تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

«من أعتق نصيبا من عبد حرم عليه الباقي» فإن الحكم في الأمة والعبد يتساويان. وإما أن يكون الحكم في محل المسكوت أظهر وهو القياس الجلي ومثاله المنع من التأفيف فإنه مغاير للمنع من الضرب عقلا ، لأن الملك الكبير إذا أخذ ملكا آخر عدوا له فقد يقول للجلاد إياك وأن تستخف به أو تشافهه بكلمة موحشة لكن اضرب رقبته. فهذا معقول في الجملة إلا أن قرينة تعظيم الوالدين صيره من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى ، فدل على المنع من جميع أنواع الإيذاء.

ثم أكد هذا المعنى بقوله : (وَلا تَنْهَرْهُما) والنهر والنهي أخوان يقال : نهره وانتهره وإذا استقبله بكلام يزجره. (وَقُلْ لَهُما) بدل التأفيف والنهر (قَوْلاً كَرِيماً) جميلا مشتملا على حسن الأدب ورعاية دقائق المروة والحياء والاحتشام. وقال عمر بن الخطاب القول الكريم أن يقول له : «يا أبتاه» «يا أماه» دون أن يسميهما باسمهما. وقول إبراهيم لأبيه آزر بالضم على النداء ، تقديم لحق الله على حق الأبوين. قالوا : ولا بأس به في الغيبة كما قالت عائشة : نحلني أبو بكر كذا ، أو سئل سعيد بن المسيب عن القول الكريم فقال : هو قول العبد المذنب للسيد الفظ (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين : الأول أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحيه فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير فكأنه قال للولد : اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك في حال صغرك. والثاني أن الطائر أذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه ، وإذا أراد النزول خفض جناحه ، فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع وترك الارتفاع. وفي إضافة الجناح إلى الذل وجهان : الأول أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك : «حاتم الجود» فالأصل فيه الجناح الذليل أو الذلول. والثاني سلوك سبيل الاستعارة كأنه تخيل للذل جناحا ثم أثبت لذلك الجناح خفضا كقول لبيد : إذ أصبحت بيد الشمال زمامها. فأثبت للشمال يدا ثم وضع زمام الريح في يد الشمال. وقوله : (مِنَ الرَّحْمَةِ) في «من» معنى التعليل أي من أجل فرط الشفقة والعطف عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس ، ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها (وَ) لكن (قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي) ليس المراد رحمة مثل رحمتهما عليّ. وأما الكاف فلاقتران الشيئين في الوجود أي كما وقع تلك فتقع هذه. والتربية التنمية ربا الشيء إذا انتفخ وزاد. قال بعض المفسرين : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣] وقيل : مخصوصة لأن التخصيص أولى من النسخ ، وقيل : لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو الله لهما بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة

٣٤١

لهما بعد حصول الإيمان. ثم إن ظاهر الأمر للوجوب من غير تكرار فيكفي في العمر مرة واحدة (رَبِّ ارْحَمْهُما) وسئل سفيان كم يدعو الإنسان لوالديه أفي كل يوم مرة أو في كل شهر أو في كل سنة؟ فقال : نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن الله تعالى قد قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٥٦]. وكانوا يرون الصلاة عليه في التشهد. وكما قال الله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٢٠٣] فهم يذكرون في أدبار الصلاة. قلت : ويشبه أن يدعو لهما أيضا كلما ذكرهما أو ذكر شيئا من إنعامهما. وسئل أيضا عن الصدقة عن الميت فقال : كل ذلك واصل إليه ولا شيء أنفع له من الاستغفار ، ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الأبوين ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما» (١)وروى سعيد بن المسيب أن البارّ لا يموت ميتة سوء. وقال رجل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أبويّ بلغا من الكبر أنّى ، ألي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما؟ قال : لا ، فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما. وشكا رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أباه وأنه يأخذ ماله فدعا به فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال : إنه كان ضعيفا وأنا قوي ، وفقيرا وأنا غني ، فكنت لا أمنعه شيئا من مالي. واليوم أنا ضعيف وهو قوي ، وأنا فقير وهو غني ويبخل عليّ بماله ، فبكى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : ما من حجر ولا مدر يسمع ذلك إلا بكى ، ثم قال للولد : أنت ومالك لأبيك. مرتين. وشكا إليه آخر سوء خلق أمه فقال : لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر. قال : إنها سيئة الخلق. قال : لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين. قال : إنها سيئة الخلق. قال : لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها وأظمأت نهارها. قال : لقد جازيتها. قال : ما فعلت؟ قال : حججت بها على عاتقي. قال : ما جازيتها. وقال الفقهاء : لا يذهب بأبيه إلى البيعة وإذا بعث إليه واحد منهما ليحمله فعل ، ولا يناوله الخمر ويأخذ الإناء منه إذا شرب بها.

ثم قال سبحانه : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) أي بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) قاصدين الصلاح والبر إلى الوالدين ثم فرطت منكم بادرة في حقهما فأنبتم إلى الله واستغفرتم منها و (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) اللام للعهد كما روي عن سعيد بن جبير هي في البادرة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلا الخير ، أو للجنس فيشمل كل من فرطت منه جناية ثم تاب منها ، ويندرج تحته

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب البر باب ٣ بلفظ «.... وسخط الرب في سخط الوالد».

٣٤٢

عن أبي علي الجانويه النائب من جنايته لوروده على أثره. ثم وصى بغير الأبوين من الأقارب بعد التوصية بهما فقال : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) قيل : الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره أن يؤتى أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء والغنيمة ، وأوجب عليه إخراج حق المساكين وأبناء السبيل أيضا من هذين المالين. والأظهر أنه خطاب لكل إنسان كل في قوله : (وَقَضى رَبُّكَ) وأما الحق المأمور به للأقارب فهو إذا كانوا محارم كالأبوين والولد وكانوا فقراء عاجزين عن الكسب وكان الرجل موسرا أن ينفق عليهم بقدر الحاجة. وعند الشافعي : لا ينفق إلا على الولد والوالدين وإن كانوا مياسير ولم يكونوا محارم كأبناء العم فحقهم صلتهم بالمودة والزيارة وحسن المعاشرة على السراء والضراء. وفي عطف المسكين وابن السبيل على ذي القربى دليل على أن المراد بالحق الحق المالي ، وقد تقدم وصف المسكين وابن السبيل في «البقرة» وفي «التوبة». ثم نهى عن التبذير وهو تفريق المال كما يفرق البذر وهو الإسراف المذموم. كانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتنفق أموالها في الفخر والسمعة كما ذكروا ذلك في أشعارها فنهوا عن ذلك وأمروا بالإنفاق فيما يقرب إلى الله. قال ابن مسعود : التبذير إنفاق المال في غير حقه. وعن مجاهد : لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا. ثم بالغ في تفظيع شأن التبذير قائلا : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) أي أمثالهم في الشرارة وأصدقاءهم من حيث إنهم يطيعونهم في الأمر بالإسراف ، أوهم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) لأنه يستعمل قواه البدنية في المعاصي والإفساد والإضلال ، وكذلك من رزقه الله مالا أو جاها فصرفه إلى غير مرضاة الله كان كفورا لنعمة الله.

ثم علم أدبا حسنا في رد السائل إن أفضى الأمر إلى ذلك ضرورة فقال : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ سئل شيئا وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء. والقول الميسور الرد بالطريق الأحسن. وقيل : اللين السهل. قال الكسائي : يسرت أيسر له القول أي لينته. وقيل : القول المعروف كقوله : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ) [البقرة : ٢٦٣] وذلك أن القول المتعارف لا يحتاج إلى تكلف. وقيل : ادع لهم بأن يسهل الله عليهم أسباب الرزق أي دعاء فيه يسرة. قال جار الله قوله : (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ) أما أن يتعلق بجواب الشرط متقدما عليه أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا ابتغاء رحمة من الله (تَرْجُوها) بسبب رحمتك عليهم ، وإما أن يتعلق بالشرط أي وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك فردهم ردا جميلا ، فسمى الرزق رحمة وضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له. فالفقد سبب الابتغاء فأطلق

٣٤٣

المسبب على السبب وجوز أن يكون الإعراض كناية عن عدم الإعطاء ، فإن من أبى أن يعطى أعرض بوجهه ، ولما ذكر أدب المنع ونهى عن التبذير صرح بأدب الإنفاق فقال : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) وهو مثل لغاية الإمساك بحيث يضيق على نفسه وأهله في سلوك سبيل الإنفاق (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) أي لا توسع في الإنفاق بحيث لا يبقى في يدك شيء. وحين نهى عن طرفي التفريط والإفراط المذمومين بقي الخلق الفاضل المسمى بالجود وهو العدل والوسط ، ثم بين غاية استعمال الطرفين قائلا : (فَتَقْعُدَ مَلُوماً) عند الناس بالبخل (مَحْسُوراً) بالإسراف أي منقطعا عن المقاصد بسبب الفقر. فقير محسور منقطع عن السير. ولا شك أن المال مطية الحوائج والآمال وكثيرا ما يلام الرجل على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة. وعن جابر : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس أتاه صبي فقال : إن أمي تستكسيك درعا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من ساعة إلى ساعة يظهر فعد إلينا. فذهب إلى أمه فقالت له : قل إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك. فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج للصلاة فنزلت الآية. وقيل : أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن فجاء عباس بن مرداس وأنشأ يقول : أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع. وما كان حصن ولا حابس ، يفوقان مرادس في مجمع وما كنت دون امرئ منهما ، ومن تضع اليوم لا يرفع. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أبا بكر اقطع لسانه عني أعطه مائة من الإبل فنزلت.

ثم إنه تعالى سلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الذي يرهقه من الإضافة ليس لهوان منه على الله ولا لبخل به عليه ولكنه تابع لمشيئة الخالق الرازق فقال : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يضيق (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ) وبمصالحهم (خَبِيراً بَصِيراً) فالتفاوت في الأرزاق ليس لأجل البخل ولكن لرعاية الصلاح. ويمكن أن يكون مراد الآية أن البسط الكلي والقبض الكلي من شأن الرب الخبير والبصير وليس للعباد الاقتصاد. ويحتمل أن يراد أنه تعالى مع غاية قدرته وسعة جوده يراعي أوسط الحالين. فلا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده ولا بالمقبوض عليه أقصى مكروهه ، فاستنوا بسنته وتخلقوا بأخلاقه. وفي الآية دلالة على أنه هو المتكفل بأرزاق العباد فلذلك قال بعده : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) وأيضا لما علم كيفية البر بالوالدين أراد أن يعلم كيفية البر بالأولاد ، فبر الآباء مكافأة وبر الأبناء ابتداء اصطناع. وفيه نظام العالم وبقاء النوع الإنساني لأن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو لسوء الظن بالله ، وإن كان لأجل الغيرة على

٣٤٤

البنات فهو سعي في تخريب العالم. والأول ضد التعظيم لأمر الله والثاني ضد الشفقة على خلق الله ، ومن رغب عن محبة الولد فكأنه رغب عن جزئه قال :

ولد المرء منه جزء وما حا

ل امرئ يودع الثرى منه جزءا

وكانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن الكسب وقدرة البنين عليه بسبب إقدامهم على القتل والغارة. وأيضا كانوا يخافون أن فقرها ينفر أكفاءها فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء وفي ذلك عار شديد ، فبين الله سبحانه أن الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولدا فلهذا قال : (أَوْلادَكُمْ) وبين أن الخوف من الفقر لا وجه له لأن الله هو الرزاق للكل ، وكثيرا ما يكون لابن أخرق من البنت بعد البلوغ ، وكلا الصنفين يشتركان في الإنفاق عليهما قبل البلوغ. ولما نهى عن قتل الأولاد المستدعي لإفناء النسل ذكر النهي عن الزنا المفضي إلى مثل ذلك ولا أقل من اختلاط النسب فقال : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) وهذا آكد من أن يقال «لا تزنوا» ثم علل النهي بقوله : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) أي خصلة متزايدة في القبح (وَساءَ سَبِيلاً) سبيله فاستدل القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين بهذا التعليل في الأشياء لا تحسن ولا تقبح لذواتها بل لوجوه عائدة إليها في أنفسها ، وأن تكاليف العباد واقعة على وفق مصالحهم في المعاش والمعاد. ومن مفاسد الزنا اختلاط الأنساب وتضييع الأولاد وإهمال تربيتهم؟ فإن الولد إذا لم يكن منسوبا إلى شخص معين لم يكن أحد بالتزام تربيته أولى من الآخرة كذا المرأة التي ولدته إذا لم يوجد سبب شرعي للزاني صارت هي به أولى بالرجل فلا يحصل الألف والمحبة ، ولا يتم السكون والازدواج. ويتواثب كل رجل على كل امرأة أراد بحسب شهوته ومقتضى طبعه ، فتهيج بالفسوق الحروب بعد التشبه بالبهائم. وأيضا ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة ولكن المقصود الكلي هو أن تكون شريكة له في ترتيب المنزل وإعداد مهماته والقيام بأمور الأولاد والعبيد ، ولن تتم هذه المقاصد إلا إذا كانت مقصورة الهمة على رجل واحد منقطعة الطمع عن غيره. وأيضا الوطء يوجب الذل والعار ولهذا لا يرتكب إلا في الأماكن المستورة وفي الأوقات المعلومة. فاقتصار المرأة على الواحد من الرجال سعي في تقليل ذلك العمل ، وكفى في قبح الزنا مرتكبه من الرجال والنساء يستقذره كل عقل سليم وينحط بذلك عن درجة الاعتبار. وقد زعم في التفسير الكبير أنه تعالى وصف الزنا في آية أخرى بكونه مقتا لأن الزانية تصير ممقوتة مكروهة وهو وهم ، لأن ذلك قد ورد في أول سورة النساء في نكاح منكوحات الأب قال : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما

٣٤٥

قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً) [النساء : ٢٢]. وإنما نبهناك عليه لئلا يقتدي به غيره في السهو.

ولما فرغ من التكليف بالاحتياط في مبدأ حال الإنسان شرع بالتكليف بالاحتياط في آخر عمره فقال : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) وفي التصريح بالتحريم بعد النهي تأكيد للخطر. ولا ريب أن الأصل في قتل الإنسان هو التحريم لأنه ضرر ، والأصل في المضار الحرمة ، ولأن الإنسان خلق للاشتغال بالعبادة وإنه لا يتم إلا بالحياة وكمال البنية ، ولكن الحل إنما يثبت لأسباب عرضية فلهذا قال : (إِلَّا بِالْحَقِ) وهذا بحمل فبين ذلك الحق بقوله : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) أي تسلطا على استيفاء القصاص. فظاهر الآية دل على أنه لا سبب لحل القتل إلا إذا قتل مظلوما ، وظاهر قوله عليه‌السلام «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق» (١). يقتضي ضم شيئين آخرين إليه فرعا على القول بتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. ويحتمل أن يقال قوله : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً). كلام مستأنف ، والحديث بتمامه تفسير لقوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) فلا يلزم التفريع المذكور. ثم إنه دلت آية أخرى على حصول سبب رابع هو قوله : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المائدة : ٣٣] وآية أخرى على سبب خامس وهو الكفر الأصلي : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] هذا وقد أبدى الفقهاء أسبابا أخر منها : أن تارك الصلاة يقتل عند الشافعي دون أبي حنيفة ، وكذا اللائط. ومنها الساحر إذا قال : قتلت فلانا بسحري. وجوز بعضهم قتل من يمنع الزكاة أو يأتي البهيمة ، والذين منعوا القتل في هذه الصور قالوا : الأصل حرمة القتل كما بيناه فلا يترك هذا الدليل إلا لمعارض أقوى لا أقل من المساوي وهو النص المتواتر. ثم إنه سبحانه أثبت لوليّ الدم سلطانا. ولم يبين أن هذه السلطنة تحصل فيما ذا فقيل : إنه قال : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) عرف أن تلك السلطنة إنما تحصل في استيفاء القتل. وقيل : معنى قوله : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) إنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص وسلطنة استيفاء الدية بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) إلى قوله : (فَمَنْ عُفِيَ) [البقرة : ١٧٨] الآية. فالأولى به أن لا يقدم على استيفاء القتل

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الديات باب ٦. مسلم في كتاب القسامة حديث ٢٥ ، ٢٦. أبو داود في كتاب الحدود باب ١. الترمذي في كتاب الحدود باب ١٥. النسائي في كتاب التحريم باب ٥ ، ١١. الدارمي في كتاب السير باب ١١. أحمد في مسنده (١ / ٦١) (٦ / ١٨١).

٣٤٦

وأن يكتفي بالعفو وأخذ الدية ، فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسك بها في مسألة أن موجب العمد هو القصاص. وعن الشافعي أن التنوين في قوله : (مَظْلُوماً) للتنكير فيدل على أن المقتول ما لم يكن كاملا في وصف المظلومية لم يدخل تحت هذا النص ، فيعلم منه أن المسلم لا يقتل بالذمي لأن الذمي مشرك فإن ذنبه غير مغفور كالمشرك ، ولأن النصارى قائلون بالتثليث وقد قال تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] فثبت أن الذمي غير كامل في المظلومية فلا يندرج في الآية. وأيضا ليس فيها دلالة على أن الحر يقتل بالعبد لأنها وإن كانت عامة إلا أن قوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) [البقرة : ١٧٨] خاص والخاص مقدم على العام. من قرأ فلا تسرف بالتاء الفوقانية فعلى خطاب الولي أو قاتل المظلوم ، ومن قرأ على الغيبة فالضمير للولي أي فلا يقتل غير القاتل ولا اثنين والقاتل واحد كعادة الجاهلية. وعن مجاهد أن الضمير الأول للقاتل ، أما الضمير في قوله : (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) فإما للولي أي حسبه أن الله قد نصره بإيجاب القصاص فلا يستزاد عليه ، أو نصره بمعونة السلطان والمؤمنين فلا يتبع ما وراء حقه ، وإما للمظلوم فإن الله نصره في الدنيا بإيجاب القصاص على قاتله ، وفي الآخرة بإعطاء الثواب. وأما الذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف.

ولما ذكر النهي عن إتلاف النفوس في المبادئ وفيما وراءها أتبعه النهي عن إتلاف الأموال وكان أهمها بالحفظ والرعاية مال اليتيم فقال : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي) بالطريقة التي (هِيَ أَحْسَنُ) وهي تثميره وإنماؤه. وروى مجاهد عن ابن عباس : إذا احتاج الولي أكل بالمعروف فإذا أيسر قضاه وإن لم يوسر فلا شيء عليه ويتصرف الولي في مال اليتيم على الوجه المذكور (حَتَّى يَبْلُغَ) اليتيم (أَشُدَّهُ) بأن تكمل قواه العقلية والحسية كما مر في آخر «الأنعام» (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) يتناول كل عهد جري بين إنسانين على وفق الشرع وقانونه في المعاملات والمناكحات وغيرها إلا إذا دلّ دليل خاص على ضده. (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) أي مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به ، أو هو على حذف المضاف والمراد أن صاحب العهد مسؤول أو هو تخييل كأنه يقال للعهد : لم نكثت تبكيتا للناكث كقوله : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) [التكوير : ٨] ثم أمر بإيفاء الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن. والقسطاس بضم القاف وكسرها هو القبان المسمى بالقرسطون. وقيل : كل ميزان صغير أو كبير والأصح أنه لغة العرب من القسط النصيب المعدل ، وقيل رومي أو سرياني (ذلِكَ) الإيفاء والوزن المعدل (خَيْرٌ) من التطفيف (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) عاقبة من آل إذا رجع. أما في الدنيا فلانة إذا اشتهر بالاحتراز عن الخيانة مالت القلوب إليه

٣٤٧

وعول الناس عليه فينفتح عليه أبواب المعاملات ، وأما في الآخرة فظاهر. وقال الحكيم : إن نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد عليه شديد والعار فيه عظيم فيجب على العاقل أن يحترز عنه. ثم أمر بإصلاح اللسان والقلب فقال : (وَلا تَقْفُ) أي لا تتبع من قولك «قفوت فلانا» أي اتبعت أثره ومنه قافية الشعر لأنها تقفو كل بيت ، والقبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس ويستدلون بها على أحوالهم في النسب. والمراد النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له به ، وهذه قضية كلية ولكن المفسرين حملوها على صور مخصوصة فقيل : نهى المشركين عن تقليد أسلافهم في الإلهيات والنبوات والتحليل والتحريم والمعاد كقوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) [النجم : ٢٣] (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) [الأنعام : ١٤٨] وعن محمد بن الحنيفة : المراد شهادة الزور. ومثله عن ابن عباس : لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك. وقيل : أراد النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب. وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء ويبالغون فيه. وقال قتادة : معناه لا تقل سمعت ورأيت وعلمت ولم تسمع ولم تر ولم تعلم. وقيل : القفو هو البهت وهو في معنى الغيبة لأنه قول يقال في قفاه ومنه الحديث : «من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج» (١) أي يتوب. وردغة الخبال بفتح الدال وسكونها هي غسالة أهل النار من القيح والصديد.

احتج نفاة القياس بالآية زعما منهم أن الحكم في دين الله بالقياس حكم بغير المعلوم. وأجيب بأن العلم قد يراد به الظن قال تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) [الممتحنة : ١٠] ولا ريب أنه إنما يمكن العلم بإيمانهن بناء على إقرارهن ، وإنه لا يفيد إلا الظن. سلمنا لكن الظن وقع في الطريق لأن الشرع قد أقام الظن الغالب مقام العلم وأمر بالعمل به ، وزيف بأنه لا دليل قاطعا على وجوب العمل بالظن الغالب لأن ذلك الدليل ليس عقليا بالاتفاق ، ولا نقليا لأنه إنما يكون قطعيا لو كان منقولا نقلا متواترا وكانت دلالته على ثبوت هذا الطلب دلالة قطعية غير محتملة للنقيض ، ولو حصل مثل هذا الدليل لوصل إلى الكل ولم يبق خلاف ، ونوقض بأن الدليل الذي عولتم عليه ـ وهو هذه الآية ـ تمسك بعام مخصوص للاتفاق على أن العمل بالشهادة عمل بالظن وهو جائز. وكذا الاجتهاد في القبلة وفي قيم المتلفات وأروش الجنايات ، وكذا الفصد

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٨٢).

٣٤٨

والحجامة وسائر المعالجات ، وكذا الحكم بكون الشخص المعين كالذبائح مؤمنا لتحل ذبيحته ، أو الوارث لحصول التوارث ، أو الميت ليدفن في مقابر المسلمين. وبالحقيقة أكثر الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المعينة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نحن نحكم بالظاهر. والتمسك بالعام المخصوص لا يفيد إلا الظن. فلو دلت هذه الآية على أن التمسك بالظن غير جائز لزم أن لا يجوز التمسك بهذه الآية ، وكل ما يفضي ثبوته إلى نفيه يسقط الاستدلال به. وأجيب بأنا نعلم بالتواتر الظاهر من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن التمسك بآيات القرآن جائز. ورد بأن كون العالم المخصص حجة غير معلوم بالتواتر ، ثم علل النهي بقوله : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ) إشارة إلى الأعضاء الثلاثة وإن لم تكن من ذوات العقول كقوله : والعيش بعد أولئك الأيام. (كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) قال في الكشاف : (عَنْهُ) في موضع الرفع بالفاعلية مثل (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] وفيه نظر لأن المسند إليه الفعل أو شبهه لا يتقدم عليه. والصواب أن يقال : إنه فاعل (مَسْؤُلاً) المحذوف والثاني مفسر له. وكيف يسأل عن هذه الجوارح؟ قيل : يسأل صاحبها عما استعملها فيه لأنها آلات والمستعمل لها هو الروح الإنساني ، فإن استعملها في الخيرات استحق الثواب وإلا فالعقاب. وقيل : إنه تعالى ينطق الأعضاء ثم يسألها عن أفعالها. (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) نصب على الحال مع أنه مصدر أي ذا مرح وهو شدة الفرح. وفي وضع المصدر موضع الصفة نوع من التأكيد مثل «أتاني ركضا» ونهي عن مشية أهل الخيلاء والكبر. (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) لن تثقبها بشدة وطأتك (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول ، أو تمييز ، أو مفعول له ، أو مصدر من معنى تبلغ. بيّن ضعف الآدمي بأنه في حال انخفاضه لا يقدر على خرق الأرض ، وحال ارتفاعه لا يقدر على الوصول إلى رؤوس الجبال ، فلا يليق به أن يتكبر. وبوجه آخر كأنه قيل له : إنك خلق ضعيف محصور بين حجارة من فوقك وتراب من تحتك ، فلا تفعل فعل المقتدر القوي. وقيل : إنه مثل ومعناه : كما أنك لن تخرق الأرض في مشيتك ولن تبلغ الجبال طولا فكذلك لا تبلغ ما أردت بكبرك وعجبك وفيه يأس للإنسان من بلوغ إرادته.

(كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ) من قرأ بالإضافة فظاهر لأن المذكور من قوله : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) بعضها أحسن وهو المأمورات وبعضها سيىء وهو المنهيات ، فالمعنى أن ما كان من تلك الأشياء سيئا فإنه مكروه عند الله. ويمكن أن يراد بسيىء تلك الخصال طرف الإفراط أو التفريط. ومن قرأ (سَيِّئُهُ) على التأنيث فقوله : (كُلُّ ذلِكَ) إشارة إلى

٣٤٩

المنهيات خاصة. وقيل : إن الكلام قد تم عند قوله : (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) وقوله : (كُلُّ ذلِكَ) إشارة إلى ما نهى عنه في قوله : (وَلا تَقْفُ وَلا تَمْشِ) وإنما قال : سيئة على التأنيث مع قوله : (مَكْرُوهاً) على التذكير لأنه جعل السيئة في معنى الذنب والإثم. قالت المعتزلة : الكراهة نقض الإرادة ففي الآية دلالة على أن المنهيات لا تكون مرادة لله تعالى لأنها مكروهة عنده. وإذا لم تكن مرادة لم تكن مخلوقة له لأن الخلق بدون الإرادة محال. أجابت الأشاعرة بأن المراد من كراهتها كونها منهيا عنها ، وزيف بأنه عدول عن الظاهر مع لزوم التكرار لأن كونها سيئة يدل على كونها منهية. وأجيب بأنه لا بأس بالتكرار لأجل التأكيد (ذلِكَ) الذي ذكر من قوله : (لا تَجْعَلْ) إلى هذه الغاية وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفا (مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) سمي حكمة لأنه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه. روي عن ابن عباس أنها كانت في ألواح موسى عليه‌السلام. وباصطلاح الحكماء أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به. لا ريب أن الأمر بالتوحيد رأس الحكمة النظرية وسائر التكاليف مشتملة على أصول مكارم الأخلاق وهي الحكمة العملية ، ولقد جعل الله سبحانه فاتحة هذه التكاليف النهي عن الشرك وكذا خاتمتها لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها ، ومن فقده لم ينفعه شيء من العلوم وإن بذ فيها الأقران والأكفاء وحك بيافوخه السماء. وقد راعى في هذا التكرار دقيقة فرتب على الأول كونه مذموما مخذولا وذلك إشارة إلى حال المشرك في الدنيا ، ورتب على الثاني أنه يلقى في جهنم ملوما مدحورا وأنها حاله في الآخرة. وفي القعود هناك والإلقاء هاهنا إشارة إلى أن للإنسان في الدنيا صورة اختيار بخلاف الآخرة والله أعلم بمراده. وقد يفرق بين الذم واللوم فيقال : الذم هو أن يذكر أن الفعل الذي قدم عليه قبيح منكر ، واللوم هو أن يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت من هذا العمل إلّا إلحاق الضرر بنفسك. ويفرق بين المخذول والمدحور بأن المخذول عبارة عن الضعيف يقال : تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت. والمدحور والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة. ثم أنكر على المشركين القائلين بأن الملائكة بنات الله فقال : (أَفَأَصْفاكُمْ) أي أفخصكم (رَبُّكُمْ) على وجه الخلوص والصفاء (بِالْبَنِينَ) الذين هم أفضل الأولاد (وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ) أولادا (إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) بإضافة الأولاد إلى من لا يصح له الولد لقدمه وتنزهه عن صفات الأجسام ، ثم بأنكم تفضلون عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون وهذا خلاف معقولكم وعادتكم فإن العبيد لا

٣٥٠

يؤثرون بالأجود والأصفى والسادة بالأدون والأردإ ، ثم بجعلكم الملائكة الذين هم أعلى خلق الله على الإطلاق أو التقييد على المذهبين أخس الصنفين وهو الإناث.

التأويل : خاطب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقطع تعلقه عن الكونين من بين الثقلين فقال : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) من الدنيا والآخرة ، ثم شرف أمته بتبعيته قائلا : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وإنما قال : (رَبُّكَ) لأنه أصل في التربية والأمة تبع له ، فمن حكم في الأزل أنه لا يعبد غير الله لم يعبد غير الله (وَبِالْوالِدَيْنِ) والد الروح ووالدة البدن. والإحسان بهما أن يراقبهما في العبودية ليعبد الله كأنهما يريانه (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ) يخاطب القلب ويوصيه بأن يواسي والد الروح عند كبره وهو بلوغه أعلى مراتب القرب وعجزه عند سطوات تجلي صفات الألوهية ، ويداري والدة البدن حينئذ فلا يستعملها عند العجز (وَلا تَنْهَرْهُما) عند الاستراحة وأرفق بهما عند استعمالهما في العبودية ولا تتكبر عليهما فإنك أخذت التربية منهما لأن القلب طفل تولد بازدواج الروح والبدن ، وقد وجد التربية منهما صورة ومعنى إلى أن صار قابلا للتجلي والخلافة (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) من الاستعداد (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) مستعدين للخلافة (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ) الراجعين من أنانيته إلى هويته دون من كان مقيدا بنفسه (غَفُوراً) سائرا بأنوار جماله. ثم أخبر عن آداب الخلافة قائلا (وَآتِ ذَا الْقُرْبى) وهو النفس حقه فإن لنفسك عليك حقا من غير إسراف وتقتير.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ

٣٥١

يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠))

القراآت : (لِيَذَّكَّرُوا) من الذكر وكذلك في «الفرقان» : حمزة وعلي وخلف. الآخرون بتشديد الذال والكاف من التذكر. (كَما يَقُولُونَ) على الغيبة : ابن كثير وحفص عما تقولون على الخطاب : حمزة وعلي وخلف. (تُسَبِّحُ) بتاء التأنيث : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل والخزاز عن هبيرة. الآخرون على التذكير (أَإِذا أَإِنَّا) القول فيه كما مر في «الرعد» وكذلك في آخر هذه السورة وفي سورة «قد أفلح» وفي سورة السجدة.

الوقوف : (لِيَذَّكَّرُوا) ط (نُفُوراً) ه (سَبِيلاً) ه (كَبِيراً) ه (فِيهِنَ) ط (تَسْبِيحَهُمْ) ط (غَفُوراً) ه (مَسْتُوراً) لا للعطف (وَقْراً) ط (نُفُوراً) ط (مَسْحُوراً) ه (سَبِيلاً) ه (جَدِيداً) ه (حَدِيداً) لا (صُدُورِكُمْ) ج للفاء مع أن السين للاستئناف (يُعِيدُنا) ط (أَوَّلَ مَرَّةٍ) ج لما قلنا (مَتى هُوَ) ط (قَرِيباً) ه (قَلِيلاً) ه (أَحْسَنُ) ط (بَيْنَهُمْ) ط (مُبِيناً) ه (أَعْلَمُ بِكُمْ) ه (يُعَذِّبْكُمْ) ط (وَكِيلاً) ط (وَالْأَرْضِ) ط (زَبُوراً) ه (شَدِيداً) ط ه (مَسْطُوراً) ه (الْأَوَّلُونَ) ط لأن الواو للاستئناف (فَظَلَمُوا بِها) ط (تَخْوِيفاً) ه (بِالنَّاسِ) ط (فِي الْقُرْآنِ) ط الكل لما مر. (وَنُخَوِّفُهُمْ) لا لصحة عطف المستقبل على المستقبل (كَبِيراً) ه.

التفسير : لما بين أنواع الحكم ومكارم الأخلاق ذكر غاية مظلومية الإنسان وجهوليته فقال : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) أي بينا أحسن بيان لأن من حاول بيان شيء فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع ومن مثال إلى مثال حتى ينتهي به إلى ما هو مراده من الإيضاح. ومفعول التصريف متروك أي أوقعنا التصريف (فِي هذَا الْقُرْآنِ) أو محذوف للعمل به والمراد

٣٥٢

صرفنا فيه ضروبا (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) وأراد بهذا القرآن إبطال إضافتهم البنات إلى الله لأنه مما كرر ذكره ، والمقصود ولقد صرفنا القول في هذا المعنى. وقيل : لفظة «في» زائدة كقوله (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) [الأحقاف : ١٥] قال الجبائي : في قوله : (لِيَذَّكَّرُوا) دلالة على أنه أراد منهم فهمها والإيمان بها. والمراد بالذكر هاهنا فيمن قرأ مخففا هو التذكر والتأمل لا الذكر الذي هو نقيض النسيان. وقالت الأشاعرة : قوله : (وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) دلت على عكس ذلك لأن الحكيم إذا أراد تحصيل أمر من الأمور وعلم أن الفعل الفلاني يصير سببا لعسره وتعذره والنفرة عنه يقبح منه الأمر بذلك الفعل. ولما أخبر أن هذا التصريف يزيدهم نفورا علمنا أنه ما أراد الإيمان منهم. عن سفيان الثوري أنه كان إذا قرأها قال : زادني ذلك خضوعا ما زاد أعداءك نفورا. ثم دل على التوحيد الذي أمر به في قوله : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) فقال : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ) أي كما يقول المشركون من إثبات آلهة من دونه أو كما تقولون أيها المشركون. وفي قوله (إِذاً) دلالة على أن ما بعدها وهو (لَابْتَغَوْا) جواب عن مقالة المشركين وجزاء لـ «لو» قاله في الكشاف. قلت : ولعل (إِذاً) هاهنا ظرف لما دل عليه (لَابْتَغَوْا) أي لطلبوا إذ ذاك (إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم ببعض ومثله (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] ويسمى في عرف المتكلمين دليل التمانع وسيجيء بحثه في سورة الأنبياء إن شاء الله العزيز. وقيل : معنى الآية لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى لطلبت لأنفسها المراتب العالية والدرجات الرفيعة ، فلما لم تقدر أن تتخذ لأنفسها سبيلا إلى الله فكيف يعقل أن تهديكم إلى الله. ثم نزه نفسه عن أقوالهم فقال (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) فوضع الثلاثي وهو العلوّ موضع المتشعبة وهو التعالي كقوله (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] ثم وصف العلو بالكبر مبالغة في النزاهة وتنبيها على أن بين الواجب لذاته والممكن لذاته وبين الغني المطلق والفقير المطلق مباينة لا تعقل الزيادة عليها.

ثم بين غاية ملكه ونهاية عظمته بقوله : (تُسَبِّحُ لَهُ) الآية : قالت العقلاء : تسبيح الحي المكلف يكون تارة باللسان بأن يقول «سبحان الله» وأخرى بدلالة أحواله على وجود الصانع الحكيم ، وتسبيح غيره لا يكون إلا من القبيل الثاني. وقد تقرر في أصول الفقه أن اللفظ المشترك لا يحمل على معنييه معا في حالة واحدة فتعين حمل التسبيح هاهنا على المعنى الثاني ليشمل الكل هذا ما عليه المحققون. وأورد عليه أنه لو كان المراد بالتسبيح ما ذكرتم لم يقل (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) لأن التسبيح بهذا الوجه مفقوه معلوم.

٣٥٣

وأجيب بأن دلالة كل شيء على وجود الصانع معلومة على الإجمال دون التفصيل لأنك إذا أخذت تفاحة واحدة فلا شك أنها مركبة من أجزاء لا تتجزأ ، ولكن عدد تلك الأجزاء وصفة كل منها من الطبع والطعم واللون والحيز والجهة وغيرها لا يعلمها إلا الله. وأيضا الخطاب للمشركين ، وإنهم وإن كانوا مقرين بالخالق ، إلا أنهم لما أثبتوا له شريكا وأنكروا قدرته على البعث والإعادة ولم ينظروا في المعجزات الدالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكأنهم لم يفقهوا التسبيح إذ لم يتوسلوا به إلى نتيجة النظر الصحيح ولهذا ختم الآية بقوله : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) حين لا يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وسوء نظركم ، وزعم بعض الظاهريين أن ما سوى الحي المكلف يسبح الله باللسان أيضا كل بلغته ولسانه الذي لا نعرفه نحن ولا نفقهه. وزعم أيضا أن الحيوان إذا ذبح لا يسبح وكذا غصن الشجرة إذا كسر ، فأورد عليه أن كونه جمادا لا يمنع من كونه مسبحا فكيف صار ذبح الحيوان مانعا له عن التسبيح. وكذا كسر الغصن ، ويمكن أن يجاب بأن تسبيح كل شيء لعله يختص بتركيبه الذي خلق عليه فإذا أبطل ذلك التركيب وفك ذلك النظم لم يبق مسبحا مطلقا ولا على ذلك النحو. واعترض عليه أيضا بأنه إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات الله سبحانه وبصفاته مسبحة له مع أنها ليس بأحياء انسدّ علينا باب العلم بكونه تعالى حيا لأنا نستدل بكونه عالما قادرا على كونه حيا. ويمكن أن يجاب بأنا نستدل على حياته تعالى بالإذن الشرعي ، ولو سلم أن العلم يستلزم الحياة عقلا فقد قيل : إن لكل موجود حياة تليق به.

ولما فرغ من الإلهيات شرع في النبوّات فقال : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) قيل : نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ القرآن عليهم. يروى أنه كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه وعن يساره أحزاب من ولد قصيّ يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار. وعن أسماء. كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا ومعه أبو بكر إذا أقبلت امرأة أبي لهب ومعها حجر فهر تريد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي تقول : مذمما أتينا ، ودينه قلينا ، وأمره عصينا. فقال أبو بكر : يا رسول الله إن معها حجرا أخشى عليك. فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآيات. فجاءت وما رأت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقالت : إن قريشا قد علمت أني ابنة سيدها وإن صاحبك هجاني فقال أبو بكر : ورب هذه الكعبة ما هجاك. وعن ابن عباس : أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسمعون حديثه. فقال النضر يوما : ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحركان بشيء. وقال أبو سفيان : إني

٣٥٤

أرى بعض ما يقوله حقا. وقال أبو جهل : هو مجنون. وقال أبو لهب : كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى : هو شاعر نزلت. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد تلاوة القرآن تلا قبلها ثلاث آيات وهن في سورة الكهف (جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [الآية : ٥٧] وفي النحل : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [الآية : ١٠٨] وفي «حم الجاثية» (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الآية : ٢٣]. وكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وذلك قوله : (جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) أي ذا ستر وقد جاء مفعول بمعنى ذا كذا كما جاء فاعل على ذلك كثيرا نحو «لابن وتامر» من ذلك قولهم «رجل مرطوب» أي ذو رطوبة ، و «مكان مهول» و «ذهول» و «سبل مفعم» ذو إفعام. وجوّز الأخفش مجيء مفعول بمعنى فاعل مثل «مشؤوم» و «ميمون». وقيل : إنه حجاب يخلقه الله في عيونهم بحيث يمنعهم الحجاب عن رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك الحجاب شيء لا يراه أحد فهو مستور. وعلى هذا يصح قول الأشاعرة إنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة والمرئي حاضرا والرؤية غير حاصلة لأجل أنه تعالى يخلق في العيون شيئا يمنعهم من الرؤية ، ويحتمل أن يراد حجاب من دونه حجاب أو حجب فهو مستور بغيره أو حجاب يستر أن يبصر فكيف يبصر المحتجب به. والقول الثاني في الآية أن المراد بالحجاب الطبع والختم فاستدلت الأشاعرة به وبقوله : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) [الأنعام : ٢٥] الآية. على صحة مذهبهم في خلق الكفر والإيمان كما مر في سورة الأنعام في قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا) [الأنعام : ٣٥]. وأجاب الجبائي بأن المراد أنهم يطلبون موضعه بالليالي ليقتلوه ويستدلون عليه باستماع قراءته فأمنه الله من شرهم بأن جعل في قلوبهم ما شغلهم عن فهم القرآن وفي آذانهم ما منعهم عن سماع صوته. وقال الكعبي : أراد به التخلية والخذلان كالسيد إذا لم يراقب حال عبده فساءت أخلاق العبد يقول : أنا ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني لم يراقب حال عبده فساءت أخلاق العبد يقول : أنا ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني خليتك ورأيك. وقال جار الله : هذه حكاية لما كانوا يقولونه من قولهم قلوبنا غلف وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب. ومن قبائح أهل الشرك أنهم كانوا يحبون أن تذكر آلهتهم كلما ذكر الله فإذا سمعوا ذكر الله دون ذكر آلهتهم نفروا وانهزموا عن المجلس فلذلك قال تعالى : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) وهو مصدر سدّ مسد الحال والتقدير يحد وحده مثل «وأرسلها العراك» (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) مصدر من غير لفظ التولية أو جمع نافر كقاعد وقعود فأوعدهم الله على ذلك بقوله : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) من الهزء بك وبالقرآن. قاتل جار الله (بِهِ) في موضع الحال كما تقول يستمعون

٣٥٥

بالهزء أي مصاحبين الهزء أو هازئين و (إِذْ يَسْتَمِعُونَ) نصب بما دل عليه أعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) أي يتناجون به إذ هم ذوو نجوى (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) «إذ» بدل من «إذ هم» (إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي على تقدير الإتباع لأنهم لم يتبعوا رسول الله (إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) سحر فاختلط عقله وزال على حد الاعتدال. وقيل : المسحور الذي أفسد من قولهم «طعام مسحور» إذا أفسد عمله «أرض مسحورة» أصابها من المطر أكثر مما ينبعي فأفسدها. وقال مجاهد (مَسْحُوراً) مخدوعا لأن السحر حيلة وخديعة ، زعموا أن محمدا يتعلم من بعض الناس وأولئك الناس كانوا يخدعونه بهذه الحكايات ، أو زعموا أن الشيطان يخدعه فيتمثل له بصورة الملك. وقال أبو عبيدة : يريد بشرا ذا سحر وهو الرئة. قال ابن قتيبة : لا أدري ما حمله على هذا التفسير المستنكر مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة. (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) شبهك كل منهم بشيء آخر فقالوا : إنه كاهن وشاعر وساحر ومعلم ومجنون (فَضَلُّوا) في جميع ذلك عن طريق الحق (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) إلى الهدى والبيان ضلال من تحير في التيه الذي لا منار به.

وحين فرغ من شبهات القوم في النبوّات حكى شبهتهم في أمر المعاد. وأيضا لما ذكر أن القوم وصفوه بأنه مسحور فاسد العقل ذكر ما كان في زعمهم دالا على اختلاط العقل وهو دعوى الإنسان أنه يصير حيا بعد أن كان عظاما أو رفاتا ، والرفات الأجزاء المفتتة من كل شيء ينكسر وهو اسم كالرضاض والفتات ويقال منه : رفت عظام الجزور رفتا إذا كسرها. وتقرير الشبهة أن الإنسان إذا مات جفت أعضاؤه وتناثرت وتفرقت في جوانب العالم واختلطت بسائطها بأمثالها من العناصر ، فكيف يعقل بعد ذلك اجتماعها بأعيانها ثم عود الحياة إلى ذلك المجموع؟ فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بأن إعادة بدن الميت إلى حالة الحياة أمر ممكن ، ولو فرضتم أن بدنه قد صار أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحي وغضاضته ومن جنس ما ركب منه البشر كالحجارة أو الحديد فهو كقول القائل : أتطمع فيّ وأنا فلان؟ فيقول : كن ابن الخليفة أو من شئت فسأطلب منك حقي. أما قوله : (خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ). فالمراد فرضوا شيئا آخر أبعد عن قبول الحياة من الحجر والحديد بحيث تستبعد عقولكم كونه قابلا لوصف الحياة ، وعلى هذا لا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء. وقال مجاهد : أراد به السموات والأرض. وعن ابن عباس أنه الموت أي لو صارت أبدانكم نفس الموت فإن الله يعيد الحياة إليها. وهذا إنما يحسن على سبيل المبالغة كما يقال : هو روح مجسم أو وجود محض. وإلا فالموت عرض وانقلاب

٣٥٦

الجسم عرضا محال. وبتقدير التسليم فالموت كيف يقبل الحياة لأن الضد يمتنع أن يقبل الضد. وفي قوله : (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بيان كاف وبرهان شاف لأنه لما سلم أن خالق الحيوان هو الله فتلك الأجسام في الجملة قابلة للحياة والعقل وإله العالم عالم بجميع الجزئيات والكليات فلا يشتبه عليه أجزاء بدن كل من الأموات ، وإذا قدر على جعلها متصفة بالحياة في أول الأمر فلأن يقدر على إعادتها إلى الحياة في ثاني الحال أولى. ألزمهم أوّلا بأن البعث أمر ممكن وإن فرضتم بدن الميت أي شيء أردتم فكأنهم سلموا إمكانه ولكن تجاهلوا وتغافلوا عن تعيين المعيد فقالوا : (مَنْ يُعِيدُنا) فأجاب بأنه الفاطر الأول. ثم زادوا في الاعتراض فسألوا عن تعيين الوقت يقينا وذلك قوله : (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) أي فسيحركونها نحوك تعجبا واستهزاء. قال أبو الهيثم : يقال للرجل إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إلى فوق وإلى أسفل إنكارا له أنغض رأسه. قال المفسرون «عسى» من الله واجب فعلم منه قرب وقت البعث ، ولكن وقته على التعيين مما استأثر الله بعلمه. لا يقال كيف يكون قريبا وقد انقرض أكثر من سبعمائة سنة ولم يظهر لأنا نقول : كل ما هو آت قريب ، وإذا كان ما مضى أكثر مما بقي فإن الباقي قليل. قوله : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) منتصب باذكروا والمراد يوم يدعوكم كان ما كان ، أو هو بدل من (قَرِيباً) والمعنى عسى أن يكون البعث يوم يدعوكم بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة. يروى أن إسرافيل ينادي : أيها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت. والاستجابة موافقة الداعي فبما دعا إليه وهي مثل الإجابة بزيادة تأكيد لما في السين من طلب الموافقة ، قال في الكشاف : الدعاء والاستجابة كلاهما مجاز ، والمعنى يوم يبعثكم فتبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون.

وقوله : (بِحَمْدِهِ) حال منهم أي حامدين وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بأمر يشق عليه : ستأتي به وأنت حامد شاكر أي متهيء إلى حالة تحمد الله وتشكره على أن اكتفى منك بذلك العمل ، وهذا يذكر في معرض التهديد. وقال سعيد بن جبير : يخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك. وقال قتادة : بحمده أي بمعرفته وطاعته لأن التسبيح والتحميد معرفة وطاعة ومن هنا قال بعضهم : حمدوا حين لا ينفعهم الحمد. وقال آخرون : الخطاب مختص بالمؤمنين لأنهم الذين يليق بهم الحمد لله على إحسانه إليهم (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) عن قتادة : تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة ومثله قول الحسن : معناه تقريب

٣٥٧

وقت البعث وكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل. وقال ابن عباس : يريد ما بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزول عنهم هول العذاب في ذلك الوقت. وقيل : أراد استقصار لبثهم في عرصة القيامة حين عاينوا هول النار. ثم أمر المؤمنين بالرفق والتدرج عند إيراد الحجة على المخالفين فقال : (وَقُلْ لِعِبادِي) أي المؤمنين لأن لفظ العباد يختص بهم في أكثر القرآن (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) [الزمر : ١٧] (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الدهر : ٦] ، (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) [البقرة : ٢٩] ، (يَقُولُوا) الكلمة أو الحجة (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وألين وهي أن لا تكون مخلوطة بالسب واللعن والغلظة. ثم نبه على وجه المنفعة بهذا الطريق فقال : (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أي بين الفريقين جميعا فيزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود. ثم قال : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) أيها المؤمنون بالإنجاء من كفار مكة إيذائهم (أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) بتسليطهم عليكم (وَما أَرْسَلْناكَ) يا محمد عليهم وكيلا أي حافظا موكولا إليك أمرهم إنما أنت بشير ونذير. والهداية إلى الله.

وقال جار الله : الكلمة التي هي أحسن مفسرة بقوله : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) إلى آخره أي قولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم إنكم من أهل النار ، وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يزيد غيظهم. وقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) اعتراض. وقيل : المراد بالعباد الكفار أي قل لعبادي الذين أقروا بكونهم عباد إلي يقولوا الكلمة التي هي أحسن وهي كلمة التوحيد والبراءة من الشركاء والأضداد ، لأن ذلك أحسن بالبديهة من الإشراك. ووصفه بالقدرة على الحشر أحسن من وصفه بالعجز عنه ، والحامل على مثل هذه العقائد هو الشيطان المعادي. ثم قال لهم : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) بتوفيق الهداية ، وإن يشأ يعذبكم بالإماتة على الكفر إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فلا تقصروا في الجد والطلب. ثم قال لرسوله : (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) حتى تقسرهم على الإسلام وما عليك إلا البلاغ على سبيل الرفق والمداراة وهذا قبل نزول آية السيف. وقيل : نزلت في عمر بن الخطاب شتمه رجل فأمره الله بالعفو. وقيل : أفرط إيذاء المشركين للمسلمين فشكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. وحين قال : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) عمم الحكم فقال : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني أن علمه غير مقصور ليكم ولا على أحوالكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات وبما يليق بكل منها وبذلك حصل التمايز والتفاضل كما قال : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) وفيه رد على أهل مكة في إنكارهم أن يكون يتيم أبي طالب مفضلا على الخلائق ونبيا دون صناديد قريش

٣٥٨

وأكابرهم. وأنما ختم الآية بقوله : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) ليعلم أن التفضيل ليس بالمال والملك وإنما هو بالعلم والدين فإن داود كان ملكا عظيما ولم يذكره الله سبحانه إلا بمزية إيتاء الكتاب. وفيه أيضا إشارة إلى أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم بدليل قوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] أي محمد وأمته. ومعنى التنكير في «زبور» أنه كامل في كونه كتابا. والزبور وزبور كالعباس وعباس والحسن وحسن ، أو المراد بعض الزبر أو الزبور كما يسمى بعض القرآن قرآنا. وقيل : إن كفار قريش ما كانوا أهل نظر وجدال بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات ، وكانت اليهود تقول : إنه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة ، فنقض الله كلامهم بإنزال الزبور على داود بعد موسى.

ثم رد على طائفة من المشركين كانوا يعبدون تماثيل على أنها صور الملائكة ، أو على طائفة من أهل الكتاب كانوا يقولون بإلهية عيسى ومريم وعزير فقال : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) وقيل : أراد بالذين زعمتم نفرا من الجن عبدهم ناس من العرب ثم أسلم الجن ولم يشعروا. وإنما خصصت الآية بإحدى هؤلاء الطوائف لأن قوله بعد ذلك (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) لا يليق بالجمادات. قال ابن عباس : كل موضع في كتاب الله ورد فيه لفظ الزعم فهو بمعنى الكذب. وتقرير الرد أن المعبود الحق هو الذي قدر على إزالة الضر وتحويله من حال إلى حال أو مكان إلى مكان ، وهذه التي زعمتم أنها آلهية لا تقدر على شيء من ذلك فوجب القطع بأنها ليست بآلهة. سؤال : ما الدليل على أن الملائكة لا قدرة لها على كشف الضر؟ فإن قلتم لأنا نرى أولئك الكفار كانوا يتضرعون إليها ولا تحصل الإجابة قلنا : إن المسلمين أيضا يتضرعون إلى الله ولا يجابون ، وبتقدير الإجابة في بعض الأوقات فالكفار أيضا يحصل مطلوبهم أحيانا فيقولون إنه من الملائكة. جوابه أن الملائكة مقرّون بأن الإله الأعظم خالق العالم ، فكمال قدرته معلوم متفق عليه وكمال قدرة الملائكة غير معلوم ولا متفق عليه ، بل المتفق عليه أن قدرتهم بالنسبة إلى قدرة الله قليلة حقيرة ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الإله الأعظم أولى وأجدر أخذا بالمعلوم المتيقن دون المظنون الموهوم. على أن أهل السنة قاطعون بأنه لا تأثير لشيء في الوجود إلا لله تعالى. يقول مؤلف هذا التفسير : أضعف عباد الله تعالى وأحوجهم إليه الحسن بن محمد المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحواله في أولاه وأخراه. رأيت في بعض الكتب مرويا عن أمير المؤمنين علي رضي‌الله‌عنه : من وقع في ملمة أو طلب كفاية مهم فليسجد في خلوة وليقل في سجدته إلهي أنت الذي قلت : (قُلِ

٣٥٩

ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) فيا من يملك كشف الضر عنا وتحويله اكشف ما بي ، فإنه إذا قال ذلك كشف الله عنه ضره وكفى مهمه. وقد جرب فوجد كذلك.

ثم إنه تعالى أكد عدم اقتدار معبوديهم ببيان غاية افتقارهم إلى الله تعالى في جذب المنافع ودفع المضار فقال : (أُولئِكَ) وهو مبتدأ و (الَّذِينَ يَدْعُونَ) صفته و (يَبْتَغُونَ) خبره يعني أولئك المعبودين يطلبون (إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) أي القربة في الحوائج و (أَيُّهُمْ) بدل من واو و (يَبْتَغُونَ) وهو موصول وصدر صلته محذوف أي يبتغي من هو أقرب الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب؟ والدليل على هذا الافتقار إقرار جميع الكفار بإمكانهم الذاتي وجوز في الكشاف أن يضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون فكأنه قيل : يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله وذلك بازدياد الخير والطاعة والصلاح ، ويرجون ويخافون كغيرهم من العباد. وقيل : أولئك الذين يدعون هم الأنبياء الذين ذكرهم الله في قوله : (لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ) أي الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء الداعون للأمم إلى الله ، لا يعبدون إلا الله ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه فأنتم أحق بالعبادة. واحتج هذا القائل على صحة قوله بأن الله تعالى قال : (يَخافُونَ عَذابَهُ) والملائكة لا يعصون الله فكيف يخافون عذابه؟ وأجيب بأنهم يخافون عذابه لو أقدموا على الذنب لقوله : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢٩] ، (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) أي حقيقا بأن يحذره كل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل فضلا عن غيرهم ، فإن لم يحذره بعض الجهلة فإنه لا يخرج من كونه واجب الحذر. ثم بين مآل حال الدنيا وأهلها فقال : (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ) بالموت والاستئصال (أَوْ مُعَذِّبُوها) بالقتل وأنواع العذاب كالسبي والاغتنام. وقيل : الهلاك للصالحة والتعذيب للطالحة (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ) وهو اللوح المخفوظ (مَسْطُوراً) فلا يوجد له تبديل قط.

ثم ذكر نوعا آخر من سننه فقال : (وَما مَنَعَنا) استعار المنع للترك من أجل لزوم خلاف الحكمة والمشيئة. عن سعيد بن جبير أن كفار قريش اقترحوا منه آيات باهرة كإحياء الموتى ونحوه. وعن ابن عباس أنهم سألوا الرسول أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن يزيل عنهم الجبال حتى يزرعوا تلك الأراضي ، فطلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الله تعالى ذلك فقال : إن شئت فعلت لكنهم إن كفروا بعد ذلك أهلكتهم. فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أريد ذلك وأنزل الله الآية. والمعنى وما صرفنا عن إرسال ما يقترحونه من

٣٦٠