررنا هذا المعنى فيما سلف. ومنها أن مداخل اللذات الدنيوية ثلاثة : لذة الأكل ولذة الوقاع ولذة الرياسة ولكل منها عيوب ؛ فلذة الأكل مع أنها غير باقية بعد البلع فإن المأكول يختلط بالبصاق المجتمع في الفم ولا شك أنه شيء منفر ، ثم لما يصل إلى المعدة يستحيل إلى ما ذكره منفر فكيف به ومن هنا قالت العقلاء : من كانت همته ما يدخل في جوفه كانت قيمته ما يخرج من بطنه ، هذا مع اشتراك الحيوانات الخسيسة فيها. وأيضا اشتداد الجوع حاجة والحاجة نقص وآفة وكذا الكلام في لذة النكاح وعيوبها مع أن فيها احتياجا إلى زيادة المال والنفقة للزوج والولد وما يلزمهما ، والاحتياج إلى المال يلقي المرء في مهالك الاكتساب ومهاوي الانتجاع ، ولذة الرياسة أدنى عيوبها أن كل واحد يكره بالطبع أن يكون خادما مأمورا ويحب أن يكون مخدوما ، فسعي الإنسان في الرياسة سعي في مخالفة كل من سواه. ولا ريب أن هذا أمر صعب الحصول منيع المرام وإذا ناله كان على شرف الزوال في كل حين وأوان لأن كثرة الأسباب توجب قوة حصول الأثر فيكون دائما في الحزن والخوف. فإذا تأمل العاقل في هذه المعاني علم قطعا أنه لا صلاح في اللذات العاجلة ولكن النفس جبلت على طلبها والرغبة فيها فيكون دائما في بحر الآفات وغمرات الحسرات فحينئذ يتمنى زوال هذه الحياة. وقد سبق منا في تمني الموت كلام آخر في سورة البقرة في تفسير قوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الجمعة : ٦] فليتذكر. قال أهل السير : لما توفي يوسف تخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال ، فرأوا من الرأي أن عملوا له صندوقا من مرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل بمكان يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا فيه شرعا. وولد له إفرائيم وميشا وولد لإفراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى ، ثم بقي يوسف هناك إلى أن بعث الله موسى فأخرج عظامه من مصر ودفنها عند قبر أبيه والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.

التأويل : إن يعقوب الروح لا يتأسف على فوات شيء من المخلوقات إلا على يوسف القلب لأنه مرآة جمال الحق لا يشاهد الحق إلا فيها فلذلك ابيضت عيناه في

١٢٨

انتظارها فلامه على ذلك الأوصاف البشرية بقولهم (تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) وأين أهل السلوة من أهل العشق ، أين الخلي من الشجي ، ولا بد للمحب من ملامة الخلق فأول ملامتي آدم عليه‌السلام حين قالت الملائكة لأجله (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] بل أول ملامتي هو الله تعالى حين قالوا له : (أَتَجْعَلُ فِيها) وذلك أنه أول محب ادعى المحبة وهو قوله (يُحِبُّهُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٦٢] من جماله وكماله (اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا) فيه أن الواجب على كل مسلم أن يطلب يوسف قلبه وبنيامين سره ، وإن ترك لطف الله واليأس عن وجدانه كفر. فلما رأت الأوصاف البشرية آثار العزة من رب العزة على صفحات أحوال يوسف القلب حين وصلوا بتيسير أحكام الشريعة وتدبير آداب الطريقة إلى سرادقات حضرة القلب (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا) وهم القوى الإنسانية (الضُّرُّ) البعد عن الحضرة الربانية (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) من الأعمال البدنية (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) بإفاضة سجال العوارف وإسباغ ظلال العواطف (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) إذ كنتم على صفة الظلومية والجهولية (لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) بالطلب والصدق والشوق والمحبة والوصول والوصال (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) في الإقبال على استيفاء الحظوظ الحيوانية التي تضر القلب والسر والروح (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) لأنه صدر منها ما صدر بحكمة من الله تعالى وتربية القلب وإن كان مضرا له ظاهرا كما أن صنيع إخوة يوسف في البداية صار سببا لرفعة منزلته في النهاية (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي) وهو نور جمال الله (وَلَمَّا فَصَلَتِ) عير واردات القلب وهبت نفحات ألطاف الحق (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) :

يا عاذل العاشقين دع فئة

أضلها الله كيف ترشدها

(فَارْتَدَّ بَصِيراً) لأن الروح كان بصيرا في بدو الفطرة ثم عمي لتعلقه بالدنيا وتصرفه فيها ثم صار بصيرا بوارد من القلب :

ورد البشير بما أقر الأعينا

وشفى النفوس فنلن غايات المنى

والقلب في بدو الأمر كان محتاجا إلى الروح في الاستكمال ، فلما كمل وصلح لقبول فيضان الحق بين إصبعين ونال مملكة الخلافة بمصر القربة في النهاية صار الروح محتاجا إليه لاستنارته بأنوار الحق ، وذلك أن القلب بمثابة المصباح في قبول نار النور الإلهي والروح كالزيت فيحتاج المصباح في البداية إلى الزيت في قبول النار ، ولكن الزيت يحتاج إلى المصباح في البداية وتزكيته في النهاية لتقبل بواسطة النار (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ) لأنه لا يصل إلى الحضرة الأحدية إلا بجذبة المشيئة آمنين من الانقطاع والانفصال

١٢٩

(وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) لما رأوه وعرفوه أنه عرش الحق تعالى ، فالسجدة كانت في الحقيقة لرب العرش لا للعرش (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) إن كنت نائما في نوم العدم (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) سجن الوجود ولم يقل من الجب لأنه لا يخرج من جب البشرية ما دام في الدنيا (مِنَ الْبَدْوِ) بدو الطبيعة (آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) ملك الوصال والوصول (فاطِرَ السَّماواتِ) عالم الأرواح وأرض البشرية (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) أخرجني من قيد الوجود المجازي وأبقني ببقائك مع الباقين بك بفضلك وكرمك.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

القراآت : (سَبِيلِي) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع (نُوحِي) بالنون وكسر الحاء : حفص. الآخرون بالياء وفتح الحاء يعقلون على الغيبة : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وابن كثير والأعشى والبرجمي. والباقون بتاء الخطاب. (كُذِبُوا) مخففا : عاصم وحمزة وعلي وخلف ويزيد. الباقون بالتشديد. (فَنُجِّيَ) بضم النون وكسر الجيم المشددة وفتح الياء : ابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب. فعلى هذا يكون فعلا ماضيا مبنيا للمفعول. وعن الكسائي مثل هذا ولكن بسكون الياء ، وخطأه علي بن عيسى بناء على أنه فعل مستقبل من الإنجاء والنون لا يدغم في الجيم ، أو من التنجية والنون المتحركة لا تدغم في الساكن. وأقول : إن كان فعلا ماضيا من التنجية والنون المتحركة لا تدغم كما في القراءة الأولى ولكن سكن الياء للتخفيف لم يلزم منه خطأ. الآخرون : قرأوا بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء فعلا مضارعا من الإنجاء على حكاية الحال الماضية.

الوقوف : (إِلَيْكَ) ج لابتداء النفي مع واو العطف (يَمْكُرُونَ) ه (بِمُؤْمِنِينَ) ه

١٣٠

(أَجْرٍ) ط (لِلْعالَمِينَ) ه (مُعْرِضُونَ) ه (مُشْرِكُونَ) ه (لا يَشْعُرُونَ) ه ومن اتبعن ط (الْمُشْرِكِينَ) ه (الْقُرى) ط (مِنْ قَبْلِهِمْ) ط (اتَّقَوْا) ط (تَعْقِلُونَ) ه (نَصْرُنا) ط لمن قرأ فننجي بالتخفيف ولا وقف على (مَنْ نَشاءُ) ومن قرأ (فَنُجِّيَ) مشددة وصله بما قبله ووقف على (مَنْ نَشاءُ الْمُجْرِمِينَ) ه (الْأَلْبابِ) ط (يُؤْمِنُونَ) ٥.

التفسير : (ذلِكَ) الذي ذكر من نبأ يوسف هو من أخبار الغيب وقد مر تفسير مثل هذا في آخر قصة زكريا في سورة آل عمران. ومعنى إجماع الأمر العزم عليه كما مر في سورة يونس في قصة نوح. وأراد عزمهم على إلقاء يوسف في البئر وهو المكر بعينه وذلك مع سائر الغوائل من المجيء على قميصه بدم كذب ومن شراهم إياه بثمن بخس. قال أهل النظم : إن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التعنت ، فاعتقد رسول الله أنه إذا ذكرها فربما آمنوا فلما ذكرها لهم أصروا على كفرهم فنزل : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) أي أكثر خلق الله المكلفين أو أكثر أهل مكة قاله ابن عباس. (وَلَوْ حَرَصْتَ) جوابه مثل ما تقدم أي ولو حرصت فما هم (بِمُؤْمِنِينَ) والحرص طلب الشيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد ونظير الآية قوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦] (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) على ما تحدثهم به (مِنْ أَجْرٍ) كما يسأل القاص (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) عظة من الله (لِلْعالَمِينَ) عامة على لسان رسوله. (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) الأكثرون على أنه لفظ مركب من كاف التشبيه وأيّ التي هي في غاية الإبهام إذا قطعت عن الإضافة لكنه انمحى عن الجزأين معناهما الإفرادي وصار المجموع كاسم مفرد بمعنى «كم» الخبرية. والتمييز عن الكاف لا عن أي كما في مثلك رجلا ، والأكثر إدخال «من» في تمييزه وقد مر في سورة البقرة في تفسير قوله سبحانه : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). [الآية : ١٦٤] وفي مواضع أخر تفصيل بعض الآيات السماوية والأرضية الدالة على توحيد الصانع وصفات جلاله ، ومن جملة الآيات قصص الأوّلين وأحوال الأقدمين. ومعنى (يَمُرُّونَ عَلَيْها) أشياء يشاهدونها (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) لا يعتبرون بها. وقرىء (وَالْأَرْضِ) بالرفع على الابتداء خبره (يَمُرُّونَ) والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر. والحاصل أن جملة العالم العلوي والعالم السفلي محتوية على الدلائل والبينات على وجود الصانع ونعوت كماله ولكن الغافل يتعامى عن ذلك. (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) وذلك أنهم كانوا مقرين بالإله (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] لكنهم كانوا يثبتون له شريكا في المعبودية هو الأصنام ويقولون : هم الشفعاء. وكان أهل مكة يقولون : الملائكة بنات الله.

١٣١

وعن الحسن : هم أهل الكتاب يقولون عزيز ابن الله والمسيح ابن الله. وعن ابن عباس : هم الذين يشبهون الله بخلقه. احتجت الكرامية بالآية على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار. والجواب أن مجرد الإقرار لو كان كافيا لما اجتمع مع الشرك غاشية عقوبة تغشاهم وتغمرهم. (قُلْ) يا محمد لهم (هذِهِ) السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان (سَبِيلِي) وسيرتي وقوله (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) تفسير لـ (سَبِيلِي) و (عَلى بَصِيرَةٍ) يتعلق بأدعو و (أَنَا) تأكيد للمستتر في أدعو (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) عطف عليه ويجوز أن يكون (عَلى بَصِيرَةٍ) حالا من أدعو عاملة في أنا ومن اتبعن ، ويجوز أن يكون (أَنَا) مبتدأ معطوفا عليه و (مَنِ اتَّبَعَنِ) و (عَلى بَصِيرَةٍ) خبرا مقدما فيكون ابتداء إخبار بأنه ومن اتبعه على حجة وبرهان لا على هوى وتشه (وَ) قل (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها له عما أشركوا (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لا شركا جليا ولا شركا خفيا.

قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) وفي «الأنبياء» (قَبْلَكَ) [الأنبياء : ٧] بغير «من» لأن قبلا اسم للزمان السابق على ما أضيف إليه و «من» تفيد استيعاب الطرفين ، وفي هذه السورة أريد الاستيعاب. قوله : (إِلَّا رِجالاً) ردّ على من زعم أن الرسول ينبغي أن يكون ملكا أو يمكن أن يكون امرأة مثل سجاح المتنبئة. وقوله : (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) خصهم بالاستنباء لما في أهل البادية من الغلظ والجفاء (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل» (١) (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) إلى مصارع الأمم المكذبة إنما قال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) بالفاء بخلاف ما في «الروم» والملائكة لاتصاله بقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) فكان الفاء أنسب من الواو (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) موصوفه محذوف أي ولدار الساعة والحال الآخرة لأن للناس حالين : حال الدنيا وحال الآخرة. وبيان الخيرية قد مر في «الأنعام». وإنما خصت هاهنا بالحذف لتقدم ذكر الساعة. قال في الكشاف : حتى غاية لمحذوف دل عليه الكلام والتقدير فتراخى نصر أولئك الرجال حتى إذا استيأسوا عن النصر أو عن إيمان القوم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) فيه وجوه لقراءتي التخفيف والتشديد ولإمكان عود الضمير في الفعلين إلى الرسل أو إلى المرسل إليهم الدال عليهم ذكر الرسل أو السابق ذكرهم في (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) وأما وجوه التخفيف فمنها : وظن الرسل أنهم قد كذبوا أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون ، أو كذب رجاؤهم لقولهم رجاء صادق وكاذب. والمراد أن مدة التكذيب

__________________

(١) رواه أحمد في مسند (٢ / ٣٧١) ، (٤ / ٢٩٧).

١٣٢

والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله قد تطاولت وتمادت حتى توهموا أن لا نصر لهم في الدنيا. قال ابن عباس : ظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر. قال : وكانوا بشرا ألا ترى إلى قوله : (وَزُلْزِلُوا) والعلماء حملوا قول ابن عباس على ما يخطر بالبال شبه الوسواس وحديث النفس من عالم البشرية. وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فلا ، لأن الرسل أعرف الناس بالله وبأن ميعاده مبرأ عن وصمة الأخلاف. ومنها وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا من النصر والظفر. ومنها وظن المرسل إليهم أنهم قد كذبوا من جهة الرسل أي كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم ولم يصدقوهم فيه. وأما قراءة التشديد فإن كان الظن بمعنى اليقين فمعناه أيقن الرسل أن الأمم كذبوهم تكذيبا لا يصدر عنهم الإيمان بعد فحينئذ دعوا عليهم فهناك نزل عذاب الاستئصال ، أو كذبوهم فيما وعدوهم من العذاب والنصرة عليهم. وإن كان بمعنى الحسبان فالمعنى توهم الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم وهذا تأويل عائشة قالت : ما وعد الله محمدا شيئا إلا وعلم أنه سيوفيه ، ولكن البلاء لم يزل بالأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم.

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) قصص الرسل إضافة للمصدر إلى الفاعل ، ويحسن أن يقال : الضمير لإخوة يوسف وله لاختصاص هذه السورة بهم. والعبرة نوع من الاعتبار وهي العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول ، ووجه الاعتبار على العموم أن يعلم أنه لا خير إلا في العمل الصالح والتزوّد بزاد التقوى فإن الملوك الذي عمروا البلاد وقهروا العباد ثم لم يراعوا حق الله في شيء من ذلك ماتوا وانقرضوا وبقي الوزر والوبال عليهم. وعلى الخصوص أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب وإعلاء شأنه بعد حبسه في السجن واجتماعه بأهله بعد طول البعاد قادر على إظهار محمد وإعلاء كلمته. والكل مشترك في الدلالة على صدق محمد لأن هذا النوع من القصص الذي أعجز حملة الأحاديث ورواة الأخبار ممن لم يطالع الكتب ولم يخالط العلماء دليل ظاهر وبرهان باهر على أنه بطريق الوحي والتنزيل ، وإنما يكون دليلا واعتبارا (لِأُولِي الْأَلْبابِ) وأصحاب العقول الذين يتأملون ويتفكرون لا الذين يمرون ويعرضون على أن الدليل دليل في نفسه للعقلاء وإن لم ينظر فيه مستدل قط كما أن الرئيس الحقيقي من له أهلية الرياسة وإن كان في نهاية الخمول (ما كانَ) مدلول القصص وهو المقصوص أو القرآن (حَدِيثاً يُفْتَرى) لظهور إعجازه (وَلكِنْ) كان (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب السماوية (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه في الدين لأنه القانون الذي يستند إليه السنة والإجماع والقياس. وقيل :

١٣٣

تفصيل كل شيء من واقعة يوسف مع أبيه وإخوته. قال الواحدي : وعلى التفسيرين فهو ليس على عمومه لأن المراد به الأصول والقوانين وما يؤل إليها (وَهُدىً) في الدنيا (وَرَحْمَةً) في الآخرة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم هم المنتفعون بذلك.

التأويل : (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) لأن هذا الترتيب في السلوك لا يعلمه إلا الوالجون ملكوت السماء الغوّاصون في بحر بطن القرآن (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) بالصورة ولكن كنت حاضرا بالمعنى (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) وهم صفات الناسوتية (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) لأن اللاهوتية غير محتاجة إلى الناسوتية وإن دعتها إلى الاستكمال لأنها كاملة في ذاتها مكملة لغيرها (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) في سموات القلوب وأرض النفوس تمر الأوصاف الإنسانية عليها (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) لإقبالها على الدنيا وشهواتها (وَما يُؤْمِنُ) أكثر الصفات الإنسانية بطلب الله وتبدل صفاته (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) في طلب الدنيا وشهواتها ، أو طلب الآخرة ونعمها ، أو وما يؤمن أكثر الخلق بالله وطلبه إلا وهم مشركون برؤية الإيمان والطلب أنها منهم لا من الله ، فكل من يرى السبب فهو مشرك ، وكل من يرى المسبب فهو موحد كل شيء هالك في نظر الموحد إلا وجهه ، أو وما يؤمن أكثر الناس بالله وبقدرته وإيجاده إلا وهم مشركون في طلب الحاجة من غير الله (غاشِيَةٌ) جذبة تقهر إرادتهم وتسلب اختيارهم كما قيل : العشق عذاب الله (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) ساعة الانجذاب إلى الله (هذِهِ سَبِيلِي) لأن طريق السير والسلوك مختص به وبأمته (إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) الملكوت دون مدن الملك والأجساد ، والرجال من القرى ويشبه أن يعبر عن عالم الأرواح بالقرى لبساطتها. والقرى أقل أجزاء من المدن (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي) أرض البشرية على قدمي الشريعة والطريقة ليصلوا إلى فضاء عالم الحقيقة (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) ففي إبطاء النصر ابتلاء للرسل ؛ الله حسبي ونعم الوكيل.

١٣٤

سورة الرعد مكية وقيل مدنية

سوى آية نزلت بجحفة قوله (وَهُمْ يَكْفُرُونَ)

حروفها ٣٥٠٦ كلمها ٨٥٥ آياتها ٤٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١))

القراآت : (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ) بالرفع فيهن : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص والمفضل. الآخرون بالجر فيهن عطفا على (أَعْنابٍ). (يُسْقى) بالياء المثناة من تحت على تقدير يسقى كله أو للتغليب : ابن عامر وعاصم ويزيد ورويس. الباقون بتاء

١٣٥

التأنيث لقوله : (جَنَّاتٌ) ويفضل على الغيبة : حمزة وعلي وخلف. الباقون بالنون على ونحن نفضل (أَإِذا) بهمزتين (إِنَّا) بهمزة واحدة على أيذا بقلب الثانية ياء والباقي كما مر : نافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد آئذا إنا بالمد والباقي مثله : زيد وقالون إذا بهمزة واحدة أإنا بهمزتين : ابن عامر. هشام يدخل بينهما مدة إذا بهمزة واحدة آينا بهمزة ممدودة ثم ياء : يزيد أيذا أينا بهمزة ثم ياء فيهما : ابن كثير مثله ولكن بالمد أبو عمرو اإذا آئنا بهمزتين فيهما : عاصم وحمزة وخلف هادي وافى وإلى باقي في الوقف : يعقوب وابن كثير غير ابن فليح وزمعة ، وروى ابن شنبوذ عن قنبل بالياء في الوقف وعن البزي بغير ياء المتعالي في الحالين : ابن كثير ويعقوب وافق سهل وعباس في الوصل.

الوقوف : (المر) كوفي (آياتُ الْكِتابِ) ط (لا يُؤْمِنُونَ) ه (وَالْقَمَرَ) ط (مُسَمًّى) ط يوقنون ه (وَأَنْهاراً) ط (النَّهارَ) ط (يَتَفَكَّرُونَ) ه (بِماءٍ واحِدٍ) ز قف لمن قرأ (وَنُفَضِّلُ) بالنون (فِي الْأُكُلِ) ط (يَعْقِلُونَ) ه (جَدِيدٍ) ط (بِرَبِّهِمْ) ط (فِي أَعْناقِهِمْ) ج (النَّارِ) ج (خالِدُونَ) ه (الْمَثُلاتُ) ط (عَلى ظُلْمِهِمْ) ج لتنافي الجملتين (الْعِقابِ) ه (مِنْ رَبِّهِ) ط (هادٍ) ه (وَما تَزْدادُ) ط (بِمِقْدارٍ) ه (الْمُتَعالِ) ٥ (بِالنَّهارِ) ه (مِنْ أَمْرِ اللهِ) ط (ما بِأَنْفُسِهِمْ) ط (فَلا مَرَدَّ لَهُ) ج لاختلاف الجملتين (والٍ) ه.

التفسير : (تِلْكَ) الآيات التي في هذه السورة آيات السورة العجيبة الكاملة في بابها (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي القرآن كله هو (الْحَقُ) الذي لا محيد عنه والمراد أنه لا تنحصر الحقية في هذه السورة وحدها. ثم أخذ في تفصيل الحق فبدأ بالدلالة على صحة المبدأ والمعاد فقال : (اللهُ) وهو مبتدأ خبره (الَّذِي) أو الموصول صفة المبتدأ ، وقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ) خبر بعد خبر. والعمد بفتحتين جمع عمود وهو ما يعمد به الشيء شبه الأسطوانة. وقوله : (تَرَوْنَها) كلام مستأنف على سبيل الاستشهاد أي وأنتم ترونها مرفوعة بلا عماد. وقال الحسن : في الآية تقديم وتأخير تقديره رفع السموات ترونها مرفوعة بغير عمد وفيه تكلف. وقيل : ترونها صفة للعمد. ثم زعم من تمسك بالمفهوم أن للسموات عمدا لكنا لا نراها وما تلك العمد؟ قال بعض الظاهريين : هي جبل من زبرجد محيط بالدنيا يسمى جبل قاف. ولا يخفى سقوط هذا القول لأن كل جسم لو كان يلزم أن يكون معتمدا على شيء فذلك الجبل أيضا كان معتمدا على شيء وتسلسل. وقال بعض من ترقى في حضيض الصورة إلى ذروة عالم المعقول :

١٣٦

إن تلك العمد هي قدرة الله تعالى وحفظه الذي أوقفها في الجوّ العالي. ونحن لا نرى ذلك التدبير ولا نعرف كيفية ذلك الإمساك. أما قوله : (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) فعن ابن عباس أن للشمس مائة وثمانين منزلا في مائة وثمانين يوما ، إنها تعود مرة أخرى إلى واحد واحد منها في أمثال تلك الأيام ومجموع تلك الأيام سنة تامة. أقول : إن صح عنه فلعله أراد تصاعدها في دائرة نصف النهار وتنازلها عنها في أيام السنة ، وأراد نزولها في فلكها الخارج المركز من الأوج إلى الحضيض ، ثم صعودها من الحضيض إلى الأوج فإن لها بحسب كل جزء من تلك الأجزاء في كل يوم من أيام السنة تعديلا خاصا زائدا أو ناقصا كما برهن عليه أهل النجوم. وأما القمر فسيره في منازله مشهور. وقال سائر المفسرين : المراد كونهما متحركين إلى يوم القيامة وبعد ذلك تنقطع الحركات وتنتهي المسيرات كقوله : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام : ٢] واللام للتاريخ كما تقول : كتبت لثلاث خلون. وإنما قال في سورة لقمان (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [لقمان : ٢٩] موافقة لقبيل ذلك ومن يسلم وجهه إلى الله والقياس لله كما في قوله : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) [آل عمران : ٢٠] (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) إجمال بعد التفصيل أي أمر العالم العلوي والعالم السفلي من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن ، لأن تدبيره لعالم الأرواح كتدبيره لعالم الأشباح ، وتدبيره للكبير كتدبيره للصغير لا يختلف بالنسبة إلى قدرته أحوال شيء من ذلك في الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة وتبديل الصور والأعراض وتغيير الأشكال والأوضاع (يُفَصِّلُ الْآياتِ) الدالة على وحدانيته وقدرته ، ويحتمل أن يراد بتدبير الأمر تدبير عالم الملكوت ، ويكون معنى تفصيل الآيات إنزال الكتب وبعث الرسل وتكليف العباد الذي هو أثر ذلك العالم في العالم السفلي. ويجوز أن يكون تدبير الأمر إشارة إلى القضاء ، وتفضيل الآيات إشارة إلى القدر. وقوله : (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) على كل التفاسير إشارة إلى إثبات المعاد لأن المقر بتدبيره وتقديره على الأنهاج المذكورة لا بد أن يعترف باقتداره على الإعادة والجزاء.

ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها الدلائل الأرضية فقال : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) قال الأصم : أي بسطها إلى ما لا يدرك منتهاه ، وهذا الامتداد الظاهر لحس البصر لا ينافي كريتها لتباعد أطرافها (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت في أحيازها غير منتقلة عن أماكنها. وكيفية تكوّن الجبال على بسيط الأرض لا يعلم تفصيلها إلا موجدها. وزعمت الفلاسفة أنها من تأثير السموات في الأجزاء الأرضية القابلة لذلك الأثر بعد امتزاجها بالأجزاء المائية وغيرها ، وقد يعين على ذلك نزول الأمطار وهبوب الرياح وهذا إن صح

١٣٧

فعلم إجمالي. وزعم بعضهم أن البحار كانت في جانب الشمال مدة كون حضيض الشمس هناك ، وحين انتقل الحضيض إلى الجنوب انجذبت المياه إلى ذلك الجانب لأن الشمس تصير في الحضيض أقرب إلى الأرض فتوجب شدة السخونة الجاذبة للرطوبات فصار الطين اللزج حجرا وحدثت الجبال والأغوار بحسب المواضع المرتفعة والمنخفضة وبإعانة من السموات والآثار العلوية. وبالجملة فالأسباب تنتهي لا محالة إلى مسبب لا سبب له وهو الله سبحانه. ومن الدلائل الدالة على وجود الصانع ووحدانيته جريان الأنهار العظيمة على وجه الأرض الكائنة فيها من احتباس الأبخرة ، وأكثر ذلك إنما يتكوّن في الجبال فلذا قرن الجبال بالأنهار في القرآن كثيرا كقوله : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) [المرسلات : ٢٧] وقد يحصل فيها معادن الفلزات ومواضع الجواهر ومكامن الأجسام المائعة من النفط والقير والكبريت وغيرها ، وكل ذلك دليل على وجود فاعل مختار ومدبر قهار. ثم يحدث على الأرض بتربية المياه وتغذيتها أنواع النبات فلذلك قال : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) وللمفسرين فيه قولان : الأول أنه حين مد الأرض خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين ، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوّعت فيكون كل زوجين بالنسبة إلى ذلك النوع كآدم وحواء بالإضافة إلى الإنسان. القول الثاني : إنه أراد بالزوجين الأسود والأبيض والحلو والحامض والصغير والكبير وما أشبه ذلك من الاختلاف الصنفي. ووصف الزوجين بالاثنين للتأكيد مثل نفخة واحدة. أما قوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) فقد مر تفسيره في «الأعراف» وإنما ذكر هذا الإنعام في أثناء الدلائل الأرضية لأن النور والظلمة إنما يحدثان في الجوّ الذي يسميه الحكماء كرة النسيم وكرة البحار وليس فيما وراء ذلك ضياء ولا ظلام. فتعاقب الليل والنهار من جملة الأحداث السفلية وإن كان سببها طلوع الشمس وغروبها في الأفق. ويحتمل أن يقال : إن هذا دليل سماوي وإنه سبحانه عاد مرة أخرى إلى الدليل السماوي ثم إلى الدليل الأرضي وذلك قوله : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) أي بقاع مختلفة مع كونها متجاورة ومتلاصقة طيبة إلى سبخة ، وصلبة إلى رخوة ، وصالحة للزرع لا للشجر إلى أخرى على خلافها ، وفي هذا دلالة ظاهرة على أنها بجعل فاعل مختار موقع لأفعاله على حسب إرادته ، وكذا الكروم والزروع والنخيل الكائنة في هذه القطع مختلفة الطباع متخالفة الثمار في اللون والطعم والشكل وهي تسقى بماء واحد ، فدل ذلك على أن هذه الاختلافات لا تستند إلى الطبيعة فقط ولكنها بتقدير العزيز العليم. وإنما ذكر الزرع بين الأعناب والنخيل لأنها كثيرا ما تكون كذلك في الوجود كقوله (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) [الكهف : ٣٢] والصنوان جمع صنو وهي النخلة لها رأسان وأصلهما

١٣٨

واحد. وعن ابن الأعرابي : الصنو المثل ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عم الرجل صنو أبيه» (١). فمعنى الآية على هذا أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون ، والأكل الثمر الذي يؤكل. قاله الزجاج. وعن غيره أنه عام في جميع المطعومات. وإنما ختم الآية السابقة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وهذه بقوله : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لأن المقام الأوّل يحتاج إلى التفكر لأن الفلاسفة يسندون الحوادث السفلية إلى الآباء الأثيرية والأمهات العنصرية ، لكن العاقل إذا تفكر في اختصاص كل ممتزج بحيز معين وشكل معين وطبيعة وخاصية مخالفتين لغيره علم أن كل هذه الاختلافات لا تستند إلى أشعة كواكب معدودة ولا إلى طبائع عناصر محصورة كما أشير إلى ذلك بقوله : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ) الآية. ولئن سلم أن الاتصالات الفلكية واختلافات الفواعل والقوابل قد ترتقي إلى حد يظهر منها هذه الآثار فلا بد لكل سبب من الانتهاء إلى مسبب لا سبب فوقه وليس ذلك إلا الله وحده ، فهذا مقام لا يجحده إلا عادم عقل بل فاقد حس. والحاصل أن التفكر في الآيات يوجب عقلية ما جعلت الآيات دليلا عليه فهو الأوّل المؤدي إلى الثاني والله ولي التوفيق.

ثم عاد سبحانه إلى ذكر المعاد فقال : (وَإِنْ تَعْجَبْ) قال ابن عباس : إن تعجب يا محمد من تكذيبهم إياك بعد ما كانوا حكموا أنك من الصادقين ، فهذا أعجب. أو إن تعجب من عبادتهم الأصنام بعد الدلائل الدالة على التوحيد ، أو إن تعجب يا محمد فقد عجبت في موضع العجب لأنهم اعترفوا بأنه تعالى رفع السموات بغير عمد وسخر الشمس والقمر على وفق مصالح العباد وأظهر الغرائب والعجائب في عالم الخلق ، ثم أنكروا الإعادة التي هي أهون وأسهل. قال المتكلمون : موضع العجب هو الذي لا يعرف سببه وذلك في حقه تعالى محال ، فالمراد وإن تعجب (فَعَجَبٌ) عندك (قَوْلُهُمْ) وإن سلم أن المراد عجب عند الله كما قرىء في الصافات (بَلْ عَجِبْتَ) [الصافات : ١٢] بضم التاء فتأويله أنه محمول على النهاية لا على البداية أي منكر عند الله ما قالوه فإن الإنسان إذا تعجب من شيء أنكره. قال في الكشاف (أَإِذا كُنَّا) إلى آخر قولهم ، يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم ، وأن يكون منصوبا بالقول. وإذا نصب بما دل عليه قوله : (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وهو نبعث أو نحشر. ثم حكم عليهم بأمور ثلاثة : الأول (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) يعني أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم وذلك أن إنكار البعث لا

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث : ١١. أبو داود في كتاب الزكاة باب : ٢٢. الترمذي في كتاب المناقب باب : ٢٨. أحمد في مسنده (١ / ٩٤) ، (٢ / ٣٢٢).

١٣٩

يكون إلا عن إنكار القدرة أو عن إنكار كمالها بأن يقال : إنه موجب بالذات لا فاعل بالاختيار فلا يمكنه إيجاد الحيوان إلا بواسطة الأبوين وتأثير الطبائع والأفلاك أو إنكار العلم بأن يقال : إنه غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز المطيع عن العاصي ، أو تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو ، أو إنكار الصدق كما إذا قيل : إنه أخبر عنه ولكنه لا يفعل لأن الكذب جائز عليه كما لا يكذب أحدنا بناء على مصلحة عامة أو خاصة وكل واحدة من هذه العقائد كفر فضلا عن جميعها. والثاني : (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) قال الأصم : المراد بذلك كفرهم وذلتهم وانقيادهم للأصنام. يقال للرجل هذا غل في عنقك للعمل الرديء إذا كان لازما له وهو مصر على فعله. وقال آخرون : هو من جملة الوعيد. ولا بد من تجوّز على القولين : أما على الأول فظاهر ، وأما على الثاني فلأن المراد أنه سيحصل هذا المعنى. والظاهر أنه حاصل في الحال ويؤيد القول الثاني قوله : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) والأول قوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) [يس : ٨] والثالث : (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وربما يستدل الأشاعرة به أن الصيغة للحصر فيدل على أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار ، ويمكن أن يناقش في إفادتها الحصر.

ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يهددهم تارة بعذاب الآخرة وكانوا ينكرون البعث لذلك كما تقدم ، ويخوفهم تارة أخرى بعذاب الدنيا فيستعجلونه به زعما منهم أنه كلام لا أصل له وإلى هذا أشير بقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ) بالعذاب والعقوبة التي تسوءهم. (قَبْلَ) تمام (الْحَسَنَةِ) وهي العافية والإحسان إليهم بالإهمال والتأخير (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أي عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها؟ وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه لأن العقاب مماثل للمعاقب عليه ومنه «المثلة» بالضم والسكون لتقبيح الصورة بقطع الأنف والأذن وسمل العين ونحو ذلك ، وذلك أنه ليس تغييرا كليا لا يماثل الصورة الأولى وإنما ذلك تغيير تبقى الصورة معه قبيحة. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) قالت الأشاعرة : فيه دلالة على جواز العفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة لأن قوله : (عَلى ظُلْمِهِمْ) حال منهم ، ومن المعلوم أن الإنسان حال اشتغاله بالظلم لا يكون تائبا لكن الآية دلت على أنه تعالى يغفر الذنوب قبل الاشتغال بالتوبة ترك العمل بها في حق الكافر فيبقى معمولا بها في حق أهل الكبائر. لا يقال : إن المراد من هذه المغفرة تأخير العقاب إلى الآخرة ليقع جوابا عن استعجالهم ، أو المراد غفران الصغائر لمجتنب الكبائر ، أو غفران الكبائر بشرط التوبة فإن تاب وإلا فهو شديد العقاب لأنا

١٤٠