تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

قتادة بالعكس منه. قال أهل النظم : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخوفهم بعذاب الدنيا تارة وهو القتل والاستيلاء عليهم كما حصل في يوم بدر ، وتارة بعذاب القيامة. ثم إن القوم لما لم يشاهدوا شيئا من ذلك أقبلوا على تكذيبه وكانوا يستعجلون ما وعدوا به استهزاء. وروي أنه لما نزلت (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] قال الكفار فيما بينهم : إن هذا يزعم أن القيامة قد اقتربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن. فلما تأخرت قالوا : ما نرى شيئا فنزلت (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء : ١] فأشفقوا وانتظروا قربها ، فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزلت (أَتى أَمْرُ اللهِ) فوثب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورفع الناس رؤوسهم فنزلت (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فاطمأنوا. والحاصل أن قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) جواب عن شبهتهم إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع كما يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها : جاءك الغوث فلا تجزع. أو المراد أن (أَمْرُ اللهِ) بذلك وحكمه قد وقع وأتى. فأما المحكوم به فإنما لم يقع لأنه تعالى حكم بوقوعه في وقت معين فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود فلا تستعجلوه ولا تطلبوا حصوله قبل حضور ذلك الوقت. ثم إن المشركين كأنهم قالوا : هب يا محمد أنا سلمنا صحة ما تقول من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا إما في الدنيا وإما في الآخرة إلا أنا نعبد هذه الأصنام لأنها شفعاؤنا عند الله فكيف نستحق العذاب بسبب هذه العبادة؟ فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) كما مر في أول سورة يونس. والمراد تنزيه نفسه عن الأضداد والأنداد وأن يكون لأحد من الأرواح والأجساد أن يشفع عنده إلا بإذنه ، أو يستعجل في حكم من أحكامه. أو قضية قبل أوانه. ثم إنهم كأنهم قالوا سلمنا أنه تعالى أن يقضي على طائفة باللطف وعلى الآخرين. بالقهر ولكن كيف صرت واقفا على أسرار الله تعالى في ملكه وملكوته دوننا ، من أين حصل لك هذا الفضل علينا؟ فأزال الله سبحانه شبهتهم بقوله : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) الآية. والمراد أن له بحكم المالكية أن يختص بعض عبيده بإنزال الوحي عليه ويأمره بأن يكلف سائر العباد بمعرفة توحيد الله وبعبادته ، فظهر بهذا البيان أن هذه الآيات منتظمة على أحسن الوجوه. قال الواحدي : روى عطاء عن ابن عباس أنه أراد بالملائكة هاهنا جبرائيل وحده ، وتسمية الواحد بالجمع إذا كان رئيسا مطاعا جائزة. وعلى هذا التفسير فالمراد بالروح كلام الله تعالى كقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] قال المحققون : الروح الأصلي هو القرآن الذي فيه بيان المبدأ والوسط والمعاد ، فبه يحصل إشراق العقل ، وبالعقل يكمل ضياء جوهر الروح ، وبالروح يكمل حال الجسد فهو الأصل والباقي فرع عليه وبهذه

٢٤١

المناسبة يسمى جبرائيل روحا وعيسى روحا. وعن أبي عبيدة أن الروح هاهنا جبرائيل ، والباء بمعنى «مع» أي تنزل الملائكة مع جبرائيل. وذلك أنه في أكثر الأحوال كان ينزل ومعه أقوام من الملائكة كما في يوم بدر وحنين ، وكان ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملك الجبال وملك البحار وخزان الجنة وغيرهم. قال في الكشاف : (بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) أي بما يحيي القلوب الميتة بالجهل من وحيه ، أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد وقال غيره : من أمره معناه أن ذلك التنزيل والنزول لا يكون إلا بأمر الله كقوله (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم : ٦٤] قال الزجاج : (أَنْ أَنْذِرُوا) بدل من «الروح» أي ينزلهم بأن أنذروا. و «أن» إما مفسرة لأن تنزيل الوحي فيه معنى القول ، وإما مخففة من الثقيلة وضمير الشأن مقدر أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا أي أعلموا الناس قولي : (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) وهو إشارة إلى استكمال القوة النظرية. وقوله : (فَاتَّقُونِ) رمز إلى استكمال القوة العملية ومنه يعلم أن النفس متى كملت من هاتين الجهتين حصل لها روح حقيقي وحياة أبدية وسعادة سرمدية. قال الإمام فخر الدين الرازي : إنا لا نعلم كون جبريل صادقا ولا معصوما من الكذب والتلبيس إلا بالدلائل السمعية ، وصحة الدلائل السمعية موقوفة على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصدقه يتوقف على أن هذا القرآن معجز من قبل الله لا من قبل شيطان خبيث ، والعلم بذلك يتوقف على العلم بأن جبرائيل صادق مبرأ عن التلبيس وأفعال الشياطين ، وحينئذ يلزم الدور وهذا مقام صعب. أقول : قد ذكرنا مرارا أن الفرق بين المعجز والسحر هو أن صاحب المعجز يدعو إلى الخير ، وصاحب السحر يدعو إلى الشر ، والفرق بين الملك والشيطان هو أن الملك يلهم بالخير ، والشيطان يوسوس بضده وإذا كان الأمر كذلك فكيف تشتبه المعجزة بالسحرة وجبرائيل بإبليس ومن أين يلزم الدور؟

ولما بين الله سبحانه أن روح الأرواح وروح الأجساد هو أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل أن يعمل به ، أتبعه دلائل التوحيد مبتدئا من الأشرف وهو السماويات إلى الأدون ـ وهو الأرضيات ـ فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) وقد مر تفسير مثله مرارا. وقوله : (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيه لذاته عمن يشاركه في الأزلية والقدم والتدبير والتأثير والصنع والإبداع. فالفائدة المطلوبة من هذا الكلام غير الفائدة المطلوبة من مثله في أول السورة كما ذكرنا فلا تكرار. ثم إن أشرف الأجسام بعد الفلكيات بدن الإنسان فلهذا عقب المذكور بقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) قالت الأطباء : إن الغذاء إذا وصل إلى المعدة حصل له هناك هضم ، وإذا وصل إلى الكبد حصل له فيها هضم ثان ، وفي العروق له هضم ثالث ، وفي جواهر الأعضاء هضم رابع ، وحينئذ يصير جزءا من العضو

٢٤٢

المغتذى شبيها به ، ثم عند استيلاء الحرارة على البدن وقت هيجان الشهوة يحصل ذوبان لجملة الأعضاء وتجتمع منه النطفة في أوعيتها ، وعلى هذا تكون النطفة جسما مختلفة الأجزاء والطبائع ، وإن كانت تخيل في الحس أنها متشابهة الأجزاء. وكيفما كان فالمقتضي لتولد البدن منها ليس هي الطبيعة الحاصلة لجوهر النطفة ودم الطمث ، لأن الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار ، والقوّة الطبيعية إذا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكرة. وعلى هذا الحرف عول الحكماء في قولهم : البسائط يجب أن تكون أشكالها الطبيعية في الكرة ، وإذا عملت في مادة مختلفة الأجزاء وكل مركب فإنه ينحل إلى بسائط فإنه يلزم أن يكون الحيوان على شكل كرات مضموم بعضها إلى بعض ، وكلا الأمرين غير مطابق للواقع ، فعلمنا أن حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاص ليس بالطبيعة وإنما هو بتدبير الفاعل المختار وهو الله سبحانه ، وكيف لا والنطفة رطوبة سريعة الاستحالة؟ فالأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة ، فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في الأسفل ، والجزء الذين هو مادة القلب قد يحصل في الفوق ، فلا يكون حدوث أعضاء الحيوان على هذا الترتيب الخاص دائما ولا أكثريا ، وحيث كان كذلك علمنا أن حدوثها بإحداث مدبر مختار. ثم إن نزلنا عن جميع هذه المراتب فلا خلاف بين الحكم وبين المتكلم أن الطبيعة خرقاء وأنها ليست واجبة الوجود لذاتها فلا بد من الانتهاء الى الصانع الحكيم الخبير. أما قوله : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) فقد ذكروا فيه وجهين : الأول فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مبين للحجة بعد أن كان نطفة لا حس به ولا حراك. وتقرير ذلك أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهما وذكاء من نفوس سائر الحيوانات ، ألا ترى أن ولد الدجاجة كما يخرج من البيضة يعرف الصديق من العدو فيهرب من الهرة ويلتجىء إلى الأم ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والذي لا يوافقه. وحال الطفل بخلاف ذلك فانتقاله من تلك الحالة الخسيسة إلى أن يقوى على معرفة الإلهيات والفلكيات والعنصريات وعلى إيراد الشكوك والشبهات على النتائج والمقدمات إنما يكون بتدبير إله مختار قدير ينقل الأرواح من النقصان إلى الكمال ومن الجهالة إلى المعرفة. الوجه الثاني أن المراد فإذا هو خصيم لربه منكر على خالقه قائل من يحيي العظام وهي رميم. فعلى الوجه الأول جوز أن يكون الخصيم «فعيلا» بمعنى «مفاعل» كالأكيل والشريب ، وأن يكون بمعنى مختصم ، وعلى الوجه الثاني تعين كونه بمعنى «مفاعل» والترجيح من الوجهين للأول بناء على أن هذه الآيات مسوقة لتقرير الدلائل على وجود الصانع الحكيم وقدرته لا لأجل وصف الإنسان بالتمادي في القحة والكفران. وقد يرجح الثاني بما روي أن أبيّ بن خلف الجمحي جاء بعظم رميم إلى

٢٤٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رم؟ فنزلت.

ثم أردف تكوين الإنسان بتكوين الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في ضروراته من الأكل والركوب وجر الأثقال وفي غير الضروريات من الأغراض الصحيحة كالتزيين والجمال فقال : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) هي الأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام وهي : الضأن والمعز والإبل والبقر. وإن شئت قلت : الإبل والبقر والغنم. قال في الكشاف : وأكثر ما يقع هذا اللفظ على الإبل. قلت : ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله بعد ذلك : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) لأن هذا الوصف لا يليق إلا بالإبل. وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر. ويجوز أن يكون معطوفا على (الْإِنْسانَ) أي خلق الإنسان والأنعام. ثم قال : (خَلَقَها لَكُمْ) أي ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان. قال صاحب النظم : وأحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله : (خَلَقَها) بدليل أنه عطف عليه قوله : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) والدفء اسم ما يدفأ به كالملء اسم ما يملأ به وهو الدفاء من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر. قال الجوهري : الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها ، والدفء أيضا السخونة. وقوله : (وَمَنافِعُ) قالوا : المراد نسلها ودرّها ، والمنافع بالحقيقة أعم من ذلك فقد ينتفع بها في البيع والشراء بالنقود والأثواب وبسائر الحاجات. أما قوله : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) بتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص فلأن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في مآكلهم عادة ، وأما الأكل من غيرها كالدجاج وصيد البر والبحر فكغير المعتد به الجاري مجرى التفكه ، ويحتمل أن يراد أن غالب أطعمتكم إنما يحصل منها لأنكم تحرثون بالبقر وتكتسبون بإكراء الإبل وتشترون بنتاجها وألبانها وجلودها جميع ما تشتهون من الأطعمة. قوله : (حِينَ تُرِيحُونَ) الإراحة رد الإبل إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلا ويقال : سرح القوم إبلهم سرحا إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى. وقدم الإراحة لأن الجمال فيها أظهر حين تقبل ملأى البطون حافلة الضروع ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها. قوله : (بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) من قرأ بفتح الشين فمعناه المشقة فيكون مصدر شق الأمر عليه شقا وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع ، ومن قرأ بالكسر فمعناه النصف كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد. قال جار الله : معنى المضي في قوله : (لَمْ تَكُونُوا) راجع إلى الفرض والتقدير : أي لو لم يخلق الإبل لم تكونوا إلا كذلك. وإنما لم يقل «لم تكونوا حامليها إلى ذلك البلد» ليطابق قوله : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) لأجل المبالغة كأنه قيل : قد علمتم أنكم لا تبلغونه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة وذهاب قوة فضلا أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم ويجوز أن يكون العائد إلى الأثقال محذوفا أي لم تكونوا

٢٤٤

بالغيها إلا بالشق ، أو المراد بالأثقال الأجساد ، عن ابن عباس أنه فسر البلد بمكة إلى اليمن وإلى الشام وإلى مصر. قال الواحدي : هذا قوله والمراد كل بلد لو تكلفتم بلوغه على غير إبل شق عليكم. وخص ابن عباس هذه البلاد لأنها أكثر متاجر أهل مكة (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) وإلا لم يخلق هذه الحوامل لأجل تيسير هذه المصالح. احتج منكرو الكرامات بالآية على امتناع طي الأرض كما ينقل عن بعض الأولياء. والجواب أن الامتناع العادي لا ينافي الإمكان الذاتي.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) معطوفات على الأنعام أي وخلق هؤلاء للركوب والزينة فانتصب على أنه مفعول له معطوف على محل (لِتَرْكَبُوها) وإنما لم يقل و «لتتزينوا بها» ليكون المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد لأن الركوب فعل المخاطبين ، وأما الزينة ففعل الزائن وهو الخالق. والتحقيق فيه أن الركوب أحد الأمور المعتبرة في المقصود بخلاف التزين بالشيء فإنه قلما يلتفت إليه أرباب الهمم العالية لأنه يورث العجب والتيه غالبا وكأنه قال : خلقتها لتركبوها فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة ، وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ولكنه غير مقصود بالذات. احتجت المعتزلة القائلون بأن أفعال الله معللة بالمصالح بأن قوله : (لِتَرْكَبُوها) يقتضي أن هذه الحيوانات مخلوقة لهذه المصلحة. والجواب أن استتباع الغاية والفائدة مسلم ولكن التعليل ممنوع. واحتج الحنفية بالآية على تحريم لحوم الخيل من وجوه : أحدها إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر فيجب اشتراك الكل في الحكم ، لكن البغال والحمير محرمان فكذا الخيل. وثانيها أن منفعة الأكل أعظم منة من الركوب والتزين فلو كان أكل لحم الخيل جائزا لكان هذا المعنى أولى بالذكر. وثالثها أن قوله فيما قبل : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) يقتضي الحصر فيجب أن لا يجوز أكل ما عدا الأنعام إلا بدليل منفصل والأصل عدمه. ورابعها أن قوله : (لِتَرْكَبُوها) يقتضي أن تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة هو الركوب والزينة ، فلو كان حل أكلها مقصودا لزم أن يكون ما فرض تمام المقصود بعض المقصود هذا محال. والجواب أن تحريم الخيل محل النزاع وتحريم الحمير بنص الكتاب ممنوع لما روي عن جماعة من الصحابة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عام خيبر عن لحوم الحمر الأهلية. فلو كان للآية دلالة على تحريم لحم الخيل لفهموه منها قبل ذلك العام لأن الآية مكية عند الأكثرين» ولو فهموا منها التحريم قبل ذلك لم يبق لتخصيص التحريم بهذه السنة فائدة. وإذا لم يكن الحمير والخيل محرمين لم يكن لتحريم البغال المتولدة منهما وجه. وأيضا كون معظم المنة في الأكل بالنسبة إلى هذه الأنواع ممنوع بل الركوب والزينة هما أعظم

٢٤٥

المنافع فيها ولهذا جعلا تمام المقصود منها ، فكأنما أعطى الأكثر والمعظم حكم الكل. واقتضاء الحصر في قوله : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ممنوع بل لعل الظرف قدم لرعاية الفاصلة. ثم إن أنواع الغرائب والعجائب المخلوقة في هذا العالم لا حد لها ولا حصر فلهذا أشار إلى ما بقي منها على سبيل الإجمال فقال : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي كنهه وتفاصيله بل نوعه وجنسه فإن مركبات العالم السفلي وغرائب العالم العلوي لا يعلمها إلا موجدها. روى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال : إن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة ، يدخل فيه جبرائيل عليه‌السلام كل سحر ويغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله ، ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل نقطة تقع من رأسه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور ، وفي الكعبة أيضا سبعون ألفا ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. وقيل : المراد ما خلق في الجنة والنار مما لم يبلغه فهم أحد ولا وهمه.

ولما ذكر بعض دلائل التوحيد بين أنه إنما ذكرها إزاحة للعذر وإزالة للشبهة ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة فقال : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) ذكر صاحب الكشاف أن السبيل للجنس والقصد مصدر بمعنى الفاعل يقال : قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه ، والجور الميل عن الاستقامة. احتجت المعتزلة بالآية على مسألتين من أصولهم : إحداهما أنه يجب على الله تعالى الإرشاد والهداية لأن كلمة ، «على» للوجوب والمضاف محذوف أي وعلى الله بيان قصد السبيل ؛ فالمعنى أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه. والثانية أنه لا يضل أحدا ولا يغويه وإلا لقيل وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها أو وعليه الجائر فلما غير أسلوب الكلام قائلا. (وَمِنْها جائِرٌ) دل على أنه أراد أن يبين ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز. والجواب عن الأول بعد تسليم إفادة كلمة «على» الوجوب أنه وجوب بحسب الفضل والكرم لا بمعنى استحقاق الذم على الترك. وعن الثاني أن دلالة قوله : (وَمِنْها جائِرٌ) على ما ذكرتم ليست دلالة المطابقة ولا التضمن ولا الالتزام ، لأن قول القائل «من السبيل سبل منحرفة» لا يفيد إلا الإخبار بوجود الانحراف في بعض السبل ، فأما أن فاعل تلك السبيل من هو فلا دلالة للكلام عليه أصلا على أن قوله : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) يناقض ما ادعيتم. وتفسير المشيئة بمشيئة الإلجاء والقسر أو بالهداية إلى الجنة خلاف الظاهر كما مر مرارا. ولما استدل على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال الحيوانات أراد أن يذكر الاستدلال على المطلوب بغرائب أحوال النبات فقال : (هُوَ

٢٤٦

الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) وقوله : (لَكُمْ) متعلق بأنزل أو بشراب خبرا له. والشراب ما يشرب كالطعام لما يطعم والمراد أن الماء النازل من السماء قسمان : بعضه يبقى لأجل الشرب كما هو ويحتمل أن يكون الماء المحتبس في الآبار والعيون منه كقوله : (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) [المؤمنون : ١٨] وبعضه يحصل منه شجر يرعاه المواشي. قال الزجاج : كل ما ينبت من الأرض فهو شجر لأن التركيب يدل على الاختلاط ومنه تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض ، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ وفيما له ساق. وقال ابن قتيبة : المراد بالشجر في الآية الكلأ. وفي حديث عكرمة : «لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت» أراد الكلأ. وقيل : الشجر كل ما له ساق كقوله : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦] والعطف يقتضي التغاير ، فلما كان النجم ما لا ساق له وجب أن يكون الشجر ما له ساق ، وأجيب بأن عطف الجنس على النوع جائز ، وبأن قوله : (فِيهِ تُسِيمُونَ) من سامت الماشية إذا رعت وأسامها صاحبها وهو من السومة العلامة لأنه تؤثر بالرعي علامات في الأرض يقتضي أن يكون الشجر هو العشب ليمكن الرعي. ورد بأن الإبل قد تقدر على رعي الأشجار الكبار. وحين ذكر مرعى الحيوان أتبعه ذكر غذاء الإنسان فقال : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ) الذي هو الغذاء الأصلي (وَالزَّيْتُونَ) الذي هو فاكهة من وجه وغذاء من وجه لكثرة ما فيه من الدهن (وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ) اللتين هما أشرف الفواكه. ثم أشار إلى الثمرات بقوله : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) كما أجمل الحيوانات التي لم يذكرها بقوله : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) قال في الكشاف : إنما لم يقل و «كل الثمرات» بل زاد «من» التبعيضية لأن كلها لا يكون إلا في الجنة. واعلم أنه قدم الغذاء الحيواني على الغذاء النباتي لأن النعمة فيه أعظم لأنه أسرع تشبيها ببدن الإنسان ، وفي ذكر الغذاء النباتي قدم غذاء الحيوان ـ وهو الشجر ـ على غذاء الإنسان ـ وهو الزرع وغيره ـ بناء على مكارم الأخلاق وهو. أن يكون اهتمام الإنسان بحال من تحت يده أكمل من اهتمامه بحال نفسه ، وإنما عكس الترتيب في قوله : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) بناء على ما هو الواجب في نفس الأمر كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول».

قوله : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) معنى تسخير هما للناس تصييرهما نافعين لهم بحسب مصالحهم على سنن واحد يتعاقبان دائما كالعبد المطواع ، وكذا الكلام في تسخير الشمس والقمر والنجوم كما في «الأعراف» وفي سورة إبراهيم. وهذا حسم لمادة شبهة من يزعم أن حركات الأفلاك هي المقتضية لتعاقب الليل والنهار ومسيرات الكواكب هي المستدعية للحوادث السفليات ، فإنه إن سلم لهم ذلك فلا بد لتلك الحركات والمسيرات

٢٤٧

من الانتهاء إلى صانع قديم منزه عن التغير والإمكان مبرإ عن الحدوث والنقصان وهو الله سبحانه. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) قال جار الله : جمع الآية وذكر العقل لأن آثار العلو أظهر دلالة على القدرة الباهرة وأبين شهادة للكبرياء والعظمة. وقال غيره : إنما جمع الآيات لتطابق قوله : (مُسَخَّراتٌ) ومثله في هذه السورة في موضع آخر (مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) [النحل : ٧٩] وأقول : إنما جمع لأن كلا من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم آية في نفسها لتباين الليل والنهار وتخالف مسيرات الكواكب كما هو مقرر في علم الهيئة بخلاف قوله (يُنْبِتُ لَكُمْ) فإن مطلق الإنبات آية واحدة. وكذا قوله : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي خلق لكم فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك : (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) فإن ذرء هذه الأشياء على حالة اختلاف الألوان والأشكال مع تساوي الكل في الطبيعة الجسمية وفي تأثير الفلكيات فيها ، آية واحدة على وجود الصانع تعالى شأنه ، ولست أدعي إلا إمكان هذه الاعتبارات وإلا : ففي كل شيء آية تدل على أنه واحد. وإنما خص المقام الأول بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة المذكورة ، وخص المقام الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة وإزاحة العلة ، فمن لم يعترف بعدها بالوحدانية فلا عقل له. وخص المقام الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة فمن شك بعد ذلك فلا حس له. ومن جملة الآيات التي هي في الحقيقة إنعامات على الإنسان تسخير البحر بالركوب عليه والانتفاع به أكلا ولبسا. والمراد باللحم الطريّ السمك. قال ابن الأعرابي : لحم طريّ غير مهموز ومصدره طراوة. يقال : شيء طريّ أي غض بين الطراوة. وقال قطرب : طرو اللحم وطري طراوة والمراد في الآية السمك وما في معناه. قال في الكشاف : وصفه بالطراوة لأن الفساد يسرع إليه فيسارع إلى أكله خيفة الفساد عليه. وقال المتكلمون : إنه لما خرج من البحر المالح الزعاق الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة ، علم أنه لم يحدث بحسب الطبع بل حدث بقدرة الله تعالى وحكمته بحيث أظهر الضد من الضد. قال أكثر الفقهاء ومنهم أبو حنيفة والشافعي : من حلف أن لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث لأن اللحم لا يتناوله عرفا. ومبنى الأيمان على العرف والعادة. ولهذا لو قال لغلامه : اشتر لحما فجاء بالسمك كان حقيقا بالإنكار عليه. ورد عليهم الإمام فخر الدين الرازي بأنه إذا قال لغلامه : اشتر لحما فجاء بلحم العصفور كان حقيقا بالإنكار مع أنكم تقولون إنه يحنث بأكل لحم العصفور ، فثبت أن العرف مضطرب والرجوع إلى نص القرآن متعين فليس فوق بيان الله بيان. ولقائل أن يقول : لعل الإنكار في هذه الصورة بعد تسليمه إنما جاء من قبل ندرة شراء العصفور أو شراء لحمه فإنه إنما يشترى كله ولم يجىء من إطلاق اللحم على لحمه. ومن منافع البحر استخراج الحلية منه

٢٤٨

قالوا : أراد بالحلية اللؤلؤ والمرجان ، والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأنهن من جملتهم ولأن تزيينهن لأجلهم. ولقائل أن يقول : لا مانع من تزيين الرجال باللئالئ ونحوها شرعا فلا حاجة إلى هذه التكلف. استدل الإمام فخر الدين بالآية في إبطال قول الشافعية إنه لا زكاة في الحلي قال : لأن اللام فيما يروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا زكاة في الحلي» تنصرف إلى المعهود السابق ولا معهود إلا ما في الآية من الحلية فصار معنى الحديث : لا زكاة في اللآلئ. وهذا باطل بالاتفاق. والقائل أن يقول : لم لا يجوز أن تكون اللام للجنس فتشمل المصوغ من الذهب والفضة أيضا فيكون الحديث مخصصا بالآية إن ثبت صحته؟

ومن عجائب البحر ومنافعه قوله سبحانه : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) قال أهل اللغة : مخر السفينة شقها الماء بصدرها. وعن الفراء أنه صوت دويّ الفلك بالرياح. وقال ابن عباس : مواخر أي جواري. وإنما حسن هذا التفسير لأنها لا تشق الماء إلا إذا كانت جارية. وقوله : (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي تتجروا فيه فتطلبوا الربح من فضل الله وإذا وجدتم فضله وإحسانه فلعلكم تقدمون على شكره. واعلم أن قوله : (مَواخِرَ فِيهِ) جاء على القياس لأن موضع الظرف المتعلق بمواخر بعد مضي مفعولي «ترى» ، وأما في سورة الملائكة فقدم الظرف ليكون موافقا لقوله : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ) ولتقدم الجار في قوله : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ) حذف لفظة «منه» هناك. الواو في (وَلِتَبْتَغُوا) في هذه السورة للعطف على لام العلة في (لِتَأْكُلُوا) وقوله : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) اعتراض في السورتين يجري مجرى المثل ولهذا وحد الخطاب في قوله : (وَتَرَى) وقبله وبعده جمع أي لو حضرت أيها المخاطب لرأيته بهذه الصفة. ويمكن أن يقال : إنما قال في الملائكة (فِيهِ مَواخِرَ) بتقديم الظرف لئلا يفصل بين لام العلة وبين متعلقها وهو مواخر ، وليكتنف المتعلق المتعلقان. وإنما بنينا الكلام على أن قوله : (فِيهِ) متعلق بـ (مَواخِرَ) لا بـ (تَرَى) لقرب هذا وبعد ذاك والله أعلم. قوله : (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي كراهة أن تميد الأرض بكم والباء للتعدية أو للمصاحبة. والميد الحركة والاضطراب يمينا وشمالا. يروى أنه تعالى خلق الأرض فجعلت تمور فقالت الملائكة : ما هي بمقرّ على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت. قال جمهور المفسرين : إن السفينة إذا ألقيت على وجه الماء فإنها تميل من جانب إلى جانب وتضطرب ، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة في تلك السفينة استقرت على وجه الماء فهكذا الأرض تستقر على الماء بسبب ثقل الجبال. واعترض عليه بأن السفينة إنما تضطرب على الماء لتخلخلها وخفتها بسبب الهواء الداخل في تجاويف الخشب ومسامها ، أما الأرض فجسم كثيف ثقيل من شأنها الرسوب

٢٤٩

في الماء على ما هو مشاهد من حال أجزائها المنفصلة عنها. فإن كان طبيعة الكل كذلك فكيف يعقل طفوّها حتى توجب الجبال إرساءها وثباتها ، وإن لم تكن طبيعة الكل كذلك حتى تكون طافية مائدة وقد أرساها الله تعالى بالجبال ، فالرسو والرسوخ إنما يتصور على جسم واقف وليس إلا الماء فينقل الكلام إلى وقوف الماء في حيزه المعين. فإن كان بحسب الطبيعة فهذا خلاف التقدير لأنا نفينا القول بالطبائع الموجبة لهذه الأحوال ، وإن لم يكن بالطبع بل كان واقفا بتخليق الفاعل المختار وتسكينه في حيزه المخصوص فلم لا نقول مثله في تسكين الأرض؟ هذا تلخيص ما قاله الإمام فخر الدين الرازي ، ونسب المقام إلى الصعوبة والإشكال واستخرج لحله وجها مبنيا على قوانين الحكمة ، وهو أن الأرض جسم كروي ، والكرة إذا كانت صحيحة الاستدارة فإنها تتحرك بأدنى سبب ، فلما أحدث الله سبحانه على وجه الكرة هذه الخشونات الجارية مجرى الأوتاد منعتها عن السلاسة والحركة. قلت : في هذا الحل خلل. أما أولا فلكونه مبنيا على غير قواعد أهل التفسير ، وأما ثانيا فلما ثبت في الحكمة أن نسبة أعظم جبل في الأرض وهو ما ارتفاعه فرسخان وثلث فرسخ إلى جميع الأرض كنسبة خمس سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع ، ولا ريب أن ذلك القدر من الشعيرة لا يخرج الكرة المذكورة عن صحة الاستدارة بحيث يمنعها عن سلاسة الحركة ، فكذا ينبغي أن يكون حال الجبال بالنسبة إلى كرة الأرض. والجواب الصحيح على قاعدة أهل الشرع أن يقال : لا نسلم أن الأرض بكليتها لها طبيعة موجبة لحالة من الأحوال ، وعلى تقدير التسليم فلا نسلم أن لها طبيعة الرسوب بل لعل طبيعتها الطفو فلهذا احتاجت إلى الرواسي. وأما قوله : «لم أوقف الله الماء في حيزه ولم يوقف الأرض من غير إرساء» فلا يخفى سقوطه مع القول بالفاعل المختار ، فللوسائط والأسباب مدخل في الأمور العادية ، وإن لم نقل بتأثيرها ، هذا وإن حركة الأرض عند الزلازل لا تنافي حكم الله بعدم اضطرابها لأن إثبات الحركة لجزء الشيء لا ينافي نفيها عن كله. وشبهوا الزلزلة وهي حركة قطعة من الأرض لاحتقان البخارات في داخلها وطلبها المنفذ باختلاج يحصل في جزء معين من بدن الحيوان.

قوله سبحانه : (وَأَنْهاراً) معطوف على (رَواسِيَ) أي وجعل فيها رواسي وأنهارا لأن الإلقاء هاهنا بمعنى الجعل والخلق كقوله : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩] وكذا قوله (وَسُبُلاً) أي أظهرها وبينها لأجل أن تهتدوا بها في أسفاركم. ولما ذكر أنه أظهر في الأرض سبلا معينة ذكر أنه أظهر في تلك السبل علامات مخصوصة وهي كل ما يستدل به السابلة من جبل وسهل وغير ذلك. يحكى أن جماعة يشمون التراب فيعرفون به

٢٥٠

الطرقات. قال الأخفش : تم الكلام عند قوله : (وَعَلاماتٍ) وقوله (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) كلام منفصل عن الأول. والمراد بالنجم الجنس كما يقال : كثر الدرهم في أيدي الناس. وعن السدي هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي. قال بعض المفسرين : أراد بقوله (هُمْ يَهْتَدُونَ) أهل البحر لتقدم ذكر البحر ومنافعه ، وقيل : أراد أعم من ذلك فأهل البر أيضا قد يحصل لهم الاهتداء بالنجوم في الطرق والمسالك ، وفي معرفة القبلة ، وإنما جيء بالضمير الغائب لعوده إلى السائرين الدال عليهم ذكر السبل. وقال في الكشاف : كأنه أراد قريشا فقد كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم وكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم فخصصوا بتقديم النجم. وإقحام لفظ (هُمْ) كأنه قيل : وبالنجم خصوصا هؤلاء يهتدون. ثم لما عدد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته واتصافه بجميع صفات الكمال أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) أي كالأصنام التي لا تخلق شيئا إلا أنه أجراها مجرى أولي العلم فأطلق عليها لفظ «من» التي هي لأولي العقل بناء على زعمهم أنها آلهة ، أو لأجل المشاكلة بينه وبين من يخلق ، أو أراد أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده ، أو أراد كل ما عبد من دون الله مغلبا فيه أولو العلم منهم. واعلم أن أهل البيان يقولون : إن المشبه به يجب أن يكون أقوى وأتم في وجه الشبه من المشبه ليلتحق الأضعف بالأقوى في وجه الشبه كقولك «وجهه كالقمر». ولا ريب أن الخالق أقوى من غير الخالق فكان حق النظم في الظاهر أن يقال : أفمن لا يخلق كمن يخلق. والقرآن ورد على العكس. ووجهه عند العلماء زيادة التوبيخ ليكون كأنهم جعلوا غير الخالق أقوى حالا وأعرف من الخالق. قال في الكشاف : إنهم جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبهوه بها حين جعلوا غيره مثله في التسمية والعبادة فأنكر عليهم ذلك ، ولوضوح كون هذا الأمر منكرا عند من له أدنى عقل بل حس قال (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) وفيه مزيد توبيخ وتجهيل لأنه لجلائه كالحاصل الذي يحصل عند العقل بأدنى تذكر ومع ذلك هم عنه غافلون. قال بعض الأشاعرة. في الآية دلالة على أن العبد غير خالق لأفعال نفسه لأن الآية سيقت لبيان امتيازه بصفة الخالقية. أجابت المعتزلة بأن المراد أفمن يخلق ما تقدم ذكره من السموات والأرض والإنسان والحيوان والنبات والبحار والجبال والنجوم. أو نقول : معنى الآية أن كل ما كان خالقا يكون أفضل ممن لا يكون خالقا ، وهذا القدر لا يدل على أن كل من كان خالقا فإنه يجب أن يكون إلها نظيره قوله : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) [الأعراف : ١٩٥] أراد به أن الإنسان أفضل من الصنم والأفضل لا

٢٥١

يليق به عبادة الأخس فكذا هاهنا. وقال الكعبي في تفسيره : نحن لا نطلق لفظ الخالق على العبد ومن أطلق ذلك فقد أخطأ إلا في مواضع ذكرها الله تعالى كقوله : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) [المائدة : ١١٠] فعلى هذا لا يتوجه عليهم السؤال إلا أن أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حتى إن أبا عبد الله البصري قال : إطلاق لفظ الخالق على العبد حقيقة وعلى الله مجاز لأن الخلق عبارة عن التقدير وهو الظن والحسبان. ثم لما فرغ من تعديد الآيات التي هي بالنسبة إلى المكلفين نعم قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) وقد مر تفسيره في سورة إبراهيم. قال العقلاء : إن كل جزء من أجزاء البدن الإنساني لو ظهر فيه أدنى خلل لنغص العمر على الإنسان وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل. ثم إنه سبحانه يدبر أحوال بدن الإنسان على الوجه الملائم له غالبا مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك الجزء ولا بمصالحه ومفاسده ، فليكن هذا المثال حاضرا في ذهنك وقس عليه سائر نعم الله تعالى حتى تعرف تقصيرك وقصورك عن شكر أدنى نعمة فضلا عن جميعها ، ولهذا ختم الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر التقصير الصادر عنكم في أداء شكر النعمة ويرحمكم حيث لا يقطعها عنكم بالتفريط ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها. كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله يسرون ضروبا من الكفر والمكايد في حق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأوعدهم بقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) وفيه أيضا تعريض وتوبيخ بسبب أن الإله يجب أن يكون عالما بالسر والعلانية ، والأصنام التي عبدوها جمادات لا شعور لها أصلا فكيف يحسن عبادتها.

ثم زاد في التوبيخ فقال : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) أي الآلهة الذين يدعونهم الكفار (مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) وقد ذكر هذا المعنى في قوله : (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) وزاد هاهنا قوله : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي بخلق الله أو بالنحت والتصوير وهم لا يقدرون على نحو ذلك فهم أعجز من عبدتهم ، ففي هذه الآية زيادة بيان لأنه نفى عنهم صفة الكمال وأثبت صفة النقصان. وكذلك قوله : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) يستلزم ذمهم مرتين لأن من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطفة والجسد الإنساني الذي فارقه الروح ، وأما الحجارة فأموات لا تقيل الحياة أصلا. وفيه أن الإله الحق يجب أن يكون حيا لا يعقبه موت وحال هذه الأصنام بالعكس. وفيه أن هؤلاء الكفار في غاية الغباوة وقد يقرر المعنى الواحد مع الغبي الجاهل بعبارتين مختلفتين تنبيها على بلادته (وَما يَشْعُرُونَ) الضمير فيه للآلهة. أما الضمير في (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) فإما للآلهة أيضا ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار ، وإما للداعين أي لا يشعر

٢٥٢

الآلهة متى يبعث عبدتهم فيكون فيه تهكم بالمشركين من حيث إن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم؟! وفيه أنه لا بد من البعث وأنه من لوازم التكليف ، وإما للأحياء أي لا يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء تهكما بحالها لأن شعور الجماد محال فكيف بشعور ما لا يعلمه حي إلا الحي القيوم سبحانه؟ وجوز في الكشاف أن يراد بالذين يدعوهم الكفار الملائكة ، فإن ناسا منهم كانوا يعبدونهم. ومعنى أنهم (أَمْواتٌ) أي لا بد لهم من الموت (غَيْرُ أَحْياءٍ) أي غير باقية حياتهم ولا علم لهم بوقت بعثهم. ولما زيف طريقة عبدة الأصنام صرح بما هو الحق في نفس الأمر فقال : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ثم ذكر ما لأجله أصر الكفار على شركهم فقال : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) للوحدانية أو لكل كلام يخالف هواهم (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن قبول الحق وذلك أن المؤمن بالبعث والجزاء يؤثر فيه الترغيب والترهيب فينقاد للحق أسرع ، وأما الجاحد للمعاد فلا يقبل إلا ما يوافق رأيه ويلائم طبعه فيبقى في ظلمة الإنكار (لا جَرَمَ) أي حقا (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) فيجازيهم على ما أسروا من الاستكبار وأعلنوا من العناد (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) عن التوحيد فيختص بالمشركين أو كل مستكبر فيدخل هؤلاء دخولا أوّليا لأن الكلام فيهم.

التأويل : الناس طبقات ثلاث : الغافلون والخطاب معهم بالعتاب إذا كانوا مشتاقين إلى الدنيا وزخارفها وهم أصحاب النفوس ، والعاقلون والخطاب معهم بوعد الثواب لرغبتهم في الطاعات والأعمال الصالحات وهم أرباب العقول ، والعاشقون والخطاب معهم بوصل رب الأرباب لاشتياقهم إلى جمال ذي الجلال. فحين قال في الأزل (أَتى أَمْرُ اللهِ) استعجل أرواح كل طبقة منهم للخروج من العدم إلى الوجود لنيل المقصود وطلب المفقود فخاطبهم بقوله : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فإنه سيصيب كل طبقة منكم ما كتب له في القسمة الأزلية. والله سبحانه منزه عن أن يشاركه في الحكم أحد فلا مبدل لكلماته. (بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) أي بما يحيي القلوب من المواهب الربانية من أمره الوارد على الجوارح بالتكاليف الشرعية وعلى النفوس بآداب الطريقة ، وعلى القلوب بالإشارات ، وعلى الأرواح بملازمة الحضرة للمكاشفات ، وعلى الأسرار بالمراقبات للمشاهدات وعلى الخفيات بتجلي الصفات لإفناء الذوات. (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) من الأنبياء والأولياء (أَنْ أَنْذِرُوا) أعلموا أوصاف وجودكم ببذلها في أنانيتي (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) عن أنانيتكم بأنانيتي. (خَلَقَ) سموات الأرواح وأرض الأشباح وجعلها مظهرا لأفاعيله ، فهو الفاعل لما يظهر على الأرواح والأشباح (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) الأرواح والأشباح في إحالة

٢٥٣

أفاعيله إلى غيره (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) لا علم لها ولا فعل (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) يدعي الشركة معه في الوجود. والأفاعيل والأنعام أي الصفات الحيوانية (خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) لأنها المودعة في جبلتكم (وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) باستفادة بدل ما يتحلل (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) في أوقات الفترات وأزمنة الاستراحات (وَتَحْمِلُ) أثقال أرواحكم وهي أعباء الأمانة إلى بلد عالم الجبروت (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). إذا أفنيتم أنفسكم في جبروته يبقيكم ببقاء عظموته (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) أي صفاتها خلقت فيكم لأنها مراكب الروح عند السير إلى عالم الجبروت (وَزِينَةً) عند رجوعه بالجذبة إلى مستقره الذي أهبط منه (وَيَخْلُقُ) فيكم حينئذ (ما لا تَعْلَمُونَ) وهو قبول فيض الله بلا واسطة. (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) بجذبة (ارْجِعِي) (وَمِنْها جائِرٌ) يعني نفوسكم تحيد عن الفناء وبذل الوجود (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ) من سماء الكرم ماء الفيض (مِنْهُ شَرابٌ) المحنة لقلوبكم (وَمِنْهُ شَجَرٌ) القوى البشرية ودواعيها (فِيهِ) ترعون مواشي نفوسكم (يُنْبِتُ لَكُمْ) زرع الطاعات وزيتون الصدق ونخيل الأخلاق الحميدة وأعناب الواردات الربانية ، ومن كل ثمرات المعقولات والمشاهدات والمكاشفات. (وَسَخَّرَ لَكُمُ) ليل البشرية ونهار الروحانية وشمس الروح وقمر القلب ونجوم الحواس والقوى ، وتسخيرها استعمالها على وفق الشريعة وقانون الطريقة (وَما ذَرَأَ لَكُمْ) في أرض جبلتكم من الاستعدادات يتلون في كل عالم بلونه من عوالم الملكية والشيطانية والحيوانية و (سَخَّرَ) لكم بحر العلوم (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ) الفوائد الغيبية السنية الطريقة (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ) جواهر المعاني فيلبس بها أرواحكم النور والبهاء. وترى فلك الشرائع والمذاهب جواري في بحر العلوم لتبتغوا الأسرار الخفية عن الملائكة. وألقى في أرض البشرية جبال الوقار والسكينة لئلا تميد بكم صفات البشرية عن جادّة الشريعة والطريقة ، وأنهارا من ماء الحكمة وسبلا إلى الهداية والعناية ، وعلامات من الشواهد والكشوف ، وبنجم الجذبة الإلهية هم يهتدون فيخرجون من ظلمات الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي. أفمن يخلق الله فيه هذه الكمالات كمن لا يخلقها فيه من الملائكة وغيرهم (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤] وهي قسمان : نعمة الأعطاف وهي ما يتعلق بوجود النعمة ظاهرة وباطنة ، ونعمة الألطاف وهي ما يتعلق بوجود المنعم من الذوات والصفات (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) من أداء شكر نعمه بالقلوب (وَما تُعْلِنُونَ) من أداء الشكر بالأجساد (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الهوى والدنيا (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) من المنافع (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) بتعب الطلب في تحصيلها ولهذا قال : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ) يبعثها دواعي البشرية (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) بما في عالم

٢٥٤

الغيب (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) لأهل الحق لأنهم لا يتجاوزون عالم الحس يعلم ما يسرون من الإنكار وما يعلنون من الاستكبار. الله حسبي.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢))

القراآت : شركاي مثل (هُدايَ) زمعة عن ابن كثير والخزاعي عن البزي. وقرأ الخزاز عن هبيرة (شُرَكائِيَ الَّذِينَ) مرسلة الياء ، الباقون بفتح الياء وكذلك في «الكهف»

٢٥٥

و «القصص». (تُشَاقُّونَ) بكسر النون : نافع ، الآخرون بفتحها (تَتَوَفَّاهُمُ) وما بعده بالإمالة : حمزة وخلف (لا يَهْدِي) بفتح الياء وكسر الدال : عاصم وحمزة وعلي وخلف ، الباقون بضم الياء وفتح الدال. (كُنْ فَيَكُونُ) بالنصب : ابن عامر وعلي ، الباقون بالرفع.

الوقوف : (رَبُّكُمْ) لا لأن ما بعده جواب «إذا» (الْأَوَّلِينَ) ه لا لتعلق اللام (يَوْمَ الْقِيامَةِ) لا لأن قوله (وَمِنْ أَوْزارِ) مفعول (لِيَحْمِلُوا) ط (بِغَيْرِ عِلْمٍ) ط (ما يَزِرُونَ) ه (ما يَشْعُرُونَ) ه (فِيهِمْ) ط (الْكافِرِينَ) ه لا بناء على أن ما بعده صفة (أَنْفُسِهِمْ) ص لطول الكلام (مِنْ سُوءٍ) ط (تَعْمَلُونَ) ه (خالِدِينَ فِيها) ط (الْمُتَكَبِّرِينَ) ه (أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) ط (خَيْراً) ط (حَسَنَةٌ) ط (خَيْرٌ) ط (الْمُتَّقِينَ) ه لا لأن ما بعده بدل (يَشاؤُنَ) ط (الْمُتَّقِينَ) ه (طَيِّبِينَ) ه لا لأن ما بعده حال آخر. (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) لا لأن قوله : (ادْخُلُوا) مفعول (يَقُولُونَ تَعْمَلُونَ) ه (أَمْرُ رَبِّكَ) ط (مِنْ قَبْلِهِمْ) ط (يَظْلِمُونَ) ه (يَسْتَهْزِؤُنَ) ه (مِنْ شَيْءٍ) الثاني ط (مِنْ قَبْلِهِمْ) ج للاستفهام مع الفاء (الْمُبِينُ) ه (الطَّاغُوتَ) ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى (الضَّلالَةُ) ط (الْمُكَذِّبِينَ) ه (ناصِرِينَ) ه (أَيْمانِهِمْ) لا لأن ما بعده جواب القسم (يَمُوتُ) ط (لا يَعْلَمُونَ) ه لا لتعلق لام كي (كاذِبِينَ) ه (فَيَكُونُ) ه (حَسَنَةً) ط (أَكْبَرُ) م لأن جواب «لو» محذوف أي لو كانوا يعلمون لما اختاروا الدنيا على الآخرة ، ولو وصل لصار قوله : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) متعلقا بشرط «أن» (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) وهو محال (يَعْلَمُونَ) ه لا بناء على أن (الَّذِينَ صَبَرُوا) بدل (الَّذِينَ هاجَرُوا يَتَوَكَّلُونَ) ه.

التفسير : لما بالغ في تقرير دلائل التوحيد أراد أن يذكر شبهات منكري النبوة مع أجوبتها. فالشبهة الأولى أنهم طعنوا في القرآن وعدّوه من قبيل الأساطير. قال النحويون : «ماذا» منصوب بأنزل بمعنى أي شيء أنزله ربكم ، أو «ما» مبتدأ و «ذا» موصولة ، والجملة صلتها ، والمجموع خبر المبتدأ ، وعلى التقديرين : فقوله : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) بالرفع ليس بجواب للكفار وإلا لكان المعنى الذي أنزله ربنا أساطير الأوّلين والكفار لا يقرون بالإنزال فهو إذن كلام مستأنف أي ليس ما تدّعون إنزاله منزلا بل هو أساطير الأولين. وقال في الكشاف : معناه المنزل أساطير الأوّلين وذكر في دفع التناقض أنه على السخرية كقوله : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧] وجوز كونه منصوبا ولم يقرأ به. واختلفوا في السائل فقيل : هو كلام بعضهم لبعض. وقيل : هو قول المسلمين لهم وقيل : هو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سألهم

٢٥٦

وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : أحاديث الأوّلين وأباطيلهم ، ليس فيه شيء من العلوم والفصاحة والحقائق والدقائق. ثم إنه تعالى اقتصر في جواب شبههم على محض الوعيد لأنه قد ثبت بالتحدي كما مر ذكره مرارا أن القرآن معجز تحدوا بالقرآن جملة ثم بعشر سور ثم بسورة فعجزوا عن المعارضة فكان طعنهم فيه بعد ذلك مجرد المكابرة والعناد فلم يستحقوا في الجواب إلا التهديد والوعيد. واللام في قوله : (لِيَحْمِلُوا) ليس لام الغرض لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير لغرض حمل الأوزار ، ولكن لما كانت عاقبتهم ذلك حسن التعليل به فكان لام العاقبة. وقوله : (كامِلَةً) معناه أنه تعالى لا يخفف من عقابهم شيئا ، وفيه دليل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين لأن هذا المعنى لو كان حاصلا في حق الكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة. قال الواحدي : لفظة «من» في قوله : (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ) ليست للتبعيض فإنه لا يخفف عن الأتباع بعض أوزارهم لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيما داع دعا إلى الضلال فاتبع كان عليه وزر من اتبعه لا ينقص من آثامهم شيء» (١) ولكنها للابتداء أي ليحملوا ما قد نشأ من أوزار الاتباع ، أو للبيان أي ليحملوا ما هو من جنس أوزار تبعهم. ومعنى (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أن هؤلاء الرؤساء إنما يقدمون على هذا الإضلال جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال. وقال في الكشاف : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال. وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل. ثم أوعدهم بما هو النهاية في التهديد فقال : (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) وزرهم. ثم حكى حال أضرابهم من المتقدمين فقال : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به نمروذ بن كنعان بنى صرحا عظيما ببابل طوله خمسة آلاف ذراع ـ وقيل فرسخان ـ ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا ، وألقت رأس الصرح في البحر فأحدث نمروذ وتبلبلت يومئذ ألسن الناس من الفزع فتكلموا بثلاثة وتسعين لسانا ولذلك سميت ببابل ، وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية ، وابتلاه الله ببعوضة دخلت دماغه والحكاية مشهورة. والأصح أن الآية عامة في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضرر بالمحقين. وعلى القول الأوّل معنى قوله : (فَأَتَى اللهُ) أي أمره وحكمه (بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) وهي أساطين البناء التي تعمده أو الأساس أنه أسقط

__________________

(١) رواه مسلم في الزكاة حديث : ٧٠. الترمذي في كتاب العلم باب : ١٦. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب : ١٤. أحمد في مسنده (٥ / ٣٨٧) بغير هذا اللفظ.

٢٥٧

السقف عليهم بعد هدم القواعد. وفائدة زيادة قوله : (مِنْ فَوْقِهِمْ) التنصيص على أن الأبنية تهدمت وهم ماتوا تحتها ، وعلى الثاني يكون الكلام محض التمثيل والمراد أنهم سوّوا منصوبات وحيلا ليمكروا بها رسل الله ، فجعل الله هلاكهم في تلك الحيل كحيل قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين ، فأتي البنيان من الأساطين بأن ضعفت فسقط عليهم السقف فهلكوا ونحوه «من حفر بئرا لأخيه فقد وقع فيه» وبعبارة أخرى «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا».

ثم بين أن عذابهم غير مقصور على عذاب الدنيا بل الله تعالى يخزيهم يوم القيامة بإدخالهم النار (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران : ١٩٢] (وَيَقُولُ) مع ذلك لأجل الإهانة والتوبيخ (أَيْنَ شُرَكائِيَ) الإضافة لأدنى الملابسة أو هي حكاية لإضافتهم استهزاء وتوبيخا (الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ) تخاصمون المؤمنين في شأنهم. ومن قرأ بكسر النون فعلى حذف ياء المتكلم لأن مشاقة المؤمنين مشاقة الله. ثم ذكر على سبيل الاستئناف (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) عن ابن عباس هم الملائكة. وقال الآخرون : هم الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يعظونهم ولا يلتفتون إليهم فيقولون ذلك يوم القيامة شماتة بهم. قالت المرجئة قولهم : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) يدل على أن ماهية الخزي والسوء مختص بالكافرين فينتفي عن غيرهم. أما قوله : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) فعن ابن عباس : المراد أنهم أسلموا وأقروا بالعبودية عند الموت. وقيل : إنه في يوم القيامة. وقولهم : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) أرادوا الشرك قالوه على وجه الكذب والجحود ، ومن لم يجوز الكذب على أهل القيامة قال : أرادوا في اعتقادهم وظنونهم فرد عليهم أولو العلم أو الملائكة بقولهم : (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا فلا ينفعكم هذا الكذب وإنه يجازيكم على الكفر الذي علمه منكم. قال في الكشاف : وهذا أيضا من الشماتة وكذلك (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) وفي ذكر الأبواب إشارة إلى تفاوت منازلهم في دركات جهنم. ثم قال : (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) عن قبول التوحيد وسائر ما أتت به الأنبياء. والفاء للعطف على فاء التعقيب في (فَادْخُلُوا) واللام للتأكيد يجري مجرى القسم موافقة لقوله بعد ذلك (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) ولا نظير لهما في كل القرآن. ثم أتبع أوصاف الأشقياء أحوال السعداء فقال : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الآية. وإنما ذكر الجواب هاهنا بالنصب ليكون الجواب مطابقا مكشوفا بينا من غير تلعثم أي أنزل خيرا أو (قالُوا خَيْراً) لا شرا كما قاله الكفار ، أو قالوا قولا خيرا ولو رفعوا لأوهم أنه كلام مستأنف كما في جواب الكفار وليس بمنزل. روي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام

٢٥٨

الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا جاء الوافد كفه المقتسمون وأمروه بالانصراف كما مر ، فكان الوافد يقول : كيف أرجع إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه. فيلقى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويخبرونه بصدقه وأنه نبي مبعوث فهم الذين قالوا خيرا. وجوّز في الكشاف أن يكون (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) وما بعده بدلا من (خَيْراً) كأنه فسر الخبر بهذا القول ، وجوّز أن يكون كلاما مبتدأ على سبيل الوعد فيكون قولهم الخير من جملة إحسانهم. أما قوله (فِي هذِهِ الدُّنْيا) فإما أن يتعلق بما قبله فالمعنى : الذين جاءوا بالإحسان في هذه الدنيا لهم في الآخرة (حَسَنَةٌ) هي الثواب العظيم أو المضاعف إلى سبعمائة أو أكثر ، وإما أن يتعلق بما بعده والتقدير : الذين أحسنوا لهم الحسنة في الدنيا باستحقاق المدح والثناء ، أو بالظفر على أعداء الدين باللسان والسنان وفتح البلاد ، أو بفتح أبواب المكاشفات والمشاهدات. والحاصل أن لهم في الدنيا مكافأة بإحسانهم. (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) منها. ثم بين الخيرية بقوله : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) دار الآخرة فحذف المخصوص بالمدح لتقدم ذكره.

ثم قال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي هي هذه فيكون المبتدأ محذوفا أو الجنات مبتدأ وما بعدها خبر أو (جَنَّاتُ عَدْنٍ) هي المخصوص بالمدح. فالجنات يدل على القصور والبساتين ، والعدن على الدوام والإقامة. وقوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) على أنه حصل هناك أبنية مرتفعة هم عليها والأنهار تجري من تحتهم. وقوله : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) أبلغ من قوله في موضع آخر (فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) [الزخرف : ٧١] وفي تقديم الظرف دلالة على أن الإنسان لا يجد كل ما يريده إلا في الجنة. وقوله : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أكثر المفسرين على أن هذا التوفي هو قبض الأرواح. وقوله : (طَيِّبِينَ) أي طاهرين عن دنس الكفر والمعاصي أو دنس الكفر وحده ، وهذه كلمة جامعة تشمل أنواع البراءة عن العلائق الجسمانية فلا يكون لصاحب هذه الحالة تألم بالموت دليله قوله : (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) يروى أنه إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فيقول : السلام عليك يا ولي الله ، الله يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة فذلك قوله : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وعن الحسن أن المراد بهذا التوفي هو وفاة الحشر لأنه لا يقال عند قبض الروح في الدنيا ادخلوا الجنة. والأولون قالوا : البشارة بالجنة بمنزلة الدخول فيها.

قوله سبحانه : (هَلْ يَنْظُرُونَ) قيل : إنه جواب شبهة أخرى لمنكري النبوة فإنهم طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزل عليهم ملكا من السماء يشهد على صدقه في ادّعاء النبوة فقال

٢٥٩

تعالى : هل ينظرون في تصديق نبوتك (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) شاهدين بذلك. ويحتمل أن يقال : إنهم لما طعنوا في القرآن بأنه أساطير الأولين أوعدهم الله تعالى بما أوعد ، ثم وصف القرآن بكونه حقا وصدقا وذكر جزاء المتقين ، ثم ذكر أن أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم بسبب البيانات التي ذكرناها إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد أو لقبض الأرواح أو أتاهم أمر ربك وهو العذاب المستأصل أو القيامة (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فأصابهم الهلاك المعجل (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بتدميرهم فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي جزاء سيئات أعمالهم أو هو من باب الطباق والمشاكلة كقوله (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] (وَحاقَ بِهِمْ). أي نزل بهم على وجه الإحاطة عقاب استهزائهم. الشبهة الثالثة لمنكري النبوة أنهم تشبثوا بمسألة الجبر فقالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا) الآية. وقد مر في تفسير مثلها في آخر سورة الأنعام ، وذكرنا أسرار المتشابه هناك وكذا استدلال المعتزلة بها وجواب الأشاعرة عنها. وزاد بعض الأشاعرة فقالوا : إن المشركين ذكروا هذا الكلام على جهة الاستهزاء كما قال قوم شعيب (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : ٨٧] ولو قالوا ذلك معتقدين كانوا مؤمنين. وقال آخرون : إنه سبحانه أجاب عن شبهتهم وهي أنه لما كان الكل من الله كان بعثه الأنبياء عبثا بقوله : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني أنهم اعترضوا على أحكام الله وطلبوا لها العلة فعل من تقدمهم من الكفرة (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي ما عليهم إلا التبليغ فإما تحصيل الإيمان فليس إليهم. ثم إنه أكد هذا المعنى بقوله : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) إلى قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) وفيه دلالة على أن أمر الله قد لا يوافق إرادته فإنه يأمر الكل بالإيمان ولا يريد الهداية إلا للبعض إذ لو أرادها للكل لم يكفر أحد ولم ينزل العذاب على قوم لكنه كفر ونزل لقوله : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [النحل : ٣٦].

ثم خصص الخطاب قائلا لرسوله (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) لا يرشد أحدا أضله ، قال ابن عباس : وقال الفراء : لا يهدي معناه لا يهتدي. ومن قرأ على البناء للمفعول فمعناه لا تقدر أنت ولا أحد على هداية من أضله الله فلن يكون مهديا منصورا ، ولا يخفى أن أول الآية ظاهره يوافق مذهب المعتزلة. أما قوله : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) إلى آخر الآيات فإنهم قد صاروا فيه إلى التأويل فقالوا : معناه أن متقدميهم أشركوا وحرموا حلال الله فلما نبهوا على قبح فعلهم أسندوه إلى الله (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا) أن يبلغوا الحق وأن الله بريء من الظلم وخلق القبائح والمنكرات ، وما من أمة

٢٦٠