تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) [القمر : ٣٧] فصاروا لا يعرفون الطريق فخرجوا وهم يقولون إن في بيت لوط سحرة. ثم بين نزول العذاب ووجه خلاص لوط وأهله فقال : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) الباء للتعدية إن كانت الهمزة للوصل من السرى ، أو زائدة وإن كانت للقطع من الإسراء. (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) عن ابن عباس : أي في آخر الليل بسحر. وقال قتادة : بعد طائفة من الليل. وقيل نصف الليل كأنه قطع نصفين (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي لا ينظر إلى ما وراءه (إِلَّا امْرَأَتَكَ) أكثر القراء على النصب فاعترض بأن الفصيح في مثله هو البدل لأن الكلام غير موجب فكيف اجتمع القراء على غير فصيح؟ فأجاب جار الله بأن الرفع بدل من (أَحَدٌ) على القياسي والنصب مستثنى من قوله : (فَأَسْرِ) لا من قوله (لا يَلْتَفِتْ) وزيف بأن الاستثناء من (فَأَسْرِ) يقتضي كونها غير مسرى بها ، والاستثناء من (لا يَلْتَفِتْ) يقتضي كونها مسريا بها لأن الالتفات بعد الإسراء فتكون مسريا بها غير مسرى بها. ويمكن أن يجاب بأن (فَأَسْرِ) وإن كان مطلقا في الظاهر إلا أنه في المعنى مقيد بعدم الالتفات إذ المراد أسر بأهلك إسراء لا التفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراء مع الالتفات ، فاستثن على هذا إن شئت من (فَأَسْرِ) وإن شئت من (لا يَلْتَفِتْ) ولا تناقض. وبعضهم ـ كابن الحاجب ـ جعل (إِلَّا امْرَأَتَكَ) في كلتا القراءتين مستثنى من (لا يَلْتَفِتْ) ولم يستبعد اجتماع القراء على قراءة غير الأقوى. ويمكن أن يقال : إنما اجتمعوا على النصب ليكون استثناء من (فَأَسْرِ) إذ لو جعل استثناء من (لا يَلْتَفِتْ) لزم أن تكون مأمورة بالالتفات لأن القائل إذا قال لا يقم منكم إلا زيد كان ذلك أمرا لزيد بالقيام اللهم إلا أن يجعل الاستثناء منقطعا على معنى ولا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم ، وإذا كان هذا الاستثناء منقطعا كان التفاتها موجبا للمعصية. قاله في الكشاف. وروي أنه أمر أن يخلفها مع قومها فلم يسر بها. واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين. أقول : في هذا الكلام خلل لا يمكن اجتماعهما على الصحة ، والقراءتان يجب اجتماعهما على الصحة لتواتر القراآت كلها. روي أنها لما سمعت هدّة العذاب أي صوته التفتت وقالت : يا قوماه. فأدركها حجر فقتلها. وقيل : المراد بعدم الالتفات قطع تعلق القلب عن الأصدقاء والأموال والأمتعة. فعلى هذا يصح الاستثناءان من غير شائبة التناقض كأنه أمر لوطا أن يخرج بقومه ويترك هذه المرأة فإنها هالكة من الهالكين. ثم أمر أن يقعطوا العلائق وأخبر أن امرأته تبقى متعلقة القلب بها.

يروى أنه قال لهم متى موعد هلاكهم فقيل له (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) فقال أريد أسرع من ذلك فقالوا : (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بإهلاكهم (جَعَلْنا) أي جعل

٤١

رسلنا (عالِيَها سافِلَها) روي أن جبرائيل أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير ونباح الكلاب وصياح الديوك لم يتبدد لهم طعام ولم يتكسر لهم إناء ، ثم قلبها دفعة وضربها على الأرض ، ثم أمطر عليهم حجارة من سجيل ـ وهو معرب سنك وكل ـ كأنه مركب من حجر وطين وهو في غاية الصلابة. وقيل : سجيل أي مثل السجل وهي الدلو العظيمة أو مثلها في تضمن الأحكام الكثيرة ، وقيل : أي مرسلة عليهم من أسجلته إذا أرسلته. وقيل : أي مما كتب الله أن يعذب به أو كتب عليه أسماء المعذبين من السجل وقد سجل لفلان. وقيل : من سجين أي من جهنم فأبدلت النون لاما. وقيل : إنه اسم من أسماء السماء الدنيا. ومعنى (مَنْضُودٍ) موضوع بعضها فوق بعض في النزول يأتي على سبيل المتابعة والتلاصق ، أو نضد في السماء نضدا معدا لإهلاك الظلمة وفي السماء معادنها في جبال مخصوصة كقوله : (مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [النور : ٤٣] (مُسَوَّمَةً) معلمة للعذاب أو بياض وحمزة ، عن الحسن والسدي عليها أمثال الخواتيم. وقال ابن جريج : كان عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض. وقال الربيع : مكتوب على كل حجر اسم من يرمى به. وقال أبو صالح : رأيت منها عند أم هانىء حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع. ومعنى (عِنْدَ رَبِّكَ) أي في خزائنه لا يتصرف في شيء منها إلا هو ، أو مقرر في علمه إهلاك من أهلك بكل واحد منها (وَما هِيَ) أي تلك الحجارة (مِنَ الظَّالِمِينَ) أي من كل ظالم (بِبَعِيدٍ) وهو وعيد لأهل مكة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سأل جبرائيل عن هذا فقال يعني من ظالمي أمتك ما من ظالم إلا وهو بصدد سقوط الحجر عليه ساعة فساعة. وقيل : أي تلك القرى ليست ببعيدة من ظالمي أهل مكة يمرون بها في مسايرهم إلى الشام. وقيل : المراد أنها وإن كانت في السماء إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقا بالمرمى فكانت كأنها بمكان قريب والله تعالى أعلم بمراده.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما

٤٢

أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢))

القراآت : إني بالفتح أريكم بالإمالة : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو والبزي ، وكذلك روى عن أهل مكة. (إِنِّي أَخافُ شِقاقِي أَنْ) بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وصلواتك كما مر في سورة التوبة في قوله : (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ) [التوبة : ١٠٣] (تَوْفِيقِي) بالفتح : أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ونافع أرهطي بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو (بَعِدَتْ ثَمُودُ) بالإظهار : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وخلف ويعقوب وعاصم غير الأعشى.

الوقوف : (شُعَيْباً) ط (غَيْرُهُ) ط (مُحِيطٍ) ه (مُفْسِدِينَ) ه (مُؤْمِنِينَ) ج للابتداء بالنفي مع الواو (بِحَفِيظٍ) ه (ما نَشؤُا) ط (الرَّشِيدُ) ه (حَسَناً) ط (عَنْهُ) ط (مَا اسْتَطَعْتُ) ط (إِلَّا بِاللهِ) ط (أُنِيبُ) ه (صالِحٍ) ط (بِبَعِيدٍ) ه (إِلَيْهِ) ط (وَدُودٌ) ه (ضَعِيفاً) ج لأن «لو لا» للابتداء مع الواو (لَرَجَمْناكَ) ز لحق النفي وكون الواو للحال أوجه (بِعَزِيزٍ) ه (مِنَ اللهِ) ط للفصل بين الاستخبار والاخبار واتحاد المقصود وجه للوصل (ظِهْرِيًّا) ط (مُحِيطٌ) ه (عامِلٌ) ط (تَعْلَمُونَ) ه لا (كاذِبٌ) ط للفصل بين

٤٣

الخير والطلب (رَقِيبٌ) ه (جاثِمِينَ) ه لا (فِيها) ط (ثَمُودُ) ه (مُبِينٍ) ه لا لتعلق الجار (فِرْعَوْنَ) ج للنفي مع الواو للعطف أو للحال (بِرَشِيدٍ) ه (النَّارَ) ط (الْمَوْرُودُ) ٥ (الْقِيامَةِ) ط (الْمَرْفُودُ) ه (وَحَصِيدٌ) ه (أَمْرُ رَبِّكَ) ج (تَتْبِيبٍ) ه (ظالِمَةٌ) ط (شَدِيدٌ) ه.

التفسير : نقص المكيال يشمل معنيين : بأن ينقص في الإيفاء من القدر الواجب ، ويزيد في الاستيفاء على القدر الواجب فيلزم في كلا الحالين نقصان حق الغير. ثم علل النهي بقوله : (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أي بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف ، أو بنعمة من الله حقها أن تشكر لتزداد لا أن تكفر فتزال. (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) عن ابن عباس أنه فسر الخوف بالعلم. وقال آخرون : إنه الظن الغالب لأنه كان يجوز ازدجارهم وانتهاءهم. والعذاب المحيط المهلك المستأصل كأنه أحاط بهم بحيث لا ينفلت منهم أحد. وزيادة اليوم لأجل المبالغة والإسناد المجازي باعتبار ما هو واقع فيه واشتمل عليه ذلك اليوم. قيل : هو عذاب الاستئصال في الدنيا. وقيل : عذاب الآخرة والأظهر العموم. قوله : (أَوْفُوا الْمِكْيالَ) إلى قوله (أَشْياءَهُمْ) قد مر تفسير مثله في الأعراف. وقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) مضى تفسيره في أوائل البقرة ، بقي في الآية سؤال وهو أنه سبحانه نهى أوّلا عن النقص ثم أمر بالإيفاء فهل فيه فائدة سوى التأكيد والتقرير؟ والجواب بعد تسليم أن النهي عن الشيء أمر بضده ، هو أن النهي عن النقص في المبايعة وإن كان يفيد تصريحه تعييرا وتوبيخا لكنه يوهم النهي عن أصل المبايعة ، فلدفع هذا الخيال أمر بإيفاء الكيل ، ففيه إباحة أصل المبايعة ، مع التصريح بالنعت المستحسن في العقول لزيادة الترغيب. وفيه أيضا فائدة أخرى من قبل تقييد الإيفاء بالقسط ليعلم أن ما جاوز العدل ليس بواجب بل هو فضل ومروءة لا تقف عند حد ، وإنما الواجب شيء من الإيفاء بقدر ما يخرج عن العهدة بيقين كما أن غسل الوجه لا يحصل باليقين إلا عند غسل شيء من الرأس (بَقِيَّتُ اللهِ) قيل : ثواب الله. وقيل : طاعته ورضاه كقوله : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ) [الكهف : ٤٦] وقيل : أي ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم (خَيْرٌ لَكُمْ) بشرط أن تؤمنوا لأن شيئا من الأعمال لا ينفع مع الكفر إن كنتم مصدقين لي فيما أنصح لكم. ولا ريب أن الأمانة تجر الرزق لاعتماد الناس وإقبالهم عليه فينفتح له أبواب المكاسب ، والخيانة تجر الفقر لتنفر الناس عنه وعن معاملته وصحبته. قالت المعتزلة : في إضافة البقية إلى الله دليل على أن الحرام لا يسمى رزق الله. وقرىء تقاة الله بالتاء الفوقانية أي اتقاؤه الصارف عن المعاصي والقبائح (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أحفظ

٤٤

أعمالكم لأجازيكم إنما أنا مبلغ ناصح وقد أعذر من أنذر. قوله : (أَصَلاتُكَ) قيل : أي دينك وإيمانك لأن الصلاة عماد الدين فعبر عن الشيء باسم معظم أركانه. وقيل : المراد الأتباع لأن أصل الصلاة ومنه المصلي للذي يتلو السابق والمعنى دينك أي أتباعه يأمرك بذلك. والأظهر أن المراد به الأعمال المخصوصة يروى أن شعيبا عليه‌السلام كان كثير الصلاة فكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا فقصدوا بقولهم : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) السخرية والهزء فكأن الصلاة التي يداوم عليها ليلا ونهارا هي من باب الجنون والوساوس. ومعنى (تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ) تأمرك بتكليف أن نترك على حذف المضاف لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره. وقوله (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ) معطوف على ما في ما يعبد أي تأمرك صلاتك بترك ما عبد آباؤنا وبترك أن نفعل (فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) روي أنه كان ينهاهم عن قطع أطراف الدراهم كما كان يأمرهم بترك التطفيف والاقتناع بالحلال القليل من الحرام الكثير. (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) قيل : إنه مجاز والمراد نسبته إلى غاية السفاهة والغواية فعكسوا تهكما به. وقيل : حقيقة وإنه كان معروفا فيما بينهم بالحلم والرشد فكأنهم قالوا له : إنك المعروف بهذه السيرة فكيف تنهانا عن دين ألفناه وسيرة تعودناها. ثم أشار عليه‌السلام إلى ما آتاه الله من العلم والهداية والنبوة والكرامة والرزق الحلال الحاصل من غير بخس ولا تطفيف ، وجواب الشرط محذوف اكتفي عنه بما ذكر في قصتي نوح وصالح ، والمعنى أرأيتم إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وقد آتاني بعد هذه السعادات الروحانية السعادات الدنيوية من الخيرات والمنافع الجليلة هل يسعني مع هذه الإكرامات أن أخون في وحيه ولا آمركم بترك الشرك وبفعل الطاعة والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) يقال : خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه. فالمعنى لا أجعل فعلي مخالفا لقولي فلا أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ) إلا أن أصلحكم بالموعظة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (مَا اسْتَطَعْتُ) ما للمدة ظرفا للإصلاح أي مدة استطاعتي لإصلاحكم ، أو بدل من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته منه ، أو المضاف محذوف أي إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت ، أو مفعولا للإصلاح فقد يعمل المصدر المعرف كقوله : ضعيف النكاية أعداءه. أي إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم. ثم بين أن كل ما يأتي ويذر فوقوعه بتسهيل الله وتأييده فقال : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) والتوفيق أن توافق إرادة العبد إرادة الله تعالى (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أخصه بتفويض الأمور إليه لأنه مبدأ المبادئ (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) لأنه المعاد الحقيقي وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم منه. ثم

٤٥

أوعدهم بقوله (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) لا يكسبنكم خلافي (أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الريح العقيم (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من الصيحة (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) لم يقل «ببعيدة» حملا على لفظ القوم لأنه مؤنث ، ولا «ببعيدين» حملا على معناه ولكنه على تقدير مضاف أي وما إهلاكهم ببعيد لأنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدهم. أو المراد وما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد. وجوزوا أن بسوّى في بعيد وقريب وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما. (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) يجوز أن يكون بمعنى «فاعل» أو «مفعول» كقوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] وهذا حث لهم على الاستغفار والتوبة ، وتنبيه على أن سبق الكفر والمعصية لا ينبغي أن يمنعهم عن الإيمان والطاعة. ولما بالغ خطيب الأنبياء في التقرير والبيان (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) إما لقلة الرغبة أو قالوا تهكما واستهانة كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبا بحديثه : ما أدري ما تقول. كأنهم جعلوا كلامه تخليطا وهذيانا لا ينفعهم كثير منه. وقيل : لأنه كان ألثغ (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) عن الحسن : مهينا أي لا عزة لك فيما بيننا ولا قوة فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروها. وفسر بعضهم الضعيف بالأعمى لأن العمى سبب الضعف ، أو لأنه لغة حمير. وزيف هذا القول أما عند من جوز العمى على الأنبياء فلأن لفظة (فِينا) يأباه لأن الأعمى فيهم وفي غيرهم ، وأما عند من لا يجوزه ـ كبعض المعتزلة ـ فلأن الأعمى لا يمكنه الاحتراز من النجاسات وأنه يخل بجواز كونه حاكما وشاهدا ، فلأن يمنع من النبوة كان أولى. ثم ذكروا أنهم إنما لم يريدوا به المكروه ولم يوقعوا به الشر لأجل رهطه ـ والرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى السبعة ـ والرجم شر القتل وهو الرمي بالحجارة ، أو المراد الطرد والإبعاد ومنه الشيطان الرجيم. ثم أكدوا المذكور بقولهم (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) وإنما العزيز علينا رهطك لا خوفا من شوكتهم ولكن لأنهم من أهل ديننا ، فالكلام واقع في فاعل العز لا في الفعل وهو العز ولذلك قال في جوابهم (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) ولو قيل وما عززت علينا لم يصح هذا الجواب ، وإنما لم يقل أعز عليكم مني إيذانا بأن التهاون بنبي الله كالتهاون بالله كقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) أي أمر الله أو ما جئت به (وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب أي جعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر غير ملتفت إليه. ثم وصف الله تعالى بما يتضمن الوعيد في حقهم قال : (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ). ثم زاد في الوعيد والتهديد بقوله : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) وقد مر تفسير مثله في «الأنعام». قال في

٤٦

الكشاف : الاستئناف يعني في (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) وصل خفي تقديري وإنه أقوى من الوصل بالفاء وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه. ثم بالغ في التهديد بقوله : (وَارْتَقِبُوا) انتظروا عاقبة الشقاق (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) راقب كالضريب بمعنى الضارب ، أو مراقب كالعشير والنديم ، أو مرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع. وباقي القصة على قياس قصة صالح وأخذ الصيحة وأخذت الصيحة كلتا العبارتين فصيحة لمكان الفاصل إلا أنه لما جاء في قصة شعيب مرة الرجفة ومرة الظلة ومرة الصيحة ازداد التأنيث حسنا بخلاف قصة صالح. وإنما دعا عليهم بقوله : (كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) لما روى الكلبي عن ابن عباس قال : لم يعذب الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح. فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم ، وأما قوم شعيب فأخذتهم من فوقهم. قوله سبحانه (بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) قال في التفسير الكبير : الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات المفيدة للظن وبين الدلائل التي تفيد اليقين. والسلطان اسم لما يفيد القطع وإن لم يتأكد بالحس ، والسلطان المبين مخصوص بالدليل القاطع الذي يعضده الحس. وقال في الكشاف : يجوز أن يراد أن الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوته ، وأن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها أبهرها وقوله : (إِلى فِرْعَوْنَ) متعلق بـ (أَرْسَلْنا فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) أي شأنه وطريقه أو أمره إياهم بالكفر والجحود وتكذيب موسى (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي ليس في أمره رشد إنما فيه غي وضلال ، وفيه تعريض بأن الرشد والحق في أمر موسى. ثم إن قومه عدلوا عن اتباعه الى اتباع من ليس في أمره رشد قط ، فلا جرم كما كان فرعون قدوة لهم في الضلال فكذلك يقدمهم أي يتقدمهم يوم القيامة إلى النار وهم على أثره ، ويجوز أن يراد بالرشد الإحماد وحسن العاقبة فيكون المعنى وما أمر فرعون بحميد العاقبة. ثم فسره بأنه (يَقْدُمُ قَوْمَهُ) أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته. ويقال : قدمه وقدمه بالتخفيف والتشديد بمعنى تقدمه ومنه مقدمة الجيش ومثله أقدم ومنه مقدم العين. وإنما قال (فَأَوْرَدَهُمُ) بلفظ الماضي تحقيقا للوقوع. والورد المورود الذي وردوه ، شبّه فرعون بمن يتقدم الواردة إلى الماء ، وشبه أتباعه بالواردة. ثم نعى عليهم بقوله : (وَبِئْسَ الْوِرْدُ) الذي يردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضده. وتذكير (بِئْسَ) لتذكير الورد وإن كان هو عبارة عن النار كقولك : نعم المنزل دارك ولو قلت : نعمت جاز نظرا إلى الدار. وفي تشبيه النار بالماء نوع تهكم بهم (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ) حذف صفته في هذه الآية اكتفاء بما مر في قصة عاد. و (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) أي بئس العطاء المعطى ذلك. وقيل : الرفد العون والمرفود المعان

٤٧

وذلك أن اللعنة في الدنيا رفدت أي أعينت وأمدت باللعنة في الآخرة ، قال قتادة : ترادفت عليهم لعنتان لعنة من الله والملائكة واللاعنين في الدنيا ولعنة في الآخرة. (ذلِكَ) الذي ذكرنا أو ذلك النبأ بعض (أَنْباءِ الْقُرى) المهلكة (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) خبر بعد خبر. ثم استأنف فقال : (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) أي ومنها حصيد والمراد بعضها باق كالزرع القائم على ساقه وبعضها عافي الأثر كالزرع المحصود (وَما ظَلَمْناهُمْ) بإهلاكنا إياهم (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بارتكاب ما به أهلكوا. عن ابن عباس : وما نقصناهم في الدنيا من النعيم والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفوا بحقوق الله (فَما أَغْنَتْ) فما قدرت أن ترد (عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ) يعبدون وهي حكاية حال ماضية بأس الله حين جاء (وَما زادُوهُمْ) يعني آلهتهم (غَيْرَ تَتْبِيبٍ) تخسير. تب خسر وتببه غيره أوقعه في الخسران. كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين في الدنيا على تحصيل المنافع ودفع المضار وستنفعهم عند الله في الآخرة فلم تنفعهم في الدنيا حين جاءهم عذاب الله وسيورثهم ذلك الاعتقاد عذاب النار في الآخرة فهم في خسران الدارين. ثم بيّن أن عذابه غير مقصور على أولئك الأقوام ولكنه يعم كل ظالم سيوجد فقال : (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الأخذ (أَخْذُ رَبِّكَ) فالأخذ مبتدأ وكذلك خبره وقوله (وَهِيَ ظالِمَةٌ) حال من القرى باعتبار أهلها (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وجيع صعب على المأخوذ وهو تحذير من وخامة عاقبة كل ظلم على الغير أو على النفس فعلى العاقل أن يبادر إلى التوبة ولا يغتر بالإمهال.

التأويل:(وَلا تَنْقُصُوا) مكيال المحبة وميزان الطلب ، فمكيال المحبة عداوة ما سوى الله ، وميزان الطلب السير على قدمي الشريعة والطريقة (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) هو حسن الاستعداد الفطري وإني أخاف عذاب فساد الاستعداد في طلب غير الحق (بِالْقِسْطِ) في تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله. (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) حقوق النصيحة وحسن العشرة في الله ولله (وَلا تَعْثَوْا) في أرض وجودكم (مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللهِ) بقاؤكم ببقائه (خَيْرٌ لَكُمْ) مما فاتكم بإيفاء المكيال والميزان. (رِزْقاً حَسَناً) نورا تاما أراني به إصلاح الأمور والاستعدادات إن ساعدني التوفيق (وَما) معاملة (قَوْمُ لُوطٍ) من معاملتكم (بِبَعِيدٍ) لأن الكفر كله ملة واحدة. (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) لأن فرعون النفس أمارة بالسوء. (إِذا أَخَذَ الْقُرى) قرى الأجساد (مِنْها قائِمٌ) قابل لتدارك ما فات ، ومنها ما هو محصود بفوات الاستعداد والله تعالى أعلم بالصواب.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا

٤٨

الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

القراآت : وما يؤخره بالياء : يعقوب والمفضل. الباقون بالنون (يَوْمَ يَأْتِي*) بإثبات الياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وعلي في الوصل. الآخرون بحذف الياء (لا تَكَلَّمُ) بتشديد التاء : البزي وابن فليح (سُعِدُوا) بضم السين : حمزة وعلي وخلف وحفص. قيل إنه على حذف الهمزة من «أسعدوا» لأن (سُعِدُوا) لازم ولكنه قد جاء المسعود ، الآخرون بفتحها (وَإِنَّ كُلًّا) بالتخفيف : ابن كثير ونافع وأبو بكر وحماد. الباقون بالتشديد. (لَمَّا) مشددا : ابن عامر وعاصم ويزيد وحمزة وكذلك في «الطارق». الباقون بالتخفيف (وَزُلَفاً) بضمتين : يزيد. الآخرون بفتح اللام (فُؤادَكَ) وبابه بغير همز : الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف (يُرْجَعُ) مجهولا : نافع وحفص والمفضل (تَعْمَلُونَ) خطابا وكذلك في آخر «النمل» : أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب وحفص. الباقون على الغيبة.

٤٩

الوقوف : (الْآخِرَةِ) ط (مَشْهُودٌ) ه (مَعْدُودٍ) ط (بِإِذْنِهِ) ج لاختلاف الجملتين مع فاء التعقيب. (وَسَعِيدٌ) ه (شَهِيقٌ) ه لا لأن ما يتلوه حال والعامل فيه ما في النار من معنى الفعل (شاءَ رَبُّكَ) ط (يُرِيدُ) ه (شاءَ رَبُّكَ) ط لأن التقدير يعطون عطاء (مَجْذُوذٍ) ه (هؤُلاءِ) ط (مِنْ قَبْلُ) ط (مَنْقُوصٍ) ه (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) ط (بَيْنَهُمْ) ط (مُرِيبٍ) ه (أَعْمالَهُمْ) ط (خَبِيرٌ) ه (وَلا تَطْغَوْا) ط (بَصِيرٌ) ه (النَّارُ) لا لأن ما بعده من تمام جزاء ولا تركنوا (تُنْصَرُونَ) ه (مِنَ اللَّيْلِ) ط (السَّيِّئاتِ) ط (لِلذَّاكِرِينَ) ٥ (الْمُحْسِنِينَ) ه (مِنْهُمْ) ج لأن التقدير وقد اتبع (مُجْرِمِينَ) ه (مُصْلِحُونَ) ه (مُخْتَلِفِينَ) ه لا (رَحِمَ رَبُّكَ) ط (خَلَقَهُمْ) ط (أَجْمَعِينَ) ه (فُؤادَكَ) ج إذ التقدير وقد جاءك (لِلْمُؤْمِنِينَ) ه (مَكانَتِكُمْ) ط (عامِلُونَ) ه لا للعطف (وَانْتَظِرُوا) ج أي فإنا (مُنْتَظِرُونَ) ط (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) ط (تَعْمَلُونَ) ه.

التفسير : (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي قصصنا عليك من أحوال الأمم (لَآيَةً) لعبرة (لِمَنْ خافَ) أي لمن هو أهل لأن يخاف (عَذابَ الْآخِرَةِ) كقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] لأن انتفاعه يعود إليهم. قال القفال ـ في تقرير هذا الاعتبار : إنه إذا علم أن هؤلاء عذبوا على ذنوبهم في الدنيا وهي دار العمل فلأن يعذبوا عليها في الآخرة التي هي دار الجزاء أولى. واعترض عليه في التفسير الكبير بأن ظاهر الآية يقتضي أن العلم بأن القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بظهور عذاب الاستئصال في الدنيا. والقفال جعل الأمر على العكس قال : والأصوب عندي أن هذا تعريض لمن زعم أن إله العالم موجب بالذات لا فاعل مختار ، وأن هذه الأحوال التي ظهرت في أيام الأنبياء عليهم‌السلام مثل الغرق والخسف والصيحة إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب ، وإذا كان كذلك فلا يكون حصولها دليلا على صدق الأنبياء عليهم‌السلام. أما الذي يؤمن بالقيامة ويخاف عذابها فيقطع بأن هذه الوقائع ليست بسبب الكواكب واتصالاتها فيستفيد مزيد الخشية والاعتبار. أقول : وهذا نظر عميق والأظهر ما ذكرت أوّلا ومثله في القرآن كثير. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) [النازعات : ٢٦] (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) [النحل : ١٣] ثم لما كان لعذاب الآخرة دلالة على يوم القيامة أشار إليه بقوله : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ) أي يجمع لما فيه من الحساب والثواب والعقاب. (النَّاسُ) وأوثر اسم المفعول على فعله لأجل إفادة الثبات وأن حشر الأولين والآخرين فيه صفة له لازمة نظيره قول المتهدد : إنك لمنهوب مالك محروب قومك. فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أي مشهود فيه الخلائق فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به. والفرق

٥٠

بين هذا الوصف والوصف الأول أن هذا يدل على حضور الناس فيه مع اطلاع البعض منهم على أحوال الباقين من المحاسبة والمساءلة ليس بحيث لا يعرف كل واحد إلا واقعة نفسه. والجمع المطلق لا يفيد هذا المعنى وإنما فسرنا اليوم بأنه مشهود فيه لا أنه مشهود في نفسه لأن سائر الأيام تشركه في كونها مشهودات ، وإنما يحصل التمييز بأنه مشهود فيه دون غيره كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهودا فيه دونها (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا) لانتهاء (لأجل مَعْدُودٍ) أي انقضاء مدة معلومة عيّن الله وقوع الجزاء بعدها وفيه فائدتان : إحداهما أن وقت القيامة متعين لا يتقدم ولا يتأخر ، والثانية أن ذلك الأجل متناه وكل منتاه فإنه يفنى لا محالة وكل آت قريب. ثم ذكر بعض أهوال ذلك اليوم فقال : (يَوْمَ يَأْتِ) حذف الياء والاكتفاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل ، وفاعل يأتي قيل : الله كقوله : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) [الأنعام : ١٥٨] أي أمره أو حكمه دليله قراءة من قرأ وما يؤخره بالياء وقوله : (بِإِذْنِهِ). وقيل : المراد الشيء المهيب الهائل المستعظم فحذف ذكره بتعيينه ليكون أقوى في التخويف. وقيل : فاعله ضمير اليوم والمراد إتيان هو له وشدائده كيلا يصير اليوم ظرفا لإتيان اليوم. وانتصاب (يَوْمَ) بـ (لا تَكَلَّمُ) أو باذكر مضمرا أو بالانتهاء المقدر أي ينتهي الأجل يوم يأتي وتاء التأنيث محذوفة من لا تكلم ، والآيات الدالة على التكلم في ذلك اليوم مع الآيات الدالة على نفي التكلم كقوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [النحل : ١١١] وكقوله : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) [المرسلات : ٣٥] محمولة على اختلاف المواطن والأزمنة ، أو نفى العذر الصحيح المقبول وأثبت العذر الباطل الكاذب. ثم قسم أهل الموقف المجموعين للحساب أو الأفراد العامة التي دلت عليها نفس فقال : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) أي ومنهم سعيد. ولا خلاف في أن الشقاء والسعادة مقترنان بالعمل الفاسد والعمل الصالح ويترتب عليهما الجنة والنار في الآخرة ، وإنما النزاع في أن العمل سبب للشقاء مثلا كما هو مذهب المعتزلة ، أو الشقاء سبب العمل كما هو مذهب أهل السنة ، فيختلف تفسير الشقاء بحسب المذهبين فهو عند المعتزلة الحكم بوجوب النار له لإساءته ، وعند السني جريان القلم عليه في الأزل بأنه من أهل النار وأنه يعمل عمل أهل النار والتحقيق في المسألة قد مر مرارا. قيل : قد بقي هاهنا قسم آخر ليسوا من أهل النار ولا من أهل الجنة كالمجانين والأطفال فهم أصحاب الأعراف ، وتخصيص القسمين بالذكر لا يدل على نفي الثالث. أما قوله في صفة أهل النار (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) ففيه وجوه قال الليث وكثير من الأدباء : الزفير استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه

٥١

وحينئذ يرتفع صدره وينتفخ جنباه ، والشهيق إخراج ذلك الهواء بجهد شديد من الطبيعة ، وكلتا الحالتين تدل على كرب شديد وغم عظيم. والحاصل أنهم جعلوا الزفير بمنزلة ابتداء نهيق الحمار ، والشهيق بمنزلة آخره. وقال الحسن : إن لهب جهنم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلوا إلى أعلى دركات جهنم وطمعوا في أن يخرجوا منها ضربتهم الملائكة بمقامع من حديد ويردونهم إلى الدرك الأسفل من النار ، فارتفاعهم في النار هو الزفير ، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق. وقال أبو مسلم : الزفير ما يجتمع في الصدر من النفس عند البكاء الشديد فينقطع النفس ، والشهيق هو الصوت الذي يظهر عند اشتداد الكربة والحزن ، وربما يتبعها الغشية ، وربما يحصل عقيبه الموت. وقال أبو العالية : الزفير في الحلق ، والشهيق في الصدر. وقيل : الزفير الصوت الشديد ، والشهيق الصوت الضعيف. وعن ابن عباس : لهم فيها بكاء لا ينقطع وحزن لا يندفع. وقال أهل التحقيق : قوة ميلهم إلى الدنيا ولذاتها زفير ، وضعفهم عن الاستسعاد بكمالات الروحانيات شهيق. ثم إن قوما ذهبوا إلى أن عذاب الكفار منقطع وله نهاية واستدلوا على ذلك بالقرآن والحديث والمعقول. أما القرآن فقوله سبحانه : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي مدة بقائهما (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) وفيه استدلالان : الأول أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات والأرض المتناهية بالاتفاق. الثاني استثناء المشيئة ويؤكد هذا النص قوله : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) [النبأ : ٢٣] وأما الحديث فما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص «ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد» وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا. وأما المعقول فهو أن العقاب ضرر خال عن النفع لا في حق الله تعالى ولا في حق المكلف فيكون قبيحا. وأيضا الكفر جرم متناه ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم. والجمهور من الأمة على أن عذاب الكافر دائم ، وأجابوا عن الآية بأن المراد سموات الآخرة وأرضها المشار إليهما بقوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [ابراهيم : ٤٨] ولا بد لأهل الآخرة مما يظلهم ويقلهم فهما السماء والأرض ، وإذا علق حصول العذاب للكافر بوجودهما لزم الدوام. وأيضا القرآن قد ورد على استعمالات العرب ، وإنهم يعبرون عن الدوام والتأبيد بقولهم «ما دامت السموات والأرض» ونظيره قولهم : «ما اختلف الليل والنهار» و «ما أقام ثبير وما لاح كوكب». ويمكن أيضا أن يقال : حاصل الآية يرجع إلى شرطية هي قولنا : إن دامت السموات والأرض دام عقابهم فإذا قلنا لكن السموات والأرض دائمة لزم دوام عقابهم وهو المطلوب ، وإن قلنا لكنهما لم تدوما فإنه لا ينتج مطلوب الخصم لأن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئا. وبعبارة أخرى دلت الآية على أنه

٥٢

كلما وجدت السموات والأرض وجد عقابهم. فلو قلنا لكنهما لم يوجدا لم يلزم منه أن لا يوجد عقابهم ، أو يوجد فالآية لا تدل إلا على حصول العقاب لهم دهرا طويلا ومدة مديدة. وأما إنه هل يكون له آخر أم لا فذلك إنما يستفاد من دليل آخر كقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] وأما الاستدلال بالاستثناء فقد ذكر ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء أن هذا الاستثناء لا ينافي عدم المشيئة كقولك و «الله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك» وقد يكون عزمك على ضربه البتة وتعلم أنك لا ترى غير ذلك. وردّ بالفرق ، فإن معنى الآية الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء الله ، فالمشيئة قد حصلت جزما. ولقائل أن يقول : الماضي هاهنا في معنى الاستقبال مثل (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) [النساء : ٤٨] (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) [الزمر : ٧٣] فلم يبق فرق. وقيل : «إلا» بمعنى «سوى» أي سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه ، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له. وقال الأصم وغيره : المراد زمان مكثهم في الدنيا أو في البرزخ أو في الموقف. وقيل : الاستثناء يرجع إلى قوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) كأنهم يصيرون آخر الأمر إلى الهمود والخمود. وقيل : فائدة الاستثناء أن يعلم إخراج أهل التوحيد من النار والمراد إلا من شاء ربك ، وهذا التأويل إنما يليق بقاعدة الأشاعرة وأكدوه بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) فكأنه تعالى يقول : أظهرت القهر والقدرة ثم أظهرت المغفرة والرحمة لأني فعال لما أريد ، وليس لأحد عليّ حكم البتة. وأما المعتزلة فكأنهم لا يرضون بهذا ويقولون : إن الاستثناء الثاني لا يساعده لحصول الإجماع على أن أحدا من أهل الجنة لا يدخل النار. فالصواب أن يقال : إنه استثناء من الخلود في عذاب النار ومن الخلود في نعيم الجنة ، فإن أهل النار ينقلون إلى الزمهرير وإلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله ، وأهل الجنة ينقلون إلى العرش أو إلى ما هو أعلى حالا من الجنة كقوله : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] ثم قالوا : إنه ختم آية الوعيد بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) وآية الوعد بقوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) رعاية للمطابقة كأنه قال : إنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له والجذ القطع. وأما الجواب عن الحديث فقد قال في الكشاف : إن صح فمعناه أنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير فذلك خلوّ جهنم وصفق أبوابها. وأقول : يحتمل أن يكون الألف سبب عدم الإحساس بالعذاب بل يكون سبب الالتذاذ بالمألوف فيكون خلوّ جهنم إشارة إلى هذا المعنى. وأما الجواب عن المعقول فهو أن السير في الله ومبدأه من عالم التكاليف لما كان غير متناه فعذاب البعد عنه أيضا يجب أن

٥٣

يكون غير متناه. أو نقول : لا نهاية لنوره فلا غاية لظلمة الغافل عنه والمنكر له. أو نقول : أوضح الأشياء الوجود الواجب فإذا كان الشخص ذاهلا عنه كان مسلوب الاستعداد بالكلية فلا يكون إنسانا في الحقيقة ، فلا يتصور له عروج من عالم الطبيعة ، والعبارات في هذا المقام كثيرة والمعنى واحد يدركه من وفق له وخلق لأجله. ولما فرغ من أقاصيص عبدة الأصنام وبيان أحوال الأشقياء والسعداء سلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشرح أحوال الكفرة من قومه في ضمن نهي له عن الامتراء في سوء مغبتهم قائلا (فَلا تَكُ) حذف النون لكثرة الاستعمال (فِي مِرْيَةٍ) في شك (مِمَّا يَعْبُدُ) «ما» مصدرية أو موصولة أي من عبادة (هؤُلاءِ) أو من الذي يعبده هؤلاء المشركون والمراد النهي عن الشك في سوء عاقبة عبادتهم. ثم علل النهي مستأنفا فقال : (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ) كالذي يعبده (آباؤُهُمْ) أو كعبادة آبائهم. والحاصل أنهم شبهوا بآبائهم في لزوم الجهل والتقليد. (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من الرزق والخيرات الدنيوية أو من إزالة العذر وإزاحة العلة بإرسال الرسول وإنزال الكتاب ، أو نصيبهم من العذاب كما وفينا آباؤهم أنصباءهم. وفي الكشاف أن (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) حال من النصيب ليعلم أنه تام كامل إذ يجوز أن يوفي بعض الشيء كقولك وفيته شطر حقه. قلت : هي مغالطة لأن قول القائل : «وفيته شطر حقه» التوفية تعود إلى الشطر. فلو قيل : غير منقوص كان كالمكرر. وعاد السؤال. فالصواب أن يقال : إنه حال مؤكدة أو صفة تقوم مقام المصدر أي توفية نحو (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة : ٦٠] أي إفسادا. ثم أورد نظيرا لإنكارهم نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) آمن به قوم وكفر به قوم آخرون كما اختلف في القرآن ، والغرض أن إنكار الحق عادة قديمة للخلق (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) هي أن رحمتي سبقت غضبي أو هي أن دار الجزاء الآخرة لا الدنيا أو هي أن هذه الأمة لا يعذبون بعذاب الاستئصال. (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين قوم موسى أو بين قومك بتمييز المحق من المبطل بسبب الإنجاء والإهلاك وهذه من جملة التسلية أيضا (وَإِنَّهُمْ) يعني قوم موسى أو قومك (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من كتابه أو من كتابك أو من أمر المعاد أو القضاء أو الجزاء. ثم جمع الأولين والآخرين في حكم توفية الجزاء ثوابا أو عقابا فقال : (وَإِنَّ كُلًّا) التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي وإن كلهم يعني أن جميع المختلفين فيه. ومن قرأ بالتخفيف فعلى إعمال المخففة إذ لا يلزم من التخفيف إبطال العمل كما في «لم يكن» «ولم يك». ومن قرأ «لما» مخففا فاللام هي الداخلة في خبر «إن» و «ما» مزيدة للفصل بين لام «إن» وبين لام جواب القسم المقدر كما فصلوا بالألف بين النونات في قولهم «اضربنان». ويمكن أن يكون «ما»

٥٤

نكرة أي لخلق أو جمع. والله ليوفينهم ربك أعمالهم من حسن وقبيح وإيمان وجحود. ومن قرأ «لما» مشددا فأصله «لمن ما» قلبت النون ميما فاجتمع ثلاث ميمات ، فحذفت الأولى تخفيفا ، وجاز حذف الأولى وإبقاء الساكنة لاتصال اللام بها. ويجوز أن يكون أصله «لما» بالتنوين ـ كما في قراءتي الزهري وسليمن بن أرقم ـ فحذف فبقى «لما» ممدودا ومعناه ملمومين أي مجموعين. وقرأ أبيّ وإن كل لما ليوفينهم على أن «إن» نافية و «لما» بمعنى «إلا» كما في الطارق. ولا يخفى ما في الآية من مؤكدات توفية الجزاء وأن شيئا من الحقوق لا يضيع عنده. منها لفظة «إن» ، ومنها لام خبر «إن» ، ومنها «كل» ، ومنها «ما» المزيدة ، ومنها القسم ، ومنها لام القسم ، ومنها نون التأكيد ، ومنها لفظ التوفية ، ومنها ربك فإن من يربيك يقدر على توفية حقك ، ومنها الجمع المضاف ، ومنها ختم الآية بقوله : (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فإنه إذا كان عالما بكل المعلومات قادرا على كل المقدورات كان عالما بعمل كل أحد وبمقدار جزاء عمله ، وقادرا على إيصال ذلك إليه ، ثم إن كلامه حق وصدق وقد أخبر عن التوفية مع المؤكدات المذكورة فيقع وعده ووعيده لا محالة. ثم أمر نبيه لتقتدي به أمته بكلمة جامعة للعقائد والأعمال قائلا (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) عن جعفر الصادق رضي‌الله‌عنه : معناه افتقر إلى الله بصحة العزم يعني الوثوق به والتوكل عليه (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) عطف على الضمير في (فَاسْتَقِمْ) وصح للفصل أو هو ابتداء أي ومن تاب معك فليستقم أو مفعول معه. ثم كما أمر بالاستقامة على جادّة الحق نهى عن الانحراف عنها فقال (وَلا تَطْغَوْا) والطغيان مجاوزة الحد. وقال ابن عباس : يريد تواضعوا للحق ولا تتكبروا على الخلق. وخصص بعضهم الطغيان بالتجاوز عن حدود القرآن بتحليل حرامه وتحريم حلاله. وهذه الآية أصل عظيم في الشريعة فيكون الترتيب في الوضوء واجبا كما ورد في القرآن ، وكذلك القول في الحدود والكفارات ونصاب الزكاة وأعداد الركعات وغيرها من جميع المأمورات والمنهيات. ويجب الاحتياط في المسائل الاجتهادية وفي القياسات ، وكذا في الأخلاق والملكات وفي كل ما له طرفا إفراط وتفريط فهما مذمومان. والمحمود هو الوسط وهو الصراط المستقيم المأمور بالاستقامة والثبات عليه. ولا ريب أن معرفته صعبة وبتقدير معرفته فالعمل به والبقاء عليه أصعب ولهذا قال ابن عباس : ما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية في القرآن أشد ولا أشق من هذه حتى إن أصحابه قالوا له : لقد أسرع فيك الشيب فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : شيبتني هود أعني هذه الآية منها. ثم لما كان لقرين السوء مدخل عظيم في تغيير العقائد وتبديل الأخلاق نهى عن مخالطة من يضع الشيء في غير موضعه فقال : (وَلا تَرْكَنُوا) أي لا

٥٥

تميلوا بالمحبة والهوى (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) فقال المحققون : الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم وتحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب ، فأما مداخلتهم لدفع ضرر واجتلاب منفعة عاجلة فغير داخلة في الركون. أقول : هذا من طريق المعاش والرخصة ، ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦] وفي قوله : (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) إشارة إلى أن الظلمة أهل النار بل هم في النار أو كالنار (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) [البقرة : ١٧٤] ومصاحبة النار توجب لا محالة مس النار. وقوله : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) من تتمة الجزاء. وقال في الكشاف : الواو للحال (مِنْ أَوْلِياءَ) من أنصار أي لا يقدر على منعكم من عذاب الله إلا هو. (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) ثم لا ينصركم هو أيضا. وفيه إقناط كلي. وفائدة «ثم» تبعيد النصرة من الظلم. قال أهل التحقيق : الركون الميل اليسير وقوله : (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي الذين حدث منهم الظلم. فلم يقل «ولا تميلوا إلى الظالمين» ليدل على أن قليلا من الميل إلى من حدث منه شيء من الظلم يوجب هذا العقاب ، وإذا كان هذا حال من ركن إلى من ظلم فكيف يكون حال الظالم في نفسه؟ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من دعا الظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه» وقال سفيان : في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. وعن محمد بن مسلمة : الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء. ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء؟ فقال : لا. فقيل له : يموت. فقال : دعه يموت. ثم خص من أنواع الاستقامة إقامة الصلاة تنبيها على شرفها فقال : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) قيل : تمسك بعض الخوارج بهذه الآية على أن الواجب من الصلاة ليس إلا الفجر والعشاء لأنهما طرفا النهار وهما الموصوفان بكونهما زلفا من الليل ، فإن ما لا يكون نهارا يكون ليلا. غاية ما في الباب أن هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف وهو كثير في كلامهم ، ولئن سلم وجوب صلاة أخرى إلا أن قوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) يشعر بأن إقامة الصلاة طرفي النهار كفارة لترك سائر الصلوات. وجمهور الأمة على بطلان هذا القول واستدلوا بالآية على وجوب الصلوات الخمس لأن طرفي النهار منصوب على الظرف لإضافتهما إلى الوقت فيكتسب المضاف حكم المضاف إليه كقولك «أتيته نصف النهار» والطرفان هما الغدوة وهي الفجر والعشية وفيها الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشيّ (وَزُلَفاً) جمع زلفة كظلم وظلمة أي ساعات (مِنَ اللَّيْلِ) قريبة من آخر النهار من أزلفه إذا قربه وازدلف إليه. وقرىء (زُلَفاً) بسكون اللام نحو «بسرة» و «بسر». والزلف فيمن قرأ بضمتين نحو «بسر» و «بسر».

٥٦

وقيل : (زُلَفاً) أي قربا فيكون معطوفا على الصلاة أي أقم الصلاة وأقم زلفا أي صلوات يتقرب بها إلى الله عزوجل في بعض الليل. وبالجملة فصلاة الزلف والمغرب والعشاء. وقيل : إن طرفي النهار لا يشمل إلا الفجر والعصر وبه استدل على مذهب أبي حنيفة أن التنوير بالفجر أفضل وتأخير العصر أفضل ، لأن الأمة أجمعت على أن نفس الطرفين ـ وهما وقت الطلوع والغروب ـ لا يصلح لإقامة الصلاة ، فكل وقت كان أقرب إلى الطرفين كان أولى بإقامة الصلاة فيه حملا للمجاز على ما هو أقرب إلى الحقيقة ما أمكن. هذا ما ذكره فخر الدين الرازي في تفسيره. ولقائل أن يقول : هذا لا يتمشى في صلاة الفجر لأن الطرف الأول للنهار في الشرع هو طلوع الصبح الصادق ، والتنوير مبعد الصلاة منه لا مقرّب. ولا أدري كيف ذهب عليه هذا المعنى مع إفراط عصبيته للشافعي. واستدل أيضا لأبي حنيفة على مذهبه في وجوب الوتر أن أقل الجمع ثلاثة فتجب إقامة الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاث زلف من الليل أي ثلاث ساعات ذهب منها ساعتان للمغرب والعشاء فتعين أن تكون الساعة الثالثة للوتر ، وإذا وجب عليه وجب على أمته لقوله : (فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣] ولمانع أن يمنع أن أقل الجمع ثلاثة أشياء ، ثم إن كل ساعة لأجل صلاة ، ثم إن كل ما يجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجب على الأمة لأن الاتباع هو الإتيان بمثل فعله أعم من أن يكون على تلك الجهة أم لا. (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) قال المفسرون : نزلت في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري ، كان يبيع التمر فأتته امرأة فأعجبته فقال لها : إن في البيت أجود من هذا. فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها وأصاب منها كل ما يصيب الرجل من زوجته سوى الجماع ، ثم ندم فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بما فعل فقال : أنتظر أمر ربي فلما صلى صلاة العصر نزلت فقال : نعم اذهب فإنها كفارة لما عملت. فقيل له : هذا له خاصة أم للناس عامة؟ فقال : بل للناس عامة. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : توضأ وضوءا حسنا وصل ركعتين. (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) قال ابن عباس : أي الصلوات الخمس كفارة لسائر الذنوب ما لم تكن كبيرة. وقيل : المراد إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. وعن مجاهد : الحسنات قول العبد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وقد يحتج بالآية على أن المعصية لا تضرّ مع الإيمان الذي هو رأس الأعمال الحسنة. (ذلِكَ) المذكور من قوله : (فَاسْتَقِمْ) إلى هاهنا (ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) عظة للمتعظين وإرشاد للمسترشدين. ثم أمر بالصبر على التكاليف المذكورة أمرا ونهيا ، ونص عن أن الإتيان بها إحسان وأن جزاءه سيحصل لا محالة فقال : (وَاصْبِرْ) الآية. ثم عاد إلى أحوال الأمم الخالية وبين أن السبب في حلول عذاب الاستئصال بهم أمران

٥٧

الأول أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد وذلك قوله : (فَلَوْ لا) أي فهلا (كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ) ذوو خير ورشد وفضل ، وذلك أن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصارت البقية مثلا في الجودة. يقال : فلان من بقية القوم أي من خيارهم. ومن أمثالهم «في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا». وجوّز في الكشاف أن يكون من البقوى كالتقية في التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء متصل لأن في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل : ما كان من القرون ناس ناهون إلا ناسا قليلا. ومن في (مِمَّنْ أَنْجَيْنا) للبيان أي هم الذين أنجيناهم. قال في الكشاف : لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم. ولقائل أن يقول : إذا كان النهي عن المنكر فرض كفاية لم يلزم أن تنحصر النجاة في الناهين؟ فيحتمل أن تكون من للتبعيض ويجوز ـ على ما في الكشاف ـ أن يكون الاستثناء منقطعا معناه ولكن قليلا ممن أنجيناه من القرون نهوا عن الفساد. قال : ولو جعلته متصلا على ما عليه ظاهر الكلام كان المعنى فاسدا لأنه يكون تحضيضا لأولي البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول : هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم. تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن. أقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من استثناء الصلحاء منهم أنه لا حاجة لهم إلى التحضيض كأنك قلت : أحضض قومك على القراءة إلا الصلحاء فإنهم لا يحتاجون إلى ذلك لأنهم مواظبون عليها ، على أن في جعل الاستثناء منقطعا شبه تناقض ، لأن أول الكلام يدل على أنه لم يكن فيهم ناه وآخره يدل على أن القليل منهم قد نهوا فتأمل في هذا المقام فإنه من مزلة الأقدام. السبب الثاني : في نزول العذاب قوله : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا) ما غرقوا (فِيهِ) من التنعم والتترف من حيث الرياسة والثروة وأسباب العيش الهنيّ ورفضوا ما وراء ذلك مما يتعلق بأمر الدين ، فهذه الجملة معطوفة على مدلول الجملة التحضيضية أي ما كان من القرون ناس كذا واتبع الظالمون كذا. ويجوز أن يكون في الكلام إضمار والواو للحال كأنه قيل : أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاء إترافهم. والمترف الذي أبطرته النعمة ، وصبي مترف منعم البدن. وقوله : (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) إما معترضة وإما معطوف على (اتَّبَعَ) أي وكانوا مجرمين بذلك ، أو على (أُتْرِفُوا) أي اتبعوا الإتراف. وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام ، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر. ثم بين أنه ما ينبغي له سبحانه أن يهلك القرى بظلم. قال أهل السنة : أي بسبب مجرد الشرك والحال أنهم مصلحون في المعاملة والعشرة فيما بينهم ، وذلك أن حقوق الله تعالى مبنية على

٥٨

المساهلة بخلاف حقوق العباد ، وهذا كما قيل : الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم. ويؤكد هذا التفسير أن عذاب الاستئصال إنما نزل بقوم لوط وشعيب لما حكى الله عنهم من إيذاء الناس والإفساد في الأرض. وقالت المعتزلة قوله : (بِظُلْمٍ) حال من الفاعل والمعنى استحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها وأهلها قوم مصلحون في العمل تنزيها لذاته عن الظلم وإيذانا بأن إهلاك المصلحين ظلم. ثم ذكر أن الكل بمشيئته وإرادته فقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) مهدية. والمعتزلة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر وقد مر مرارا. (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) في الأديان والأخلاق والأفعال ، فمنهم من أنكر العلوم كلها حتى الحسيات والضروريات وهم السوفسطائية ، ومنهم من سلم استنتاج العلوم كلها والمعارف ولم يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلا وهم الدهرية ، ومنهم من أثبت له مبدأ موجبا بالذات وهم الفلاسفة على ما اشتهر منهم ولهذا المقام تحقيق ليس هاهنا موضع بيانه ، ومنهم من أنكر النبوات وهم البراهمة ، ومنهم من أثبتها وهم المسلمون والمجوس واليهود والنصارى. وفي كل واحدة من هذه الطوائف اختلافات لا تكاد تدخل تحت الحصر ، وإنما لا يحمل الاختلاف في الآية على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمار بل حملناه على الاختلاف في الأديان وما يتعلق بها لأنه ينبو عن ذلك ما قبل الكلام وهو قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) وما بعده وهو قوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) قالت المعتزلة : إلا ناسا هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على الدين الحق. وقال أهل السنة : جميع الألطاف التي فعلها في حق المؤمن فهي مفعولة أيضا في حق الكافر وهذه الرحمة أمر مختص بالمؤمن مرجع لجانب الإيمان وصدوره منه فإذن الإيمان بخلق الله وتكوينه وكذا ضده. ثم قال : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) فاختلف العلماء في المشار إليه بذلك ، فالمعتزلة قالوا : ولذلك من التمكين والاختيار الذي كان منه الاختلاف خلقهم يثيب مختار الحق بحسن اختياره ، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره ، أو ولما ذكر من الرحمة خلقهم. والأشاعرة قالوا : ولأجل ما ذكر من الاختلاف خلقهم لما صح في الحديث أنه خلق الجنة وخلق لها أهلا ، وخلق النار وخلق لها أهلا. وللدلائل الدالة على أن الكل بإيجاده وتخليقه وأن خلاف معلومه محال وإلى هذا أشار بقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي علمه وإرادته أو قوله للملائكة (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) الآية. وفرق المعتزلة بين معلومه ومراده. ثم ذكر طرفا من فوائد القصص المذكور في السورة فقال : (وَكُلًّا) أي وكل نبأ (نَقُصُّ عَلَيْكَ) وقوله : (مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) بيان لكل و (ما نُثَبِّتُ) بدل من (كُلًّا) أو المراد وكل نوع من الاقتصاص على أنه مصدر أي على

٥٩

الأساليب المختلفة نقص ، و (ما نُثَبِّتُ) مفعول. ومعنى تثبيت فؤاده زيادة اليقين والطمأنينة لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم ، أو المعنى تثبيت قلبه على أداء الرسالة وتحمل الأذى من قومه أسوة بسائر الأنبياء. (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) السورة أو في هذه الأنباء (الْحَقُ) وهو البراهين القاطعة الدالة على صحة المبدأ والوسط والمعاد (وَمَوْعِظَةٌ) وهي الدلائل المقنعة الموقعة للتصديق بقدر الإمكان والأول للخواص أنفع والثاني للعوام أنجع. (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) وهي الإرشاد إلى الأعمال الصالحة النافعة في الآخرة المحصلة لما هنالك من السعادة ، فإن حسن هذا الدين معلوم لمن رجع إلى نفسه وعمل بمقتضى تذكره وفكره. وأعلم أن المعارف الإلهية لا بد لها من قابل وفاعل ، وقابلها القلب وإنه ما لم يكن مستعدا لم يحصل له الانتفاع بسماع الدلائل وورودها عليه فلهذا السبب قدم ذكر إصلاح القلب وعلاجه وهو تثبيت الفؤاد ، ثم عقبه بذكر المؤثر الفاعل وهو مجيء هذه السورة بل آية منها وهي قوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) مشتملة على الحق والموعظة والذكرى ، وهذا ترتيب في غاية الحسن. ثم أمر بالتهديد لمن لم يؤثر فيهم هذه البيانات من أهل مكة وغيرهم فقال : (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا) وقد مر تفسير مثله في هذه السورة وفي «الأنعام» (وَانْتَظِرُوا) ما يعدكم الشيطان (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ما وعدنا الرحمن من الغفران والإحسان. وعن ابن عباس : انتظروا بنا الدوائر فإنا منتظرون بكم العذاب كما حل بنظرائكم. ثم ختم السورة بآية مشتملة على جميع المطالب من أمر المبدإ والوسط والمعاد وقد سبق تقريره في آخر «البقرة» في تفسير آية (آمَنَ الرَّسُولُ) [البقرة : ٢٨٥] فلا حاجة إلى الإعادة.

التأويل : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي ما دامت سموات الأرواح والقلوب وأرض النفوس البشرية (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) من الأشقياء ، وذلك أن أهل الشقاء ضربان : شقي وأشقى. فالشقي بالمعاصي سعيد بالتوحيد فيخلص من النار آخرا ، والأشقى وهو الكافر يبقى فيها مخلدا ، ومن أهل الجنة سعيد يبقى خالدا فيها ، وأسعد وهم الذين يترقون إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر. وهناك مقام الوحدة الذي لا انقطاع له كما قال : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) الذي قدر لهم في الأزل من الشقاء. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) باستكمال الشقاء لقضي بينهم بالهلاك عاجلا (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) إشارة إلى الضلال. وقوله : (مُرِيبٍ) إشارة إلى الإضلال. (وَإِنَّ كُلًّا) أي كل واحد من الضالين ومن المضلين (فَاسْتَقِمْ) أمر التكوين ولذلك قال : (كَما أُمِرْتَ) أي في الأزل ، وفي قوله : (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) إشارة إلى أن النفوس جبلت على الاعوجاج فيحتاج إلى الرجوع من

٦٠