تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الجزء الخامس عشر من أجزاء القرآن

(سورة بني إسرائيل مكية إلا قوله

وإن كادوا ليفتنونك إلى قوله وقل جاء الحق

حروفها ٦٤٦٠ كلمها ١٥٦٣ آياتها ١١١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ

٣٢١

مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١))

القراآت : يتخذوا بياء الغيبة : أبو عمرو وعباس مخيرا. الباقون بتاء الخطاب (أَسَأْتُمْ) بالمد : أبو عمرو ويزيد الأصبهاني عن ورش والأعشى وحمزة في الوقف. ليسوء بياء الغيبة على التوحيد : ابن عامر وحمزة وأبو بكر وحماد ولنسوء بالنون : علي. الباقون (لِيَسُوؤُا) على الجمع (وَيُبَشِّرُ) مخففا : حمزة وعلي. ويخرج بالياء مجهولا : يزيد ويخرج لازما : يعقوب الآخرون بالنون متعديا تلقاه مشددا : ابن عامر ويزيد ، وروى النقاش عن ابن ذكوان بالإمالة. الباقون مخففة ، وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة (اقْرَأْ كِتابَكَ) بغيرهم : الأعشى وأوقية وحمزة في الوقف : أمرنا من باب المفاعلة : يعقوب.

الوقوف : (آياتِنا) ط (الْبَصِيرُ) ه (وَكِيلاً) ط لمن قرأ (تَتَّخِذُوا) بتاء الخطاب لإمكان أن يجعل (ذُرِّيَّةَ) منادى (نُوحٍ) ط (شَكُوراً) ه (كَبِيراً) ه (الدِّيارِ) ط (مَفْعُولاً) ه (نَفِيراً) ه (فَلَها) ط لأن ما بعد عائد إلى قوله (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) مع اعتراض العوارض (تَتْبِيراً) ه (يَرْحَمَكُمْ) ه للابتداء بالشرط مع العطف (عُدْنا) ه حذرا من توهم العطف (حَصِيراً) ه (كَبِيراً) ه لا للعطف (أَلِيماً) ه (بِالْخَيْرِ) ط (عَجُولاً) ه (وَالْحِسابَ) ، ط (تَفْصِيلاً) ه (عُنُقِهِ) ط (مَنْشُوراً) ه (كِتابَكَ) ط (حَسِيباً) ه ط للابتداء بعد بالشرط (لِنَفْسِهِ) ج للشرط مع العطف (عَلَيْها) ط (أُخْرى) ط (رَسُولاً) ه (تَدْمِيراً) ه (نُوحٍ) ط (بَصِيراً) ه (جَهَنَّمَ) ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف (مَدْحُوراً) ه (مَشْكُوراً) ه (عَطاءِ رَبِّكَ) ط (مَحْظُوراً) ه (بَعْضٍ) ط (تَفْضِيلاً).

التفسير : لما عزم على نبيه في خواتيم النحل جوامع مكارم الأخلاق حكى طرفا مما خصه به من المعجزات فقال : (سُبْحانَ الَّذِي) وهو اسم علم للتسبيح وقد مر إعرابه في قوله : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢] والمراد تنزيه الله من كل ما لا يليق بجلاله و (أَسْرى) وسرى لغتان. يروى أنه لما وصل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المراتب العلية في معراجه أوحى الله إليه يا محمد : بم أشرّفك؟ قال : يا رب تنسبني إلى نفسك بالعبودية. فأنزل فيه : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) وقوله : (لَيْلاً) نصب على الظرف وفيه تأكيد الإسراء ، وفي تنكيره تقليل مدة الإسراء لأن التنكير فيه معنى البعضية ،

٣٢٢

أخبر أنه أسرى به في بعض الليل (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق. وقيل : المراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به. وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد وإلى هذا القول ذهب الأكثرون. قالوا : إنه أسرى به من دار أم هانيء بنت أبي طالب قبل الهجرة بسنة. وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعثة. (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) هو بيت المقدس بالإتفاق سمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ولم يكن حينئذ وراءه مسجد. (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) يريد بركات الدين والدنيا لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى عليه‌السلام ، ومهبط الوحي وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة. وقوله : (أَسْرى) مع قوله : (بارَكْنا) سلوك لطريقة الالتفات (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) بيان لحكمة الإسراء.

سؤال : أرى إبراهيم عليه‌السلام ملكوت السموات والأرض ، وأرى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض آياته فيلزم أن يكون معراج إبراهيم أفضل؟

الجواب : لعل بعض الآيات المضافة إلى الله تعالى أشرف وأجل من ملكوت السموات والأرض كلها ولهذا ختم الآية بقوله : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوال محمد (الْبَصِيرُ) بأفعاله المهذبة الخالصة فيكرمه على حسب ذلك.

واعلم أن الأكثرين من علماء الإسلام اتفقوا على أنه أسري بجسد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأقلون على أنه ما أسرى إلا بروحه. حكى محمد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن حذيفة أنه قال : كان ذلك رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكنه عرج بروحه. وحكى هذا القول عن عائشة أيضا. وقد احتج بعض العقلاء على هذا القول بوجوه منها : أن الحركة الجسمانية البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة : ومنها أن صعوده إلى السموات يوجب انخراق الفلك. ومنها أنه لو صح ذلك لكان من أعظم معجزاته فوجب أن يكون بمحضر من الجم الغفير حتى يستدلوا بذلك على صدقه ، وما الفائدة في إسرائه ليلا على حين غفلة من الناس. ومنها أن الإنسان عبارة عن الروح وحده لأنه باق من أول عمره إلى آخره ، والأجزاء البدنية في التغير والانتقال والباقي مغاير للمتغير ، ولأن الإنسان يدرك ذاته حين ما يكون غافلا عن جميع جوارحه وأعضائه. ومنها قوله سبحانه : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [الإسراء : ٦٠] وما تلك الرؤيا إلّا حديث المعراج. وإنما كانت فتنة للناس لأن كثيرا ممن آمن به حين سمعها

٣٢٣

ارتد وكفر به. ومنها أن حديث المعراج الجسماني اشتمل على أشياء بعيدة عن العقل كشق بطنه وتطهيره بماء زمزم وركوب البراق وإيجاب خمسين صلاة ، فإن ذلك يقتضي نسخ الحكم قبل حضور وقته ، وأنه يوجب البداء.

أجاب الأكثرون عن الأول بأنه حركة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى فوق الفلك الأعظم لم يكن إلّا نصف قطر الفلك ، ونسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة أمثال وسبع هي نصف حركة الفلك في يوم بليلته ، وإذا كان الأكثر واقعا فالأقل بالإمكان أولى ، ولو كان القول بمعراج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة واحدة ممتنعا لكان القول بنزول جبريل من العرش إلى مكة في لحظة واحدة ممتنعا ، لأن الملائكة أيضا أجسام عند جمهور المسلمين ، وكذا القول في حركات الجن والشياطين وقد سخر الله تعالى لسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر ، وقد (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) [النمل : ٤٠]. وكان عرش بلقيس في أقصى اليمن وسليمان في الشام. وعلى قول من يقول إن الإبصار بخروج الشعاع فإنما ينتقل شعاع العين من البصر إلى الكواكب الثابتة في آن واحد ، فيثبت أن المعراج أمر ممكن في نفسه. أقصى ما في الباب الاستبعاد وخرق العادة ولكنه ليس مخصوصا بهذه الصورة وإنما ذلك أمر حاصل في جميع المعجزات. وعن الثاني أن انخراق الأفلاك عند حكماء الإسلام جائز. وعن الثالث أن فائدة الإسراء قد عادت إليه حيث شاهد العالم العلوي والعرش والكرسي وما فيها وعليها فحصل في قلبه زيادة قوة وطمأنينة ، بها انقطعت تعلقاته عن الكونين ولم يبق مشغول القلب بشيء من أمور الدنيا والآخرة. وعن الرابع أن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد. وعن الخامس أن تلك الرؤيا هي غير حكاية المعراج كما سيجيء في تفسيره ، ولو سلم أنها هي المعراج فالرؤيا بمعنى الرؤية. وعن السادس أنه لا اعتراض على الله تعالى في شيء من أفعاله وأنه على كل شيء قدير. واعلم أنه ليس في الآية دلالة على العروج من بيت المقدس إلى السموات وإلى ما فوق العرش إلّا أنه ورد الحديث به. ومنهم من استدل على ذلك بأول سورة النجم أو بقوله (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) [الإنشقاق : ١٩] وتفسير هما مذكور في موضعه.

يروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نائما في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة على أم هانىء وقال : مثل لي النبيون وصليت بهم. وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال : مالك؟ قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم قال : وإن كذبوني. فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٢٤

بحديث الإسراء به وأنه أسري به من مكة إلى بيت المقدس ومنه عرج إلى السماء ورأى ما فيها من العجائب ولقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى. فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي هلم فحدثهم ، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا ، وارتد ناس ممن كان آمن به ، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي‌الله‌عنه فقال : إن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا : أتصدقه على ذلك؟ قال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق. وكان فيهم من سافر إلى الشام فاستنعتوه المسجد فجلى له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت المقدس فطفق ينظر إليه وينعته لهم فقالوا : أما النعت فقد أصاب. فقالوا : أخبرنا عن عيرنا فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق ، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد شرقت ، وقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم لم يؤمنوا وقالوا : ما هذا إلّا سحر مبين.

ولما حكى طرفا من إكرام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر شيئا من إكرام موسى فقال : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أخرجناهم بواسطته من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين (أَلَّا تَتَّخِذُوا) من قرأ على الغيبة فـ «أن» ناصبة ولام العاقبة محذوفة أي لئلا يتخذوا ، ومن قرأ على الخطاب فـ «أن» مفسرة معناها أي لا تتخذوا كقولك : كتبت إليه أن افعل كذا ، وزائدة والقول مضمر يعني قلنا لهم لا تتخذوا (مِنْ دُونِي وَكِيلاً) ربا تكلون إليه أمركم يا (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) قال قتادة : الناس كلهم ذرية نوح عليه‌السلام لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين : سام وحام ويافث ، والناس كلهم من ذرية أولئك. فقوله «يا ذرية» قائم مقام قوله : يا أيها الناس وعلى القراءة الأولى انتصب (ذُرِّيَّةَ) على الاختصاص ، وعلى القراءتين احتمل أن ينتصب على أنه مفعول آخر ليتخذوا أي لا تجعلوهم أربابا كقوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) [آل عمران : ٨٠] من ذرية المحمولين مع نوح وعيسى وعزيز. ثم علل النهي عن الإشراك بقوله : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) أي أنتم ذرية من آمن به وحمل معه فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم في الشكر لله وعدم اتخاذ الشريك له. ويجوز أن يكون تعليلا لاختصاص بني إسرائيل والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح فهم متصلون به ، فلهذا استأهلوا الاختصاص. وجوز في الكشاف أن يكون ثناء على نوح بطريق الاستطراد. يروى من شكره أنه كان إذا أكل قال : الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني ، وإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني ، وإذا اكتسى قال :

٣٢٥

الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني ، وإذا احتذى قال : الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني ، وإذا قضى حاجته قال : الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه ، وكان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجا آثر به. ثم ذكر أن كثيرا من بني إسرائيل ما اهتدوا بهدى التوراة فقال : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أوحينا إليهم وحيا مقضيا مقطوعا به في الكتاب الذي هو التوراة وقول : (لَتُفْسِدُنَ) جواب قسم محذوف ، أو أجرى القضاء المبتوت مجرى القسم كأنه قيل : وأقسمنا لتفسدن (فِي الْأَرْضِ) أرض مصر (مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَ) لتعظمن وتستولن على الناس (عُلُوًّا كَبِيراً) تسلطا عظيما وبغيا شديدا (فَإِذا جاءَ وَعْدُ) عقاب (أُولاهُما) أولى المرتين (بَعَثْنا) أرسلنا وسلطنا (عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أصحاب نجدة وشدة قتال (فَجاسُوا) ترددوا للمارة (خِلالَ الدِّيارِ) أوساطها وفرجها يعني ديار بيت المقدس (وَكانَ) وعد العقاب (وَعْداً مَفْعُولاً) لا بد من وقوعه (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ) الدولة والغلبة (عَلَيْهِمْ) على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو : (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) مما كنتم. والنفير من ينفر مع الرجل من قومه. احتجت الأشاعرة بقوله سبحانه : (قَضَيْنا) بعثنا (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) على صحة القضاء والقدر وأن الفساد والنهب والقتل والأسر كلها بفعله. وأجابت المعتزلة بأن المراد أنه خلى بينهم وبين ما فعلوا ولم يمنعهم عن تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظها. وضعف بأن تفسير البعث بالتخلية وعدم المنع خلاف الظاهر ، على أن الدليل الكلي العقلي قد دل على وجوب انتهاء الكل إليه.

ولما حكى عنهم أنهم حين عصوا سلط عليهم أعداءهم مهد قاعدة كلية في الإحسان والإساءة قائلا (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) لم يقل فعليها أو فإليها للتقابل ، مع أن حروف الإضافة بعضها يقوم مقام البعض. قال أهل الإشارة : إنه أعاد الإحسان ولم يذكر الإساءة إلا مرة ففيه دليل على أن جانب الرحمة أغلب (فَإِذا جاءَ وَعْدُ) عقاب المرة (الْآخِرَةِ) بعثناهم حذف جواب «إذا» لدلالة ذكره أولا عليه. ومعنى (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) ليجعلها الله ، أو الوعد ، أو البعث ، أو ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا) ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه ، ويجوز أن يكون «ما» بمعنى المدة أي ما دام سلطانهم جاريا على بني إسرائيل. وقوله : (تَتْبِيراً) ذكر المصدر إزالة للشك وتحقيقا للخبر. ويروى أن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا

٣٢٦

الأنبياء وسفكوا الدماء وذلك أول الفسادين ، فسلط الله عليهم بختنصر أو سنجاريب وجنوده أو جالوت. عن ابن عباس : قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وسبوا منهم سبعين ألفا وبقوا في الذل إلى أن قيض الله ملكا آخر من أهل بابل وتزوج بامرأة من بني إسرائيل وطلبت من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل ، وبعد مدة قامت فيهم. الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه ، ثم أقدموا على قتل زكريا ويحيى عليهما‌السلام وقصدوا قتل عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، وهذا ثاني الإفسادين فانتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الروم يقال له قسطنطين الملك. وقال صاحب الكشاف : المرة الأولى قتل زكريا وحبس أرميا ، والآخرة قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى. واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام ، والمقصود الأصلي الذي دل عليه القرآن هو أنهم كلما عصوا وأفسدوا سلط الله عليهم أعداءهم. وفيه تحذير للعقلاء من محالفة أوامر الله ونواهيه ، ثم قال : (عَسى رَبُّكُمْ) يا بني إسرائيل (أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد لتقامه منكم في المرة الثانية (وَإِنْ عُدْتُمْ) للثالثة (عُدْنا) لها. قال أهل السير : ثم إنهم قد عادوا إلى فعل مالا ينبغي. وهو تكذيب محمد وكتمان ما ورد من نعته في التوراة والإنجيل. فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب ، فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والإجلاء ، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا حشمة لهم ولا عزة فيهم إلى يوم القيامة ، وأما بعد ذلك فهو قوله (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) أي محبسا حاصرا ومحصورا لا يتخلصون منه أبدا. وعن الحسن : بساطا كما يبسط الحصير المنسوج.

ثم لما شرح فعله في حق عباده المخلصين كمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموسى عليه‌السلام وفي حق عبيده العاصين كأكثر بني إسرائيل ، وكان في ذلك تنبيه على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ومعصيته تقتضي كل شر وغرامة ، عظم شأن القرآن المبين للأحكام الهادي للأنام فقال : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي) أي للحالة أو الشريعة أو الطريقة التي (هِيَ أَقْوَمُ) وفي حذف الموصوف فخلفه بعرفها أهل البلاغة لعموم الاعتبار وذهاب الوهم كل مذهب. قيل : هذا الشيء أقوم من ذلك. إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة ، ثم يكون للأول على الآخر. وكيف يتصور في غير هذا الدين شيء من الاستقامة حتى يستقيم هذا التفضيل؟ وأجيب بأن «أفعل» هاهنا بمعنى الفاعل كقولنا «الله أكبر» هو الكبير. وكقولهم «الناقص والأشج أعدلا بني مروان» أي عادلا بني مروان. ويمكن أن يقال : لا شيء من الأديان إلا وفيه نوع من الاستقامة كالاعتراف بالله الواجب

٣٢٧

بالذات ، والالتزام لأصول الأخلاق ومكارم العادات وقوانين السياسات إلا أن بعض الخلل أبطل الكل فالكل ينهدم بانهدام الجزء. ثم إن كون القرآن هاديا إلى الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح له نتيجة وأثر وذلك هو البشارة بالأجر الكبير لأهل الإيمان والعمل الصالح وبالعذاب الأليم لغيرهم ، وأنت خبير بأن لفظ البشارة بمعنى الإنذار يستعمل للتهكم إذ البشارة مطلق الخبر المغير للبشرة فكأنه قيل : ويخبر الذين لا يؤمنون بالآخرة أن لهم عذابا. ويجوز أن يبشر المؤمنين ببشارتين : إحداهما بثوابهم والأخرى بعذاب أعدائهم. قال في الكشاف : كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ وأجاب على أصول الاعتزال بأن الناس كانوا حينئذ إما من أهل التقوى وإما من أهل الشرك ، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك. قلت : هذا الجواب منه عجيب ، فإن هذا الصنف لو سلم أنه لم يكن موجودا في ذلك العصر إلا أن حكمه يجب أن يذكر في القرآن الذي فيه أصول الأحكام ، على أن ذكر الفساق من الأمة في القرآن المكي والمدني موجودة قال تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) [لقمان : ٣٢] (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر : ٥٢] (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [آل عمران : ١٣٥]. وإذا كان ذكرهم في القرآن واردا وأنه تعالى يعدد هاهنا أوصاف القرآن على جهة المدح فأي مقام أدعى إلى ذكر هذا الوصف من هاهنا. والجواب الحق أن الفسقة جعلوا بالعين أهل الإيمان والله أعلم. قيل : هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة. والجواب المنع من الخصوص ولو سلم فإيمانهم بالآخرة كلا إيمان ، فبعضهم أنكروا المعاد الجسماني وبعضهم قالوا : لن تمسنا النار إلّا أياما. واعلم أنه سبحانه قال هاهنا : (أَجْراً كَبِيراً) وفي أول الكهف (أَجْراً حَسَناً) [الآية : ٢] ، رعاية للفاصلة وإلا فالأجر الكبير والأجر الحسن كلاهما الجنة.

ولما بين أن القرآن كاف في الهداية ذكر أن الإنسان قد يعدل عن التمسك بأحكامه فقال : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ) أي جنس الكافر. وقد ذكر جمع من المفسرين أنه النضر بن الحرث دعا (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) [الأنفال : ٣٢] ، الآية فأجاب الله دعاءه وضربت رقبته صبرا. وكان بعضهم يقول : ائتنا بعذاب الله ، وآخرون متى هذا الوعد جهلا منهم واعتقادا أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاذب. وقيل : المراد أنه يدعو الله عند غضبه وضجره فيعلن نفسه وولده وماله ، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك. ويروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا فأقبل يئن بالليل فقالت له : مالك تئن؟ فشكا ألم القد فأرخت من كتافه ، فلما نامت أخرج يده

٣٢٨

وهرب. فلما أصبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا به فأعلم بشأنه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم اقطع يديها فرفعت سودة يديه تتوقع الإجابة وأن يقطع الله يديها قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني سألت الله أن يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما يغضب البشر فلترد سودة يديها. (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) يستعجل بالعذاب مع أنه آتيه أو يتسرع إلى طلبه كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله معتقدا أن خيره فيه وإن كان ذلك عند التأمل مضرا له. وقيل : أراد بهذا الإنسان آدم ، وذلك أنه لما انتهى الروح إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى فذهب لينهض فلم يقدر. وليس هذا القول بالحقيقة مغايرا للأول لأن أصل الآدمي إذا كان كذلك كان كل فرد منه متصفا به لا محالة. قال أهل النظم : لما ذكر نعمة الدين وهو القرآن أردفها بنعمة الدنيا فقال : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) وفيه أن القرآن لا يتم المقصود منه إلا بنوعية المحكم والمتشابه ، فكذا الزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بجزئيه الليل والنهار. فالمحكم كالنهار في وضوحه ، والمتشابه بمنزلة الليل في خفائه. وبوجه آخر لما ذكر دلائل النبوة والتوحيد أكدها بدليل آخر من عجائب الزمان. وبوجه آخر لما وصف الإنسان بكونه عجولا أي منتقلا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة بين أن كل أحوال هذا العالم كذلك فينتقل الهواء من الإنارة إلى الظلام وبالعكس ، وينتقل القمر من النقصان إلى الامتلاء وبالضد. (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) هي من إضافة الشيء إلى نفسه للبيان كقولك «نفس الشيء أو ذاته» أي فمحونا الآية التي هي الليل أي جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموسا مظلما لا يستبان فيه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو (وَجَعَلْنَا) الآية. التي هي (النَّهارِ مُبْصِرَةً) ذات إبصار وذلك باعتبار من فيها أي تبصر فيها الأشياء وتستبان ، أو أريد بالإبصار الإضاءة لأنها سببه. وقيل : المضاف محذوف والتقدير وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق له شعاع كشعاع الشمس فترى به الأشياء رؤية غير بينة ، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) لتتوصلوا ببياض النهار أو بشعاع الشمس المستلزم للنهار إلى التصرف في وجوه معايشكم. (وَلِتَعْلَمُوا) باختلاف الجديدين أو بزيادة ضوء القمر ونقصانه (عَدَدَ السِّنِينَ) الشمسية أو القمرية المركبة من الشهور (وَ) لتعلموا جنس (الْحِسابَ) المبني على الساعات والأيام والشهور والسنين والأدوار. وقيل : أراد بمحو القمر الكلف الذي في وجهه. وسببه في الشرع ما روي أن الشمس والقمر كانا سواء في النور والضوء فأرسل الله تعالى جبريل فأمر جناحه على وجه القمر فأذهب عنه أثر الضياء. وسببه عند الفلاسفة أنه ارتكز في وجه

٣٢٩

القمر أجسام قليلة الضوء كارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك ، ولما كانت تلك الأجرام أقل ضوءا من جرم القمر لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر كالكلف في وجه الإنسان. ونحن قد ذكرنا له وجها آخر في الهيئة ، قال أهل التجارب : إن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه لا سيما في أحوال البحار والبحارين على ما يذكره الأطباء ، إلا أن الكلف ليس له مدخل في ابتغاء فضل الله وفي معرفة الحسابات تفصيلا. نعم لو قيل : إن الكلف نقص من نور القمر حتى لم يقو على إزالة ظلام الليل بالكلية فبقي في وقت السكون والراحة بحالة ووقت التردد في طلب المعاش بحالة ، وصار تعاقب الليل والنهار سببا لمعرفة الأيام وما يتركب منها كان متجها.

ثم قال : (وَكُلَّ شَيْءٍ) مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم (فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) بيناه بيانا غير ملتبس حتى انزاحت العلل وزالت الأعذار فلا يهلك من يهلك إلا عن بينة فلذلك قال : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) أي عمله (فِي عُنُقِهِ) وبوجه آخر لما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل لابتغاء المعاش وللدعة والراحة ولمعرفة المواقيت ، وكان الغرض الأصلي من الكل هو الاشتغال بخدمة المعبود وتهذيب الأفعال وإصلاح الأقوال ، ذكر أن الإنسان مؤاخذ في عرصة القيامة بأقواله وأفعاله وسائر أحواله ليظهر أنه هل أتى بما هو المقصود من خلقه أم لا. قال أكثر أهل اللغة : إن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال اعتبروا أحوال الطائر أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه ، وإذا طار فهل يطير متيامنا أو متياسرا أو صاعدا في الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على ما يسوقهم عملهم إليه من خير أو شر ، فإطلاق الطائر على العمل تسمية للنبي باسم لازمه. وقال أبو عبيدة : الطائر عند العرب الحظ ويقال له البخت. فالطائر ما وقع للشخص في الأزل مما هو نصيبه من العقل والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة كأنه طائر يطير إليه من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب طيرانا لا نهاية له ولا غاية إلا إن انتهى إلى ذلك الشخص في وقته المقدر من غير خلاص ولا مناص وفي هذا دليل على أنه لا يظهر في الأبد إلا ما حكم الله به في الأزل ، والكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية. وإنه سبحانه أكد هذا المعنى بإضافة الإلزام على نفسه ثم بقوله : (فِي عُنُقِهِ). يقال : جعلت هذا الأمر في عنقك أي قلدتكه وألزمتك الاحتفاظ به. فإن كان خيرا يزينه كان كالطوق ، وإن كان شرا يشينه كان كالغل. ومن أمثال العرب «تقلدها طوق الحمامة» (وَنُخْرِجُ لَهُ) من قرأ بالنون فظاهر. وقوله : (يَلْقاهُ مَنْشُوراً) صفتان للكتاب أو (يَلْقاهُ) صفة (مَنْشُوراً) حال من مفعول يلقاه. ومن قرأ بالياء مجهولا

٣٣٠

أو لازما فالضمير للطائر و (كِتاباً) حال منه ، يقال : لقيت الشيء ولقانيه غيري. عن الحسن : يا ابن آدم بسطت الصحيفة وطويت في قبرك معك ، ثم إذا بعثت قلدتها في عنقك (اقْرَأْ كِتابَكَ) على إضمار القول. قال قتادة : يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن قارئا و (بِنَفْسِكَ) فاعل كفى و (حَسِيباً) تمييز بمعنى حاسب وإنه كثير من فعل بالضم كقريب وبعيد ، ولكنه من فعل بالفتح غريب ، منه ما قال سيبويه : ضريب القداح بمعنى ضاربها ، وصريم بمعنى صارم. «وعلى» متعلق بحسيب من قولك حسب عليه كذا ، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى الكافي ثم وضع. موضع الشهيد فعدي بعلى لأن الشاهد يكفي المدعي ما أهمه. وذكر حسيبا بمعنى رجلا حسيبا لأنه بمنزلة الشهيد ، والغالب أن الشهادة يتولاها الرجال كالقضاء والإمارة والنفس مؤوّل بالشخص ، أو حمل «فعيل» بمعنى «فاعل» على «فعيل» بمعنى «مفعول» كقتيل ، ويجوز أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب. قال الحسن : عدل الله في حقك من جعلك حسيب نفسك. وقال السدي : يقول الكافر يومئذ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) وروي أن يؤتى المؤمن يوم القيامة صحيفته وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها ، حتى إذا ظن أنها قد أوبقته قال الله تعالى له : فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك فيعظم سروره ويصير من الذين قال الله في حقهم (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) [عبس : ٣٨ ، ٣٩] قال الحكيم : التكرار يوجب تقرير الآثار ، فكل عمل يصدر من الإنسان خيرا أو شرا فإنه يحصل منه في جوهر روحه أثر مخصوص إلا أن ذلك الأثر يخفى ما دام الروح متعلقا بالبدن مشتغلا بواردات الحواس والقوى ، فإذا انقطعت علاقته عن البدن قامت قيامته لأن النفس كأنها كانت ساكنة مستقرة في الجسد وعند ذلك قامت وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلوي ، فيزول الغطاء وتنكشف الأحوال ويظهر على لوح النفس نقش كل شيء عمله في مدة عمره ، وهذا معنى الكتابة والقراءة بحسب العقل ، وإنه لا ينافي ما ورد في النقل.

ثم بين أن ثواب العمل الصالح وعقاب ضده مختص بفاعله لا يتعدى منه إلى غيره فقال : (مَنِ اهْتَدى) إلى قوله : (وِزْرَ أُخْرى). قال الجبائي : فيها دلالة على أن الأطفال لا يعذبون بكفر آبائهم ، وأن الوزر والإثم ليس من فعل الله وإلا لم يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره بل كان يجب أن لا وزر أصلا لأن الصبي لا يوصف بالوزر لأنه غير مختار. وجواب الأشاعرة أن الوزر مختص بأفعال المكلفين من الثقلين ، وقدحت عائشة

٣٣١

بذلك في صحة ما رواه ابن عمر «إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله» (١) واستدل به جماعة من الفقهاء في الامتناع من ضرب الدية على العاقلة. ويمكن أن يجاب بأنه ما من عام إلا وقد خصص. أما قوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) فقد استدل به الأشاعرة في أن وجوب شكر المنعم لا يثبت بالعقل بل بالسمع لأن الوجوب لا تتقرر ماهيته إلا بترتيب العقاب على الترك ولا عقاب قبل الشرع بحكم هذه الآية. أجاب الخصم بأنه لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي لأن النبي إذا جاء وادعى المعجزة فهل يجب على المستمع قبول قوله والتأمل في معجزته أو لا يجب ، والثاني باطل بالاتفاق ، وعلى الأوّل إن وجب بالعقل فهو المدعي ، وإن وجب بالشرع فذلك الشارع إن كان ذلك النبي لزم إثبات الشيء؟؟؟؟ ، وإن كان غيره دار أو تسلسل. وبوجه آخر إذا أوجب النبي بعض الأفعال وحرم بعضها فلا معنى لذلك إلا ترتب العقاب على الترك أو الفعل. ثم إنه يجب على المكلف أن يحترز عن العقاب أو لا يجب لا سبيل إلى الثاني بالاتفاق ، وعلى الأول يلزم الوجوب العقلي وإلا لزم الدور أو التسلسل. ثم إن مذهب أهل السنة جواز العفو عن عقاب الكبيرة فتكون ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب ، ولا ذم مع جواز العفو فلم يبق إلا أن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب ، ولا يكون هذا الخوف إلا بمحض العقل فثبت أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه. فأما أن تجري الآية على ظاهرها يقال : العقل هو رسول الله إلى الخلق ، بل هو الرسول الذي لولا لما تقررت رسالة أحد من الرسل ومجيء الأنبياء كالتنبيه على النظر وكالإيقاظ من رقدة الغفلة والحجة وإن كانت لازمة لهم قبل بعثة الرسل إلا أنها بعد البعثة ألزم. وإما أن يخصص عموم الآية فيقال : المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع. ومما ارتضاه الإمام فخر الدين الرازي أن مجرد العقل سبب في أنه يجب عليها فعل ما ينتفع به وترك ما يستضر به ، أما مجرد العقل فلا يدل على أنه يجب على الله شيء وذلك أنا مجبولين على طلب النفع والاحتراز عن الضرر ، والله تعالى منزه عن ذلك. ولقائل أن يقول : إنه سبحانه منزه عن الانتفاع والاستضرار إلا أنه حكيم جواد فلم لا يقبح من الحكيم الجواد ترك ما ينتفع به غيره وفعل ما يستضر به ، وإذا قبح منه ذلك حسن منه ضده ، والحكيم لا يترك الأحسن. فصدور ذلك الأحسن منه البتة هو

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٣٢ ، ٣٣. مسلم في كتاب الجنائز حديث ١٨ ، ١٩. الترمذي في كتاب الجنائز باب ٢٥. النسائي في كتاب الجنائز باب ١٤ ، ١٥. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ٥٤. الموطأ في كتاب الجنائز حديث ٣٧. أحمد في مسنده (١ / ٤٧).

٣٣٢

الذي لك أن تسميه وجوبا كما وصف به نفسه في قوله : (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) [مريم : ٧١] ولكم من آية في القرآن دالة على أن الفعل قد يصدر منه صدورا لا يحتمل النقيض من ذلك قوله : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها).

وللمفسرين في معنى (أَمَرْنا) قولان : الأول أن المراد به الأمر الذي هو نقيض النهي وعلى هذا اختلفوا في المأمور به ، فالأكثرون على أن الطاعة والخير. وقال في الكشاف : معناه وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل أمرناهم بالفسق ففسقوا. ولما كان من أصول الاعتزال أنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ذكر أن الأمر بالفسق هاهنا مجاز ، ووجهه أنه صب عليهم النعمة صبا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات ، فكان إيتاء النعمة سببا لإيثارهم الفسوق على الائتمار فكأنهم مأمورون بذلك. ثم إنه جعل تقدير أمرناهم بالطاعة ففسقوا عن قبيل التكاليف بعلم الغيب ، ولم يجوّز أن تكون من قبيل «أمرته فعصاني» فإنه يفهم منه أن المأمور به طاعته ولكنه حكم بأنه مثل أمرته فقام أو أمرته فقرأ فإنه لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة. ولقائل أن يقول : كما أن قوله «أمرته فعصاني» يدل على أن المأمور به شيء غير المعصية من حيث إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له فكذلك قوله : «أمرته ففسق» يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به ، فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به كما أن كونها معصية ينافي كونها مامورا بها ، وهذا ظاهر فلا أدري لم أصرّ جار الله على قوله مع ضعفه ومخالفته أصله. القول الثاني إن معنى : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) أكثرنا فساقها. قال الواحدي : تقول العرب : أمر القوم. إذا كثروا ، وأمرهم الله إذا كثرهم ، وآمرهم أيضا بالمد واحتج أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» (١) فالسكة النخيل المصطفة ، والمهرة المأمورة كثيرة النتاج. وقد حمل بعضهم الحديث على الأمر ضد النهي أي قال الله لها : كوني كثيرة النسل فكانت ، وروي أن رجلا من المشركين قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني أرى أمرك هذا حقيرا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه سيأمر أي سيكثر وسيكبر. والمترف في اللغة المنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش : (فَفَسَقُوا فِيها) خرجوا عما أمرهم الله (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) استوجبت العذاب (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أهلكناها على سبيل الاستئصال. قال الأشاعرة : ظاهرة الآية يدل على أنه تعالى أراد إهلاكهم ابتداء ، ثم توسل

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٣ / ٤٦٨).

٣٣٣

إلى إهلاكهم بهذا الطريق ويؤيده قوله : (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي بالكفر ثم التعذيب. وقال الكعبي : إن سائر الآيات دلت على أنه تعالى لا يبتدىء بالتعذيب كقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١] وقوله : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) فتلك الآيات محكمة وهذه المتشابهات فيجب حمل هذه على تلك.

قال في التفسير الكبير : أحسن الناس كلاما في تأويل هذه الآية القفال فإنه ذكر وجهين : الأول أخبر الله أنه لا يعذب أحدا بما علمه منه ما لم يعمل به أي لا يجعل علمه حجة على من علم أنه إن أمره عصاه بل يأمره حتى يظهر عصيانه للناس فحينئذ يعاقبه. ومعنى الآية وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم. الثاني أن نقول : وإذا أردنا إهلاك قوم بسبب ظهور العصيان منهم لم نعالجهم بالعذاب في أوّل ظهور المعصية منهم ، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي. وخص المترفين بذلك لأن نعمة الله عليهم أكثر فكان الشكر عليهم أوجب ، فإذا لم يرجعوا وأصروا صب عليهم البلاء صبا. وزعم الجبائي أن المراد بالإرادة الدنو والمشارفة كقولك إذا أراد المريض أن يموت ازداد مرضه شدة ، وإذا أراد التاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كل جهة. ليس المعنى أن المريض يريد أن يموت والتاجر يريد أن يفتقر ، وإنما عنيت أنه سيصير إلى ذلك ، فمعنى الآية وإذا قرب وقت إهلاك قرية. وقد نقلنا مثله عن صاحب الكشاف ، ولا يخفى أنه عدول عن الظاهر. ثم ذكر عادته الجارية مع القرون الخالية فقال : (وَكَمْ أَهْلَكْنا) فـ (كَمْ) مفعول (أَهْلَكْنا) و (مِنَ الْقُرُونِ) بيان لكم وتمييز له أراد بهم عادا وثمود ونحوهما. ثم خاطب رسوله بما هو ردع للناس كافة قائلا (وَكَفى بِرَبِّكَ) الآية. قال الفراء : إنما يجوز إدخال الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم كقولك «كفاك به» «وأكرم به رجلا» «وطاب بطعامك طعاما» ولا يقال : قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك. وفي الآية بشارة عظيمة لأهل الطاعة وإنذار شديد لغيرهم لأن العلم التام مع القدرة الكاملة والحكمة الشاملة يقتضي إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه. ثم أكد المعاني المذكورة من قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) ومن قوله : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) بقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) أي المنفعة أو الدار العاجلة (عَجَّلْنا لَهُ فِيها) ثم قيد المعجل بقيدين : أحدهما قوله : (ما نَشاءُ) ولهذا ترى كثيرا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضا منه. وثانيهما قوله : (لِمَنْ نُرِيدُ) وهو بدل من (لَهُ) بدل البعض من الكل لأن الضمير يرجع إلى «من» وهو للعموم ، ولهذا ترى كثيرا منهم يتمنون البعض اليسير من الدنيا ولا يؤتون فيجتمع عليهم فقر الدنيا وحرمان الآخرة بل عذابها لقوله : (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها

٣٣٤

مَذْمُوماً مَدْحُوراً) مطرودا من رحمة الله. (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) بأن يعقد بها همته ويتجافى عن دار الغرور (وَسَعى لَها سَعْيَها) أي حق السعي لأجلها وذلك أن يكون العمل الذي يتوسل به إلى الفوز بثواب الآخرة من جملة القرب والطاعات وعلى قوانين الشرع والعقل لا البدعة والهوى (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) لأن شيئا من صور الأعمال الصالحة لا يوجب الثواب إلا بعد تقديم الإيمان (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) قال العلماء : الشكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة : اعتقاد كونه محسنا في تلك الأعمال ، والثناء عليه بالقول ، والإتيان بأفعال تدل على كونه معظما عند ذلك الشاكر. والله سبحانه تعالى يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة لأنه يعلم كونهم محسنين في تلك الأعمال وأنه يثنى عليهم بكلامه ويعاملهم المعاملات الدالة على كونهم معظمين عند الله.

وفي قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) دون أن يقول : «من أراد العاجلة» كما قال : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) إشارة إلى أن مريد نفع الدنيا لا يكون مذموما إلا إذا كان غالبا في ذلك ثابت القدم فسيح الأمل ، ومريد الآخرة يكون محمودا بأدنى التفاتة بعد وجود الشرط. قالت الأشاعرة : إن مجموع القدرة مع الداعي هو الموجب للفعل ونحن نشكر الله على الإيمان لأنه أعطى القدرة والداعية ، ولكنه حين حصل الإيمان للعبد واستتبع السعادات الباقية صار العبد أيضا مشكورا ، ولا منافاة بين الأمرين. وقالت المعتزلة : نحن لا نشكر الله على الإيمان لأن المدح على عمل لم يعمله الممدوح قبيح. قال تعالى : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) ولكنا نشكره على ما أعطانا من القدرة والعقل وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل. واعلم أنه تعالى ذكر صنفين من الناس : قاصد خيرات الدنيا وقاصد خيرات الآخرة. وهاهنا ثلاثة أقسام أخر : الأوّل أن يكون طلب الآخرة في عمله راجحا فقيل إنه غير مقبول أيضا لما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حكاية عن رب العزة : «أنا أغنى الأغنياء عن الشكر من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه» وقيل : يعارض المثل بالمثل ويبقى القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فيقع في حيز القبول. الثاني أن يكون طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين. الثالث أن يكون طلب الدنيا راجحا. واتفقوا على أن هذين القسمين أيضا لا يقبلان إلا أنهما على كل حال خير من الرياء المحض. ثم بين كمال رأفته وشمول رحمته فقال : (كُلًّا) أي كل واحد من الفريقين (نُمِدُّ) أي نزيدهم من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع بالمعصية. وقوله : (هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) بدل من كل و (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) متعلق بـ (نُمِدُّ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) ممنوعا من المكلف بسبب عصيانه (انْظُرْ) يا محمد أو يا من له أهلية النظر والاعتبار إلى عطائنا المباح

٣٣٥

للفريقين في الدنيا (كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) فأوصلناه إلى مؤمن وقبضناه عن مؤمن آخر ، وأوصلناه إلى كافر وقبضناه عن كافر آخر ليكون بعضهم تحت تسخير بعض. (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا. وقيل : المراد أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرين يدخلون النار فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين. وعن بعضهم : أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا ، أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة وهي أكبر وأفضل؟!.

التأويل : نزه نفسه بقوله : (سُبْحانَ) عن الاتحاد الكلي ، ولكن أخبر عن مقام وصول حبيبه. فقوله : (أَسْرى) إشارة إلى الجذبة الخفية عن الأغيار ، وقوله (بِعَبْدِهِ) إشارة إلى مقام تصحيح نسبة العبدية التي هي آخر مقامات السالكين ، وقوله : (لَيْلاً) رمز إلى أن ذلك الجذب كاد يكون خفيا عن المجذوب إذا كان ذاهلا عن أنانيته. وقوله : (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) هو مقام يحرم فيه الالتفات إلى ما سوى الله. (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) هو مقام الفناء في الله (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) بالبقاء بالله (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) التي لم تسمع أذن ولا أبصرت عين (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فلا يصل أحد إليه إلا إذا سمع به وأبصر به. هذا ما خطر ببال هذا الضعيف في تأويل هذه الآية فإن كان صوابا فمن فضل الله وعطائه ، وإلا فمني ومن الشيطان (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) الجسدانية بالقتل وفك التركيب وخلال الديار المعنوية حين استولت الصفات الذميمة على الخصال الحميدة لتخريب بيت مقدس القلب (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) باستيلاء داود القلب وقتل جالوت النفس (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ) الطاعات (وَبَنِينَ) الإيمان والإيقان (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) حين ارتد عن الطريقة (لِيَسُوؤُا) وجوه قلوبكم بحجب سوء أعمالكم (وَإِنْ عُدْتُمْ) إلى الجهل (عُدْنا) إلى الفضل ، أو وإن عدتم إلى الندم عدنا إلى الكرم ، أو إن عدتم إلى العبودية عدنا إلى الربوبية ، أو إن عدتم إلى التقربات عدنا إلى الجذبات (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ) البشرية ونهار الروحانية (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) وهي قمر القلب فني في نور العقل حين تطلع شمس شهود الحق وهي آية النهار ، فإذا طلع الصباح استغنى عن المصباح (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) وهو تجلي ذاته وصفاته ، وقد اختص الإنسان به من بين المخلوقات. (وَلِتَعْلَمُوا) أيام الطلب وحساب الترقي من مقام إلى مقام وكل شيء يحتاج إليه السالك بيناه بالإشارات (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) فيه أن قلب الإنسان بين أصبعي قهر الرحمن ولطفه وبحسب ذلك

٣٣٦

يحوّل وجه إلى الدنيا حتى يؤل أمره إلى درجات البعد أو يحوّله إلى الآخرة حتى يصل إلى درجات الوصال والله المستعان على ما تصفون.

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠))

القراآت : يبلغان مثنى : حمزة وعلي وخلف (أُفٍ) بالجر والتنوين : أبو جعفر ونافع وحفص أف بالفتح : ابن كثير وابن ذكوان وابن عامر وسهل ويعقوب غير مجاهد والمفضل. والباقون بالكسر. تبصطها كل البصط مثل : (بَصْطَةً) خطأ بفتحتين من غير مد : يزيد وابن ذكوان غير ابن مجاهد خطأ بالفتح ثم السكون : ابن مجاهد عن ابن ذكوان خطاء بالكسر والمد : ابن كثير. الباقون بالكسر ثم السكون فلا تسرف على الخطاب : حمزة وعلي وخلف وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. (بِالْقِسْطاسِ) مكسور القاف حيث كان : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل. وقرأ أبو نشيط والشموني غير النقاد بالصاد (سَيِّئُهُ) على إضافة سيء إلى ضمير (كُلُ) :

٣٣٧

حمزة وعلي وخلف وعاصم وابن عامر وسهل. الآخرون سيئة علم التأنيث.

الوقوف :(مَخْذُولاً) ه (إِحْساناً) ، ط (كَرِيماً) ه (صَغِيراً) ، ط (فِي نُفُوسِكُمْ) ط (غَفُوراً) ه (تَبْذِيراً) ه (الشَّياطِينِ) ط (كَفُوراً) ، (مَيْسُوراً) ه (مَحْسُوراً) ه (وَيَقْدِرُ) ، ط (بَصِيراً) ه (إِمْلاقٍ) ط (وَإِيَّاكُمْ) ط (كَبِيراً) ه (فاحِشَةً) ط (سَبِيلاً) ه (إِلَّا بِالْحَقِ) ط لأن الشرط في أمر قد يقع نادرا خارجا عن النهي. (فِي الْقَتْلِ) ط (مَنْصُوراً) ه (أَشُدَّهُ) ز (بِالْعَهْدِ) ج على تقدير فإن. (مَسْؤُلاً) ه (الْمُسْتَقِيمِ) ط (تَأْوِيلاً) ه (بِهِ عِلْمٌ) ط (مَسْؤُلاً) ه (مَرَحاً) ج لاحتمال إضمار الفاء أو اللام (طُولاً) ه (مَكْرُوهاً) ه (الْحِكْمَةِ) ط (مَدْحُوراً) ه (إِناثاً) ط (عَظِيماً).

التفسير : لما أجمل أعمال البر في قوله : (وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أخذ في تفصيل ذلك مبتدئا بأشرفها الذي هو التوحيد فقال : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الظاهر ولكنه في الحقيقة عام للمكلفين ، ويحسن أن يقال : إن الخطاب للإنسان كأنه قيل : يا أيها الإنسان لا تجعل أو القول مضمر أي قل لكل مكلف لا تجعل ومما يؤيد ذلك قوله : (وَقَضى رَبُّكَ) فإن ذلك الخطاب لا يليق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن أبويه ما بلغا الكبر عنده. وانتصب قوله : (فَتَقْعُدَ) على أنه جواب للنهي والفاء في التحقيق عاطفة والتقدير : لا يكن منك جعل فقعود. وفيه وجوه منها. أن المراد به المكث يقال : ما يصنع فلان فيقال هو قاعد بأسوأ حال أي ماكث سواء كان قائما أو جالسا. ومنها أن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادما متفكرا على ما فرط منه ، فالقعود على هذا حقيقة. ومنها أنه كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات فإن السعي فيه إنما يتأتى بالقيام والعجز عنه يلزمه أن يبقى قاعدا عن الطلب. ومنه أنه بمعنى الصيرورة من قولهم : «شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة» بمعنى صارت. ولا ريب أن المشرك جامع على نفسه الذم والخذلان لأنه بشركه يضيف بعض النعم الحاصلة في حقه من الله إلى غيره فيستوجب الذم بالكفران ويستحق الخذلان من حيث إنه لما فوض أمره إلى الشريك المعدوم أو العاجز الناقص بقي بلا ناصر ومعين. وأيضا الكمال في الوحدة والنقصان في الكثرة ، فمثبت الشريك واقع في جانب النقصان فيورثه الذم والخذلان.

ولما ذكر ما هو الركن الأعظم في الإيمان أتبعه سائر الشعائر والشرائع فقال : (وَقَضى رَبُّكَ) أي أمر أمرا جزما وحكم حكما قطعا (أَلَّا تَعْبُدُوا) أي بأن لا تعبدوا

٣٣٨

ف «أن» ناصبة ويجوز أن تكون مفسرة ، والفعل النهي معناه أي لا يعبدوا. وقد روى الضحاك وسعيد بن جبير وميمون بن مهران عن ابن عباس أنه كان الأصل في هذه الآية «ووصى ربك» وبه قرأ علي وعبد الله فالتصقت الواو بالصاد فقرىء : (وَقَضى رَبُّكَ) ثم قال : ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط لأن خلاف قضاء الله ممتنع. وضعف هذا القول بأنه يوجب تجويز وقوع التحريف والتصحيف في القرآن. أمر بعبادة نفسه ثم أردفه بالأمر ببر الوالدين وتقدير الكلام بأن تحسنوا بالوالدين أو وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، ولا يجوز أن يتعلق الباء في (بِالْوالِدَيْنِ) بالإحسان على ما ذهب إليه الواحد ، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته وقد مر في أوائل البقرة تفسير قوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وأنه لم يجعل الإحسان إليهما تاليا لعبادة الله. يحكى أن واحدا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للفقر والعمى والزمانة. وقيل لأبي العلاء المعري : ماذا نكتب على قبرك؟ قال : اكتبوا عليه :

هذا ما جناه أبي علي

وما جنيت على أحد

وقال في ترك التزوج والولد :

وتركت فيهم نعمة العدم التي

سبقت وصدّت عن نعيم العاجل

ولو أنهم ولدوا لعانوا شدة

ترمى بهم في موبقات الآجل

وقيل للإسكندر : أستاذك أعظم منّة عليك أم والدك؟ فقال : الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعلمي حتى أرتعني في نور العلم ، فأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد. ومن هنا قيل : «خير الآباء من علمك». وقال العقلاء : وهب أن الوالد في أول الأمر طلب لذة الوقاع إلا أن اهتمامه بإيصال الخيرات إلى الولد ودفع الآفات عنه من أول دخول الولد في الوجود إلى أوان كبره بل إلى آخر عمره لا ينكر ولا يكفر ، ولهذا نكر (إِحْساناً) أي أحسنوا إليهما إحسانا عظيما كاملا جزاء على وفور إحسانهما إليك ، على أن البادئ بالبر لا يكافأ لأنه أسبق منه.

ثم فصل طرفا من الإحسان المأمور به فقال : (إِمَّا يَبْلُغَنَ) هي «إن» الشرطية زيدت عليها «ما» الإبهامية لتأكيد معنى الشرط ، ثم أدخلت النون المشددة لزيادة التقرير والتأكيد كأنه قيل : إن هذا الشرط مما سيقع البتة عادة فليكن هذا الجزاء مرتبا عليه وإلا فالتقرير والتأكيد ليس يليق بالشرط الذي مبناه على تردد الحكم. وقال النحويون : إن الشرط أشبه

٣٣٩

النهي من حيث الجزم وعدم الثبوت فلهذا صح دخول النون المؤكدة فيه. من قرأ الفعل على التوحيد فقوله : (أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) فاعل له لكن الأول بالاستقلال والثاني بتبعية العطف ، ومن قرأ على التنبيه فأحدهما يدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين ، وكلاهما عطف على البدل فهو بدل مثله. ولا يصح أن يكون توكيد للضمير معطوفا على البدل لاستلزام العطف المشاركة دون المباينة. (أَوْ كِلاهُما) مفرد لفظا مثنى معنى ، وألفه عن واو عند الكوفيين وأصله كل المفيد للإحاطة فخفف بحذف إحدى اللامين وزيد ألف التثنية ليعرف أن المراد الإحاطة في المثنى لا في الجمع. وضعف بأنه لو كان كذلك لوجب أن يقال في الخفض والنصب «مررت بكلي الرجلين» بكسر الياء كقوله (طَرَفَيِ النَّهارِ) [هود : ١١٤] (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) [يوسف : ٤١] قال في الكشاف : معنى (عِنْدَكَ) هو أن يكبرا ويعجزا وكانا كلا على ولدهما لا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وكنفه. وفي (أُفٍ) لغات : ضم الهمزة مع الحركات في الفاء الثلاث بالتنوين وبدونه. وأف بكسرتين بلا تنوين. وأ في ممالا كبشرى ، وأف كخذ ، وأفة منونة وغير ممنونة وقد تتبع المنونة تفة فيقال : أفة وتفة وهي من أسماء الأفعال. وفي تفسيرها وجوه : قال الفراء : تقول العرب فلان يتأفف من ريح وجدها أي يقول : أف أف. وقال الأصمعي : الأف وسخ الأذن ، والتف وسخ الأظفار. يقال ذلك عند استقذار الشيء ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به. وقيل : معنى «أف» القلة من الأفيف وهو الشيء القليل ، وتف اتباع له نحو شيطان ليطان وحيث بيث وخبيث نبيث. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أن الأف الضجر. وقال القتيبي : أصله أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله ، فالصوت الحاص عند تلك النفخة هو القائل أف ، ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم ، قال الزجاج : معناه النتن وبه فسر مجاهد الآية أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك حين كنت تخر أو تبول. وفي رواية أخرى عن مجاهد : إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف أي لا تقل تضجرت أو أتضجر.

قال بعض الأصوليين : منع التأفيف يدل على المنع من سائر أنواع الأذية دلالة لفظية. ومعنى الآية لا تتعرض لهما بنوع من أنواع الإيذاء والإيحاش كما أن قولك لا يملك فلان نقيرا ولا قطميرا يدل في العرف على أنه لا يملك شيئا أصلا. وقال الأكثرون منهم : إن الشرع إذا نص على حكم صورة وسكت عن صورة أخرى ، فإذا أردنا إلحاق المسكوت عنها بالمنصوص عليها فإما أن يكون الحكم في محل السكوت أخفى من الحكم في محل الذكر وهو أكثر القياسات ، وإما أن يتساويا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

٣٤٠