تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

لأهل مكة يوم بدر ، والمراد أنا عجلنا هلاكهم ومع ذلك لم ندع أن نضرب له وقتا يمكنهم التوبة قبل ذلك.

التأويل : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) وهي الأبدان الجامدة عن السلوك ، وترى أرض النفوس بارزة خالية عن موانع الطريق ، وحشرنا جميع القوى البشرية (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) لكل قوة ولكل جوهر رتبة تليق بها ، فالروح في صف الأرواح ، والقلب في صف القلوب ، وكذا النفس وقواها. (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) على هيئة الفطرة ، وقيل الأنبياء في صف ، والأولياء في صف ، والمؤمنون في صف ، والكافرون والمنافقون في الصف الأخير (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً) هي كل تصرف في شيء بالشهوة النفسانية وإن كان من المباحات. (وَلا كَبِيرَةً) هي التصرف في الدنيا على حبها فحب الدنيا رأس كل خطيئة (ما أَشْهَدْتُهُمْ) لأني لا أشهد إلا أوليائي كما قلت (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [الكهف : ٥٣] (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) رأوا في الدنيا أسباب النار من الشهوات والآثام فوقعوا فيها ولم يجدوا ما يصرفهم عنها من الديانة والإيمان الحقيقي ، فإذا رأوا النار في الآخرة أيقنوا أنهم مواقعوها (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) فتارة مجادل في التوحيد وأخرى في النبوة ومرة في الأصول ومرة في الفروع ، ولهذا كثرت المذاهب والأديان والملل والنحل ونسأل الصواب من ملهمه (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ) أسباب الهداية (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) إن كانوا مذنبين (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) من الأنبياء والأولياء والمؤمنين وهو جذبات العناية لأهل الهداية كقوله في حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والله لو لا الله ما اهتدينا» (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) كقوله : «أنا نبي السيف أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» (١). والله أعلم. (م).

تم الجزء الخامس عشر ، ويليه الجزء السادس عشر أوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) ...

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٢ ـ ٣٦. البخاري في كتاب الإيمان باب ١٧. أبو داود في كتاب الجهاد باب ٩٥. الترمذي في كتاب تفسير سورة ٨٨. النسائي في كتاب الزكاة باب ٣. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ١ ـ ٣ بدون لفظ «أنا نبي السيف»

٤٤١

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء السادس عشر من أجزاء القرآن الكريم

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢))

القراآت : أنسانيه بضم الهاء حفص والمفضل ، وقرأ عليّ بالإمالة مع كسر الهاء : نبغي بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب ، وأفق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو

٤٤٢

وعلي في الوصل. الباقون بحذف الياء في الحالين اتباعا لخط المصحف. رشدا بفتحتين : أبو عمرو ويعقوب. بضمتين : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الباقون (رُشْداً) بضم الراء وسكون الشين. معني بفتح الياء : حفص (سَتَجِدُنِي إِنْ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع (فَلا تَسْئَلْنِي) بنون التأكيد الثقيلة وإثبات الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر : بحذف الياء : ابن مجاهد عن ابن ذكوان والأحسن إثباتها لأنه شاذ عن أهل الشام. الآخرون بنون الوقاية وحذف الياء. ليغرق أهلها بياء الغيبة وفتحها مع فتح الراء ورفع الأهل : حمزة وعلي وخلف. الباقون بتاء الخطاب مضمومة وكسر الراء من الإغراق وبنصب الأهل زاكية على «فاعله» : أبو جعفر ونافع وأبو بكر وحماد والمفضل. (يُضَيِّفُوهُما) من الإضافة : المفضل لتخذت من التخذ مدغما : أبو عمرو وسهل ويعقوب ، وقرأ ابن كثير بالإظهار. الباقون : (لَاتَّخَذْتَ) من الاتخاذ. وقرأ حفص والمفضل والأعشى والبرجمي مظهرا (يُبْدِلَهُما) من التبديل وكذلك في سورة التحريم ونون والقلم : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. الآخرون من الإبدال (رُحْماً) بضمتين : ابن عامر ويزيد وعباس وسهل ويعقوب. الباقون بسكون الحاء.

الوقوف : (حُقُباً) ه (سَرَباً) ه (غَداءَنا) ز لا نقطاع النظم مع صدق اتصال المعنى (نَصَباً) ه (الْحُوتَ) ز لتمام استفهام التعجب مع اتحاد الكلام وكون الواو حالا (أَنْ أَذْكُرَهُ) ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال في البحر وقفة. قيل : عليه تم كلام يوشع ثم ابتدأ موسى فقال عجبا أي أعجب لذلك عجبا والوصل أجوز أي سبيلا عجبا واتخاذا (عَجَباً) ه (نَبْغِ) قف قد قيل : لتمام قول أحدهما وابتداء فعلهما والوجه الوصل لعطف اللفظ وسرعة الرجوع على الفور (قَصَصاً) ه لا لاتصال النظم واتحاد الحال (عِلْماً) ه (رُشْداً) ه (صَبْراً) ه (خُبْراً) ه (أَمْراً) ه (ذِكْراً) ه (فَانْطَلَقا) وقفة لأن حتى إذا للابتداء حرقها ط (أَهْلَها) ج لانقطاع النظم واتحاد القائل (إِمْراً) ه (صَبْراً) ه (عُسْراً) ه (فَانْطَلَقا) وقفة لما مر (فَقَتَلَهُ) لا لأن «قال» جواب «إذا» لغير نفس ط للفصل بين الاستخبار والإخبار (نُكْراً) ه (صَبْراً) ه (فَلا تُصاحِبْنِي) ج لاختلاف الجملتين (عُذْراً) ه (فَانْطَلَقا) وقفة (فَأَقامَهُ) ط (أَجْراً) ه (وَبَيْنِكَ) ج (صَبْراً) ه (غَصْباً) ه (وَكُفْراً) ، ج للعطف مع الآية (رُحْماً) ه (صالِحاً) ج لما قلنا (مِنْ رَبِّكَ) ج (عَنْ أَمْرِي) ط (صَبْراً) ، لانقطاع القصة.

٤٤٣

التفسير : هذه قصة أوردها الله تعالى لتعين على المقاصد السابقة مع كونها مستقلة في الإفادة ، أما نفعها في قصة أصحاب الكهف فهو أن اليهود قالوا : إن أخبركم محمد عنها فهو نبي وإلا فلا ، فذكر الله تعالى قصة موسى والخضر تنبيها على أن النبي لا يلزم أن يكون عالما بجميع القصص والأخبار. وأما نفعها في الرد على كفار قريش حين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار ، فهو أن موسى عليه‌السلام مع كثرة علمه وعلو منصبه واستجمام موجبات الشرف التام في حقه ذهب إلى الخضر وتواضع له لأجل طلب العلم فدل ذلك على أن التواضع خير من التكبر. وأكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية هو موسى بن عمران صاحب التوراة والمعجزات. وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس : إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى بن عمران وإنما هو صاحب موسى بن ميشا بن يعقوب وهو قد كان نبيا قبل موسى بن عمران. فقال ابن عباس : كذب عدو الله. واحتج الأكثرون على صحة قولهم بأن موسى حيث أطلق في القرآن أريد به موسى بن عمران ، فلو كان المراد هاهنا شخصا آخر لوجب تعريفه بحيث يتميز عن المشهور. حجة الأقلين ـ وإليه ذهب جمهور اليهود ـ أن موسى بن عمران بعد أن خصه الله تعالى بالمعجزات الظاهرة التي لم يتفق لمن قبله مثلها ، يبعد أن يؤمر بالتعلم والاستفادة. وأجيب بأن العالم الكامل في أكثر العلوم قد يجهل بعض المسائل فيحتاج في تعلمها إلى من يختص بعلمها. أما فتى موسى فالأكثر على أنه يوشع بن نون ، ويروى هذا القول عن سعد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : هو أخو يوشع وكان مصاحبا لموسى في السفر. وعن الحسن : إنه أراد عبده ويؤيده ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي». قال أهل السير : إن موسى لما ظهر على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط ، أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيبا فذكر نعمة الله فقال : إنه اصطفى نبيكم وكلمه فقالوا له : قد علمنا هذا فأيّ الناس أعلم؟ قال : أنا. فعتب الله حين لم يردّ العلم إلى الله ، فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبد لي بمجمع البحرين وهو الخضر ، وكان الخضر عليه‌السلام في أيام أفريدون قبل موسى عليه‌السلام وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر. وبقي إلى أيام موسى. ويروى أن موسى سأل ربه أيّ عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني. قال : فأيّ عبادك أقضى؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال : فأي عبادك أعلم؟ الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على الهوى أو تردّه عن ردى. فقال : إن كان في عبادك من هو أعلم منى فادللني عليه. قال : أعلم منك الخضر. قال : فأين أطلبه؟ قال : على الساحل عند الصخرة. قال : يا رب كيف لي به؟ قال : تأخذ

٤٤٤

حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك. فقال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني ، فذهبا يمشيان فرقد موسى عليه‌السلام فاضطرب الحوت ووقع في البحر ، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فأتيا الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى عليه‌السلام فقال : وأنى بأرضنا السلام فعرفه نفسه فقال : يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا. فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع في حرفها فنقر في الماء فقال الخضر : ما ينقص علمي وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر. قلت : وهذا صحيح لأن علم الإنسان متناه وعلم الله غير متناه ، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلا.

ولنرجع إلى التفسير قال الزجاج وتبعه جار الله : (لا أَبْرَحُ) بمعنى لا أزال ، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه ولأن قوله : (حَتَّى أَبْلُغَ) غاية مضروبة فلا بد لها من ذي غاية. فالمعنى لا أزال أسير إلى أن أبلغ ، وجوز أن يكون المعنى لا أبرح سيري حتى أبلغ على أن (حَتَّى أَبْلُغَ) هو الخبر ، وحذف المضاف وهو السير وأقيم المضاف إليه ـ وهو ياء المتكلم ـ مقامه فانقلب الفعل من لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم وجوز أيضا أن يكون لا أبرح ، بمعنى لا أزول من برح المكان ، والمعنى لا أبرح ما أنا عليه أي لا أترك المسير والطلب حتى أبلغ (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) يعني ملتقى بحري فارس والروم وقد شرحنا وضع البحار في سورة البقرة في تفسير قوله : (الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ)[الآية : ١٦٤]. وقيل : أراد طنجة ، وقيل إفريقية. ومن غرائب التفسير أن البحرين موسى والخضر لأنهما بحر العلم ، وهذا مع غرابته مستبشع جدا لأن البحرين إذا كان هو موسى عليه‌السلام فكيف يصح أن يقول : (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) إذ يؤل حاصل المعنى إلى قولنا حتى أبلغ مكانا يجتمع فيه بحران من العلم أحدهما أنا (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أسير زمانا طويلا. قال جار الله : الحقب بالضم ثمانون سنة. ويقال : أكثر من ذلك. وقيل : إنه تعالى أعلم موسى حال هذا العالم وما أعلمه بعينه فقال موسى : لا أزال أمضي حتى يجتمع البحران فيصيرا بحرا واحدا أو أمضي دهرا طويلا حتى أجد هذا العالم ، وهذا إخبار من موسى عليه‌السلام بأنه وطن تحمل التعب الشديد إلى أن يلقاه ، وفيه تنبيه على شرف العلم وأن طلب العلم يحق له أن يسافر ، ويتحمل المتاعب في الطلب من غير ملال وكلال. (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما) قال جمهور المفسرين : الضمير للبحرين أي تحقق ما موسى وبلغ المكان الذي وعد فيه لقاء الخضر. ولا بد للبين من فائدة ، ولعل المراد حيث يكاد يلتقي وسط ما امتد من البحرين طولا. والإضافة بمعنى «في» أي مجمعا في وسط البحرين فيكون كالتفصيل لمجمع البحرين ، والبيان والإيضاح بكلام علام الغيوب تعالى

٤٤٥

أولى منه بكلام موسى ، أو البين بمعنى الافتراق أي البحران المفترقان يجتمعان هناك. ويحتمل على هذا أن يعود الضمير إلى موسى والخضر أي وصلا إلى الموضع الذي وعد اجتماع شملهما هناك ، أو البين بمعنى الوصل لأنه من الأضداد فيفيد مزيد التأكيد كقولهم «جد جده». وهذه الوجوه مما لم أجدها في التفاسير ، فإن كان صوابا فمن الله وإلا فمني ومن الشيطان (نَسِيا حُوتَهُما) لأنه تعالى جعل انقلاب الحوت حيا علامة على مسكن الخضر قيل : إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملوحة فطفرت وسارت. وقيل : إن يوشع توضأ في ذلك المكان فانتضح الماء على الحوت المالح فعاش ووثب إلى الماء. وقيل : انفجرت هناك عين من الجنة ووصلت قطرات من تلك العين إلى السمكة فحييت وطفرت إلى البحر. ونسيان الحوت للذهول عن الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب ، والسبب في هذا الذهول مع أن هذه الحالة كانت أمارة لهما على الطلبة التي تناهضا من أجلها ، هو أن يوشع كان قد تعود مشاهدة المعجزات الباهرة فلم يبق لحياة السمكة ولقيام الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب منه وقع عنده.

وقيل : إن موسى عليه‌السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الذي يشبه الضروري تنبيها لموسى عليه‌السلام ، على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله وحفظه على قلوب عباده. وانتصاب قوله : (سَرَباً) على أنه مفعول ثان لاتخذ أي اتخذ سبيله سبيلا سريا وهو بيت في الأرض ، وذلك أن الله تعالى أمسك إجراء الماء عن الحوت وجعله كالكوة حتى سرى الحوت فيه معجزة لموسى عليه‌السلام وللخضر. وقيل : السرب هو الذهاب والتقدير سرب في البحر سربا إلا أنه أقيم قوله : (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ) مقام «سرب» (فَلَمَّا جاوَزا) أي موسى وفتاه الموعد المعين وهو الصخرة قال موسى (لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) وهو ما يؤكل بالغداة (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) تعبا وجوعا. قال المفسرون : قوله (مِنْ سَفَرِنا هذا) إشارة إلى سيرهما وراء الصخرة ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك. قال الفتى متعجبا (أَرَأَيْتَ) ومفعوله محذوف لدلالة قوله : (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) عليه كأنه قال : أرأيت ما دهاني ووقع لي. (إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) قيل : هي الصخرة التي دون نهر الزيت (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) عليها ثم ذكر ما يجري مجرى السبب في وقوع ذلك النسيان فقال : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) و (أَنْ أَذْكُرَهُ) بدل الاشتمال من الهاء في (أَنْسانِيهُ) أي وما أنساني ذكره قال الكعبي : لو كان النسيان بخلق الله وإرادته لكان إسناد ذلك إلى الله تعالى أولى من إسناده إلى الشيطان إذ ليس له في وجوده سعي ولا أثر. قال القاضي : المراد بإنساء الشيطان أن يشتغل قلب الإنسان بوساوسه التي هي من فعله دون النسيان الذي يضاد الذكر ، لأن ذلك لا يصلح أن يكون

٤٤٦

إلا من قبل الله تعالى.

قال أهل البرهان : لما كان اتخاذ الحوت سبيله في البحر عقيب النسيان ذكر أوّلا فاتخذ بالفاء ، ولما حيل بينهما ثانيا بجملة معترضة هي قوله : (وَما أَنْسانِيهُ) زال معنى التعقيب وبقي العطف المجرد فقال : (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ) بالواو. وانتصاب (عَجَباً) كما مر في (سَرَباً). قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا» (قالَ) موسى (ذلِكَ) يعني اتخاذ الحوت السبيل في البحر ما كنا نبغي أي إنه الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما) فرجعا على طريقهما المسلوك (قَصَصاً) مصدر لأنه بمعنى الارتداد على الأثر يتبعان آثارهما اتباعا ، أو هو مصدر في موضع الحال أي رجعا على الطريق الذي جاءا منه مقتصين (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا) الأكثرون على أن ذلك العبد كان نبيا لأنه تعالى وصفه بقوله : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) والرحمة هي الوحي والنبوّة بدليل قوله : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] وقوله : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [القصص : ٨٦] ومنع أن كل رحمة نبوة قالوا : وصفه بقوله : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) والعلم المختص به تعالى هو الوحي والإخبار بالغيوب. وأيضا آخر القصة (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أي عرفته وفعلته بأمر الله وذلك مستلزم للوحي. وروي أن موسى عليه‌السلام لما وصل إليه قال : السلام عليك. فقال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. فقال : من عرّفك هذا؟ قال : الذي بعثك إلي. والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية. والتحقيق فيه إذ ضعفت القوى الحسية والخيالية بواسطة الرياضة قويت القوة العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية على جواهر العقل ، ويفيض عليه من عالم الأرواح أنوار يستعد بسببها لملاحظة أسرار الملكوت ومطالعة عالم اللاهوت. والأكثرون أيضا على أن ذلك العبد هو الخضر سمي بذلك لأنه كان لا يقف موقفا إلا اخضر ذلك الموقف. وقال الجبائي : روي أن الخضر إنما بعث بعد موسى عليه‌السلام من بني إسرائيل. فإن صحت الرواية لم يكن ذلك العبد هو الخضر لأنه بعث بعده ، وبتقدير كونه معاصرا له فإنه أظهر الترفع على موسى حين قال : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) وأن موسى أظهر التواضع له حين قال (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) مع أنه كان مبعوثا إلى كافة بني إسرائيل ، والأمة لا تكون أعلى حالا من النبي. وإن لم تكن الرواية صحيحة بأن الخضر لا يكون من بني إسرائيل لم يجز أن يكون الخضر أفضل من موسى عليه‌السلام لأنه تعالى قال لبني إسرائيل (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [البقرة : ٤٧] وأجيب بأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها.

٤٤٧

قال العلماء : إن موسى راعى مع الخضر في قوله : (هَلْ أَتَّبِعُكَ) أنواعا من الأدب منها : أنه جعل نفسه تبعا له مطلقا ، وفيه أن المتعلم يجب عليه الخدمة وتسليم النفس والإتيان بمثل أفعال الأستاذ وأقواله على جهة التبعية لا الاستقلال ، فإن المتابعة هي الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلا لذلك الغير ، ولهذا لسنا متبعين لليهود في قولنا «لا إله إلا الله» لأنا نقول كلمة التوحيد لأجل أنهم قالوها بل لقيام الدليل على قولها ، ولكنا متابعون في الصلوات الخمس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنا نأتي بها لأجل أنه أتى بها. ومنها أنه استأذن في إثبات هذه التبعية. ومنها أنه قال : على أن تعلمني مما علمت وفيه إقرار على أستاذه بالعلم ، وفيه أنه لم يطلب منه إلا بعض علمه ولم يطلب منه أن يجعله مساويا له في العلم كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءا من أجزاء ماله لأكله ، وفيه اعتراف بأن ذلك العلم علمه الله تعالى وإلا سمي فاعله ، وفيه إشعار بأن إنعامه عليه في هذا التعليم شبيه بإنعام الله عليه فيه ومن هنا قيل : أنا عبد من علمني حرفا. ومنها أن الخضر عرف أنه نبي صاحب المعجزات المشهورة ، ثم إنه مع هذه المناصب العلية والمراتب السنية لم يطلب منه المال والجاه وإنما طلب التعليم فقال : على أن تعلمني فدل ذلك على أنه لا كمال فوق كمال العلم ، وأنه لا يحسن صرف الهمة إلا إلى تحصيله. وفيه أن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر ، فكان حرصه على زيادتها أوفر. ومنها أنه قال (رُشْداً) وهو يصلح أن يكون مفعولا كـ تعلمني و (عُلِّمْتَ) أي علما ذا رشد أرشد به في ديني ، وفيه تعظيم لما سيعلمه فإن الإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل حصل الضلال. ثم إنه تعالى حكى عن الخضر أنه قال : (لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) نفى استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد لعلمه بأنه يتولى أمورا هي في الظاهر منكرة ، والرجل الصالح لا سيما النبي الذي يحكم بظواهر الأمور شرعا قلما يتمالك أن يصبر عليها. و (خُبْراً) تمييز أي لم يحط به خبرك ، أو هو مصدر لكونه في معنى الإحاطة. استدلت الأشاعرة بالآية على أن الاستطاعة لا تحصل فيه الفعل وإلا لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة قبل الصبر ، فيكون قول الخضر بنفي الاستطاعة كذبا. وكذا قوله : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ) لأنه استفهام في معنى الإنكار أي لا تصبر البتة. أجاب الجبائي بأنه أراد بنفي الاستطاعة أن يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه. يقال في العرف : إن فلانا لا يستطيع أن يرى فلانا وأن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك ولهذا (قالَ) له موسى (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي) أي ستجدني غير عاص (لَكَ أَمْراً) ويجوز أن يكون قوله : (وَلا أَعْصِي) جملة مستأنفة معطوفة على مثلها أي ستجدني ولا أعصي. قال أهل السنة : في قوله : (إِنْ شاءَ اللهُ) بطريق الشك والصبر

٤٤٨

مأمور به دليل على أنه تعالى قد لا يريد من العبد ما أوجبه عليه. قالت المعتزلة : إنما ذكره بطريق الأدب. وأجيب بأن هذا الأدب إن صح معناه فقد ثبت المطلوب ، وإن فسد فأيّ أدب في ذكر الكلام الباطل.

قالت الأصوليون : في قوله : (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) دليل على أن ظاهر الأمر للوجوب ، لأن تارك الأمر عاص. بهذه الآية ، والعاصي يستحق العقاب لقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) [الجن : ٢٣] قال المحققون : في قوله الخضر تغليظ وتجهيل ، وفي قول موسى تحمل وتواضع ، فدل ذلك على أن المعلم إن رأى التغليظ على المتعلم فيما يعتقده نفعا وإرشادا إلى الخير ، فالواجب عليه ذكره وعلى المتعلم أن يتلقاه بالبشر والطلاقة. ثم قال : فإن اتبعتني فلا تسألني شرط على موسى عليه‌السلام في اتباعه أن لا يسأل عما خفي عليه وجه صحته حتى يكون الخضر هو المبتدئ بتعليمه إياه بإخباره عن وجه الحكمة فيه (فَانْطَلَقا) على ساحل البحر يطلبان السفينة ، فما ركباها يروى أن أهلها قالوا : هما من اللصوص وأمروهما بالخروج فمنعهم صاحب السفينة وقال : أرى وجوه الأنبياء. وقيل : عرفوا الخضر فحملوهم بلا أجرة ، فلما حصلوا في اللجة أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء. وقيل : خرق جدار السفينة ليعيبها ولا يتسارع الغرق إلى أهلها فجعل موسى يسد الخرق بثيابه ويقول : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أتيت شيئا عظيما. يقال : أمر الأمر إذا عظم. ويقال في الشيء العجيب الذي يعرف له شبيه إنه أمر أمر. احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بأن موسى عليه‌السلام اعترض على الخضر بعد توكيد العهود والمواثيق وذلك ذنب. وأجيب بأنه لم يقل ذلك اعتراضا وتوبيخا ولكنه أحب أن يقف على حكمة ذلك الأمر الخارج عن العبادة ، أو أنه خالف الشرط بناء على النسيان ولهذا (قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) ولا مؤاخذة على الناسي. و «ما» موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي بالذي نسيت وبشيء نسيته وبنسياني. وجوز في الكشاف أن لا يكون ناسيا في الحقيقة ولكنه أو هم بقوله : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) أنه قد نسي لبسط عذره في الاعتراض على المعلم وهو من معاريض الكلام التي يتقي بها الكذب مع التوصل إلى الغرض. وجوز أيضا أن يكون النسيان بمعنى الترك أي بما تركت من وصيتك أول مرة (وَلا تُرْهِقْنِي) ولا تغشني (مِنْ أَمْرِي عُسْراً) وأراد بأمره أمر المتابعة أي يسر عليّ متابعتك بالإغضاء وترك المناقشة.

وإنما قال في هذه القصة (خَرَقَها) بغير «فاء» لأنه جعله جزاء للشرط ، وفي قصة الغلام جعل (فَقَتَلَهُ) من جملة الشرط معطوفا عليه بفاء التعقيب ، لأن القتل يعقب لقاء

٤٤٩

الغلام ولفظ الغلام يتناول الشاب البالغ كما يتناول الصغير ومنه قولهم «رأي الشيخ خير من مشهد الغلام» وأصله من الاغتلام وهو شدة الشبق. وليس في القرآن أنهما كيف لقياه ، وهل كان يلعب مع جمع من الغلمان ، أو كان منفردا ، وهل كان مسلما أو كان كافرا ، وهل كان بالغا أو كان صغيرا واسم الغلام بالصغير أليق ، إلا أن (بِغَيْرِ نَفْسٍ) بالبالغ لأن الصبي لا يقتل قصاصا. وعن ابن عباس أن نجدة الحروري الخارجي كتب إليه كيف جاز قتله وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل. قال الكسائي : الزاكية والزكية لغتان ومعناهما الطاهرة. وقال أبو عمرو : الزاكية التي لم تذنب ، والزكية التي أذنبت ثم تابت. ويجوز أن يكون وصفها بالزكاء لأنه لم يرها أذنبت فهي طاهرة عنده. قيل : النكر أقل من الأمر لأن قتل نفس واحدة أهو من إغراق أهل السفينة. وقيل : النكر أشد لأن ذلك كان خرقا تداركه بالسد وهذا لا سبيل إلى تداركه. وأيضا الأمر العجيب والعجب يستعمل في الخير والشر. والنكر ما تنكره العقول فهو شر ، وظاهر الآية يدل على أن موسى استبعد أن تقتل النفس إلا بالنفس وليس كذلك لأنه قد يحل القتل بسائر الأسباب ، ولعله اعتبر السبب الأغلب والأقوى واختلفوا في كيفية قتله فقيل : فتل عنقه. وقيل : ضرب برأسه الحائط. وعن سعيد بن جبير : أضجعه ثم ذبحه بالسكين. ثم إنه سبحانه حكى عن الخضر أنه ما زاد على أن أذكره ما عاهد عليه فقال : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ) وإنما زاد هاهنا لك لأن الإنكار أكثر وموجب العتاب أقوى. وقيل : أكد التقرير الثاني بقوله (لَكَ) كما تقول لمن توبخه لك أقول وإياك أعني. وقيل : بين في الثاني المقول له لما لم يبين في الأول فعند هذا (قالَ) موسى (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) بعد هذه الكرة أو المسألة (فَلا تُصاحِبْنِي) نهاه عن المصاحبة حينئذ مع حرصه على التعلم لظهور عذره كما قال : (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) وهذا كلام نادم شديد الندامة جره المقال ، واضطره الحال إلى الاعتراف وسلوك سبيل الإنصاف. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله أخي كموسى استحيا فقال ذلك» (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) هي أنطاكية. وقيل : الأيلة وهي أبعد أرض الله من السماء.

(اسْتَطْعَما أَهْلَها) وكان حق الإيجاز أن يقال : «استطعماهم» فوضع الظاهر موضع المضمر للتأكيد كقوله :

ليت الغراب غداة ينعب بيننا

كان الغراب مقطع الأوداج

وأيضا لعله كره اجتماع الضميرين المتصلين في مثل هذا اللفظ لما فيه من الكلفة

٤٥٠

والبشاعة والاستطالة (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) يقال : أضافه وضيفه إذا أنزله وجعله ضيفه ، والتركيب يدور على الميل من ضاف السهم عن الغرض والضيف يميل إلى المضيف. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كانوا أهل قرية لئاما. قيل : الاستطعام ليس من عادة الكرام فكيف أقدما عليه. وأيضا الضيافة من المندوبات وترك المندوب غير منكر ، فكيف جاز لموسى أن يغضب عليهم حتى ترك عهد صاحبه. وقال : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) وأجيب بأن الرجل إذا جاع بحيث ضعف عن الطاعة أو أشرف على الهلاك لزمه الاستطعام ووجبت إجابته. ولقائل أن يقول : لو كان قد بلغ الجوع إلى حدّ الهلاك لم يقو على إصلاح الجدار. ولمجيب أن يقول : إنه أقام الجدار معجزة فقد يروى أنه مسحه بيده فقام واستوى. وقيل : أقامه بعمود عمده به. وقيل : نقضه وبناه. وروي أنه كان ارتفاع الجدار مائة ذراع. قال أهل الاعتبار : شر القرى التي لا يضاف الضيف فيها ولا يعرف لابن السبيل حق. ويحكى أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمل الذهب فقالوا : يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء تاء أي «فأتوا أن يضيفوهما» فامتنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك. قوله : (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) معناه يسرع سقوطه من انقض الطائر إذا هوى في طيرانه. يقال : قضضته فانقض ، ويحتمل أن يكون «افعل» من النقض كاحمرّ من الحمرة ، فالنون تكون أصلية وإحدى الضادين مكررة زائدة عكس الأول. واستعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة تشبيها للجماد بالأحياء نظيره (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) [الأعراف : ١٥٤] (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١]. ولما أقام الخضر الجدار ورأى موسى من الحرمان ومسيس الحاجة (قالَ) لصاحبه (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) لطلبت على عملك جعلا حتى نستدفع به الضرورة. واتخذ افتعل من تخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ على الأصح (قالَ) الخضر مشيرا إلى الفراق المتصور في قوله : (فَلا تُصاحِبْنِي) أو مشيرا إلى السؤال والاعتراض (هذا فِراقُ بَيْنِي) الإضافة بمعنى في أي فراق أو سبب فراق في بيني (وَبَيْنِكَ) وحكى القفال أن البين هاهنا بمعنى الوصل.

ثم شرع في تقرير الحكم التي تضمنتها أفعاله وتلك الحكم تشترك في أصل واحد هو أنه أذا تعارض الضرر إن وجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى فقال : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) قيل : كانت لعشرة إخوة خمسة منهم زمنى وخمسة (يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) وقد تقدم استدلال الشافعي بهذه الآية على أن الفقير أسوأ حالا من المسكين (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) وهو مسمى بجلندي والوراء هاهنا بمعنى الأمام

٤٥١

وقد مر في قوله : (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) [إبراهيم : ١٧] وقيل : أراد خلفهم وكان طريقهم في الرجوع وما كان عندهم خبرة (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) أي غير معيبة (غَصْباً) ولا يخفى أن الضرر الحاصل من التخريق أهون من فوات السفينة بالكلية والتخريق ، وإن كان تصرفا في ملك الغير إلا أنه إذا تضمن نفعا زائدا لم يكن به بأس. ولعل مثل هذا التصرف كان جائزا في تلك الشريعة. أو لعله كان من مخصوصات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال جار الله : قوله : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) مسبب عن خوف الغصب عليها وكان حقه أن يتأخر عن السبب ولكنه قدم للعناية أي تتعجب من هذا وهو مرادي وأنا مأمور به. وأيضا خوف الغصب ليس هو السبب وحده ، ولكن مع كون السفينة للمساكين فتوسط إرادة العيب بين المسكنة والغصب كتوسط الظن بين المبتدأ والخبر في قولك «زيد ظني مقيم» في أنه يتعلق بالطرفين (وَأَمَّا الْغُلامُ) فقد قيل : إنه كان بالغا قاطع الطريق يقدم على الأفعال المنكرة وكان أبواه مضطرين إلى التعصب له والذب عنه فكانا يقعان في الفسق لذلك واحتمل أن يؤدي ذلك إلى الكفر والارتداد كما قال : (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً). يقال : رهقة أي غشيه وأرهقه إياه. وقيل : إنه كان صبيا إلا أنه تعالى علم من حاله أنه لو صار بالغا صدرت عنه هذه المفاسد ، فأعلم الخضر بحاله وأمره بقتله لئلا يرتد الأبوان بسببه ومثل هذا لا يجوز إلا إذا تأكد الظن بالوحي. وقيل : أراد فخفنا أن يغشى الوالدين طغيانا عليهما وكفرا بنعمتهما بعقوقه ، أو خفنا أن يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر. وجوزوا أن يكون قوله : (فَخَشِينا) من كلام الله تعالى أي كرهنا كراهة من خاف سوء عاقبة أمر فغيره. والزكاة الطهارة والنقاء من الذنوب وكأنه بإزاء قول موسى نفسا زاكية. والرحم الرحمة والعطف بمعنى الإشفاق على الأبوين. يروى أنهما ولدت لهما جارية فتزوجها نبي فولدت نبيا هدى الله على يديه أمة من الأمم. ويروى أنها ولدت سبعين نبيا. وقيل : أبدلهما أبدلهما أبنا مؤمنا. وقيل : اسم الغلام المقتول الحيسون وفي نسخة الحسين.

(وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ). قيل : اسمهما أصرم وصريم. وقوله : (فِي الْمَدِينَةِ) بعد قوله : (أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) فيه دلالة على أن القرية لا تنافي المدينة ومعنى الاجتماع والإقامة مراعى فيهما. أما الكنز فقيل : هو المال لقوله : (وَيَسْتَخْرِجا) ولأن المفهوم منه عند إطلاقه هو المال. وقيل : صحف فيها علم لقوله : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) ودفن المال لا يليق بأهل الصلاح. وعورض بقول قتادة : أحل الكنز لمن قبلنا وحرم علينا. وحرمت الغنيمة عليهم وأحلت لنا. وجمع بعضهم بين الأمرين فقال : كان لوحا من ذهب مكتوبا

٤٥٢

فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله. وفي قوله : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) دلالة على أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء. عن جعفر بن محمد رضي‌الله‌عنه : كان بين الغلامين وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء ، وذكر من صلاح أبيهما أن الناس كانوا يضعون الودائع عنده فيردها إليهم سالمة. قالت العلماء : الأشبه أن اليتيمين كانا جاهلين بحال الكنز ووصيهما كان عالما به إلا أنه غائب وقد أشرف الجدار على السقوط و (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مصدر منصوب بأراد لأنه في معنى رحمهما أو مفعول له (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أي اجتهادي ورأيي وإنما فعلته بأمر الله. سؤال : لم قال في الأول : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) وفي الثاني : (فَأَرَدْنا) وفي الثالث (فَأَرادَ رَبُّكَ)؟ الجواب : لأن الأول إفساد في الظاهر فأسنده إلى نفسه ، وفي الثالث إنعام محض فأسنده إلى الله سبحانه ، وفي الثاني إفساد من حيث القتل وإنعام من حيث التبديل فجمع بين الأمرين. ويمكن أن يقال : إن القتل كان منه ولكن إزهاق الروح كان من الله ، ويحتمل أن يقال : الوحدة في الأول على الأصل ، والجمع في الثاني تنبيه على أنه من العلماء المؤيدين بالعلوم الدينية ، والإسناد إلى الله بالآخرة إشارة إلى أنه لا إرادة إلا إرادة الله وما تشاؤون إلا أن يشاء الله (ذلِكَ) الذي ذكر من أسرار تلك الوقائع (تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) أي يرجع المقصود من تلك الأفاعيل إلى ما قررنا ، وأصل تسطع تستطيع كما في قوله : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ) إلا أن التاء حذفت لأجل التخفيف. وهذا شاذ من جهة القياس ولكنه ليس بشاذ في الاستعمال. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلمرحم الله أخي موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب» (١).

التأويل : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) فيه أن المسافر لا بد له في الطريق من الرفيق ، وفيه أن من شرطهما أن يكون أحدهما أميرا والآخر مأمورا ، وأن يعلم الرفيق عزيمته ومقصده حتى يكون على بصيرة من صحبته ، وأن لا يسأم من متاعب السفر حتى يظفر بمقصوده ، وأن تكون نيته طلب شيخ يقتدي به فإن طلب الشيخ في الحقيقة هو طلب الحق. ومجمع البحرين هو مجمع ولاية الشيخ وولاية المريد وعنده عين الحياة الحقيقية ، فإذا وقعت قطرة منها على حوت قلب المريد حيي واتخذ سبيله في بحر الولاية سربا.

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة ١٨ باب : ١. البخاري في كتاب الأنبياء باب : ٢٧ ، ٢٨. أحمد في مسنده (١ / ٤١١ ، ٤٣٦).

٤٥٣

(فَلَمَّا جاوَزا) فيه إشارة إلى أن المريد في أثناء السلوك لو تطرقت إليه الملالة أصاب قلبه الكلالة وسولت له نفسه التجاوز عن صحبة الشيخ ظانا أن مقصوده يحصل من غير وساطة الشيخ. هيهات فإنه ظن فاسد ومتاع كاسد إلا إن أدركته العناية الأزلية ورد إليه صدق الإرادة فيقول : الرفيق التوفيق. (آتِنا غَداءَنا) وهو همة الشيخ وبركة صحبته لقد لقينا في سفرنا هذا الذي جاوزنا صحبة الشيخ (نَصَباً) فقال رفيقه (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) صخرة النفس وتسويلها (فَإِنِّي نَسِيتُ) حوت القلب قال ذلك ما كنا نبغي من حوت القلب الميت المملح بملح حب الدنيا وزينتها أن يتخذ سبيله في بحر ولاية شيخ كامل (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا) حرا من رق غيرنا. وفي قوله : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) إشارة إلى أنه تعالى أطلعه على بواطن الأشياء وحقائقها ، وهذا النوع من العلم لا يمكن تعلمه وإنما يحصل بتصفية النفس وتجريد القلب عن العلائق الجسمانية. وقد ذهب موسى إلى تعلم العلم فكان من الواجب على الخضر أن يظهر له علما يمكن تعلمه ، فبين علم الخضر وبين مقصد موسى تباين وتناف فلهذا قال الخضر : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) وفي إظهار المسائل الثلاث إشارة إلى ما قلنا من أن العلم الظاهر يباين العلم اللدني وليس من التعليم والتعلم في شيء ، وإذا تأمل العاقل السالك في قول موسى : (هَلْ أَتَّبِعُكَ) إلخ في قول الخضر. فإن اتبعتني فلا تسألني إلخ. وجد أصول الشرائط التي شرطها الصوفية للمريد وللشيخ مودعة فيها ، وفي تفصيلها طول وقد أشرنا في التفسير إلى طرف منها ، ومن أراد الكل فعليه بمطالعة كتاب «آداب المريدين» للشيخ المحقق أبي النجيب السهروردي تغمده الله بغفرانه (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ) هي سفينة الشريعة (خَرَقَها) بهدم الناموس في الظاهر مع صلاح الحال في الباطن وفيما بينه وبين علام الغيوب ، ومثل هذا قد يفعله كثير من المحققين طردا للعوام وحذرا من التباهي والعجب (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) في أودية الضلال إذا اقتدوا بك (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً) هو النفس الأمارة (فَقَتَلَهُ) بسكين الرياضة وسيف المجاهدة (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) هي الجسد وهم القوى الإنسانية من الحواس وغيرها (اسْتَطْعَما أَهْلَها) بطلب أفاعيلها التي تختص بها (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) بإعطاء خواصها كما ينبغي لكلالها وضعفها (فَوَجَدا فِيها جِداراً) هو التعلق الحائل بين النفس الناطقة وبين عالم المجردات (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) بقطع العلاقة (فَأَقامَهُ) بتقوية البدن والرفق بالقوى والحواس كما قيل : نفسك مطيتك فارفق بها. (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) ثوابا جزيلا أي لو شئت لصبرت على شدة الرياضة إلى إفاضة الأنوار ونيل الكشوف. (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) هم العوام الذين (يَعْمَلُونَ فِي) بحر الدنيا وليس لهم في بر عالم الربوبية سير وسلوك حتى يصلوا إلى

٤٥٤

ملوك تحت أطمار (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) في الظاهر لتسلطهم بالإخلاص في البواطن (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) هو الشيطان (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) عبادة (غَصْباً) لأن كل عبادة تخلو عن الانكسار والذل والخشوع فإنها للشيطان لا للرحمن (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ) وهما القلب والروح (مُؤْمِنَيْنِ ... فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) هو النفس المطمئنة (وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي نسبة إلى الأبوين. (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ) هما النفس المطمئنة والملهمة (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) هو حصول الكمالات النظرية والعملية (وَكانَ أَبُوهُما) وهو العقل المفارق (صالِحاً) كاملا بالفعل فلهذا ادخر لأجلهما ما ادخر (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) بتربية الشيخ وإرشاده على سبيل الرفق والمداراة (وَيَسْتَخْرِجا) ما كان كامنا فيهما.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا

٤٥٥

بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠))

القراآت : (فَأَتْبَعَ ثُمَّ أَتْبَعَ) مقطوعة : ابن عامر وعاصم وحمزة وعلي وخلف الباقون بالتشديد موصولة. حامية الألف من غيرهم : ابن عامر ويزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. الباقون (حَمِئَةٍ) بالهمزة من غير ألف (جَزاءً الْحُسْنى) بالنصب منونا. يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون جزاء الحسنى بالرفع والإضافة. (السَّدَّيْنِ) بفتح السين : ابن كثير أبو عمرو وحفص وأبو زيد عن المفضل. الآخرون بضمها. يفقهون بضم الياء وكسر القاف : حمزة وعلي وخلف. الباقون بفتحهما (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) حيث كان مهموزا : عاصم غير الشموني (فَهَلْ نَجْعَلُ) وبابه بإدغام اللام في النون : علي وهشام خراجا بالألف : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد الباقون (خَرْجاً) بسكون الراء. (سَدًّا) بفتح السين : ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وعاصم. والباقون بضمها مكننى : ابن كثير. الباقون بإدغام النون في النون ردما ائتوني يحيى وحماد والابتداء بكسر الألف لصدفين بضم الصاد والدال : ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب المفضل مخير ، أبو بكر وحماد بضم الصاد وإسكان الدال. الآخرون بفتح الصاد والدال. (قالَ ائْتُونِي) والابتداء بكسر الألف : يحيى وحماد وحمزة (فَمَا اسْطاعُوا) بالإدغام : حمزة غير حماد وخلاد ، وقرأ أبو نشيط والشموني فما اصطاعوا بالصاد وهو الصحيح من نقل ابن مهران. (دَكَّاءَ) بالمد : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل والخزاز عن هبيرة (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ) بسكون السين ورفع الباء : يزيد ويعقوب والأعشى في اختياره (دُونِي أَوْلِياءَ) بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو أن ينفد بياء الغيبة : حمزة وعلي وخلف وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان.

الوقوف : (الْقَرْنَيْنِ) ط (ذِكْراً) ه ط (سَبَباً) لا (سَبَباً) ه (قَوْماً) ه ط (حُسْناً) ه (نُكْراً) ه (الْحُسْنى) ج لاختلاف الجملتين (يُسْراً) ه ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار (سَبَباً) ه (سِتْراً) ه (كَذلِكَ) ط أي كذلك القبيل الذين كانوا عند مغرب الشمس. وقيل : يبتدأ بكذلك أي ذلك كذلك أو الأمر كذلك. وقيل : أي أحطنا بما لديه من العدد والعدد كذلك أي كعلمنا بقوم سبق ذكرهم (خُبْراً) ه (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) ه (قَوْماً) لا (قَوْلاً) ه (سَدًّا) ه (رَدْماً) ه (الْحَدِيدِ) ط (انْفُخُوا) ط (ناراً) لا لأن

٤٥٦

«قال» جواب «إذا» (قِطْراً) ه ط لأن ما بعده ابتداء إخبار (نَقْباً) ه (مِنْ رَبِّي) ج لعطف الجملتين المختلفتين (دَكَّاءَ) ج لذلك (حَقًّا) ه ط لانقطاع القصة (جَمْعاً) ه لا للعطف (عَرْضاً) ه لا (سَمْعاً) ه (أَوْلِياءَ) ط (نُزُلاً) ه (أَعْمالاً) ه ط للفصل بين الاستخبار والإخبار لأن التقدير هم الذين ، ويجوز أن يكون نصبا على الذم أو جرا على البدل (صُنْعاً) ه (وَزْناً) ه (هُزُواً) ه (نُزُلاً) ه (حِوَلاً) ه (مَدَداً) ه (واحِدٌ) ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب (أَحَداً) ه.

التفسير : ولما أجاب عن سؤالين من أسئلة اليهود وانتهى الكلام إلى حيث انتهى ، شرع في السؤال الثالث والجواب عنه. وأصح الأقوال أن ذا القرنين هو الإسكندر بن فيلقوس الرومي الذي ملك الدنيا بأسرها ، إذ لو كان غيره لانتشر خبره ولم يخف مكانه عادة. يحكى أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف ، ثم قصد ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه ، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم عطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العبرانيون والقبط والبربر ، ثم توجه نحو دارا ابن دارا وهزمه إلى أن قتله فاستولى على ممالك الفرس ، ثم قصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ، ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها. قال الإمام فخر الدين الرازي : لما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلا ملك الأرض بالكلية أو ما يقرب منها ، وثبت من علم التاريخ أن من هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن ذا القرنين هو الإسكندر. قال : وفيه إشكال لأنه كان تلميذا لأرسطا طاليس وكان على مذهبه. فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطو حق وصدق ذلك وذلك مما لا سبيل إليه. قلت : ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلا فلعله أخذ منهم ما صفا وترك ما كدر. والسبب في تسميته بذي القرنين أنه بلغ قرني الشمس أي مطلعها ومغربها. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها. وقيل : كان له قرنان ضفيرتان. وقيل : انقرض في وقته قرنان من الناس. وقيل : كان لتاجه قرنان. وعن وهب أنه سمي بذلك لأنه ملك الروم وفارس. ويروى الروم والترك. وعنه كانت صفحتا رأسه من نحاس. وقيل : كان على رأسه ما يشبه القرنين. وقيل : لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشا كأنه ينطح أقرانه. وقيل : رأى في المنام كأنه صعد الفلك وتعلق بطرفي الشمس أي بقرنيها. وزعم الفرس أن دارا الأكبر تزوّج بابنة فيلقوس ، فلما قرب منها وجد رائحة منكرة فردها إلى أبيها وكانت قد حملت بالإسكندر

٤٥٧

فولدت الإسكندر وبقي عند فيلقوس وأظهر أنه ابنه وهو في الحقيقة دارا الأكبر. وقال أبو الريحان : إنه من ملوك حمير والدليل عليه أن الأذواء كانوا من اليمن كذي يزن وغيره. ويروى أنه ملك الدنيا بأسرها أربعة : ذو القرنين وسليمان ـ وهما مؤمنان ـ ونمرود وبختنصر ـ وهما كافران ـ واختلفوا فيه فقيل : كان عبدا صالحا ملكه الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة وسخر له النور والظلمة ، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه. وعن علي رضي‌الله‌عنه : سخر له السحاب ومدت له الأسباب وبسط له النور وأحب الله وأحبه. وسأله ابن الكواء وكان من أصحابه ما ذو القرنين أملك أم نبي؟ فقال : ليس بملك ولا نبي ولكن كان عبدا صالحا ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله أي في جهاده فمات ، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله يعني نفسه. قالوا : وكان ذو القرنين يدعو الناس إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله. وقيل : كان نبيا لقوله تعالى : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ). والتمكين المعتد به هو النبوة ، ولقوله (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) وظاهره العموم فيكون قد نال أسباب النبوّة ، ولقوله : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) وتكليم الله بلا واسطة لا يصلح إلا للنبي. وقيل : كان ملكا من الملائكة. عن عمر أنه سمع رجلا يقول : يا ذا القرنين. فقال : اللهم غفرا أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة.

قوله : (سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ) أي سأفعل هذا إن وفقني الله تعالى وأنزل فيه وحيا. والخطاب في (عَلَيْكُمْ) للسائلين وهم اليهود أو قريش كأبي جهل وأضرابه (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) طريقا موصلا إليه. والسبب في اللغة هو الحبل والمراد هاهنا كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة ، وذلك أنه أراد بلوغ السدين فأتبع سببا أدى إليه. ثم إنه سبحانه شرع في نعت مسيره إلى المغرب قائلا (فَأَتْبَعَ سَبَباً) أي سلك طريقا أفضى به إلى سفر المغرب ، ومن قرأ بقطع الهمزة فمعناه اتبع نفسه سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حامية أي حارة ، ومن قرأ بحذف الألف مهموزا فمعناه ذات حمأة أي طين أسود ، ولا تنافي بين القراءتين. فمن الجائز أن تكون العين جامعة للوصفين. عن أبي ذر قال : كنت رديف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال : أتدري يا أبا ذر من أين تغرب هذه؟ قلت : الله ورسوله أعلم. قال : فإنها تغرب في عين حامية. فقال حكماء الإسلام : قد ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كروية في وسط العالم ، وأن السماء محيطة بها من جميع الجوانب ، وأن الشمس

٤٥٨

في فلكها تدور بدوران الفلك. وأيضا قد وضح أن جرم الشمس أكبر من جرم الأرض بمائة وست وستين مرة تقريبا ، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ فتأويل الآية أن الشمس تشاهد هناك أعني في طرف العمارة كأنها تغيب وراء البحر الغربي في الماء كما أن راكب البحر يرى الشمس تغيب في الماء لأنه لا يرى الساحل ولهذا قال : (وَجَدَها تَغْرُبُ) ولم يخبر أنها تغرب في عين ، ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية ، وأيضا حمئة لكثرة ما في البحار من الطين الأسود. أما قوله : (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) فالضمير إما للشمس وإما للعين ، وذلك أن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان ذلك الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس. قال ابن جريج : هناك مدينة لها اثنا عشر ألف باب لولا أصوات أهلها سمع الناس وجوب الشمس حين تجب ، كانوا كفرة بالله فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل وأن يتخذ فيهم حسنا وهو تركهم أحياء فاختار الدعوة والاجتهاد فقال (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) بالإصرار على الشرك (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) بالقتل في الدنيا (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) في الآخرة (فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) منكرا فظيعا.

روى صاحب الكشاف عن قتادة أنه كان يطبخ من كفر في القدور وهو العذاب النكر ، ومن آمن أعطاه وكساه وفيه نظر ، لأن العذاب النكر بعد أن يرد إلى ربه لا يمكن أن يكون من فعل ذي القرنين. ومن قرأ (جَزاءً) بالنصب أراد فله الفعلة (الْحُسْنى) جزاء ، ومن قرأ بالرفع أراد فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كل الشهادة ، أو فله أن يجازى المثوبة الحسنى (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا) أي مما نأمر به الناس من الزكاة والخراج وغير ذلك (يُسْراً) أي قولا ذا يسر ليس بالصعب الشاق. ثم حكى سفره إلى أقصى الشرق قائلا (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) أي هيأ أسبابا بسفر المشرق (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي مكان طلوعها (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) عن كعب أن الستر هو الأبنية وذلك أن أرضهم لا تمسكها فليس هناك شجر ولا جبل ولا أبنية تمنع شعاع الشمس وتدفع حره عنهم ، فإذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب لهم ، وإذا غربت اشتغلوا بتحصيل المعاش ، فحالهم بالضد من أحوال سائر الخلق. وعن مجاهد أن الستر الثياب وأنهم عراة كالزنج ، وحال كل من سكن في البلاد القريبة من خط الاستواء كذلك. حكى صاحب الكشاف عن بعضهم أنه قال : خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء فقيل : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة. فبلغتهم فإذا أجدهم يفرش أذنه ويلبس الأخرى. وحين قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصلة فغشى عليّ ثم أفقت ، فلما طلعت الشمس إذ هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سربا لهم ، فلما أرتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا

٤٥٩

يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم. وللمفسرين في متعلق قوله : (كَذلِكَ) وجوه أحدها : كذلك أمر ذي القرنين اتبع هذه الأسباب حتى بلغ ما بلغ ، وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به. الثاني : لم نجعل لهم سترا مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الأبنية أو الثياب. الثالث : بلغ مطلع الشمس مثل الذي بلغ من مغربها. الرابع : تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم فقضى في هؤلاء كما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين ، وقد سبق بعض هذه الوجوه في الوقوف.

ثم حكى سفره إلى ناحية القطب الشمالي بعد تهيئة أسبابه قائلا (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) قيل : السد إذا كان بخلق الله فهو بضم السين حتى يكون بمعنى «مفعول» أي هو مما فعله الله وخلقه ، وإذا كان ممن عمل العباد فهو بالفتح حتى يكون حدثا قاله أبو عبيدة وابن الأنباري. وانتصب (بَيْنَ) على أنه مفعول به كما ارتفع بالفاعلية في قوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] قال الإمام فخر الدين الرازي : الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال. فقيل جبلان بين أرمينية وأذربيجان ، وقيل في منقطع أرض الترك. وحكى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنسانا من ناحية الخزر ، فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق وثيق منيع. وقيل : إن الواثق رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه ووصفوا أنه بناء من لبن من حديد مشددة بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل ، ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل إلى البقاع المحاذية لسمرقند. قال أبو الريحان البيرني : ومقتضى هذا الخبر أن هذا الموضع في الربع الغربي الشمالي من المعمورة والله أعلم بحقيقة الحال ، ولما بلغ الإسكندر ما بين الجبلين اللذين سد ما بينهما (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) أي من ورائهما متجاوزا عنهما قريبا (قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ) بأنفسهم أو يفقهون غيرهم قولهم لأنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم. سؤال : كيف فهم منهم ذو القرنين أن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض إلخ؟ وأجيب بأن «كاد» إثبات أو لعله فهم ما في ضمير هم بالقرائن والإشارات ، أو بوحي وإلهام. وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف. وقيل : مشتقان من أج الظليم في مشيه إذا هرول ، وتأجج النار إذا تلهبت ومن أجج الريق أو موج البحر ، سموا بذلك لشدتهم وسرعة حركتهم ، وهما من ولد يافث. وقيل : يأجوج من الترك ، ومأجوج من الجيل والديلم. ومن الناس من وصفهم بصغر الجثة وقصر القامة حتى الشبر ، ومنهم من

٤٦٠