تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

اليمين والأصح العموم وهو كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره بدليل قوله : (إِذا عاهَدْتُمْ) وقول من قال : العهد هو اليمين يلزم منه أن يكون قوله سبحانه : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) أي بعد توثيقها باسم الله تكرارا. وأكد ووكد لغتان فصيحتان. قال الزجاج : الأصل الواو والهمزة بدل. وفي الآية دلالة على الفرق بين الأيمان المؤكدة وبين لغو اليمين كقولهم «لا والله» و «بلى والله». وأيضا الآية من العمومات التي دخلها التخصيص لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر» (١). وقد مر بحث الأيمان في «البقرة» وفي «المائدة» في قوله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) [الآية : ٢٢٥] الآية. (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) أي شاهدا ورقيبا لأن الكفيل مراع لحال المكفول به. (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) فيجازيكم بحسب ذلك خيرا وشرا. وفيه ترغيب وترهيب. ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض بقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) أي من بعد قوّة الغزل بإمرارها وفتلها. قال الزجاج : انتصب (أَنْكاثاً) على المصدر لأن معنى نقضت نكثت. وزيف بأن (أَنْكاثاً) ليس مصدرا وإنما هو جمع نكث بكسر النون وهو ما ينكث فتله. وقال الواحدي : هو مفعول ثان كما تقول كسره أقطاعا وفرقه أجزاء أي جعله أقطاعا وأجزاء فكذا هاهنا أي جعلت غزلها أنكاثا. قلت : ويحتمل أن يكون حالا مؤكدة. قال ابن قتيبة : هذه الآية متصلة بما قبلها والتقدير : وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأيمان فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلا وأحكمته ثم جعلته أنكاثا. فعلى هذا المشبه به امرأة غير معينة ، ولا حاجة في التشبيه إلى أن يكون للمشبه به وجود في الخارج. وقيل : المراد امرأة معينة من قريش ريطة بنت سعد بن تيم وكانت خرقاء ، اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وهي الحديدة في رأس المغزل وفلكة عظيمة على قدرها ، وكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن. قال جار الله : (تَتَّخِذُونَ) حال و (دَخَلاً) مفعول ثان لتتخذ أي لا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلا بينكم أي مفسدة ودغلا. وقال الواحدي : أي غشا وخيانة. وقال الجوهري : أي مكرا وخديعة. وقال غيره : الدخل ما أدخل في الشيء على فساد. وقوله : (أَنْ تَكُونَ) أي لأن تكون (أُمَّةٌ) يعني جماعة قريش هي أربى أزيد وأوفر عددا ومالا (مِنْ أُمَّةٍ) هي جماعة المؤمنين. قال مجاهد : كانوا

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الأيمان حديث ١١ ـ ١٣. الترمذي في كتاب النذور باب : ٦. النسائي في كتاب الأيمان باب : ١٥ ، ١٦. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب : ٧. الدارمي في كتاب النذور باب : ٩. الموطأ في كتاب النذور باب : ١١. أحمد في مسنده (٤ / ٢٥٦ ، ٣٧٨).

٣٠١

يحالفون الحلفاء ثم يجدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأولين ويحالفون الذين هم أعز وأمنع. (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) أي بما يأمركم وينهاكم. وقد تقدم ذكر الأمر والنهي. وقال جار الله : الضمير لقوله : (أَنْ تَكُونَ) لأنه في معنى المصدر أي يختبركم بكونهم أربى لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء مع قلة المؤمنين وفقرهم أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم.

ثم حذرهم من مخالفة ملة الإسلام وأنذرهم بقوله : (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بإظهار الدرجات والكرامات للأولياء وتعيين الدركات والبليات للأشقياء. (ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) حيث تدعون أنكم على الحق والمؤمنون على الباطل فتنقضون عهودهم. ثم بين أنه سبحانه قادر على أن يجمع المؤمنين والكافرين على الوفاء وسائر أبواب الإيمان ولكنه بحكم الإلهية (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) والمعتزلة حملوا المشيئة على مشيئة الإلجاء بدليل قوله : (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ولو كانت أعمال العباد بخلق الله تعالى لكان سؤالهم عبثا. أجابت الأشاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل. روى الواحدي أن عزيرا قال : يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء. فقال : يا عزير أعرض عن هذا فأعاده ثانيا فقال : أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوّة. قال المفسرون : لما نهاهم عن نقض مطلق الأيمان أراد أن ينهاهم عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها وهو نقض بيعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والدليل على هذا التخصيص قوله : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) لأن هذا الوعيد لا يليق بنقض عهد قبيله وإنما يليق بنقض عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال جار الله : وحدت القدم ونكرت لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه فكيف بأقدام كثيرة. وهذا مثل يضرب لمن وقع في بلاء بعد عافية ، ولا ريب أن من نقض عهد الإسلام وزلت قدمه عن محجة الدين القويم فقد سقط من الدرجات العالية إلى الدركات الهاوية بيانه قوله : (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) في الدنيا (بِما صَدَدْتُمْ) بصدودكم أو بصدكم غيركم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) لأن المرتد قد يقتدي به غيره. (وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة. ويحتمل أن يراد أن ذلك السوء الذي تذوقونه هو عذاب عظيم. قال جار الله : كان قوم أسلموا بمكة ثم زين لهم الشيطان نقض البيعة لكونهم مستضعفين هناك فأوعدهم الله على ذلك ، ثم نهاهم عن الميل إلى ما كان يعدهم قريش من عرض الدنيا إن رجعوا عن الإسلام فقال : (وَلا تَشْتَرُوا) الآية. ثم ذكر دليلا قاطعا على أن ما عند الله خير فقال : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ) من خزائن رحمته (باقٍ) وفيه دليل على أن نعيم الجنة باق لأهلها لا ينقطع. وقال جهم بن صفوان : إنه منقطع والآية حجة عليه (وَلَنَجْزِيَنَ

٣٠٢

الَّذِينَ صَبَرُوا) على ما التزموه من شرائع الإسلام (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بالواجبات والمندوبات لا بالمباحات فإنه لا ثواب على فعلها ولا عقاب ، أو نجزيهم بجزاء أشرف وأوفر من عملهم كقوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠]. ثم عمم الوعد على أي عمل صالح كان فقال : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) ولا كلام في عمومه إلا أنه زاد قوله : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) تأكيدا وإزالة لوهم التخصيص ، والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم.

ثم جعل الإيمان شرطا في كون العمل الصالح منتجا للثواب حيث قال : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فاستدل به على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح فإن شرط الشيء مغاير لذلك الشيء. واختلف في الحياة الطيبة فقيل : هي في الجنة. عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة ، لأن الإنسان في الدنيا لا يخلو من مشقة وأذية ومكروه لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) [الانشقاق : ٦]. بيّن أن هذا الكدح ـ وهو التعب في العمل ـ باق إلى أن يصل إلى ربه ، وأما بعد ذلك فحياة بلا موت وغنى بلا فقر وصحة بلا مرض وملك بلا زوال وسعادة بلا انتقال. وقال السدي : إن هذه الحياة في القبر. والأكثرون على أنها في الدنيا لقوله بعد ذلك (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وعلى هذا فما سبب طيب الحياة قيل : هو الرزق الحلال. وقيل : عبادة الله مع أكل الحلال. وقيل : القناعة أو رزق يوم كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو : «اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا» (١). قال المحققون : وهذا هو المختار لأن المؤمن الذي صلح عمله إن كان موسرا فذاك ، وإن كان معسرا فمعه من القنوع والعفة والرضا بالقضاء ما يطيب عيشه. وأما الكافر والفاجر فإن الحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه أبدا ويعظم أسفه على ما يفوته لأنه عانق الدنيا معانقة العاشق لمعشوقه ، بخلاف المؤمن المنشرح قلبه بنور المعرفة والجمال فإنه قلما ينزع لحب الدنيا مالها وجاهها ويستوي عنده وجودها وفقدها وخيرها وشرها ونفعها وضرها. وبركة الصلاح والقنوع مما لا ينكرها عاقل اللهم اجعلنا من أهلها. ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن العمل الصالح إنما يفيد الأثر المخصوص بشرط الإيمان وظاهر قوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧] يدل على أن العمل الخير مطلقا يفيد أثرا مطلقا فلا منافاة بينهما. ثم ذكر الاستعاذة التي هي من جملة الأعمال الصالحة وبها تخلص الأعمال عن الوساوس فقال : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) أي أردت قراءته إطلاقا لاسم المسبب على السبب. وقد مر بحث الاستعاذة مستوفى في أول هذا الكتاب. (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب : ٨. أحمد في مسنده (٥ / ٧٧) بلفظ «قوتا» بلد «كفافا».

٣٠٣

سُلْطانٌ) تسلط وولاية (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) وهذا معنى الاستعاذة. فإن معناها بالحقيقة راجع إلى التبري عما سوى الله والتوجه بالكلية إليه والاعتماد في جميع الأمور عليه. (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) عن ابن عباس : أي يطيعونه. يقال : توليته أي أطعته. وتوليت عنه أي أعرضت عنه. أما الضمير الواحد في قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) فقيل : راجع إلى الرب. وقيل : إلى الشيطان أي بسببه.

التأويل : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ) فيه إشارة إلى أن لأرواح الأنبياء إشرافا على أممهم في حال حياتهم وبعد وفاتهم ، وفيه أن الدنيا مزرعة الآخرة فلا يقبل في القيامة اعتذار (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي وضعوا الكفر وأعمال الطبيعة موضع الإيمان وأعمال الشريعة (فَلا يُخَفَّفُ) عن أرواحهم أثقال الأخلاق الذميمة (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) لتبديل مذمومها بمحمودها (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا) وهم عبدة الدنيا والهوى (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) في أنا دعوناكم إلى عبادتنا فإنا كنا مشغولين بتسبيح الله سبحانه وطاعته (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) منعوا الأرواح والقلوب عن طلب الله (زِدْناهُمْ) عذاب الحرمان عن الكمال فوق خسران النسيان بإفساد الاستعداد الفطري. (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً) لأن روحه شاهد على جميع الأرواح والقلوب والنفوس لقوله : «أول ما خلق الله روحي» (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه السالك في أثناء سلوكه (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) وهو وضع الآلات وأسباب تحصيل الكمال في مواضعها بحيث يؤدي إلى مقام الوصال والكمال (وَالْإِحْسانِ) وهو أن تحسن إلى الخلق بما أعطاك الله كقوله : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) [القصص : ٧٧]. وفي قوله : (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) إشارة إلى أن من جملة العدالة رعاية حال الأقرب فالأقرب. فيبدأ بتكميل نفسه ثم بما هو أقرب إليه قربا معنويا لا صوريا (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) وهو صرف ما آتاه الله في غير مصرفها (وَالْمُنْكَرِ) وهو ضد المعروف وهو أن لا يحسن إلى غيره (وَالْبَغْيِ) وهو أن لا يراعي الترتيب المذكور في باب الإرشاد والتكميل. (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) يوم الميثاق. (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) بجزاء وفائكم (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) فيه إشارة إلى حال المريد المرتد (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ) هي أهل الدنيا في الدنيا أعلى حالا من أمتهم أهل الآخرة. (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ) عهودكم مع المشايخ شبكة تصطادون بها الدنيا وقبول الخلق فتزل أقدامكم عن صراط الطلب (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) هما القلب والنفس. والعمل الصالح من النفس استعمال الشريعة والطريقة ، ومن القلب التوجه إلى الله بالكلية ، والحياة الطيبة للنفس أن تصير مطمئنة مستعدة لقبول فيض (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] وللقلب أن يصير فانيا عن أنانيته باقيا بشهود الحق وجماله ، وحينئذ يطيب عن دنس

٣٠٤

الاثنينية ولوث الحدوث. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ظاهرا وبالحقيقة هو لأمته ، لأن شيطانه أسلم على يده فلم يحتج إلى الاستعاذة من شيطانه بل هو وخواص أمته كقوله : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) [النحل : ٩٩] وفيه أن الشيطان ليس له تسلط على أولياء الله إلا بالوسوسة ، وفيها صلاح المؤمن فإن إبريز إخلاص قلبه لا يتخلص عن غش صفات نفسه إلا بنار الوسوسة ، لأن المؤمن يطلع على بقايا صفات نفسه ، بما تكون الوسوسة من جنسه فيزيد في الرياضة وملازمة الذكر حتى تنمحي تلك البقايا والله تعالى أعلم بالصواب.

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ

٣٠٥

وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))

القراآت : (بِما يُنَزِّلُ) من الإنزال : ابن كثير وأبو عمرو (يُلْحِدُونَ) بفتح الياء والحاء : حمزة وعلي وخلف. (فُتِنُوا) مبنيا للفاعل : ابن عامر. (وَالْخَوْفِ) بالنصب : عباس إبراهام هشام وما بعده والأخفش عن ابن ذكوان. (فِي ضَيْقٍ) بالكسر : ابن كثير وكذلك في «النمل». الآخرون بالفتح.

الوقوف : (مَكانَ آيَةٍ) لا لأن جواب «إذا» هو «قالوا» وقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) جملة معترضة (مُفْتَرٍ) ط (لا يَعْلَمُونَ) ه (لِلْمُسْلِمِينَ) ه (بَشَرٌ) ط (مُبِينٌ) ه (بِآياتِ اللهِ) لا لأن ما بعده خبر «إن» (أَلِيمٌ) ه (بِآياتِ اللهِ) ج لاختلاف الجملتين مع العطف (الْكاذِبُونَ) ه (غَضَبٌ مِنَ اللهِ) ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى. (عَظِيمٌ) ه (عَلَى الْآخِرَةِ) لا للعطف (الْكافِرِينَ) ه (وَأَبْصارِهِمْ) ط لاختلاف الجملتين (الْغافِلُونَ) ه (الْخاسِرُونَ) ه (وَصَبَرُوا) لا لأن «إن» الثانية تكرار الأولى لطول الكلام بصلته وخبر هما واحد (رَحِيمٌ) ه (لا يُظْلَمُونَ) ه (يَصْنَعُونَ) ه (ظالِمُونَ) ه (طَيِّباً) ص لعطف المتفقتين (تَعْبُدُونَ) ه (لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) ج (رَحِيمٌ) ه (عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) ط (لا يُفْلِحُونَ) ط ، ه (قَلِيلٌ) ص لعطف المتفقتين ولا سيما إذا قدر لهم متاع (أَلِيمٌ) ه (مِنْ قَبْلُ) ج لابتداء النفي مع العطف (يَظْلِمُونَ) ه (وَأَصْلَحُوا) لا لما مر (رَحِيمٌ) ه (حَنِيفاً) ط (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ه لا لأن (شاكِراً) وصف آخر أو بدل من (حَنِيفاً لِأَنْعُمِهِ) ط (مُسْتَقِيمٍ) ه (حَسَنَةً) ط (الصَّالِحِينَ) ط ه لأن «ثم» لترتيب الأخبار. (حَنِيفاً) ط ه (الْمُشْرِكِينَ) ط ه (اخْتَلَفُوا فِيهِ) ط (يَخْتَلِفُونَ) ه (أَحْسَنُ) ط (بِالْمُهْتَدِينَ) ه

٣٠٦

(عُوقِبْتُمْ بِهِ) ط (لِلصَّابِرِينَ) ه (يَمْكُرُونَ) ه (مُحْسِنُونَ) ه.

التفسير : هذا شروع في حكاية شبهات منكري نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن عباس : كان إذا أنزلت آية فيها شدة ثم نزلت آية ألين منها قالت كفار قريش : إن محمدا يسخر من أصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه فنزل : (وَإِذا بَدَّلْنا) ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ، وتبديل الآية رفعها بآية أخرى غيرها وهو نسخها بآية سواها. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) شيئا فشيئا على حسب المصالح مغلظا ثم مخففا أو بالعكس (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فوائد النسخ والتبديل. قال أبو مسلم : أراد تبديل آية مكان آية في الكتب المتقدمة مثل آية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وسائر العلماء أطبقوا على أن المراد بهذا التبديل النسخ. ونقل عن الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة لأنه تعالى أخبر بتبديل مكان الآية. وضعف بأنه لا يلزم من وجود التبديل بالآية نفي التبديل بغيرها كالسنة المتواترة إذ لا دلالة في الآية على الحصر ، وقد مر مباحث النسخ مفصلة مستوفاة في سورة البقرة. (قُلْ نَزَّلَهُ) أي القرآن (رُوحُ الْقُدُسِ) هو جبرائيل والإضافة للمبالغة مثل «حاتم الجود». والمراد الروح المقدس المطهر عن دنس المأثم (مِنْ رَبِّكَ) صلة نزله أي ابتداء تنزيله من عنده. وقوله : (بِالْحَقِ) حال أي متلبسا بالحكمة والصواب. (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) كقوله : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) [الأنفال : ٢] فيقول كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا وكل منهما في وقته خير وصلاح لأن الذي نزله حكيم لا يفعل إلا ما هو خير في أوانه وصواب بالنسبة إلى المكلف حين ما يكلف به. (وَهُدىً وَبُشْرى) معطوفان على محل (لِيُثَبِّتَ) أي تثبيتا لهم وإرشادا وبشارة ، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم. ثم حكى شبهة أخرى عنهم. كانوا يقولون : إن محمدا يستفيد القصص والأخبار من إنسان آخر ويتعلمها منه. واختلف في ذلك البشر فقيل كان غلاما لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه اسمه عائش ويعيش وكان صاحب كتب. وقيل : هو جبر غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي. وقيل : عبدان جبر ويسار كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مر وقف عليهما يسمع ما يقرآن فقالوا يعلمانه. وقيل : هو سلمان الفارسي. ثم أجاب عن شبهتهم فقال مستأنفا (لِسانُ الَّذِي) واللسان اللغة والمعنى لسان الرجل الذي (يُلْحِدُونَ) يميلون قولهم عن الاستقامة (إِلَيْهِ) لسان (أَعْجَمِيٌ) غير بيّن (وَهذا) القرآن (لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ذو بيان وفصاحة وقد مر في آخر «الأعراف» أن تركيب الإلحاد يدل على الإمالة ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان

٣٠٧

كلها. قال أبو الفتح الموصلي : تركيب ع ج م يدل على الإبهام والخفاء ضد البيان والإفصاح ، ومنه «عجم الزبيب» لاستتاره وخفاته ، والعجماء البهيمة ، وصلاة الظهر والعصر عجماوان لأن القراءة فيهما سرية ، وأعجمت الكتاب أي أزلت عجمته. ثم إن العرب تسمي كل من لا يعرف لسانهم ولا يتكلم بلغتهم أعجميا وقالوا : زياد الأعجم لأنه كان في لسانه عجمة مع أنه كان عربيا. وحاصل الجواب هبوا أن محمدا يتعلم المعاني من ذلك الرجل إلا أنه لا يقدح في المقصود لأن القرآن بفصاحته اللفظية أيضا معجز. ولما ذكر جوابهم وبخهم وهددهم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) يعني أن سبب عدم إيمانهم هو أن الله لا يهديهم كقوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧]. وفسره الإمام فخر الدين بأن الله لا يهديهم إلى طريق الجنة بل يسوقهم إلى النار. وهذا التفسير يناسب أصول المعتزلة فلا أدري كيف مال إليه.

ثم لما بين أنهم ليسوا مظاهر اللطف وكان قد بنى الأمر في جوابهم على تسليم ما ادعى الخصم من أنه يتعلم من ذلك البشر ، أراد أن يبين أن الذي قالوا غير صحيح ولا صادق في نفس الأمر فقال : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ) وفيه أيضا رد لقولهم (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) [النحل : ١٠١]. يعني إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يترقب عقابا على الافتراء (وَأُولئِكَ) إشارة إلى قريش أو إلى الذين لا يؤمنون أي هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون أي هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب ، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب ، أو هم الذين من شأنهم الكذب وذلك هجيراهم لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين ، أو أولئك هم الكاذبون في قولهم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) [النحل : ١٠١] ومما يدل على كذبهم عقلا أنهم أعداء له وكلام العدا ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتهم. وأيضا إن أمر التعليم والتعلم لا يتم في مجلس واحد ولكنه يحتاج إلى أزمنة متمادية ، ولو كان كذلك لاشتهر وانتشر. وأيضا إن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة ، والمعلم يجب أن يكون أعلى حالا من المتعلم. فلو كان مثل هذا العالم الذي يتعلم منه مثل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موجودا في ذلك العصر لم يخف حاله ومال الناس إليه دون النبي. قال بعض علماء المعاني : عطف الجملة الاسمية التي هي قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) على ما قبلها وهي فعلية ، دالة على أن من أقدم على الكذب فإنه دخل في الكفر تنبيها على أن صفة الكفر فيهم ثابتة راسخة كما تقول : كذبت وأنت كاذب. زيادة في الوصف بالكذب على سبيل الاستمرار والاعتياد ، ولا افتراء أعظم من إنكار الإلهية والنبوة. روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له : هل يكذب المؤمن؟ قال : لا. وقرأ هذه الآية. ثم إنه سبحانه من كمال عنايته أراد أن يفرق

٣٠٨

بين الكفر اللساني وحده وبين اللساني المنضم إليه القلبي فقال : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ) اختلف العلماء في إعرابه ؛ فالأكثرون على أنه بدل إما من (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) وما بينهما اعتراض والمعنى إنما يفتري الكذب من كفر. واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء ، ثم قال : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أي طاب منه نفسا واعتقده (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) وإما من المبتدأ الذي هو (أُولئِكَ) أو من الخبر الذي هو (الْكاذِبُونَ). وقيل : منصوب على الذم أي أخص وأعني من كفر. وجوّز بعضهم أن تكون «من» شرطية والجواب محذوف لأن جواب من شرح دال عليه كأنه قيل : من كفر فعليه غضب إلا من أكره ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب. وإنما صح استثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعا فلهذه المشاكلة صح الاستثناء.

قال ابن عباس : نزلت في عمار بن ياسر ، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسرا وأمه سمية وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم. فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قبلها بحربة وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال وقتلت وقتل زوجها ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام. وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن عمارا كفر فقال : كلا إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه. فأتى عمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح عينيه وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت. فمن هنا حكم العلماء بأن الإكراه يجوّز التلفظ بكلمة الكفر. وحدّ الإكراه أن يعذبه بعذاب لا طاقة له به كالتخويف بالقتل والضرب الشديد وسائر الإيلامات القوية. وأجمعوا على أن قلبه عند ذلك يجب أن يكون متبرئا عن الرضا بالكفر وأن يقتصر على التعريض ما أمكن مثل أن يقول : إن محمدا كذاب يعني عند الكفار. أو يعني به محمدا آخر ، أو يذكره على نية الاستفهام بمعنى الإنكار. وإذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النية أو لأنه لما عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النية كان ملوما وعفو الله متوقع. ولو ضيق المكره عليه حتى صرح بالكفر من غير تورية وطلب منه أن يقول لا أريد بقلبي سوى ما أذكره بلساني فههنا يتعين إما الكذب وإما توريط النفس للعذاب. فمن الناس من قال : يباح له الكذب حينئذ. ومنهم من قال : ليس له ذلك. واختاره القاضي لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذبا فوجب أن يقبح على كل حال. ولو خرج الكذب عن القبح لرعاية بعض المصالح لم يمتنع أن يفعل الله الكذب لمصلحة ما فلا يبقى وثوق بوعده وبوعيده. وللإكراه مراتب منها : أن يجب الفعل المكره عليه كما لو

٣٠٩

أكرهه على شرب الخمر وأكل الميتة لما فيه من صون النفس مع عدم إضرار بالغير ولا إهانة لحق الله. ومنها أن يصير الفعل مباحا لا واجبا كما لو أكره على التلفظ بكلمة الكفر لما روي أن بلالا صبر على العذاب وكان يقول : أحد أحد حتى ملوه وتركوه ولم يقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بئسما فعلت بل عظمه ، ولأن في ترك التقية والصبر على القتل أو التعذيب إعزازا للإسلام. ومنها أنه لا يجب ولا يباح بل يحرم كما إذا أكره على قتل إنسان أو على قطع عضو من أعضائه فههنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية. وحينئذ لو قتل فللعلماء قولان : أحدهما لا يلزم القصاص وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه لأنه قتل دفعا عن نفسه فأشبه قتل الصائل ، ولأنه كالآلة للمكره ولذلك وجب القصاص على المكره وثانيهما ـ وبه قال أحمد والشافعي في أصح قوليه ـ أن عليه القصاص لأنه قتله عدوانا لاستبقاء نفسه فصار كما لو قتل المضطر إنسانا فأكله. ومن الأفعال ما لا يمكن الإكراه عليه وهو الزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة ، فلو دخل الزنا في الوجود علم أنه وقع بالاختيار لا بالإكراه. والأصح أن الإكراه فيه متصوّر ، وأن الحد يسقط حينئذ ، وعن أبي حنيفة أنه إن أكرهه السلطان لم يجب الحد ، وإن أكرهه بعض الرعية وجب.

قال بعض الأصوليين : في قوله : (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) دلالة على أن محل الإيمان هو القلب فهو إما الاعتقاد إن كان الإيمان معرفة ، وإما كلام النفس إن كان تصديقا. وانتصاب (صَدْراً) على التمييز وأصله. ولكن من شرح بالكفر صدره. فعدل إلى النصب للمبالغة ولبناء الكلام على الإبهام ثم التفسير. قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ) أي ذلك الارتداد بسبب أنهم رجحوا (الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) ولأجل أنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان ولم يعصمهم عن الكفر. وقال جار الله : ذلك الوعيد والغضب والعذاب بسبب استحقاقهم خذلان الله بكفرهم. وهذا البحث وكذا بحث الطبع والختم والخلاف في تفسيره بين الأشاعرة والمعتزلة قد مر في أول سورة البقرة وفي غيرها فلا حاجة إلى الإعادة. (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أي الكاملون في الغفلة إذ غفلوا عن تدبر العواقب (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) وقال في أوائل سورة هود (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) [الآية : ٢٢] لأن أولئك صدوا عن سبيل الله وصدوا غيرهم فضلوا وأضلوا لذلك ضوعف لهم العذاب فهم الأخسرون ، وهؤلاء صدوا بأنفسهم فهم الخاسرون. ويمكن أن يقال : إن ما قبل الفواصل في تلك السورة لم يعتمد على ألف قبلها مثل «يبصرون» «يفترون». وفي هذه السورة اعتمدت على الألف مثل «الكافرين» «الكاذبون» فجاء في كل سورة على ما يناسبها. ولما

٣١٠

ذكر حال من أكره أتبعه حال من هاجر من بعد ما فتن. قال جار الله : معنى (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ) تباعد حال هؤلاء من حال عمار وأصحابه. ومعنى (إِنَّ رَبَّكَ) لهم أنه لهم لا عليهم فينصرهم ولا يخذلهم. ويحتمل أن يكون الجار متعلقا بالخبر على نية التأخير. وتكرير «إن» لطول الكلام.

من قرأ (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) بفتح الفاء مبنيا للفاعل فوجهه أن فتن وافتتن بمعنى واحد والمراد أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقية فكأنهم فتنوا أنفسهم لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت بعد ، أو أراد أن أكابر المشركين الذين آذوا فقراء المسلمين لو تابوا وهاجروا وصبروا فإن الله يقبل توبتهم ، ومعنى «ثم» على هذا التفسير ظاهر. ومن قرأ بضم الفاء مبنيا للمفعول فالمراد أن المستضعفين المعذبين الذين حملهم أقوياء المشركين على الردة والرجوع عن الإيمان إن هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله يغفر لهم تكلمهم بكلمة الكفر. وقال الحسن : هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكة فعرضت لهم فتنة فارتدوا وشكوا في الرسول ثم أسلموا وهاجروا فنزلت الآية فيهم. فمعنى «ثم» تبعيد حالة الغفران والرحمة عن حالة الارتداد والشك في أمر الرسول إلا أنه سبحانه بكرمه يغفر لهم إذا تابوا. وقيل : نزلت في عبد الله بن أبي سرح ارتد ، فلما كان يوم الفتح أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه. وهذه الرواية إنما تصح لو جعلنا الآية مدنية ، ومثله ما روي عن قتادة أنه لما أنزل الله أن أهل مكة لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة ، فلما جاءهم ذلك خرجوا فلحقهم المشركون فردوهم فنزلت : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت : ٢] فكتبوا بها إليهم فتبايعوا بينهم على أن يخرجوا فإن لحق بهم المشركون من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزلت هذه الآية. والضمير في قوله : (مِنْ بَعْدِها) يرجع إلى الأفعال المذكورة من الهجرة والجهاد والصبر. فالحاصل أن الآية إما نازلة فيمن عذب فلم يرتد ومع ذلك هاجر وجاهد ، وإما نازلة فيمن أظهر الكفر تقية فبين تعالى أن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكن كذلك ، وإما نازلة فيمن ارتد ثم تاب وقام بما يجب القيام به فوعده الله المغفرة والرحمة. قال الزجاج (يَوْمَ تَأْتِي) منصوب بقوله : (رَحِيمٌ) أو بإضمار «اذكر» أو «ذكرهم وأنذرهم» ومعنى الآية ظاهر إلا أن في قوله : (عَنْ نَفْسِها) إشكالا من حيث إضافته النفس إلى ضمير النفس. وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى جملة بدن الحي ، وبالنفس الثانية الذات

٣١١

فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره. ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم (هؤُلاءِ أَضَلُّونا) [الأعراف : ٣٨] (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ونحو ذلك. عن بعضهم : تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه يقول : يا رب نفسي حتى إن إبراهيم الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل ذلك.

ثم أوعد الكفار بآفات الدنيا أيضا فقال : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) يحتمل أن تكون مقدرة وأن تكون معينة موجودة إما مكة أو غيرها. وذهب كثير من المفسرين إلى أنها مكة والأقرب أنها غيرها لأن مثل مكة يكون غير مكة فضربها الله مثلا لمكة إنذارا من مثل عاقبتها. قال العقلاء : ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن والصحة والكفاية. فوصف الله تعالى تلك القرية بالأمن ثم بالاطمئنان إشارة إلى أن هواء ذلك البلد لاعتداله ملائم لأمزجة أهله حتى اطمأنوا واستقروا ولم يحوجوا إلى الانتقال طلبا للصحة. ثم قال : (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) دلالة على حصول الكفاف لهم بأيسر وجه. قال في الكشاف : الأنعم جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع ، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس. قلت : لعله حمله على ذلك طلب الضبط وإلا فلا حاجة إلى هذا التكلف. وكذا أطلق الأكثرون أن جمع «فعلة» يجيء على «أفعل». قيل : إنما ذكر جمع القلة تنبيها بالأدنى على الأعلى ، يعني أن كفران النعمة القليلة يوجب العذاب فكيف بكفران النعم الكثيرة العظيمة. وهذا مثل لأهل مكة كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة ـ وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فكفروا بها وبالغوا في إيذائه فسلط الله عليهم البلاء. عذبهم بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والفرو ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم. نقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابي الأديب : هل يذاق اللباس؟ قال ابن الأعرابي : لا بأس أيها النسناس هب أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان نبيا أما كان عربيا؟! كأنه طعن في الآية أن المناسب هو أن لو قيل : «فكساها الله لباس الجوع» أو «فأذاقها الله طعم الجوع» فردّ عليه ابن الأعرابي. والذي أجاب به علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة ، وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس ، ثم ذكر الوصف ملائما للمستعار له وهو الجوع والخوف ، لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره. فكانت الاستعارة مجردة. ولو قال : «فكساها» كانت مرشحة ، وقد سلف منا تقرير هذا الاصطلاح في المقدمة التاسعة من مقدمات الكتاب. وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسنا من جهة المبالغة إلا أن للتجريد

٣١٢

ترجيحا من حيث إنه روعي جانب المستعار له فازداد الكلام وضوحا. وقيل : إن أصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرّف والاختبار فتقول : أناظر فلانا فأذوق ما عنده :

ومن يذق الدنيا فإني طعمتها

وسيق إلينا عذبها وعذابها

فمعنى ذقت لباس الجوع والخوف على فلان تعرفت ما ظهر عليه من الضمور وشحوبة اللون وتغير الحال وكسوف البال. ففحوى الآية عرفها الله أثر لباس الجوع. وقيل : حمل اللباس على المماسة والتقدير فأذاقها الله مساس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. قال ابن عباس : يريد بفعلهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التكذيب والهم بقتله والإخراج من مكة. قال الفراء : كل الصفات أجريت على القرية إلا قوله : (يَصْنَعُونَ) تنبيها على أن المراد في الحقيقة أهلها.

ولما ذكر المثل ذكر الممثل فقال : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) يعني أهل مكة (رَسُولٌ مِنْهُمْ) من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ) متلبسون بالظلم. قال ابن عباس : يعني بالعذاب الجوع الذي كان بمكة. وقيل : القتل يوم بدر. وقيل : إن قول ابن عباس أولى. والمراد أن ذلك الجوع بسبب كفركم فاتركوا الكفر. (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من الغنائم. فأكل الغنائم مسبب عن ترك الكفر فلذلك وصله بالفاء. وقال الكلبي : إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين جهدوا وقالوا : عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان؟ وكانت الميرة قد قطعت عنهم بإذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأذن في الحمل فحمل الطعام إليهم فذلك قوله : (فَكُلُوا). ورجح قول ابن عباس بأنه تعالى قال بعد ذلك : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) فالمراد أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب ـ وهو الغنيمة ـ واتركوا الخبائث ـ وهو الميتة والدم ـ أو أنه سبحانه أعاد تحريم هذه الأشياء في «البقرة» وفي «المائدة» و «الأنعام» وفي هذه السورة قطعا للأعذار وإزالة للشبهة. ثم زيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه المحرمات كالبحيرة والسائبة ، وفي النقصان عنها كتحليل الميتة والدم فقال : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) قال الكسائي والزجاج «ما» مصدرية وانتصاب (الْكَذِبَ) بـ (لا تَقُولُوا) أي ولا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم. وقوله : (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) بدل من الكذب ولك أن تنصب (الْكَذِبَ) بـ (تَصِفُ) وتجعل «ما» مصدرية أيضا أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب. ومعناه لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة ودليل. ويجوز أن تكون «ما» موصولة أي ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا

٣١٣

حلال وهذا حرام ، فحذف لفظ فيه لكونه معلوما. وقوله : (تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) من فصيح الكلام وبليغه كأن ماهية الكذب مجهولة وكلامهم يكشف عن حقيقته نظيره قولهم : «وجهه يصف الجمال وعينه تصف السحر». واللام في قوله : (لِتَفْتَرُوا) لام العاقبة لا الغرض. والمقصود من ذكره بيان أنه كذب على الله فإن قوله : (لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) لم يكن فيه هذا البيان.

ثم أوعد المفترين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ) الآية. وقوله : (مَتاعٌ) قال الزجاج : أي متاعهم. وعن ابن عباس : أراد أن متاع كل الدنيا قليل. والمعنى أن منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية ، أو أن نعيم الدنيا كلها يزول عنهم عما قريب ويبقى العقاب الدائم الأليم. ثم خص محرمات اليهود بالذكر فقال : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) يعني في سورة الأنعام عند قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [الأنعام : ١٤٦] ثم قال : (وَما ظَلَمْناهُمْ) كقوله هناك : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) [الأنعام : ١٤٦]. ثم بين أن الافتراء على الله ومخالفة أمره لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة. وقوله : (بِجَهالَةٍ) في موضع الحال أي عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه أو غير متأملين في وخامة عاقبته لغلبة الشهوة عليهم. (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) من بعد تلك السيئة أو التوبة أو الجهالة. ولما بالغ في إبطال مذاهب المشركين وفي الجواب عن شبههم ومطاعنهم وكان إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم رئيس الموحدين وقدوة أكابر النبيين ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة قائلا : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) أي هو وحده أمة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير :

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

وعن مجاهد : كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار فلهذا قيل : إنه أمة. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في زيد بن عمرو بن نفيل : يبعثه الله أمة وحده. وعن شهر بن حوشب : لم يكن زمن إلا وفيه أربعة عشر يدفع بهم الله عن أهل الأرض إلا زمن إبراهيم فإنه وحده. وقيل : أمة بمعنى مأموم أي يؤمه الناس ليأخذوا منه أفعال الخير أو بمعنى مؤتم به كقوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤]. وقيل : إنه من باب إطلاق المسبب على السبب لأنه حصل لأمته الامتياز عمن سواهم (قانِتاً لِلَّهِ) قائما بما يأمره الله. وعن ابن عباس : مطيعا لله (حَنِيفاً) مائلا إلى ملة الإسلام ميلا لا يزول عنه. وقال ابن عباس : المراد أنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج وضحى. (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قط لا في الصغر ولا في الكبر (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) وإن كانت قليلة فضلا عن النعم الكثيرة.

٣١٤

يروى أنه كان لا يتغدّى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخلا غداءه فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أن بهم جذاما فقال : الآن وجبت مؤاكلتكم شكرا لله على أنه عافاني وابتلاكم (اجْتَباهُ) اختصه واصطفاه للنبوّة (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلى ملة الإسلام (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) عن قتادة : هي أن الله تعالى حببه إلى أهل الأديان كلها. وقيل : الأموال والأولاد. وقيل : قول المصلي منا «كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم» (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) في أعلى مقاماتهم من الجنة تحقيقا لدعائه (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١].

قال في الكشاف : معنى «ثم» في قوله : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) تبعيد هذا النعت من بين سائر النعوت التي أثنى الله بها على إبراهيم ، ليعلم أن أجل ما أوتي خليل الله اتباع نبينا ملته في الأصول من التوحيد والمعاد وغيرهما كاختيار يوم الجمعة للفراغ وترك العمل. قال أهل النظم : كان لسائل أن يسأل : لم اختار اليهود السبت مع أن إبراهيم كان اختار الجمعة؟ فأجاب الله سبحانه بقوله : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) فاختاره بعضهم للفراغ واختار بعضهم الجمعة. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : أمرهم موسى بالجمعة وقال تفرغوا في كل سبعة أيام يوما واحدا فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا : لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق وهو يوم السبت ، فجعل عليهم السبت وشدد عليهم. ثم جاءهم عيسى بالجمعة أيضا فقالت النصارى : لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد. وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله كتب يوم الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد» (١). وقال صاحب الكشاف : السبت مصدر سبت اليهود إذا عظمت سبتها. والمعنى (إِنَّما جُعِلَ) وبال (السَّبْتُ) وهو المسخ (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) واختلافهم فيه أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة ، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة. وضعف القول الأول بأن اليهود متفقون على تعيين يوم السبت للفراغة. ويمكن أن يقال : لعل فيهم من اختار الجمعة في قديم الدهر ثم وقع الاختلاف. سؤال : النصارى يقولون : إن يوم الأحد مبتدأ الخلق ، والتكوين على ما اتفق عليه أهل الملل أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام أوّلها الأحد فجعله عيدا معقول. واليهود قالت :

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الجمعة باب : ١. مسلم في كتاب الجمعة حديث ١٩ ، ٢١. النسائي في كتاب الجمعة باب : ١. أحمد في مسنده (٢ / ٢٣٦).

٣١٥

إن يوم السبت هو اليوم الذي قد فرغ الله فيه من الأعمال فنحن نوافق ربنا. فما وجه جعل الجمعة عيدا؟ والجواب بعد التعبد هو أن يوم الجمعة يوم التمام والكمال وذلك يوجب الفرح والسرور فجعله عيدا أولى. ثم أوعد اليهود بقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ) إلخ. ولما أمر محمدا باتباع إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين وجه المتابعة فقال : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) الآية. وفيه أن طريقة إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدعوة كانت هكذا. وتقرير ذلك أن الداعي إلى مذهب ونحلة لا بد أن يكون قوله مبنيا على حجة وهي إما أن تكون يقينية قطعية مبرأة من شائبة احتمال النقيض ، وإما أن تكون مفيدة للظن القوي والإقناع التام وإلا لم يكن ملتفتا إليها في العلوم. وقد يكون الجدال والخصام غالبا على المدعو فيحتاج حينئذ إلى إلزامه وإفحامه بدليل مركب من مقدمات مشهورة مسلمة عند الجمهور ، أو مقدمات مسلمة عند الخصم. فقوله : (بِالْحِكْمَةِ) إشارة إلى استعمال الحجج القطعية المفيدة لليقين ، والمكالمة بهذا الطريق إنما تكون مع الطالبين البالغين في الاستعداد إلى درجة الكمال. وقوله : (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) إشارة إلى استعمال الدلائل الإقناعية الموقعة للتصديق بمقدمات مقبولة ، وأهل هذه المكالمة أقوام انحطت درجتهم عن درجة الطائفة الأولى إلا أنهم باقون على الفطرة الأصلية طاهرون عن دنس الشغب وكدورات الجدال وهم عامة الخلق. وليس للدعوة إلا هذان الطريقان ، ولكن الداعي قد يضطر مع الخصم الألد إلى استعمال الحجج الملزمة المفحمة كما قلنا فلهذا السبب عطف على الدعوة قوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي) أي بالطريقة (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فكان طريق الجدال لم يكن سلوكه مقصودا بالذات وإنما اضطر الداعي إليه لأجل كون الخصم مشاغبا. وإنما استحسن هذا الطريق لكون الداعي محقا وغرضه صحيحا ، فإن كان مبطلا وأراد تغليط السامع لم يكن جداله حسنا ويسمى دليله مغالطة. هكذا ينبغي أن يتصوّر تفسير هذه الآية فإن كلام المفسرين الظاهريين فيه غير مضبوط. وجوّز في الكشاف أن يريد القرآن أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة وجادلهم بأحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف.

ولما حث على الدعوة بالطرق المذكورة بين أن الهداية والرشد ليس إلى النبي وإنما ذلك إلى الله تعالى فقال : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ) الآية. أي هو العالم بضلال النفوس واهتدائها وكدورتها وبمن جعل الدعوة سببا لسعادتها أو واسطة لشقائها. ثم إن الدعوة تتضمن تكليف المدعوّين بالرجوع عن الدين المألوف ، والفطام منه شديد وربما تنجر المقاولة إلى المقاتلة ، فحينئذ أمر الداعي وأتباعه برعاية العدل والإنصاف في حال القتال قائلا (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) أي إن رغبتم في استيفاء القصاص إن وقع قتل فاقنعوا بالمثل ولا

٣١٦

تزيدوا عليه. والآية عامة وقد يخصصها رواة أسباب النزول بقصة حمزة قالوا : إن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم ، ما تركوا أحدا غير ممثول به إلا حنظلة بن الراهب. فوقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حمزة وقد مثل به. وروي فرآه مبقور البطن فقال : أما والذي أحلف به إن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك فنزلت فكفر عن يمينه وكف عما أراده. قاله ابن عباس في رواية عطاء وأبيّ بن كعب. ومن هذا ذهبوا إلى أن خواتيم سورة النحل مدنية. ولا خلاف في تحريم المثلة ، وقد وردت الأخبار بالنهي عنها حتى بالكلب العقور. وقيل : نزلت حين كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبدأوا بالقتال فهو كقوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة : ١٩٠] أمر الله تعالى أن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا. وقال مجاهد والنخعي وابن سيرين : إنه نهى المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم. وفي قوله : (إِنْ عاقَبْتُمْ) رمز إلى أن الأولى له أن لا يفعل كقول الطبيب للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح. ثم انتقل من التعريض إلى بعض التصريح قائلا. (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ) أي صبركم خير لكم. فوضع المظهر موضع المضمر ثناء من الله عليهم أو وصفا لهم بالصفة التي تحصل لهم أو جنس الصبر خير (لِلصَّابِرِينَ) من جنسهم. ثم صرح كل التصريح فقال : (وَاصْبِرْ) ثم ذكر ما يفيد سهولة الصبر على النفس فقال : (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي بتوفيقه وتثبيته وربطه على قلبه وهذا سبب كلي مفيد للصبر. وأما السبب الجزئي القريب فذلك قوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ) وذلك أن إقدام الإنسان على الانتقام لا يكون إلا عند هيجان الغضب وإنه لا يهيج إلا عند فوات نفع. وأشار إليه بقوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) قيل : أي على قتلى أحد. وقيل : على الكافرين كقوله : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [المائدة : ٦٨] وإلا حين توقع مكروه في المستقبل وأشار إلى ذلك بقوله : (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) من قرأ بكسر الضاد فظاهر وهو من الكلام المقلوب الذي يشجع عليه أمن الإلباس ، لأن الضيق وصف فهو يكون في الإنسان ولا يكون الإنسان فيه. وفيه لطيفة أخرى وهي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط به من جميع الجوانب ، ومن قرأ بفتحها فإما على أنه مصدر أيضا أو على أنه مخفف ضيق فمعناه في أمر ضيق. وإنما لم يقل «ولا تكن» بالنون كما في آخر النمل موافقة لما قبله (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ولأن الحزن هاهنا أكثر بناء على أنها وردت في قتل حمزة فبولغ بالحذف في النهي عن الحزن.

ثم ختم السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات فقال : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) المعاصي كلها (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) في الطاعات بأن يعبدوا الله مخلصين عن

٣١٧

شوائب الرياء. وقيل : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) استيفاء الزيادة (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) في ترك أصل الانتقام. فإن أردت أن أكون معك بالنصر والتأييد فكن من المتقين ومن المحسنين ، وفيه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون بالرفق واللين مرتبة مرتبة. وقيل : الذين اتقوا إشارة إلى التعظيم لأمر الله ، والذين هم محسنون إشارة إلى الشفقة على خلق الله ومنه قال بعض المشايخ : كمال الطريق صدق مع الحق وخلق مع الخلق. واحتضر هرم بن حبان فقيل له : أوص. فقال : إنما الوصية من المال ولا مال لي أوصيكم بخواتيم سورة النحل.

التأويل : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً) إنه تعالى يعالج بدواء القرآن أمراض القلوب في كل وقت بنوع آخر على حسب ما يعلمه من المصالح فلذلك قال : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) الذين استسلموا للطبيب ومعالجته حتى صارت قلوبهم سليمة. (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) ففيه إنكار أن طب القلوب وعلاجها من شأن البشر بنظر العقل لأنه مبني على معرفة الأمراض وكميتها وكيفيتها ، ومعرفة الأدوية وخواصها وكيفية استعمالها ، ومعرفة الأمزجة واختلاف أحوالها ، وأن القلوب بيد الله يقلبها هو كيف يشاء فيضيق عن معالجتها نطاق عقول البشر ولهذا قال إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء : ٨٠] اللهم إلا إذا علم بتعليم الله كقوله : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) النساء : ١١٣] ومع هذا كان يقول نحن نحكم بالظاهر (يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ) هو الذي لا يفهم من كلام الله أسراره وحقائقه والعربي ضده كما قال : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) [مريم : ٩٧]. (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ) لأن الافتراء من شأن النفس الأمارة الكافرة التي لا تؤمن بآيات الله. (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي هم الذين استمروا على الكذب لأن المؤمن قد يكذب في بعض الأحوال إلا أنه لا يصر على ذلك ، وهكذا في جميع المعاصي ولهذا لا يخرج من الإيمان بالكلية ولكن ينقص الكذب إيمانه ويرجع بالتوبة إلى أصله. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» (١). (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) إشارة إلى المريد المرتد بنسيم روائح نفحات الحق بمشام قلبه عند هبوبه ، واصطكاك أهوية عوالم الباطن ، وانخراق سحب حجب البشرية فلمع له برق أضاءت به آفاق سماء القلب وأشرقت أرض

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأدب باب : ٦٩. مسلم في كتاب البر حديث : ١٠٢ ـ ١٠٥. أبو داود في كتاب الأدب باب : ٨٠. الترمذي في كتاب البر باب : ٤٦. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب : ٧. الدارمي في كتاب الرقاق باب : ٧. أحمد في مسنده (١ / ٣٨٤ ، ٤١٠)

٣١٨

النفس ، فآمن بحقية الطلب واحتمال التعب فاستوقد نار الشوق والمحبة ، فلما أضاءت ما حوله وبذل في الاجتهاد جده وحوله هبت نكباء النكبات فصدئت مرآة قلبه ، وذهب الله بنوره وانخمدت نار الطلب وآل المشئوم إلى طبعه (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) على مباشرة فعل أو قول يخالف الطريقة من معاملات أهل الطبيعة فيوافقهم فيها في الظاهر ويخالفهم بالباطن حتى يخلص من شؤم صحبتهم (اسْتَحَبُّوا) اختاروا محبة الدنيا وشهواتها على محبة الله (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي) إلى حضرته (الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) بنعمته (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) عما أعدّ الله لعباده الصالحين. (هُمُ الْخاسِرُونَ) لأن الإغضاء عن العبودية يورث خسران القلوب عن مواهب الربوبية (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) نفوسهم وهواهم (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) بمخالفة أوامر الحق ونواهيه (ثُمَّ جاهَدُوا) النفوس بسيوف الرياضات (وَصَبَرُوا) على تزكيتها وتحليتها متمسكين بذيل إرادة الشيخ (يَوْمَ تَأْتِي) أرباب النفوس (تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) على قدر بقاء وجودها دفعا لمضارّها وجذبا لمنافعها حتى إن كل نبي يقول نفسي نفسي إلا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه فان بالكلية عن نفسه باق ببقاء ربه فيقول : أمتي أمتي لأنه مغفور ذنب وجوده المتقدم في الدنيا والمتأخر في الآخرة بما فتح الله له ليلة المعراج إذ واجهه بخطاب «سلام عليك أيها النبي» ففني عن وجوده بالسلام وبقي بوجوده بالرحمة ، فكان رحمة مهداة ببركاته إلى الناس كافة ، ولكن رفع الذلة من تلك الضيافة وجب لمتابعيه فلهذا قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. يعني الذين صلحوا لبذل الوجود في طلب المقصود (قَرْيَةً) هي قرية شخص الإنسان (كانَتْ آمِنَةً) أي آهلة وهو الروح الإنساني (مُطْمَئِنَّةً) بذكر الله (يَأْتِيها رِزْقُها) من المواهب (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) روحاني وجسماني (فَكَفَرَتْ) النفس الأمارة (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ) وهو انقطاع مواد التوفيق فأكلوا من جيفة الدنيا وميتة المستلذات (وَالْخَوْفِ) وهو خوف الانقطاع عن الله (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ) الوارد الرباني فما تخلقوا بأخلاقه (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من أنوار الشريعة وأسرار الطريقة (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) على عادة أهل الإباحة (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) أي تابوا (حَرَّمْنا) من موانع الوصول (ما قَصَصْنا عَلَيْكَ) في بدوّ نبوتك حتى كنت محترزا عن صحبة خديجة وتنحيت إلى حراء أسبوعا أو أسبوعين. (وَما ظَلَمْناهُمْ) بتحريم ذلك عليهم بل أنعمنا به عليهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالإعراض عنا بعد الإقبال علينا (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ممن له شركة مع الله في الوجود (اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) في الظاهر حتى يتبعك هو في الباطن ولهذا ذهب إلى ربه ماشيا (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٩٩] وأسري بمحمد راكبا (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١]

٣١٩

فهو خليل وأنت حبيب ، اتبعت الخليل في الدنيا فيتبعك الخليل في الآخرة «الناس محتاجون إلى شفاعتي يوم القيامة حتى إبراهيم عليه‌السلام». (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) النفس الأمارة (فَعاقِبُوا) أي بالغوا في عقابها بالفطام عن مألوفاتها (بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) من الانقطاع عن مواد التوفيق والمواهب. (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) على معاقبتهم (لَهُوَ خَيْرٌ) لأن عقاب الحبيب على قدر عقاب العدو وأعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك. (وَاصْبِرْ) على معاقبة النفس ومخالفة الهوى. (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) لأن الصبر من صفات الله ولا يقدر أحد أن يتصف بصفاته إلا به بأن يتجلى بتلك الصفة له. (وَلا تَحْزَنْ) على النفس وجنودها عند المعاقبة فإن فيها صلاح حالهم ومآلهم. (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) فإن مكرهم يندفع بمعونة الله عند الفرار إليه والله أعلم.

تم الجزء الرابع عشر ، ويليه الجزء الخامس عشر أوله تفسير سورة الإسراء

٣٢٠