تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

طالق إن شاء الله ، لأن مشيئة الله غير معلومة فيلزم الدور لتوقف العلم بالمشيئة على العلم بوقوع الطلاق وبالعكس. واستدل القائلون بأن المعدوم شيء بقوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ) وذلك أن الشيء الذي سيفعله غدا معدوم مع أنه سماه شيئا في الحال. وأجيب بأنه مجاز كقوله : (أَعْصِرُ خَمْراً) [يوسف : ٣٦] (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) أي مشيئة ربك (إِذا نَسِيتَ) كلمة الاستثناء. ثم تنبهت لها ، وللعلماء في مدة النسيان إلى الذكر خلاف ، فعن ابن عباس : يستثني ولو بعد سنة ما لم يحنث. وعن سعيد بن جبير : ولو بعد يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة وهو قول ابن عباس بعينه. وعن طاوس : هو استثناء ما دام في مجلسه. وعن عطاء : يستثني على مقدار حلب ناقة غزيرة. وعند عامة الفقهاء لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولا. قالوا : إن الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعهد والعقد فإذا أتى بالعهد وجب عليه الوفاء بمقتضاه خالفنا هذا الدليل فيما إذا كان الاستثناء متصلا بناء على أن المستثنى منه مع الاستثناء وأداته كالكلام الواحد ، فإذا كان منفصلا لم يمكن هذا التوجيه فوجب الرجوع إلى أصل الدليل. وقيل : أراد واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء ، وفيه بعث على الاهتمام بها. وقيل : اذكر إذا اعتراك النسيان في بعض الأمور لتذكر المنسي ، أو اذكره إذا تركت بعض ما أمرك به ليس لهذين القولين شديد ارتباط بما قيل ، وكذا قوله من حمله على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها. واختلفوا في المشار إليه بقوله : (لِأَقْرَبَ مِنْ هذا) الظاهر عند صاحب الكشاف أن المراد إذا نسيت شيئا فاذكر ربك ، وذكر ربك عند نسيانه أن تقول : عسى ربي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه (رَشَداً) وأدنى خيرا ومنفعة. وقيل : إن ترك قوله «إن شاء الله» ليس بحسن وذكره أحسن. فقوله «هذا» إشارة إلى الترك وأقرب منه ذكر هذه الكلمة ، وقيل : إنه إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف ومعناه لعل الله يؤتيني من البينات والحجج على أني صادق ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من نبئهم ، وقد فعل ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والأخبار بالمغيبات ما هو أعظم وأدل. عن قتادة : أن قوله سبحانه : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) حكاية لأهل الكتاب و (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) رد عليهم ويؤيده قراءة عبد الله وقالوا لبثوا والجمهور على أنه بيان لما أجمل في قوله : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) والمراد من قوله (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ) أن لا تتجاوزوا الحق الذي أخبر الله به ولا تلتفتوا إلى ماسواه من اختلافات أهل الأديان نظيره قوله : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) بعد قوله : (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) قال النحويون : سنين عطف بيان لثلثمائة لأن مميز مائة وأخواتها مجرور مفرد. وقيل : فيه تقديم وتأخير أي لبثوا سنين ثلاثمائة. ومن قرأ بالإضافة فعلى وضع الجميع

٤٢١

موضع الجميع موضع الواحد في التمييز كما مر في قوله : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) [الأعراف : ١٦٠] قوله : (وَازْدَادُوا تِسْعاً) أي تسع سنين لدلالة ما قبله عليه دون أن يقول «ولبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين». فعن الزجاج المراد ثلاثمائة بحساب السنين الشمسية وثلاثمائة وتسع بالسنين القمرية وهذا شيء تقريبي. وقيل : إنهم لما استكملوا ثلاثمائة سنة قرب أمرهم من الانتباه. ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين ، ثم أكد قوله : (اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) بقوله : (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ليس لغيره ما خفى فيهما من أحوالهما وأحوال سكانهما وهو مختص بذلك. ثم زاد في المبالغة فجاء بما دل على التعجب من إدراكه للمبصرات والمسموعات. والضمير في قوله : (ما لَهُمْ) لأهل السموات والأرض. وفيه بيان لكمال قدرته وأن الكل تحت قهره وتسخيره وأنه لا يتولى أمورهم غيره (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ) وقضائه قبل أصحاب الكهف (أَحَداً) منهم. ومن قرأ (لا نُشْرِكَ) على النهي فهو معطوف على (لا تَقُولَنَ) والمراد أنه لا يسأل أحدا عما أخبره الله به من نبأ أصحاب الكهف. واقتصر على بيانه. وقيل : الضمير في مالهم لأصحاب الكهف أي أنه هو الذي حفظهم في ذلك النوم الطويل وتولى أمرهم. وقيل : ليس للمختلفين في مدة لبثهم من دون الله من يتولى أمورهم فكيف يعلمون هذه الواقعة من دون إعلامه؟! وقيل : فيه نوع تهديد لأنهم لما ذكروا في هذا الباب أقوالا على خلاف قول الله فقد استوجبوا العقاب فبين الله تعالى أنه : (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌ) يمنع العقاب عنهم. واعلم أن الناس اختلفوا في زمان لبث أصحاب الكهف في مكانهم فقيل : كانوا قبل موسى عليه‌السلام وأنه ذكرهم في التوراة فلهذا سألت اليهود ما سألوا. وقيل : دخلوا الكهف قبل المسيح وأخبروه بخبرهم ثم لبثوا في الوقت الذي بين عيسى ومحمد عليهما‌السلام. وحكى القفال عن محمد بن إسحق أنهم دخلوا كهفهم بعد عيسى. وقيل : إنهم لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة. وذكر أبو علي بن سينا في باب الزمان من كتاب الشفاء إن أرسطاطاليس الحكيم زعم أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف ثم قال أبو علي : ويدل التاريخ على أنهم كانوا قبل أصحاب الكهف. وأما المكان فحكى القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم أن الواثق أنفذه إلى ملك الروم ليعرف أحوال أصحاب الكهف ، فوجهه مع طائفة إلى ذلك الموضع قال : وإن الرجل الموكل بذلك المقام فزعني من الدخول عليهم ، فدخلت فرأيت الشعور على صدورهم فعرفت أنه تمويه واحتيال وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة الحافظة لأبدان الموتى عن البلى كالصبر وغيره. قلت : حين لم يملأ الخوارزمي

٤٢٢

رعبا من الاطلاع عليهم حصل القطع بأنهم ليسوا أصحاب الكهف والرقيم ، ولو صح ما حكينا عن معاوية حين غزا الروم حصل ظن غالب بأنهم منهم والله تعالى أعلم.

التأويل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) والعبد الحقيقي من يكون حرا عن الكونين وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ يقول : «أمتي أمتي» يوم يقول كل نبي «نفسي نفسي» ، ولأنه هو الذي صحح نسبة العبودية كما ينبغي أطلق عليه اسم العبد مطلقا وقيد لسائر الأنبياء كما قال : (عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) [مريم : ٢] ، (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) [ص : ١٧] ، ولأنه كان خلقه القرآن قيل : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ) أي لقلبه (عِوَجاً) لا يستقيم فيه القرآن ، ومن استقامة قلبه نال ليلة المعراج رتبة (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] بلا واسطة جبرائيل ، ونال قلبه الاستقامة بأمر التكوين بقوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [هود : ١١٢] (أَجْراً حَسَناً). هو التمتع من حسن الله وجماله. (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) كان من عادته عليه الصلاة والسلام أن يبالغ في المأمور به حتى ينهى عنه ، بالغ في الدعوة والشفقة على أمته حتى قيل له لا تبخع نفسك ، وبالغ في الإنفاق إلى أن أعطى قميصه فقعد عريانا فنهى عنه بقوله : (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩] (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً) أي زينا الدنيا وشهواتها للخلق ملائما لطبائعهم وجعلناها محل ابتلاء للمحب وللسائل (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) في تركها ومخالفة هوى نفسه طلبا لله ومرضاته. ثم أخبر عن سعادة السادة الذين أعرضوا عن الدنيا وأقبلوا على المولى بقوله : (أَمْ حَسِبْتَ) ومعناه لا تعجب من حالهم فإن في أمتك من هو أعجب حالا منهم ، ففيهم أصحاب الخلوات الذين كهفهم بيت الخلوة ، ورقيمهم قلوبهم المرقومة برقم المحبة فإنهم أووا إلى الكهف خوفا من لقاء دقيانوس وفرارا منه ، فهؤلاء أووا إلى الخلوة شوقا إلى لقائي وفرارا إليّ ، وإنهم طلبوا النجاة من شر. والخروج من الغار بالسلامة بقولهم (رَبَّنا آتِنا) الآية. فهؤلاء طلبوا الخلاص من شر نفوسهم والخروج من ظلمات الغار المجازي للوصول إلى نور الوجود الحقيقي. (فَضَرَبْنا) على آذان باطنهم وحواسهم الأخر في مدة الخلوة لمحو النقوش الفاسدة عن ألواح نفوسهم وانتقاشها بالعلوم الدينية والأنوار الإلهية ليفنيهم الله عنهم ويبقيهم به وهو سر قوله : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي أحييناهم بنا (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) أصحاب الخلوة أم أصحاب السلوة. (أَحْصى) أي أكثر فائدة وأتم عائدة لأمد لبثهم في الدنيا التي هي مزرعة الآخرة (وَزِدْناهُمْ هُدىً) فإنهم كانوا يريدون الإيمان الغيبي فأنمناهم (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) حتى صار الإيمان إيقانا والغيب عيانا (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) من الدنيا والهوى. (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ) قال الشيخ المحقق نجم الدين

٤٢٣

المعروف : بداية هذا أخبار من أصناف ألطافه بأضيافه ، وفيه إشارة إلى أن نور ولايتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم لقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المؤمن إذا ورد النار تستغيث النار وتقول : حزبا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي» (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) في متسع وفراغ من ذلك النور يدفع عنهم كل ضر ويراعيهم عن بلى أجسادهم وثيابهم. قلت : يحتمل أن يراد أن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات ـ وهو حالة السكر وغلبات الوجد ـ لا تنصرف في حال خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبى وهو جانب اليمين (وَإِذا غَرَبَتْ) أي سكنت تلك الغلبات وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال ، بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في حال دفاع وفراغ مما يشغلهم عن الله (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) متصرفين في أمور الدنيا (وَهُمْ رُقُودٌ) عنها لأنهم يتصرفون فيها لأجل الحق لا لحظ النفس ، أو تحسبهم أيقاظا مشغولين بأمور الآخرة لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ، وهم رقود متصرفون في أمور الدنيا لأن الناس بهم يرزقون ويمطرون. وفي قوله : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) إشارة إلى أنهم في التسليم لمقلب القلوب في الأحوال كلها كالميت بين يدي الغسال. قيل : في الآية دلالة على أن المريد الذي يربيه الله بلا واسطة المشايخ تكامل أمره في ثلاثمائة وتسع سنين ، والذي يربيه بواسطتهم تم أمره في أربعينات معدودة ولهذا تكون ثمرة البساتين الزهر وثمرة الجبال وفي قوله : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ) إشارة أن أكلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال بها. ربيت القلوب والأرواح معنى أن هذا النوع من التربية من قبيل القدرة الإلهية التي اختصهم بها ، ويمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم في جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) بما شاهدت عليهم من آثار الأنوار التي زدناهم ، ولجلاليب الهيبة والعظمة التي ألبسناهم (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأن أيام الوصال قصيرة ، فما رأوا أنهم في دهشة الوصال وحياة الأحوال (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) لأنه كان حاضرا معكم وأنتم غيب عنكم (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ) من العجب أنهم ما احتاجوا مدة ثلاثمائة وتسع سنين بما نالوا من غذاء الروح كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (١). فلما رجعوا من عند الله الحق إلى عبدية أنفسهم احتاجوا إلى الغذاء الجسماني (أَزْكى طَعاماً) لما رجعوا إلى العالم الجسماني ، تعللوا من جمال الله بمشاهدة كل جميل وتوسلوا إلى تلك

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التمني باب ٩. مسلم في كتاب الصيام حديث ٥٧ ، ٥٨. الموطأ في كتاب الصيام حديث ٥٨. أحمد في مسنده (٣ / ٨) ، (٦ / ١٢٦).

٤٢٤

الملاطفات بلطافة الأغذية الجسمانية وزكائها. (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) فيه أن أرباب المعرفة والمحبة يجب أن يحترزوا عن شعور أهل الغفلة والسلوة (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) بإحياء القلوب الميتة حق قدره ، ، الأمر فيما أظهر وأبدى أو أسر وأخفى. (سَيَقُولُونَ) إن القوى والأركان الأصلية للإنسان (ثَلاثَةٌ) الحيوانية والطبيعية والنفسانية التي منشؤهن القلب والكبد والدماغ. (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) هو النفس الناطقة. (وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ) هو الحواس الظاهرة (سادِسُهُمْ) النفس (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ) هو الحواس الظاهرة مع الوهم المدرك للمعاني والخيال المدرك للصور (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) هو النفس المدرك للكليات (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) لأن القوى الباطنة والظاهرة وأفاعيلها وغاياتها لا يعلمهن إلا الله سبحانه ومن أطلعه الله عليه وذلك قوله : (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) والله أعلم بالصواب.

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ

٤٢٥

يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦))

القراآت : (وَفَجَّرْنا) بالتخفيف : سهل ويعقوب غير رويس (لَهُ ثَمَرٌ) وكذا (بِثَمَرِهِ) بفتح الثاء والميم : يزيد. وعاصم وسهل ويعقوب وأبو عامر : بضم الثاء وإسكان الميم. والباقون بضم الثاء والميم جميعا (مِنْها) على الوحدة : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون على التثنية لكن بالتشديد من غير ألف في الحالين : قتيبة وابن عامر وابن فليح ويعقوب بالألف في الوصل. الباقون بغير الألف واتفقوا على الألف في الوقف (بِرَبِّي أَحَداً) مفتوحة الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. أن ترني بفتح الياء : السرانديبي عن قنبل غورا بضم الغين وكذلك في (الْمُلْكُ) البرجمي الباقون بفتحها. ولم يكن له بياء الغيبة الولاية بكسر الواو : حمزة وعلي وخلف. الآخرون بتاء التأنيث وفتح الواو لله الحق بالرفع : أبو عمرو وعلي. الآخرون بالجر (عُقْباً) بسكون القاف : عاصم وحمزة وخلف. الباقون بضمها الريح على التوحيد : حمزة وعلي وخلف.

الوقوف : (مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) ط لاختلاف الجملتين (مُلْتَحَداً) ه (عَنْهُمْ) ج لأن ما بعده يصلح حالا واستفهاما محذوف الألف لدلالة حال العتاب. (فُرُطاً) ه (فَلْيَكْفُرْ) لا لأن الأمر للتهديد بدليل (إِنَّا أَعْتَدْنا) فلو فصل صار مطلقا (ناراً) ، لأن ما بعده صفة (سُرادِقُها) ط (الْوُجُوهَ) ط (الشَّرابُ) ط (مُرْتَفَقاً) ه (عَمَلاً) ج ه لاحتمال كون (أُولئِكَ) مع ما بعده خبر (إِنَّ الَّذِينَ) وقوله : (إِنَّا لا نُضِيعُ) جملة معترضة (الْأَرائِكِ) ط (الثَّوابُ) ط (مُرْتَفَقاً) ه (زَرْعاً) ه ، ط (شَيْئاً) لا للعطف (نَهَراً) ه ط (ثَمَرٌ) ج للعدول مع الفاء (نَفَراً) ، ج (لِنَفْسِهِ) ج لاتحاد العامل بلا عطف (أَبَداً) ه ط (قائِمَةً) لا لأن ما بعده شك من قول الكافر في البعث (مُنْقَلَباً) ه (رَجُلاً) ، ه ط لتمام الاستفهام (أَحَداً) ه (ما شاءَ اللهُ) لا لاتمام المقول (إِلَّا بِاللهِ) ج لابتداء الشرط المحذوف جوابه مع اتحاد القائل والمقول له (وَوَلَداً) ه ، ج لاحتمال كون ما بعده جوابا للشرط (زَلَقاً) ه (طَلَباً) ه (أَحَداً) ه (مُنْتَصِراً) ، ط وقيل : يوقف على (هُنالِكَ) والأوجه أن يبتدأ بـ (هُنالِكَ) أي عند ذلك يظهر لكل شاك سلطان الله ونفاد أمره (الْحَقِ) ط على القراءتين (عُقْباً) ه (الرِّياحُ) ط

٤٢٦

(مُقْتَدِراً) ه (زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) ج مفصلا بين المعجل الفاني والمؤجل الباقي مع اتفاق الجملتين (أَمَلاً).

التفسير : لما أجاب عن سؤالهم بما أجاب أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحى إليه وعلى الصبر مع الفقراء الذين آمنوا بما أنزل عليه ، واحتمل أن يكون (اتْلُ) أمرا من التلو لا من التلاوة أي اتبع ما أوحي إليك والزم العمل بمقتضاه وقوله : (مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) بيان للذي أوحي إليه. ثم بين سبب اللزوم فقال : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي لا يقدر أحد على تغييرها وإنما يقدر على ذلك هو وحده فليس لك ولا لغيرك إلا المواظبة على العلم والعمل به يؤكده قوله : (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي ملتجأ تعدل إليه إن هممت بذلك فرضا. وأصل اللحد الميل كما مر في قوله : (يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) [الأعراف : ١٨] نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سورة الأنعام عن طرد فقراء المؤمنين بقوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ) [الآية : ٥٢] الآية وأمره في هذه السورة بحبس النفس معهم وبمراقبة أحوالهم بقوله : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ) قال جار الله : إنما لم يقل ولا تعدهم عيناك من عداه إذا جاوزه لأنه ضمن عدا معنى نبا وفيه مبالغة من جهة تحصيل المعنيين جميعا كأنه قيل : ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم. ثم نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء الكفرة الذين التمسوا منه طرد الفقراء حتى يؤمنوا به فقال : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) قال أهل السنة : معنى الإغفال إيجاد الغفلة وخلقها فيهم ، أو هو من أغفلها إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بالذكر ولم نجعله من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان ، ويؤيد ويؤيد هذا المعنى أن الغفلة عن الذكر لو كانت بإيجاد العبد والقصد إلى إيجاد الغفلة عن الشيء لا يتصور إلا مع الشعور بذلك الشيء لزم اجتماع الضدين. وقالت المعتزلة : معنى أغفلناه وجدناه غافلا بالخذلان والتخلية بينه وبين الأسباب المؤدية إلى الغفلة يؤيده قوله : (وَاتَّبَعَ هَواهُ) بالواو دون الفاء إذ لو كان اتباع الهوى من نتيجة خلق الغفلة في القلب لقيل «فاتبع» بالفاء. ويمكن أن يجاب بأنه لا يلزم من كون الشيء في نفس الأمر نتيجة لشيء أن يعتبر كونه نتيجة له والفاء من لوازم الثاني دون الأول ، على أن الملازمة بين الغفلة عن ذكر الله وبين متابعة الهوى غير كلية ، فقد يكون الإنسان غافلا عن ذكر الله ومع ذلك لا يتبع هواه بل يبقى متوقفا متحيرا (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي متجاوزا عن حد الاعتدال من قولهم «فرس فرط» إذا كان متقدما للخيل ، ويلزم منه أن يكون نابذا للحق وراء ظهره. وأنت إذا تأملت وجدت حال الأغنياء المتحيرين بخلاف الفقراء المؤمنين ، لأن هؤلاء الفقراء يدعون ربهم بالغداة والعشى ابتغاء وجه الله وطلبا لمرضاته فأقبلوا على

٤٢٧

الحق وشغلوا عن الخلق ، والأغنياء قد أعرضوا عن المولى وأقبلوا على الدنيا فوقعوا في ظلمة الهوى وبقوا في تيه الجهل والعمى. وإنما لم يجز طرد الفقراء لأجل إيمان الأغنياء لأن إيمان من ترك الإيمان احترازا من مجالسة الفقراء كلا إيمان فوجب أن لا يلتفت إليه.

ثم بين أن الحق ما هو ومن أين هو قائلا (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أي الدين الحق حصل ووجد من عند الله ، ويحتمل أن يراد بالحق الصبر مع الفقراء. وقال في الكشاف : الحق خبر مبتدأ محذوف والمعنى جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلا اختيار الإيمان أو الكفر ، وفيه دليل على أن الإيمان والكفر والطاعة والمعصية كلها مفوّضة إلى مشيئة العبد واختياره. وحمله الأشاعرة على أمر التهديد وقالوا : إن الفعل الاختياري يمتنع حصوله بدون القصد إليه ، ثم ذلك القصد لا بد أن يقع بالاختيار والقصد فنقل الكلام إليه ولا يتسلسل فلا بد أن ينتهي إلى قصد واختيار يخلقه الله فيه. فالإنسان مضطر في صورة مختار وفي صورة هذا التخيير دلالة على أنه سبحانه لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضر بكفر الكافرين. ثم بين وعيد الظالمين الذين وضعوا الكفر موضع الإيمان وتحقير المؤمنين لأجل فقرهم مكان تعظيمهم لأجل إيمانهم فقال : (إِنَّا أَعْتَدْنا) أي أعددنا وهيأنا (لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) وهو الحجرة التي تكون حول الفسطاط فأثبت تعالى للنار شيئا شبيها بذلك يحيط بهم من جميع الجهات ، والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرج. وقيل : هو حائط من نار يطبق بهم. وقيل : هو دخان محيط بالكفار قبل دخولهم النار وهو المراد بقوله (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) [المرسلات : ٣٠] وقوله : (يُغاثُوا بِماءٍ) وارد على سبيل التهكم كقولهم «عتابك السيف». والمهل كل ما أذيب من المعدنيات كالذهب والفضة والنحاس قاله أبو عبيدة والأخفش. وقيل في حديث مرفوع إنه درديّ الزيت. وقيل : الصديد والقيح أو ضرب من القطران. وهذه الاستغاثة إما لطلب الشراب كقوله : تسقى في عين آنية [الغاشية : ٥] وإما لدفع الحر ولأجل التبريد كقوله حكاية عنهم (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) [الأعراف : ٥٠] ويروى أنهم إذا استغاثوا من حر جهنم صب عليهم القطران الذي يعم كل أبدانهم كالقميص ، وقد يفسر بهذا قوله : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) [إبراهيم : ٥٠] عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هو ـ يعني المهل ـ كعكر الزيت إذا قرب إليه سقطت فروة وجهه» (١) وهذا معنى قوله : (يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ) ذلك لأن المقصود من الشراب إراحة الأحشاء وهذا يحرقها ويشويها (وَساءَتْ)

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب جهنم باب ٤ ، كتاب تفسير سورة ٧٠. أحمد في مسنده (٣ / ٧١) ، (٥ / ٢٦٥).

٤٢٨

أي النار (مُرْتَفَقاً) متكئا لأهلها ومنه المرفق لأنه يتكأ عليه. قال جار الله : هذا لمشاكلة قوله في أهل الجنة (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) وإلا فلا ارتفاق لأهل النار إلا أن يقال : معنى ارتفق أنه نصب مرفقه ودعم به خده كعادة المغتمين. وقال قائلون : إن الشياطين رفقاء أهل النار من الإنس والمعنى ساءت النار مجتمعا لأولئك الرفقاء.

ثم شرع في وعد المؤمنين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية فإن جعلت (إِنَّا لا نُضِيعُ) اعتراضا فظاهر وإن جعلته خبرا و (أُولئِكَ) خبرا آخر أو كلاما مستأنفا للأجر أو بيانا لمبهم فمعنى العموم في (مَنْ أَحْسَنَ) يقوم مقام الرابط المحذوف والتقدير (مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) منهم. وتفسير جنات عدن قد مر في سورتي «التوبة» و «الرعد». ولأهل الجنة لباسان : لباس التحلي ولباس الستر. ولم يسم فاعل (يُحَلَّوْنَ) للتعظيم وهو الله جل وعلا ، أو الملائكة بإذن. و «من» في (مِنْ أَساوِرَ) للابتداء وفي (مِنْ ذَهَبٍ) للتبيين. وتنكير أساور لإبهام أمرها في الحسن ، وأساور أهل الجنة بعضها ذهب لهذه الآية ، وبعضها فضة لقوله : (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) [الدهر : ٢١] وبعضها لؤلؤ لقوله في الحج (وَلُؤْلُؤاً) [الحج : ٢٣] وجمع في لباس الستر بين السندس ـ وهو مارق من الديباج ـ وبين الإستبرق ـ وهو الغليظ منه ـ جمعا بين النوعين والإستبرق عند بعضهم معرب استبره. قيل : إنما لم يسم فاعل (يُحَلَّوْنَ) إشارة إلى أن الحلي تفضل الله بها عليهم كرما وجودا ونسب اللبس إليهم تنبيها على أنهم استوجبوه بعملهم ، ثم وصفهم بهيئة المتنعمين والملوك من الاتكاء على أسرتهم. والأرائك جمع أريكة وهو السرير المزين بالحجلة ، أما السرير وحده فلا يسمى أريكة. ثم إن الكفار كانوا يفتخرون بخدمهم وحشمهم وأموالهم وأصناف تمتعاتهم على الفقراء المؤمنين فضرب الله مثلا للطائفتين تنبيها على أن متاع الدنيا لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الغني فقيرا والفقير غنيا إنما الفخر بالأعمال الصالحات. والمراد مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين وكانا أخوين من بني إسرائيل أحدهما كافر ـ اسمه فطروس ـ والآخر مؤمن ـ اسمه يهوذا ـ وقيل : هما المذكوران في سورة «والصافات» في قوله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) [الصافات : ٥١] ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراهما ، فاشترى الكافر أرضا بألف فقال المؤمن : اللهم إن أخي اشترى أرضا بألف دينار وأنا أشتري منك أرضا في الجنة بألف فتصدق به. ثم بنى أخوه دارا بألف فقال : اللهم إن أخي بنى دارا بألف وإني أشتري منك دارا في الجنة بألف فتصدق به. ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال : اللهم إني جعلت ألفا صداقا للحور. ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف فقال : اللهم إني اشتريت منك الولدان المخلدين بألف فتصدق به. ثم أصابته

٤٢٩

حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في به في حشمه فتعرض له فطرده وبخسه على التصدق بماله. وقيل : هما مثل لأخوين من بني مخزوم مؤمن وهو عبد الله بن الأشد زوج أم سلمة قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكافر وهو الأسود بن عبد الأشد.

أما قوله : (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) فقال صاحب الكشاف : إنه يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء ومعناه النخيل محيطا بالجنتين وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار ولا سيما المثمرة منها وخاصة النخيل إذا أمكن. (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) فهما جامعتان للأقوات والفواكه. وفيه أنهما مع سعة أطرافهما وتباعد أكنافهما لم يتوسطهما بقعة معطلة ، وفيه أنهما أتاني كل وقت بمنفعة أخرى متواصلة متشابكة وكل منهما منعوتة بوفاء الثمار لتمام الأكل. (وَآتَتْ) محمول على لفظ (كِلْتَا) لأن لفظه مفرد. ولو قيل : «آتتا» على المعنى لجاز. والظلم أصله النقصان وهو المراد هاهنا. (وَفَجَّرْنا) من قرأ بالتخفيف فظاهر لأنه نهر واحد ، ومن قرأ بالتشديد فللمبالغة لأن النهر ممتد في وسطهما فهو كالأنهار (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) قال الكسائي : الثمرة اسم الواحد والثمر جمع وجمعه ثمار ثم ثمر ككتاب وكتب بالحركة أو بالسكون. وذكر أهل اللغة أن الثمر بالضم أنواع الأموال من الذهب والفضة وغيرهما ، والثمر بالفتح حمل الشجر. وقال قطرب : كان أو عمرو بن العلاء يقول : الثمر المال والولد أي كان يملك مع الجنتين أشياء من النقود وغيرها وكان متمكنا من عمارة الأرض ومن سائر التمتعات كيف شاء. والمحاورة مراجعة الكلام من حار إذا رجع. والنفر الأنصار والحشم الذين يقومون بالذب عنه. وقيل : الأولاد الذكور لأنهم ينفرون معه دون الأناث.

ثم إن الكافر كأنه أخذ بيد المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويفاخره بما ملك من المال دونه وذلك قوله سبحانه (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) فقال جار الله : معنى أفراد الجنة بعد التثنية أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون ، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما. قلت : لا يبعد أن يكون قد دخل مع أخيه جنة واحدة منهما أو جعل مجموع الجنتين في حكم جنة واحدة منهما يؤيده توحيد الضمير على أكثر القراآت في قوله : (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها) وإنما وصفه بقوله : (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) لأنه لما اغتر بتلك النعم ولم يجعلها وسيلة إلى الإيمان بالله والاعتراف بالبعث وسائر مقدورات الله كان واضعا للنعم في غير موضعها ، على أن نعمة الجنة بخصوصها مما يجب أن يستدل بها على أحوال النشور كقوله عز من قائل : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج : ٥] عكس الكافر القضيتين زعم دوام جنته التي هي بصدد الزوال قائلا (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ) أي تهلك (هذِهِ) الجنة

٤٣٠

(أَبَداً) وذلك لطول أمله واستيلاء الحرص عليه واغتراره بالمهلة حتى أنكر المحسوس وادعى غلبة الظن بامتناع النشور مع قيام الدلائل العقلية والحسية على إمكانه ووجود الدلائل الشرعية على وجوبه قائلا (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) ثم أقسم على أنه إن رد إلى ربه فرضا وتقديرا وكما يزعم صاحبه أن له ربا وأنه سيرد إليه وجد خيرا من جنته في الدنيا كأنه قاس الغائب على الشاهد أو ادعى أن النعم الدنيوية لن تكون استدراجية أصلا وإنما تكون استحقاقا وكرامة. (مُنْقَلَباً) نصب على التمييز أي مرجع تلك وعاقبتها لكونها باقية بزعمكم خير من هذه لكونها فانية حسا أو في اعتقادكم. قال بعض العلماء : الرد يتضمن كراهة المردود إليه فلهذا قال : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ) أي عن جنتي هذه التي أظن أن لا تبيد أبدا إلى ربي ، ولما لم يسبق مثل هذا المعنى في «حم» قال هناك : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي) [فصلت : ٥٠] ، قوله : (أَكَفَرْتَ) زعم الجمهور أن أخاه إنما حكم بكفره لأنه أنكر البعث. وأقول : يحتمل أن يكون كافرا بالله أيضا بل مشركا لقوله بعد ذلك : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) ولقول أخيه معرضا به (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) وليس في قوله : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) دلالة على أنه كان عارفا بربه لاحتمال أن يكون قد قال ذلك بزعم صاحبه كما أشرنا إليه. وقوله : (خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) أي خلق أصلك وهو إشارة إلى مادته البعيدة. وقوله : (مِنْ نُطْفَةٍ) إشارة إلى مادتة القريبة. ومعنى (سَوَّاكَ رَجُلاً) عدلك وكلك حال كونك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال المكلفين ويجوز أن يكون (رَجُلاً) تمييزا.

ولعل السر في تخصيص الله سبحانه في هذا المقام بهذا الوصف هو أن يكون دليلا على وجود الصانع أولا ، لأن الاستدلال على هذا المطلوب بخلق الإنسان أقرب الاستدلالات ، وفيه أيضا إشارة إلى إمكان البعث لأن الذي قدر على الإبداء أقدر على الإعادة ، وفيه أنه خلقه فقيرا لا غنيا فعلم منه أنه خلقه للعبودية والإقرار لا للفخر والإنكار. ثم استدرك لقوله (أَكَفَرْتَ) كأنه قال لأخيه : أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد. وأصل لكنا «لكن أنا» حذفت الهمزة بعد إلقاء حركتها على ما قبلها ، ثم استثقل اجتماع النونين فسكنت الأولى وأدغمت في الثانية ، وضمير الغائب للشأن ، والجملة بعده خبر للشأن ، والمجموع خبر «أنا» والراجع ياء الضمير وتقدير الكلام : لكن أنا الشأن الله ربي. قال أهل العربية : إثبات ألف «أنا» في الوصل ضعيف ، ولكن قراءة ابن عامر قوية بناء على أن الألف كالعوض عن حذف الهمزة (وَلَوْ لا) للتخفيض وفعله. قلت : و (إِذْ دَخَلْتَ) ظرف وقع في البين توسعا. وقوله : (ما شاءَ اللهُ) خبر مبتدأ محذوف أو جملة شرطية محذوفة الجزاء تقدير الكلام الأمر ما شاء الله أو أي شيء شاء الله كان. استدل أهل السنة بالآية في أنه لا يدخل في الوجود شيء إلا بأمر الله ومشيئته. وأجاب الكعبي

٤٣١

بأن المراد ما شاء الله مما تولى فعله لا ما هو من فعل العباد. والجواب أن هذا التقدير مما يخرج الكلام عن الفائدة فإنه كقول القائل «السماء فوقنا». وأجاب القفال بأنه أراد ما شاء الله من عمارة هذا البستان ويؤيده قوله (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) أي ما قويت به على عمارته وتدبير أمره فهو بمعونة الله ، وزيف بأنه تخصيص للظاهر من غير دليل على أن عمارة ذلك البستان لعلها حصلت بالظلم والعدوان ، فالتحقيق أنه لا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله وإقداره. عن عروة بن الزبير أنه كان يثلم حائطه أيام الرطب فيدخل من يشاء ، وكان إذا دخله ردد هذه الآية حتى يخرج. ثم لما علمه الإيمان وتفويض الأمر إلى مشيئة الله أجابه عن افتخاره بالمال والنفر فقال : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَ) فـ «أنا» فصل و (أَقَلَ) مفعول ثان (مالاً وَوَلَداً) نصب على التمييز فعسى ربي أن يؤتيني في الدنيا أو في الآخرة جنة (خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً) هو مصدر كالغفران بمعنى الحساب أي مقدارا وقع في حساب الله وهو الحكم بتخريبها. وعن الزجاج : عذاب حسبان وهو حساب ما كسبت يداك. وقيل : هو جمع حسبانة وهو السهم القصير يعني الصواعق. (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) أرضا بيضاء يزلق عليها زلقا لملاستها. وزلقا وغورا كلاهما وصف بالمصدر كقولهم «فلان زور وصوم».

ثم أخبر سبحانه عن تحقيق ما قدره المؤمن فقال : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) وهو عبارة عن إهلاكه وإفنائه بالكلية من إحاطة العدوّ بالشخص كقوله : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) [يوسف : ٦٦] ، (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) أي يندم (عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) لأن النادم يفعل كذلك غالبا كما قد يعض أنامله. (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم وقد مر في البقرة في قصة عزير. وقوله : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ) تذكر لموعظة أخيه وفيه دلالة ظاهرة على ما قلنا من أنه كان غير عارف بالله بل كان عابد صنم ، ومن ذهب إلى أنه جعل كافرا لإنكاره البعث فسره بأن الكافر لما اغتر بكثرة الأموال والأولاد فكأنه أثبت لله شريكا في إعطاء العز والغنى ، أو أنه لما عجز الله عن البعث فقد جعله مساويا لخلقه في هذا الباب وهو نوع من الإشراك. وليس هذا الكلام منه ندما على الشرك ورغبة في التوحيد المحض ولكنه رغب في الإيمان رغبة في جنته وطمعا في دوام ذلك عليه ، فلهذا لم يصر ندمه مقبولا ووصفه بعد ذلك بقوله : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ) طائفة (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) لأنه وحده قادر على نصرة العباد. (وَما كانَ مُنْتَصِراً) ممتنعا بقوته عن انتقام الله. ولما علم من قصة الرجلين أن النصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر علم أن الأمر هكذا يكون في حق كل مؤمن وكافر فقيل (هُنالِكَ) أي في مثل ذلك الوقت والمقام والولاية الحق لله أو (الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ)

٤٣٢

والولاية بالفتح النصرة والتولي ، وبالكسر السلطان والملك ، أو المراد في مثل تلك الحالة الشديدة يتوب إلى الله ويلتجىء إليه كل مضطر يعني أن قول الكافر (يا لَيْتَنِي) إنما صدر عنه إلجاء واضطرارا وجزعا ومما دهاه من شؤم كفره ولو لا ذلك لم يقلها. وقيل : (هُنالِكَ) إشارة إلى الآخرة كقوله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ) [غافر : ١٦] (عُقْباً) بضم القاف وسكونها بمعنى العاقبة لأن من عمل لوجه الله لم يخسر قط.

ثم ضرب مثلا آخر لجبابرة قريش فقال (وَاضْرِبْ لَهُمْ) الآية. وقد مر مثله في أوائل «يونس» (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ) ومعنى (فَاخْتَلَطَ بِهِ) التف بسببه. وقيل : معناه روى النبات ورف لاختلاط الماء به وذلك لأن الاختلاط يكون من الجانبين. والهشيم ما تهشم وتحطم ، والذر والتطيير والإذهاب. تقول : ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذريه ذروا وذريا. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) من تكوينه أوّلا وتنميته وسطا وإذهابه آخرا. ولا ريب أن أحوال الدنيا أيضا كذلك تظهر أولا في غاية الحسن والنضارة ، ثم تتزايد إلى أن تتكامل ، ثم تنتهي إلى الزوال والفناء ، ومثل هذا ليس للعاقل أن يبتهج به. وحين مهد القاعدة الكلية خصصها بصورة جزئية فقال : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) هي أعمال الخير التي تبقى ثمرتها (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) أي تعلق ثواب وخير أملا لأن الجواد المطلق أفضل مسؤول وأكرم مأمول. وقيل : هن الصلوات الخمس. وقيل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ففي التسبيح تنزيه له عن كل ما لا ينبغي ، وفي الحمد إقرار له بكونه مبدأ لإفادة كل ما ينبغي ، وفي التهليل اعتراف بأنه لا شيء في الإمكان متصفا بالوصفين إلا هو ، وفي التكبير إذعان لغاية عظمته وأنه أجلّ من أن يعظم. وقيل : الطيب من القول. والأصح كل عمل أريد به وجه الله وحده قال قتادة.

التأويل : (وَاتْلُ) على نفسك (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ) كتبه (رَبِّكَ) في الأزل (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) إلى الأبد مع الدين (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) وهم القلب والسر والروح والخفي في غداة الأزل إلى عشي الأبد فإنهم مجبولون على طاعة الله كما أن النفس جبلت على طاعة الهوى وطلب الدنيا. (وَلا تَعْدُ) عينا همتك (عَنْهُمْ) فإنك إن لم تراقب أحوالهم تصرف فيهم النفس الأمارة (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا) يعني النفس نارا هي نار القهر والغضب (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) يعني سرادق العزة (بِماءٍ كَالْمُهْلِ) كل ما هو لأهل اللطف أسباب لسهولة العيش وفراغ البال فإنه سبحانه جعل لأهل القهر سببا لصعوبة الأمر وشدة التعلق حتى شوت الوجوه أي أحرقت مواد التفاتهم إلى عالم الأرواح ، وفسدت استعداداتهم

٤٣٣

فبقوا في أسفل سافلين الطبيعة (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ) والتحلية بالأساور إشارة إلى ظهور آثار الملكات عليهم وقوله : (مِنْ ذَهَبٍ) رمز إلى أنها ملكات مستحسنة معتدلة راسخة (يَلْبَسُونَ ثِياباً) فيه أن أنوار العبادات تلوح عليهم وتشتمل بهم. وقوله : (خُضْراً) إشارة إلى أنها أنوار غير قاهرة و (مِنْ سُنْدُسٍ) إشارة إلى ما لطف من الرياضات (وَإِسْتَبْرَقٍ) إلى ما شق منها (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) لأنهم فرغوا بها وكلفوا وقضوا ما عليهم من المجاهدات وبقي ما لهم من المشاهدات (مَثَلاً رَجُلَيْنِ) هما النفس الكافرة والقلب المؤمن. (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما) وهو النفس (جَنَّتَيْنِ) هما الهوى والدنيا (مِنْ أَعْنابٍ) الشهوات (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) حب الرياسة (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) من التمتعات البهيمية (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) من القوى البشرية والحواس. (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) من أنواع الشهوات (وَهُوَ يُحاوِرُهُ) يجاذب النفس والقلب (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً) أي ميلا (وَأَعَزُّ نَفَراً) من أوصاف المذمومات (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) في الاستمتاع بجنة الدنيا على وفق الهوى (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها) لأنه غر بالله وكرمه فلا جرم يقال له ما غرك بربك الكريم ، هلا قلت (ما شاءَ اللهُ) أي أتصرف في جنة الدنيا كما شاء الله (عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) من العمر وحسن الاستعداد (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ) هو الروح العلوي الذي نزل إلى أرض الجسد (فَاخْتَلَطَ) الروح بالأخلاق الذميمة (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) تلاشت منه نداوة الأخلاق الروحانية (تَذْرُوهُ) رياح الأهوية المختلفة فيكون حاله خلاف روح أدركته العناية الأزلية فبعث إليه دهقان من أهل الكمال فرباه بماء العلم والعمل حتى يصير شجرة طيبة. (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) أي ما فني منك وبقي بربك والله أعلم بالصواب.

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا

٤٣٤

إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩))

القراآت : تسير الجبال على بناء الفعل للمفعول ورفع الجبال : ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو. الآخرون على بناء الفعل للفاعل ونصب الجبال. ما أشهدناهم يزيد. الآخرون ما أشهدتهم وما كنت على الخطاب روى ابن وردان عن يزيد. الباقون على التكلم ويوم نقول بالنون : حمزة الباقون على الغيبة (قُبُلاً) بضمتين : عاصم وحمزة والكسائي. الباقون بكسر القاف وفتح الباء. (لِمَهْلِكِهِمْ) بفتح الميم وكسر اللام : حفص (لِمَهْلِكِهِمْ) بفتحهما ، يحيى وحما والمفضل. الباقون بضم الميم وفتح اللام.

الوقوف : (بارِزَةً) لا لأن التقدير وقد حشرناهم قبل ذلك (أَحَداً) ه ج للآية مع العطف (صَفًّا) ط للعدول والحذف أي يقال لهم لقد جئتمونا (أَوَّلَ مَرَّةٍ) ز لأن «بل» قد يبتدأ به مع أن الكلام متحد (مَوْعِداً) ه (أَحْصاها) ج لاستئناف الواو بعد تمام الاستفهام مع احتمال الحال بإضمار «قد» (حاضِراً) ه ط (أَحَداً) ه (إِلَّا إِبْلِيسَ) ط (أَمْرِ رَبِّهِ) ط (عَدُوٌّ) ط (بَدَلاً) ه (أَنْفُسِهِمْ) ص (عَضُداً) ه (مَوْبِقاً) ه (مَصْرِفاً) ه (مَثَلٍ) ط (جَدَلاً) ه (قُبُلاً) ه (وَمُنْذِرِينَ) ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف (هُزُواً) ه (يَداهُ) ط (وَقْراً) ، ط لاختلاف الجملتين مع ابتداء الشرط (أَبَداً) ه (الرَّحْمَةِ) ط (الْعَذابَ) ط (مَوْئِلاً) ه (مَوْعِداً).

التفسير : لما بين خساسة الدنيا وشرف الآخرة أردفه بأحوال يوم القيامة وأهواله ، وفيه رد على أغنياء المشركين الذين افتخروا بكثرة الأموال والأولاد على فقراء المسلمين والتقدير : واذكر يوم كذا عطفا على وأضرب. ويجوز أن ينتصب بالقول المضمر قبل (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا) وفاعل التسيير هو الله تعالى إلا أنه سمي على إحدى القراءتين ولم يسم في الأخرى ، فتسييرها إما إلى العدم لقوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) [طه : ١٠٥] ، (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) [الواقعة : ٥ ، ٦]. وإما إلى

٤٣٥

موضع لا يعلمه إلا الله (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) لأنه لا يبقى على وجهها شيء يسترها من العمارات ولا من الجبال والأشجار ، وإما لأنها أبرزت ما في بطنها من الأموات لقوله : (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) [الانشقاق : ٤] فيكون الإسناد مجازيا أي بارزا ما في جوفها (وَحَشَرْناهُمْ) الضمير للخلائق المعلوم حكما (فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) من الأوّلين والآخرين. يقال : غادره وأغدره إذا تركه والترك غير لائق ومنه الغدر ترك الوفاء. والغدير ما غادره السيل لأن اللائق بحال السيل أن يذهب بالماء كله. ولا يخفى أن اللائق بحال رب العزة أن لا يترك أحدا من خلقه غير محشور وإلا كان قدحا في عمله وحكمته وقدرته. قالت المشبهة : في قوله : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ) دليل على أنه سبحانه في مكان يمكن أن يعرض عليه أهل القيامة وكذلك في قوله : (لَقَدْ جِئْتُمُونا) وأجيب بأنه تعالى شبه وقوفهم في الموضع الذي يسألهم فيه عن أعمالهم بالعرض عليه وبالمجيء إلى حكمه كما يعرض الجند على السلطان. وانتصب (صَفًّا) على الحال أي مصطفين ظاهرين ترى جماعاتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحدا. والصف إما واحد وإما جمع كقوله (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧] أي أطفالا. وقيل : صفا أي قياما وبه فسر قوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) [الحج : ٣٦]. وقال القفال : يشبه أن يكون الصف راجعا إلى الظهور والبروز ومنه الصفصف للصحراء وهذا قريب من الأول. وقد مر في «الأنعام» أن وجه التشبيه في قوله (خَلَقْناكُمْ) أنهم يبعثون عراة لا شيء معهم ، أو المراد بعثناكم كما أنشأناكم وزعمهم أن لن يجعل الله لهم موعدا. أي وقتا لإنجاز ما وعدوا على ألسنة الأنبياء إما أن يكون حقيقة وإما لأن أفعالهم تشبه فعل من يزعم ذلك. (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي جنسه وهو صحف الأعمال. والوضع إما حسي وهو أن يوضع كتاب كل إنسان في يده إما في اليمين أو في الشمال ، وإما عقلي ومعناه النشر والاعتبار. (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ) خائفين مما في الكتاب لأن الخائن خائف خوف العقاب وخوف الافتضاح. ومعنى النداء في (يا وَيْلَتَنا) قد مر في «المائدة» في (يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ) [الآية : ٣١] وقوله : (صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) صفتان للهيئة أو المعصية أو الفعلة وهي عبارة عن الإحاطة وضبط كل ما صدر عنهم ، لأن الأشياء إما صغار وإما كبار ، فإذا حصر الصنفين فقد حصر الكل. وعن الفضيل : ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر. قلت : وذلك أن تلك الصغائر هي التي جرأتهم على الكبائر. وعن ابن عباس : الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة. وعن سعيد بن جبير : الصغيرة المسيس والكبيرة الزنا. وجوّز في الكشاف أن يريد ما كان عندهم صغائر وكبائر. وتمام البحث في المسألة أسلفناه في أوائل سورة النساء في تفسير قوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) [النساء : ٣١] فتذكر (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) في

٤٣٦

الصحف مثبتا فيها أو وجدوا أجزاء ما عملوا ظاهرا على صفحات أحوالهم (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) استدل الجبائي به على بطلان مذهب الأشاعرة في أن الأطفال يجوز أن تعذب بذنوب آبائهم فإن ذلك ظلم. والجواب أن الظلم إنما يتصوّر في حق من تصرف في غير ملكه قالوا : لو ثبت أن له بحكم المالكية أن يفعل ما يشاء من غير اعتراض عليه لم يكن لهذا الإخبار فائدة. وأجيب بأن تلك القضية بعد الدلائل العقلية علمت من مثل هذه الآية. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحاسب الناس في القيامة على ثلاثة : يوسف وأيوب وسليمان يدعو المملوك فيقول له : ما شغلك عني؟ فيقول جعلتني عبد الآدمي فلم تفرغني فيدعو يوسف فيقول : كان هذا عبدا مثلك ثم يمنعه ذلك أن عبدني فيؤمر به إلى النار. ثم يدعى بالمبتلى فإذا قال : أشغلتني بالبلاء دعا بأيوب فيقول : قد ابتليت هذا بأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي ويؤمر به إلى النار ، ثم يؤتى بالملك في الدنيا مع آتاه الله من الغنى والسعة فيقول : ماذا عملت فيما آتيتك فيقول : شغلني الملك عن ذلك فيدعى بسليمان فيقول : هذا عبدي سليمان آتيته أكثر مما آتيتك فلم يشغله ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك فيؤمر به إلى النار» ثم إنه سبحانه عاد على أرباب الخيلاء من قريش فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه. قال جار الله : قوله : (كانَ مِنَ الْجِنِ) كلام مستأنف جار مجرى التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأن قائلا قال : ما له لم يسجد فقيل : (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ) والفاء للتسبيب أي كونه من الجن سبب في فسقه ولو كان ملكا لم يفسق لثبوت عصمة الملائكة. وقال آخرون : اشتقاق الجن من الاستتار عن العيون فيشمل الملائكة والنوع المسمى بالجن. ثم من لم يوجب عصمة الملك فظاهر ، ومن أوجب قال : «كان» بمعنى «صار» أي مسخ عن حقيقة الملائكة إلى حقيقة الجن ، وقد سلف هذا البحث بتمامه في أول سورة البقرة. ومعنى (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) خرج عن طاعته. وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه أنه لما أمر فعصى كان سبب فسقه هو ذلك الأمر ولو لا ذلك الأمر الشاق لما حصل ذلك الفسق فلهذا حسن أن يقال : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ). وقال قطرب : هو على حذف المضاف أي فسق عن ترك أمره. ثم عجب من حال من أطاع إبليس في الكفر. والمعاصي وخالف أمر الله فقال : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ) كأنه قيل أعقيب ما وجد منه من إلا باء والفسق تتخذونه (وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) وتستبدلونهم بي وقصة آدم وإبليس سمعها قريش من أهل الكتاب وعرفوا صحتها فلذلك صح الاحتجاج بها عليهم وإن لم يعتقدوا كون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) أي بئس البدل من الله. إبليس لمن استبدل به فأطاعه بدل طاعته. قال الجبائي : في الآية دلالة على أنه لا يريد الكفر ولا يخلقه في العبد وإلا لم يصح هذا الذم

٤٣٧

والتوبيخ ، وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا. قال أهل التحقيق : إن الداعي لكفار قريش إلى ترك دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو النخوة والعجب والترفع والتكبر ، وهذا شأن إبليس ومن تابعه. فكل من كان غرضه من العلم أو العمل الفخر على الأقران والترفع على أبناء الزمان فإنه مقتد بإبليس وذريته وهذا مقام صعب نسأل الله الخلاص منه. ثم دل على فساد عقيدة أهل الشرك وبطلان طريقتهم بقوله : (ما أَشْهَدْتُهُمْ) فالأكثرون على أن الضمير للشركاء والمراد أنهم لو كانوا شركاء لي في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم يعني لو كان بعضهم شاهدين خلق بعض مشاركين لي فيه كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) لأمكن أن يكونوا شركاء لي في العبادة لكن الملزوم المساوي منتف فاللازم مثله يؤيد هذا التفسير قوله : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) أي متخذهم (عَضُداً) أعوانا فوضع المضلين موضع الضمير نعيا عليهم بالإضلال. وقيل : الضمير للمشركين الذي التمسوا طرد فقراء المؤمنين ، والمراد أنهم ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة ، بل هم قوم كسائر الخلق نظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له : لست سلطان البلد ولا مدبر المملكة حتى تقبل منك كل اقتراحاتك. وقيل : أراد أن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة وضدّها لأنهم لم يكونوا شاهدين خلق العالم ، فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله وبشرفهم ورفعتهم عند الخلق وبأضداد هذه الأحوال للفقراء. ومن قرأ (وَما كُنْتُ) بفتح التاء فالخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم وما ينبغي لك أن تغترّ بهم. ثم عاد إلى تهويلهم بأحوال يوم القيامة وأضاف الشركاء إلى نفسه على معتقدهم توبيخا لهم وفحوى الكلام : اذكر يا محمد أحوالهم وأحوال آلهتهم يوم القيامة إذ (يَقُولُ) الله لهم (نادُوا) أي ادعوا من زعمتم أنهم (شُرَكائِيَ) فأهلتموهم للعبادة. قال المفسرون : أراد الجن (فَدَعَوْهُمْ) لم يذكر في هذه الآية أنهم كيف دعوا تلك الشركاء ولعل المراد بما في الآية الأخرى (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا) [إبراهيم : ٢١] (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) ولم يدفعوا عنهم ضررا (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً). عن الحسن (مَوْبِقاً) عداوة والمعنى عداوة هي في شدتها الهلاك كقولهم «لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا». وقال الفراء : البين الوصل والمراد جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة. وفي الكشاف : الموبق المهلك وهو مصدر كالمورد أي جعلنا بينهم واديا من أودية جهنم مشتركا هو مكان الهلاك والعذاب الشديد يهلكون فيه جميعا. وجوز أن يريد بالشركاء

٤٣٨

الملائكة وعزيرا وعيسى ومريم ، وبالموبق البرزخ أي وجعلنا بينهم أمدا بعيدا يهلك فيه السائرون لفرط بعده لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان. قوله : (فَظَنُّوا) قيل : علموا وأيقنوا : والأقرب أن الكفار يرون النار من مكان بعيد فيغلب على ظنونهم أنهم مخالطوها واقعون فيها في تلك الساعة من غير تأخير ولا مهلة لشدة ما يسمعون من تغيظها نظيره (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) [الفرقان : ١٢] (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) أي معدلا إلى غيرها لأن الملائكة يسوقونهم إليها آخر الأمر. ولما ذكر أن الكفرة افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم ومتصرفاتهم وأجاب عن شبههم وأقوالهم الفاسدة وضرب الأمثال النافعة وحكى أهوال الآخرة قال : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) وقد مر تفسيره في السورة المتقدمة. وحين لم يترك الكفار جدالهم وكانوا أبدا يتعللون بالأعذار الواهية ختم الآية بقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) يعني أن الأشياء التي يتأتى منها الجدل ان فصلتها واحدا بعد واحد فإن الإنسان أكثرها خصومة فقوله : (أَكْثَرَ شَيْءٍ) كقوله (أَوَّلَ مَرَّةٍ) وقد مر في «الأنعام». وكثرة جدل الإنسان لسعة مضطربه فيما بين أوج الملكية إلى حضيض البهيمية ، فليس له في جانبي التصاعد والتسافل مقام معلوم. قال أهل البرهان : قوله تعالى في سورة «بني إسرائيل» : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) [الاسراء : ٩٤] وقال في هذه السورة بزيادة (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) لأن المعنى هناك ما منعهم عن الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا قولهم : «أبعث الله بشرا رسولا ، هلا بعث ملكا» وجهلوا أن التجانس يورث التوانس. ومعناه في هذا الموضع ما منعهم من الإيمان والاستغفار إلا الإتيان بسنة الأوّلين وانتظار ذلك. وعن الزجاج : إلا طلب سنتهم وهو قولهم «إن كان هذا هو الحق» وزاد في هذه السورة (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) لأن قوم نوح أمروا بالاستغفار (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) [نوح : ١٠] وكذا قوم هود (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [هود : ٥٢] وقوم صالح (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [هود : ٦٢] وقو شعيب (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [هود : ٩٠] فلما خوفهم سنة الأوّلين أجرى المخاطبين مجراهم. والحاصل أنهم لا يقدمون على الإيمان والاستغفار إلا عند نزول عذاب الاستئصال أو عند تواصل أصناف البلاء عيانا. ومن قرأ بضمتين أراد أنواعا جمع قبيل. قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أنه لا مانع من الإيمان أصلا. وقالت الأشاعرة : العلم بأنه لا يؤمن والداعي الذي يخلقه الله في الكافر يمنعانه ، فالمراد فقدان الموانع المحسوسة. ثم بين أنه إنما أرسل الرسل مبشرين بالثواب على الطاعة ومنذرين بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعا وبين أن مع

٤٣٩

هذه الأحوال (يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا) ويزيلوا ويبطلوا (بِهِ الْحَقَ) من إدحاض القدم وهو إزلاقها (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا) أي الذي أنذروا من العقاب أو إنذارهم (هُزُواً) موضع استهزاء. قال جار الله : جدالهم قولهم للرسل (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [يس : ١٥] (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [المؤمنون : ٢٤] وما أشبه ذلك. قال أهل العرفان : قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) أي بالقرآن بدليل قوله : (أَنْ يَفْقَهُوهُ) وبتذكير الضمير. (فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من الكفر والمعاصي فلم يتفكروا في عاقبتها ولم يتدبروا في جزائها متمسك القدرية. وإنما قال في السجدة (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) [الآية : ٢٢] لأن ما في هذه السورة في الكفار الأحياء الذين إيمانهم متوقع بعد ، أي ذكروا فأعرضوا عقب ذلك. وما في السجدة في الكفار الأموات بدليل قوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) [السجدة : ١٢] أي ذكروا مرة بعد أخرى وزمانا بعد زمان ثم أعرضوا عنها بالموت فلم يؤمنوا وانقطع رجاء إيمانهم. وقوله (إِنَّا جَعَلْنا) وقد مر تفسيره في «الأنعام» إلى قوله : (فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) متمسك الجبرية وقلما تجد في القرآن دليلا لأحد الفريقين إلا ومعه دليل للفريق الآخر فهذا شبه ابتلاء من الله ، ولعله أراد بذلك إظهار مغفرته ورحمته على عباده كما قال : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) قال المفسرون الضمير في قوله : (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ) لأهل مكة الذين أفرطوا في عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والموعد يوم بدر. وأقول : لا يبعد أن يكون الضمير للناس في قوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ) والموعد القيامة ، والموئل الملجأ يقال وأل إذا نجا ، ووأل إليه إذا لجأ إليه. قال الإمام فخر الدين الرازي : إنا ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار ، والرحمة إيصال النفع ، وقدرة الله تعالى تتعلق بالأول ، لأن ترك أضرار لا نهاية لها ممكن ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال. أقول : هذا فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله ذو الرحمة أيضا لا يخلو عن مبالغة ، وكثيرا ما ورد في القرآن إنه غفور رحيم بلفظ المبالغة في الجانبين. وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي أيضا نظر ، لأن مقدورات الله متناهية لا فرق في ذلك بين المبقي والمتروك. ثم أشار إلى قرى الأولين اعتبارا لغيرهم فقال : (وَتِلْكَ الْقُرى) فاسم الإشارة مبتدأ وفيه تعظيم لشأنهم أو تبعيد لزمانهم ومكانهم ، والقرى صفة وما بعده خبره ولا يخفى حذف المضاف أي وتلك أصحاب القرى (أَهْلَكْناهُمْ) ويجوز أن يكون (تِلْكَ الْقُرى) منصوبا بإضمار أهلكنا على شريطة التفسير. (وَجَعَلْنا) لزمان إهلاكهم أو لإهلاكهم أو وقت هلاكهم (مَوْعِداً) وعدا أو وقت وعد لا يتأخرون عنه كما ضربنا

٤٤٠