تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

وصفهم بطول القامة وكبر الجثة وأثبت لهم مخالب وأضراسا كأضراس السباع. أما إفسادهم في الأرض فقيل : كانوا يقتلون الناس. وقيل : يأكلون لحومهم. وقيل : يخرجون أيام الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا احتملوه (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) وخراجا أي جعلا نخرجه من أموالنا ونظير هما النول والنوال. وقيل : الخرج ما يخرجه كل أحد من ماله ، والخراج ما يجبيه السلطان من البلد كل سنة. وقال قطرب : الخرج الجزية والخراج في الأرض (قالَ) ذو القرنين (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي) أي جعلني فيه مكينا ذا مكانة من المال واليسار (خَيْرٌ) مما تبذلون لي من الخراج نظيره قول سليمان (فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) [النمل : ٣٦] (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) بآلات ورجال وصناع. وقيل : بمال أصرفه في هذا المهم ولا آخذه لنفسي والردم أكبر من السد من قولهم «ثوب مردم رقاع فوق رقاع» وزبر الحديد قطعه.

قال الخليل : الزبرة من الحديد القطعة الضخمة. من قرأ (آتُونِي) بالمد فظاهر ، ومن قرأ ائتوني من الإتيان فعلى حذف باء التعدية والنصب بنزع الخافض. ثم هاهنا إضمار أي فأتوه بها فوضع بعضها فوق بعض. (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) وهما على القراآت جانبا الجبلين لأنهما يتصادفان أي يتقابلان (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أصب عليه النحاس المذاب و (قِطْراً) منصوب بأفرغ والتقدير : آتوني قطرا أفرغ عليه قطرا فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه. وهذا محمل ما يستدل به البصريون في أن المختار عند تنازع الفعلين هو إعمال الثاني إذ لو عمل الأول لقال أفرغه عليه. يحكى أنه حفر الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، ثم وضع المنافيخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا. وقيل : بعد ما بين السدين مائة فرسخ. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رجلا أخبره به فقال : كيف رأيته؟ قال : كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء. قال : قد والله رأيته. قال العلماء : هذا معجز من ذي القرنين لأن تلك الزبر الكثيرة إذا صارت كالنار لم يقدر الآدمي على القرب منه ، وكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين. (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي يعلوه لارتفاعه وملاسته (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) لصلابته وثخانته لما تكرر لفظ الاستطاعة مرارا ، حذف منها التاء تخفيفا في الموضعين وأعاد ذكرها بالآخرة تنبيها على الأصل ورجوعا إلى البداية. ثم (قالَ) ذو القرنين (هذا) السد أو هذا الإقرار والتمكين نعمة من الله عزوجل ورحمة على عباده

٤٦١

(فَإِذا جاءَ) أي دنا مجيء القيامة (جَعَلَهُ دَكًّا) مدكوكا مبسوطا مستوي بالأرض وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك. ومن قرأ (دَكَّاءَ) بالمد فعلى الوصف أي جعله أرضا مستوية (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) وهذا آخر حكاية ذي القرنين.

ثم شرع سبحانه في بقية أخبارهم فقال وتركنا بعضهم يومئذ يموجون أي حين يخرجون مما وراء السد مزدحمين في البلاد. ويروى أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به ممن لم يتحصن منهم من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة ولا المدينة وبيت المقدس. ثم يبعث الله نغفا وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم فيدخل آذانهم فيموتون. وقيل : أراد أن قوم السد لما منعوا من الخروج ماج بعضهم في بعض خلفه. وقيل : الضمير للخلق واليوم يوم القيامة أي وجعلنا الخلق يضطربون ويختلط إنسهم وجنهم حيارى. ونفخ الصور من آيات القيامة وسيجيء وصفه. ومعنى عرض جهنم إبرازها وكشفها للذين عموا عنها في الدنيا ، وفي ذلك نوع من العقاب للكفار لما يتداخلهم من الغم والفزع (عَنْ ذِكْرِي) أي عن آياتي التي ينظر إليها فأذكر بالتعظيم فأطلق المسبب على السبب أو عن القرآن وتأمل معانيه. وصفهم بالعمى عن الدلائل والآثار فأراد أن يصفهم بالصمم عن استماع الحق فقال (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) وهو أبلغ من أن لو قال «وكانوا صما» لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به ، وهؤلاء زالت عنهم الاستطاعة بالكلية. احتجت الأشاعرة بالآية على أن الاستطاعة مع الفعل لأنهم لما لم يسمعوا لم يستطيعوا. وأجيب بأن المراد من نفي الاستطاعة النفرة والاستثقال. ثم أنفذ في التوبيخ والوعيد قائلا (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) والمراد أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر آيات الله وتمردهم عن قبول أمره وأمر رسوله؟ وفيه إضمار تقديره أفحسبوا اتخاذ عبادي أولياء نافعا. والعباد إما عيسى والملائكة ، وإما الشياطين الذين يطيعونهم ، وإما الأصنام أقوال. ومن قرأ بسكون السين فمعناه أفكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء على الابتداء والخبر ، أو على أنه مثل «أقائم الزيدان» يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا. قال الزجاج : النزل المأوى والمنزل. وقيل : إنه الذي يعدّ للضيف فيكون تهكما به نحو (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ) [آل عمران : ٢١] أما الذين ضل سعيهم أي ضاع وبطل فعن علي رضي‌الله‌عنه أنهم الرهبان كقوله : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) [الغاشية : ٣] وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن منهم أهل حروراء. وعن مجاهد : أهل الكتاب. والتحقيق أنه يندرج فيه كل ما يأتي بعمل خير لا يبتني على إيمان وإخلاص. وعن أبي سعيد الخدري : يأتي الناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم

٤٦٢

كجبال تهامة ، فإذا وزنوها لم تزن شيئا وذلك قوله : فلا تقيم لهم يوم القيامة وزنا قال القاضي : إن من غلبت معاصية طاعاته صار ما فعله من الطاعة كأن لم يكن فلا يدخل في الوزن شيء من طاعاته ، وهذا مبني على الإحباط والتكفير.

وفي قوله : (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) إشارة إلى ذلك ، أو المراد فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ومقدار. وقيل : لا يقام لهم ميزان لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين (ذلِكَ) الذي ذكرناه من أنواع الوعيد (جَزاؤُهُمْ) وقوله (جَهَنَّمُ) عطف للجزاء. والسبب فيه أنهم ضموا إلى الكفر بالله اتخاذ آيات الله واتخاذ كل رسله هزؤا وتكذيبا ، ويجوز أن يكون كل من الأمرين سببا مستقلا للتعذيب ، ثم أردف الوعيد بالوعد على عادته. عن قتادة : الفردوس أوسط الجنة وأفضلها. وعن كعب : ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وعن مجاهد : الفردوس هو البستان بالرومية. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها درجة ، وفيها الأنهار الأربعة فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإن فوقها عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» (١). قال أهل السنة : جعل جنات الفردوس نزلا فالإكرام التام يكون وراء ذلك وليس إلا الرؤية ونظيره أنه جعل جهنم بأسرها نزلا فما وراءها هو العذاب الحقيقي وهو عذاب الحجاب (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥] والحول التحول وفيه أنه لا مزيد على نعيم الفردوس حتى تنازعهم أنفسهم إلى تلك الزيادة ، ويجوز أن يراد به تأكيد الخلود أي لا تحوّل فيطلب كقوله

ولا ترى الضب بها ينجحر

ولما ذكر أنواع الدلائل والبينات وشرح أقاصيص سئل عنها. نبه على كمال حال القرآن. والمداد اسم لما يمد به الشيء كالحبر والزيت للدواة والسراج ، والمعنى لو كتبت كلمات علم الله وحكمه وفرض أن جنس البحر مداد لهما لنفد البحر قبل نفاد الكلمات ولو جئنا بمثل البحر مددا لنفد أيضا وهو تمييز من مثله كقولك «على التمرة مثلها زبدا» والمدد والمداد واحد. يروى أن حيي بن أخطب قال : في كتابكم (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩] ثم تقرءون (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء :

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٣٣٥).

٤٦٣

٨٥] فنزلت هذه الآية. يعنى أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله. قالت الأشاعرة : إن كلام الله تعالى واحد. واعترض عليهم بهذه الآية فإنها صريحة في إثبات كلمات كثيرة لله تعالى. وأجيب بأن المراد من الكلمات متعلقات علم الله تعالى. وزعم الجبائي أن قوله : (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) يدل على أن كلمات الله قد تنفد بالجملة وما ثبت عدمه امتنع قدمه. وأجيب بأن المراد الألفاظ الدالة على تعلقات تلك الصفة الأزلية. قلت : الإنصاف أن نفاد شيء قبل نفاد شيء آخر لا يدل على نفاد الشيء الآخر ولا على عدم نفاده ، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا يضبطها عقول البشر. أما أنها متناهية أو غير متناهية فلا دليل في الآية على أحد النقيضين ، ولكن الحق في نفس الأمر أن كلمات الله لا تتناهى لأنها تابعة لمعلوماته وهي غير متناهية بالبرهان ، ثم أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسلك سبيل التواضع وهو أن حاله مقصور على البشرية لا يتخطاها إلى الملكية إلا أنه امتاز بنعت الإيحاء إليه وكفى به بونا ومباينة. ثم بين أن الموحى هو (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ).

وفي تخصيص هذا الوحي بالذكر فائدة هي أن يستدل به على صدقه ، فإن من علامات صدق مدعي النبوة أن يدعو إلى التوحيد ، ثم أن يدعو إلى العمل الصالح المقترن بالإخلاص وذلك قوله : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا) أي يأمل حسن لقائه أو يخاف سوء لقائه. واللقاء بمعنى الرؤية عند الأشاعرة وبمعنى لقاء الثواب أو العقاب عند المعتزلة (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) قال المفسرون : النهي عن الإشراك بالعبادة هو أن لا يرائي بعمله ولا يبغي به إلا وجه ربه. يروى أن جندب بن زهير قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني أعمل العمل لله فإذا اطلع عليه سرني فقال : إن الله لا يقبل ما شورك فيه. وروي أنه قال : لك أجران أجر السر وأجر العلانية. قال العلماء : الرواية الأولى محمولة على ما إذا قصد بعمله الرياء والسمعة. والرواية الثانية محمولة على ما إذا قصد أن يقتدي به. قال في الكشاف : عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه. ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قرأ عند مضجعه (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) كان له من مضجعه نورا يتلألأ إلى مكة ، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم وإن كان مضجعه بمكة بمكة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ».

التأويل : لما بين لإنسان كمالا مكنونا وكنزا مدفونا يمكن له تحصيله بالتربية

٤٦٤

والإرشاد ، أراد أن يبين أن الإنسان الكامل إنما هو مستحق الخلافة في الأرض وهو ذو القرنين الذي ملك الجانبين أعني جانب عالم الأرواح وجانب عالم الأشباح ، لأنه أوتي التمكين في الأرض وأتى أسباب كل شيء في عالم الوسائط والأسباب ، فبذلك يصير كاملا في نفسه مكملا لغيره. (فَأَتْبَعَ سَبَباً) من أسباب الوصول إلى عالم السفلي وهو مغرب شمس الروحي الإنساني (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) هي عالم القوى والطبائع والأجساد (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) هم القوى البدنية والنفوس الأرضية (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) بالقتل بسكين الرياضة وسيف المجاهدة (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) هو الرفق والمداراة (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) بوضع خاصيته واستعمالها في غير موضعها (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) بقهره على خلاف ما هو مراده وهواه (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) وهو الشيخ الكامل الذي يربيه (فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) هو المنع عن مشتهياته ، أو يرد إلى الله تعالى فيعذبه بعذاب البعد والقطيعة. (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) هو مقام الوصول والوصال (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) هو التخفيف والاستراحة بعد الفناء والمجاهدة (ثُمَّ أَتْبَعَ) أسباب الوصول إلى عالم الأرواح وهو مطلع شمس النفس الناطقة الإنسانية (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ) مجردين عن العلائق الجسمانية والعوائق الساترة الجسدانية (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) وهو عالم التعيش والتمدن والجولان في جو أسباب قوام البدن وقيامه على وجه الجسمانية إلى صلاح المعاد ونظامه (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) وهم العوام الذين قصارى أمرهم الجهل البسيط (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) القوى والطبائع البشرية (مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) البشرية باستعمال خواصها في غير ما خلقت هي لأجلها (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) هو ترك الوجود وبذلك الموجود. (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) بهمة صارفة وعزيمة صادقة (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) ملكات راسخة وهيئات ثابتة أو قلوبا هن كالحديد في المضاء ، وكالجبال الراسيات في البقاء (حَتَّى إِذا ساوى) عرض ما بين طرفي العمر كما قيل من لمهد إلى اللحد (قالَ انْفُخُوا) بالمداومة على الأذكار والأوراد (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) بتأثير حرارة الطاعة والذكر في حديد القلب (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) هو جوهر المحبة وكيمياء الإخلاص النافذ في سويدات القلوب بحيث لا ينفذ فيه كيد الشيطان ولا يعلوه ما سوى الرحمن الله حسبي.

٤٦٥

(سورة مريم)

(مكية حروفها ثلاثة آلاف وثمانمائة وحرفان

كلامها تسعمائة واثنان وستون

آياتها ثمان وتسعون)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))

القراآت : (كهيعص) بإمالة الهاء فقط : أبو عمرو (كهيعص) بإمالة الياء فقط : حمزة وخلف وقتيبة وابن ذكوان ، وقرأ عليّ غير قتيبة ويحيى وحماد بإمالتهما. وقرأ أبو جعفر ونافع والخزاعي عن البزي وابن فليح بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب. الباقون بتفخيمها (كهيعص ذِكْرُ) مدغما : أبو عمرو وحمزة وخلف وابن عامر وسهل (مِنْ وَرائِي) بفتح الياء مهموزا : ابن كثير غير زمعة والخزاعي عن البزي وقرأ زمعة عن ابن كثير والخزاعي عن البزي من وراي مثل (عَصايَ) يرثني ويرث بالجزم فيهما : أبو عمرو وعليّ. الباقون برفعهما يبشرك ثلاثيا وكذلك في آخر السورة : حمزة (عِتِيًّا)

٤٦٦

و (جِثِيًّا) و (صِلِيًّا) و (بُكِيًّا) بكسر الأوائل : حمزة وعلي وأفق حفص إلا في (بُكِيًّا) الخزاز عن هبيرة (عِتِيًّا) الأولى بالكسر والثاني بالضم. وقد خلقناك حمزة وعلي. الآخرون (خَلَقْتُكَ) على التوحيد (لِي آيَةً) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن شنبوذ عن أهل مكة.

الوقوف : (كهيعص) ه كوفي (زَكَرِيَّا) ه ح لجواز تعلق «إذ» بـ (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) ولاحتمال انتصابه بأذكر محذوفا. (خَفِيًّا) ه (شَقِيًّا) ه (وَلِيًّا) لا (آلِ يَعْقُوبَ) ق والوجه الوصل لعطف الجملتين المتفقتين (يَحْيى) لا لأن ما بعده صفة غلام والاستئناف ليس بقوي. (سَمِيًّا) ه (عِتِيًّا) ه (كَذلِكَ) ه بناء على أن التقدير الأمر كذلك (شَيْئاً) ه (آيَةً) ط (سَوِيًّا) ه (وَعَشِيًّا) ه (بِقُوَّةٍ) ط (صَبِيًّا) ه لا للعطف أي آتيناه الحكم وحنانا منا عليه (وَزَكاةً) ط (تَقِيًّا) ه (عَصِيًّا) ه (حَيًّا) ه.

التفسير : حروف المعجم في الوقف ثنائية وثلاثية ، وقد جرت عادة العرب بإمالة الثنائيات وبتفخيم الثلاثيات ، وفي الزاي اعتيد الأمران لأنه قد يلحق بآخره ياء وقد لا يلحق بآخره ياء وقد لا يلحق فيصير ثنائيا ، ولا ريب أن التفخيم أصل والإمالة فرع عليه. فمن قرأ بإمالة الهاء والياء معا فعلى العادة ، ومن قرأ بتفخيمهما جميعا فعلى الأصل ومن قرأ بإمالة إحداهما فلرعاية الجانبين. وقد روى صاحب الكشاف عن الحسن أنه قرأ بضمهما فقيل : لأنه تصور أن عين الكلمة فيهما واو فنبه بالضم على أصلها. والبحث عن هذه الفواتح قد سلف في أول البقرة ، ومما يختص بهذا الموضع ما روي عن ابن عباس أن قوله (كهيعص) ثناء من الله تعالى على نفسه ، فالكاف كاف لأمور عباده ، والهاء هاد والعين عالم أو عزيز ، والصاد صادق. وعنه أيضا أنه حمل الكاف على الكريم أو الكبير ، والياء على الكريم مرة وعلى الحكيم أخرى. وعن الربيع بن أنس أن الياء من مجير ، وهذا التفسير لا يخلو من تحكم إلا أن يسند إلى الوحي أو الإلهام. وارتفع (ذِكْرُ رَحْمَتِ) على الخبر أي هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة (رَبِّكَ) وانتصب (عَبْدَهُ) على أنه مفعول لذكر و (زَكَرِيَّا) عطف بيان ، وقرىء برفعهما على إضافة المصدر إلى المفعول. وعن الكلبي أنه قرأ (ذِكْرُ) بلفظ الماضي مشددا تارة و (رَحْمَتِ) و (عَبْدَهُ) منصوبان على المفعولية ، والفاعل ضمير المتلو. ومخففا أخرى و (عَبْدَهُ) مرفوع على الفاعلية. وقرىء (ذِكْرُ) على الأمر وهي قراءة ابن معمر. وقيل : يحتمل على هذا أن تكون الرحمة عبارة عن زكريا لأن كل نبي رحمة لأمته ، ويجوز أن يكون رحمة لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته لأن طريقه في الإخلاص والابتهال يصلح لأن يقتدى به وكان ذكره رحمة لنا ولنبينا. وفي خفاء ندائه

٤٦٧

وجوه منها : أن الإخفاء أبعد عن الرياء وأدخل في الخشية ولهذا فسره الحسن بأنه نداء لا رياء فيه. ومنها أنه أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في غير وقته. ومنها أنه أسره من مواليه الذين خافهم. ومنها أنه خفت صوته لضعفه وهرمه كما جاء في صفة الشيخ «صوته خفات وسمعه تارات» ولعله أتى بأقصى ما يقدر عليه من الصوت ومع ذلك كان خفيا لنهاية كبره. ثم شرع في حكاية ندائه قائلا : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) إلى قوله : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) قال علماء المعاني : في الآية لطائف وذلك أصل الكلام : يا ربي قد شخت فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن وشيب الرأس ، ثم ترك الإجمال إلى التفصيل لتوخي زيادة التقرير فصار ضعف بدني وشاب رأسي ، ثم في القرينة الأولى عدل من التصريح إلى الكناية التي هي أبلغ منه فصار وهنت عظامي فإن وهن عظام البدن لازم لضعفه ، ثم بنيت الكناية على المبتدأ لتقوي الحكم فحصل أنا وهنت عظام بدني ، ثم سلك طريق الإجمال والتفصيل لمزيد البيان فصار : إني وهنت العظام من بدني لأنك إذا قلت إني وهنت العظام أفاد أن عظاما واهنة عندك ، فإذا قلت : «من بدني» فقد فصلت ، ثم ترك توسيط البدن لطلب مزيد اختصاص العظام ، ثم لطلب شمول العظام فردا فردا قصدت مرتبة ثانية وهي ترك جمع العظم إلى الإفراد لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع فحصل (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) فحصل أني وهنت العظام مني. وإذا حصل الوهن في هذا الجنس الذي هو أصلب الأعضاء وبه قوام البدن وقد يكون جنة لسائر الأعضاء الرئيسة كالقحف للدماغ والقص للقلب ففي الأعضاء الأخر أولى. وأما القرينة الأخرى فتركت الحقيقة فبها الاستعارة التي هي أبلغ فحصل اشتعل شيب رأسي. وبيان الاستعارة فيه أنه شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته ، وشبه انتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكتابة بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه فصار اشتعل شيب رأسي. ويمكن تقرير الاستعارة بوجه آخر وهو أن يكون استعمل (اشْتَعَلَ) بدل «انتشر» فتكون الاستعارة تبعية تصريحية وقرينتها ذكر الشيب ، ثم تركت هذه المرتبة إلى أبلغ منها وهي «اشتعل رأسي شيبا». وكونها أبلغ من وجهات منها : إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادته شمول الاشتعال الرأس كما لو قلت : «اشتعل بيتي نارا» مكان «اشتعل النار في بيتي». ومنها الإجمال والتفصيل الواقعان في طريق التمييز ، ومنها تنكير (شَيْباً) للتعظيم كما هو حق التمييز. ثم عدل إلى مرتبة أخرى هي «اشتعل الرأس مني شيبا» لتوخي مزيد التقرير بالإبهام ثم البيان على نحو (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) ثم ترك لفظ «مني» لسبق ذكره في القرينة الأولى ففي ذلك إحالة تأدية المعنى على العقل دون اللفظ. وكم بين الحوالتين مع أن بناء الكلام على الاختصار حيث قال «رب» بحذف حرف

٤٦٨

النداء وياء المتكلم يناسب الاختصار في آخره. وإنما أطنب في هذا المقام لأن هذه الآية كالعلم فيما بين علماء المعاني.

ثم إنه توسل إلى الله عزوجل بما سلف له معه من الاستجابة قائلا (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) كما حكى أن محتاجا قال لكريم : أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا فقال : مرحبا بمن توسل إلينا وقضى حاجته. تقول العرب : سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها ، وشقي بها إذا خاب ولم ينلها. ومعنى (بِدُعائِكَ) أي بدعائي إياك. واعلم أن زكريا عليه‌السلام قدم على السؤال أمورا ثلاثة : الأول كونه ضعيفا ، والثاني أنه تعالى لم يرد دعاءه والثالث كون المطلوب بالدعاء سببا للمنفعة في الدين وذلك قوله (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) قال ابن عباس والحسن : أي الورثة. وعن مجاهد العصبة. وعن أبي صالح : الكلالة. وعن الأصم : بني العم وهم الذين يلونه في النسب. وعن أبي مسلم : المولى يراد به الناصر وابن العم والمالك والصاحب وهو هاهنا من تقدم في ميراثه كالولد. والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده إما في السياسة أو في المال الذي كان له أو في القيام بأمر الدين ، وكان من عاداتهم أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب كان متعينا للحبورة. وقوله : (مِنْ وَرائِي) أي بعد موتي لا يتعلق بـ (خِفْتُ) لأن الخوف بعد الموت محال ولكن بمحذوف أي الموالي الذين يخلفون من بعدي ، أو بمعنى الولاية في الموالي أي خفت ولايتهم وسوى خلافتهم بعدي ، فإن زكريا انضم له مع النبوّة الملك فخاف بعده على أحدهما أو عليهما. وسبب الخوف القرائن والأمارات التي ظهرت له من صفائح أحوالهم وأخلاقهم. وإنما قال : (خِفْتُ) بلفظ الماضي لأنه قصد به الإخبار عن تقادم الخوف ، ثم استغنى بدلالة الحال كمسألة الوارث وإظهار الحاجة عن الإخبار بوجود الخوف في الحال. وقرىء (خِفْتُ الْمَوالِيَ) بتشديد الفاء. وعلى هذا فمعنى ورائي خلفي وبعدي أي قلوا وعجزوا عن أمر الدين والإقامة بوظائفه ، والظرف متعلق بالموالي ، أو معناه قدامي والظرف متعلق بـ (خِفْتُ) أي درجوا ولم يبق من يعتضد به. ثم صرح بالمسألة قائلا : (فَهَبْ لِي) وأكده بقوله : (مِنْ لَدُنْكَ) أي وليا صادرا من عندك مضافا إلى اختراعك بلا سبب لأني وامرأتي لا تصلح للولادة. من قرأ (يَرِثُنِي وَيَرِثُ) بالجزم فيهما فهو جواب الدعاء ، ومن قرأ برفعهما فالأكثرون ومنهم جار الله قالوا : إنه صفة. وقال صاحب المفتاح : الأولى حمله على الاستئناف كأنه قيل : لم تطلب الولد؟ فقال مجيبا : يرثني أي لأنه يرثني لئلا يلزم منه أنه لم يوهب من وصف لهلاك يحيى قبل زكريا. واعترض بأن حمله على الاستئناف يوجب الإخبار عما لم يقع ، وكذب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٤٦٩

أمنع من كونه غير مستجاب الدعوة. وأجيب بأن عدم ترتب الغرض من طلب الولد لا يوجب الكذب. وأقول : الاعتراض باق لأن المعنى يؤل إلى قولنا «هب لي وليا موصوفا بالوراثة» أو بأن الغرض منه الوراثة ، أوهب لي وليا أخبر عنه بأنه يرثني. وعلى التقادير يلزم عدم الاستجابة أو الكذب. والحق في الجواب هو ما سلف لنا في قصة زكريا من سورة آل عمران ، أن النبي لا يطلب في الدعاء إلا الأصلح حتى لو كان الأصلح غير ما طلبه فصرفه الله تعالى عنه كان المصروف إليه هو بالحقيقة مطلوبه. ويمكن أن يقال : لعل الوراثة قد تحققت من يحيى وإن قتل قبل زكريا ، وذلك بأن يكون قد تلقى منه كتاب أو شرع هو المقصود من وجود يحيى وبقي ذلك الكتاب أو الشرع معمولا به بعد زكريا أيضا إلى حين. وقد روى صاحب الكشاف هاهنا قراءات شاذة لا فائدة كثيرة في تعدادها إلى قوله عن علي وجماعة وأرث من آل يعقوب أي يرثني به وارث ويسمى التجريد في علم البيان. فقيل : هو أن تجرد الكلام عن ذكر الأول حتى تقول «جاءني فلان فجاءني رجل» لا تريد به إلا الأول ، ولذلك تذكر اسمه في الجملة الثانية ، وتجرد الكلام عنه. وأقول : يشبه أن يكون معنى التجريد هو أنك تجرده عن جميع الأوصاف المنافية للرجولية. وكذا في الآية كأنه جرده عن منافيات الوارثية بأسرها.

واختلف المفسرون في أنه طلب ولدا يرثه أو طلب من يقوم مقامه ولدا كان أو غيره؟ والأول أظهر لقوله في آل عمران (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) [آل عمران : ٣٨] ولقوله في سورة الأنبياء (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) [الأنبياء : ٨٩] حجة المخالف أنه لما بشر بالولد استعظم وقال (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) ولو كان دعاؤه لأجل الولد ما استعظم ذلك. والجواب ما مر في آل عمران. واختلفوا أيضا في الوراثة فعن ابن عباس والحسن والضحاك : هي وراثة المال. وعنهم أيضا أن المراد يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوّة أو بالعكس. وفي رواية أبي صالح أن المراد في الموضعين النبوّة. فلفظ الإرث مستعمل في المال (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [الأحزاب : ١٧] وفي العلم (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) [غافر : ٥٣] «العلماء ورثة الأنبياء» وحجة الأولين ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رحم الله زكريا وما عليه من يرثه» فإن ظاهره يدل على أنه أراد بالوراثة المال. وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» (١) ، وأيضا العلم والنبوة كيف

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الخمس باب : ١. مسلم في كتاب الجهاد حديث ٤٩ ـ ٥٢. أبو داود في كتاب الإمارة باب : ١٩. الترمذي في كتاب السير باب : ٤٤. النسائي في كتاب الفيء باب : ٩ ، ١٦. الموطأ في كتاب الكلام حديث ٢٧. أحمد في مسنده (١ / ٤ ، ٦ ، ٩ ، ١٠).

٤٧٠

يحصل بالميراث ولو كان المراد إرث النبوّة لم يحتج إلى قوله : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) لأن النبي لا يكون إلا مرضيا. وأجيب بأنه إذا كان المعلوم من حال الابن أنه يصير نبيا بعده فيقوم بأمر الدين جاز أن يقال ورثه. والمراد يكون رضيا أن لا يوجد منه معصية ولا همّ بها كما جاء في حق يحيى ، وقد مر الحديث هناك. ولا يلزم من هذا أن يكون يحيى مفضلا على غيره من الأنبياء كلهم فلعل لبعضهم فضائل أخر تختص به. احتجت الأشاعرة بالآية في مسألة خلق الأعمال ، وأجابت المعتزلة بأنه يفعل به ضروب الألطاف فيختار ما يصير مرضيا عنده ، وزيف بأن ارتكاب المجاز على خلاف الأصل ، وبأن فعل الألطاف واجب على الله فطلب ذلك بالدعاء والتضرع عبث. واعلم أن أكثر المفسرين على أن يعقوب المذكور في الآية هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم لأن زوجة زكريا كانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهودا بن يعقوب ، وأما زكريا فقد كان من ولد هرون أخي موسى وهرون وموسى ولد لاوى بن يعقوب بن إسحق ، وكانت النبوّة في سبط وهو إسرائيل عليه‌السلام. وزعم بعض المفسرين أن المراد هو يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان وهذا قول الكلبي ومقاتل. وعن مقاتل : أن بني ماثان كانوا رؤوس بني إسرائيل وملوكها.

قوله : (يا زَكَرِيَّا) الأكثرون على أنه نداء من الله تعالى لقرينة التخاطب من قوله : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) إلى قوله : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) ومنهم من قال : هو نداء الملك لقوله في آل عمران (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) [الآية : ٤٩] وجوز بعضهم الأمرين. واختلفوا في عدم السمي فقيل : أراد أن لم يسم أحد بيحيى قبله. وقيل : أراد أنه لا نظير له كقوله (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥] وذلك أنه سيدا وحصورا ولم يعص ولم يهم بمعصية فكأنه جواب لقوله : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) وأيضا سمي بيحيى قبل دخوله في الوجود ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر فلا نظير له في هذه الخواص. قال بعض العلماء : القول الأول أظهر لما في الثاني من العدول عن الظاهر ولا يصار إليه لضرورة كما في قوله : (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥] لأنا نعلم أن مجرد كونه تعالى لا سميّ له لا يقتضي عبادته فنقول : السّميّ هناك يراد به المثل والنظير. ويمكن أن يقال : إن التفرد بالاسم فيه ضرب من التعظيم فلا ضرورة في الآية أيضا. قال جار الله : إنما قيل للمثل سميّ لأن كل متشاكلين يسمى كل منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير ، فكل واحد منهما سمي. قلت : ويقرب هذا من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم. ولم سمي بيحيى؟ تكلفوا له وجوها. فعن ابن عباس لأنه تعالى أحيا عقر أمه. وعن قتادة لأنه تعالى أحيا قلبه بالإيمان والطاعة (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢] (إِذا

٤٧١

دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) [الأنفال : ٢٤]. ولهذا كان من أول من آمن بعيسى. وقيل : لأنه استشهد والشهداء أحياء. وقيل : لأن الدين أحيى به لأن زكريا سأله لأجل الدين. قوله : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ) قال جار الله : أي من أجل الكبر والطعن في السن العالية فـ «من» للتعليل ، ويجوز أن تكون للابتداء أي بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى (عِتِيًّا) وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام. يقال : عتا العود عتيا إذا غيره طول الزمان إلى حالة اليبس.

سؤال : إنه قال في آل عمران (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) [آل عمران : ٤٠] فلم عكس الترتيب في هذه السورة؟ وأجيب بأن الواو لا تفيد الترتيب. قلت : إن ذلك ورد على الأصل وهو تقديم نقص نفسه وهاهنا راعى الفاصلة. (قالَ) الأمر (كَذلِكَ) تصديقا له. ثم ابتدأ قائلا (قالَ رَبُّكَ) فمحل (كَذلِكَ) رفع ، ويحتمل أن يكون نصبا (قالَ) وذلك إشارة إلى مبهم يفسره قوله : (هُوَ) أي خلق الغلام (عَلَيَّ هَيِّنٌ) ويحتمل أن يكون إشارة إلى قول زكريا (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي كيف تعطيني الغلام أبأن تجعلني وزوجتي شابين أو بأن تتركنا على الشيخوخة؟ فأجيب بقوله : (كَذلِكَ) أي نهب الولد لك مع بقائك وبقاء زوجتك على حالتكما. ولفظ الهين مجاز عن كمال القدرة وهو فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب ولم يمتنع عن المراد (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئا يعتد به كالنطفة ، أو كالجواهر التي لم تتألف بعد ، فيه نفي استبعاد زكريا ، لأن خلق الذات ثم تغييرها في أطوار الصفات ليس أهون من تبديل الصفات وهو أحداث القوة المولدة في زكريا وصاحبته بعد أن لم تكن (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) قد مر تفسير الآية في أول عمران. قوله : (سَوِيًّا) قيل : إنه صفة لليالي أي تامة كاملة. والأكثرون على أنه صفة زكريا أي وأنت سليم الحواس مستوى الخلق ما بك خرس ولا عيّ (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) قيل : كان له موضع ينفرد فيه للصلاة والعبادة ثم ينتقل إلى قومه. وقيل : كان موضعا يصلي فيه هو وغيره إلا أنهم كانوا لا يدخلونه للصلاة إلا بإذنه. (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) عن مجاهد : أشار بدليل قوله في أول آل عمران (إِلَّا رَمْزاً) وعن ابن عباس : كتب لهم على الأرض. و (أَنْ) هي المفسرة و (سَبِّحُوا) أي صلوا أو على الظاهر وهو قول سبحان الله. عن أبي العالية أن البكرة صلاة الفجر والعشيّ صلاة العصر ، فلعلهم كانوا يصلون معه هاتين الصلاتين في محرابه ، وكان يخرج إليهم ويأذن لهم بلسانه ، فلما اعتقل لسانه خرج إليهم كعادته ففهمهم المقصود بالإشارة أو الكتابة. وهاهنا إضمار والمراد فبلغ يحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فقلنا له : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ) أي التوراة لأنها

٤٧٢

المعهود حينئذ ، ويحتمل أن يكون كتابا مختصا به وإن كنا لا نعرفه الآن كقول عيسى (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) [مريم : ٣٠] والمراد بالأخذ إما الأخذ من حيث الحس ، وإما الأخذ من حيث المعنى وهو القيام بمواجبه كما ينبغي وذلك بتحصيل ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به والإحجام عن المنهي عنه. ثم أكده بقوله : (بِقُوَّةٍ) أي بجد وعزيمة. (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ) أي الحكمة. عن ابن عباس : هو فهم التوراة والفقه في الدين ولذلك لما دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبي قال : ما للعب خلقت. وعن معمر : العقل. وقيل : النبوة. وكل هذه الأوصاف على الأقوال من الخوارق كما في حق عيسى فلا استبعاد إلا من حيث العادة. والحنان أصله توقان النفس ، ثم استعمل في الرحمة وهو المراد هاهنا. وما قيل إنه يحتمل أن يراد حنانا منا على زكريا أو على أمة يحيى لا يساعده وجود الواو. وقيل : أراد آتيناه الحكم والحنان على عبادنا كقوله في نبينا (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] وأراد بقوله : (وَزَكاةً) أنه مع الإشفاق عليهم كان لا يخل بإقامة ما يجب عليهم لأن الرأفة واللين ربما تورث ترك الواجب ولهذا قال : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [النور : ٢] ولا يخفى أنه يساعد هذا القول وجود لفظة (مِنْ لَدُنَّا) وعن عطاء : أن معنى حنانا تعظيما من لدنا. وعن ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جريج : أن معنى زكاة عملا صالحا زكيا. وقيل : زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكى الشهود. وقيل : بركة كقول عيسى (جَعَلَنِي مُبارَكاً) وقيل : صدقة أي ينعطف على الناس ويتصدق عليهم.

ثم أخبر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جملة أحواله بقوله : (وَكانَ تَقِيًّا) بحيث لم يعص الله ولا هم بمعصية قط (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) لأن تعظيم الوالدين تلو تعظيم الله (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) وذلك أن الزاهد في الدنيا قلما يخلو عن طلب ترفع والرغبة في احترام ، فذكر أنه مع غاية زهده كان موصوفا بالتواضع للخلق وتحقيق العبودية للحق. قال سفيان : الجبار الذي يقتل عند الغضب دليله قوله : (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) [القصص : ١٩] ثم إنه سبحانه سلم عليه في ثلاثة مواطن هي أوحش المواطن وأحوجها إلى طلب السلامة فيها ، ويحتمل أن يكون هذا السلام من الملائكة عليه إلا أنه لما كان بإذن الله كان كلام الله ، وقيل : إنما قال : (حَيًّا) مع أن المبعوث هو المعاد إلى حال الحياة تنبيها على كونه من الشهداء وهم أحياء إلا أنه يشكل بما يجيء في قصة عيسى (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم : ٣٣] وذلك أنه ورد في الأخبار أن عيسى سيموت بعد النزول. والظاهر أنه أراد ويوم يجعل حيا فوضع الأخص

٤٧٣

موضع الأعم تأكيدا. قيل : السلام عليه يوم ولد لا بد أن يكون تفضلا من الله تعالى لأنه لم يتقدم منه عمل يجزى عليه ، وأما الآخران فيجوز أن يكونا لأجل الثواب. قلت : أكثر أموره خارق للعادة ، فيحتمل أن يوجد منه في بطن أمه عمل يستحق الثواب كما يحكى أن أمه قالت لمريم وهما حاملان : إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك.

التأويل : إن زكريا الروح (نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) من سر السر (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ) مني عظم الروحانية واشتعل شيب صفات البشرية ، وإني خفت صفات النفس أن تغلب (وَكانَتِ امْرَأَتِي) يعني الجثة التي هي روح الروح (عاقِراً) لا تلد إلا بموهبة من الله (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) سأل (وَلِيًّا) فأعطاه الله نبيا وهو في الحقيقة القلب الذي هو معدن العلم اللدني فإنه ولد الروح والنفس أعدى عدوه (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) أي يتصف بصفة الروح وجميع الصفات الروحانية (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) بأن توطنه من تجلي صفات ربوبيتك ما يرضى به نظيره (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى : ٥] (اسْمُهُ يَحْيى) إن الله أحياه بنوره و (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) لا من الحيوانات ولا من الملائكة لأنه هو الذي يقبل فيض الألوهية بلا واسطة ، وهو سر حمل الأمانة كما قال : «ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن» (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ) أي بسبب طول زمان تعلق القلب بالقالب (عِتِيًّا) يبسا وجفافا من غلبات صفات النفس (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) لا تخاطب إلا الله ولا تلتفت إلى ما سواه (ثَلاثَ لَيالٍ) هي ثلاث مراتب الجماديات والحيوانيات والروحانيات (سَوِيًّا) متمكنا في هذا الحال من غير تلون (فَخَرَجَ) زكريا الروح من محراب هواه وطبعه على قوم صفات نفسه وقلبه وأنانيته ، فأشار إليهم أن كونوا متوجهين إلى الله معرضين عما سواه آناء الليل وأطراف النهار بل بكرة الأزل وعشيّ الأبد (يا يَحْيى) القلب (خُذِ) كتاب الفيض الإلهي المكتوب لك في الأزل (بِقُوَّةٍ) ربانية لا بقوة جسدانية لأنه خلق ضعيفا (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ) في صباه إذ خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره (زَكاةً) وتطهرا من الالتفات إلى غيرنا (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) الروح والقالب. أما بالروح فلأن القلب محل قبول الفيض الإلهي لأن الفيض نصيب الروح أوّلا ولكن لا يمسكه لغاية لطافته كما أن الهواء الصافي لا يقبل الضوء وينفذ فيه ، وأما القلب ففيه صفاء وكثافة فبالصفاء يقبل الفيض وبالكثافة يمسكه ، وهذا أحد أسرار حمل الأمانة. وأما بر والدة القالب فهو استعمالها على وفق الشريعة والطريقة (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) كالنفس الأمارة بالسوء وسلام عليه يوم يولد في أصل خلقه (وَيَوْمَ يَمُوتُ) من استعمال المعاصي بالتوبة (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) بالتربية والترقي إلى مقام السلامة الله حسبي.

٤٧٤

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠))

القراآت : (إِنِّي أَعُوذُ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ليهب لك على الغيبة : أبو عمرو ويعقوب وورش والحلواني عن قالون وحمزة في الوقف. الآخرون (لِأَهَبَ) على التكلم (نَسْياً) بفتح النون : حمزة وحفص. والباقون بكسرها. (مِنْ تَحْتِها) بكسر الميم على أنه حرف جر وبجر التاء الثانية : أبو جعفر ونافع وسهل وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون بفتحهما على أن «من» موصولة والظرف صلتها (تُساقِطْ) بحذف تاء التفاعل : علي وحمزة والخزاز عن هبيرة. (تُساقِطْ) من المفاعلة : حفص غير الخزاز يساقط بياء الغيبة ، على أن الضمير للجذع وبإدغام التاء في السين : سهل ويعقوب ونصير وحماد. الباقون مثله ولكن بتاء التأنيث على أن الضمير للنخلة (آتانِيَ الْكِتابَ) ممالة مفتوحة الياء : عليّ. وقرأ حمزة مرسلة الياء

٤٧٥

مفخمة في الوصل ممالة في الوقف. (وَأَوْصانِي) بالإمالة : علي (قَوْلَ الْحَقِ) بالنصب : ابن عامر وعاصم ويعقوب. (وَإِنَّ اللهَ) بكسر الهمزة : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وروح والمعدل عن زيد

الوقوف : (مَرْيَمَ) لا ليصير «إذ» ظرفا لأذكر (شَرْقِيًّا) لا للعطف (زَكِيًّا) ه (بَغِيًّا) ه (كَذلِكِ) ط لما مر (هَيِّنٌ) ج لجواز كون الواو مقحمة أو معلقة بمحذوف كما يجيء (مِنَّا) ج لاختلاف الجملتين (مَقْضِيًّا) ه (قَصِيًّا) ه (النَّخْلَةِ) ج لترتب الماضي من غير عاطف والأولى أن يكون استئنافا (مَنْسِيًّا) ه (سَرِيًّا) ه (جَنِيًّا) ه ز (عَيْناً) ه ج للشرط مع الفاء (أَحَداً) لا لأن ما بعده جواب الشرط (إِنْسِيًّا) ه ج للعطف مع الآية (تَحْمِلُهُ) ط (فَرِيًّا) ه (بَغِيًّا) ه ج (إِلَيْهِ) ج (صَبِيًّا) ه (عَبْدُ اللهِ) ط لأن الجملة لا تقع صفة للمعرفة. ويمكن أن يجعل معنى التحقيق في «إن» عاملا فيكون حالا فلا يوقف (أَيْنَ ما كُنْتُ) ص لطول الكلام (حَيًّا) ص ه لذلك والوصل أولى لأن قوله (وَبَرًّا) معطوف على قوله (مُبارَكاً). (بِوالِدَتِي) ج لتبدل الكلام من الإثبات إلى النفي (شَقِيًّا) ، (حَيًّا) ه ، (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) ج على القراءتين لاحتمال أن يراد أقول قول الحق وأن يجعل حالا ، وأما في قراءة الرفع فإما أن يكون بدلا من عيسى أو يكون التقدير هو قول الحق (يَمْتَرُونَ) ه ، (مِنْ وَلَدٍ) ه استعجالا للتنزيه (سُبْحانَهُ) ط (فَيَكُونُ) ه ط لمن قرأ (وَإِنَ) بالكسر (فَاعْبُدُوهُ) ط (مُسْتَقِيمٌ) ، ه (مِنْ بَيْنِهِمْ) ج لأن ما بعده مبتدأ مع الفاء (عَظِيمٍ) ه (وَأَبْصِرْ) لا لأن ما بعده ظرف للتعجب (مُبِينٍ) ه وسمعت عن مشايخي رحمهم‌الله أن الوقف على قوله (قُضِيَ الْأَمْرُ) لازم لا أقل من المطلوب لأن ما بعده جملة مستأنفة ولو وصل لأوهم أن يكون حالا من القضاء وليس كذلك (لا يُؤْمِنُونَ) ، ه (يُرْجَعُونَ) ه.

التفسير : هذا شروع في ابتداء خلق عيسى ولا ريب أن خلق الولد بين شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد من غير أب ، فلهذا أخرت قصة عيسى عن قصة يحيى ترقيا من باب التفهم من الأدنى إلى الأعلى. وقوله «إذ» بدل الاشتمال من مريم لأن الأزمان مشتملة على ما فيها ، وفي هذا الإبدال تفخيم لشأن الوقت كوقوع قصتها العجيبة فيه. والانتباه «افتعال» من النبذ الطرح كأنها ألقت نفسها إلى جانب معتزلة عن الناس في مكان يلي شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها. قال ابن عباس : من هاهنا اتخذت النصارى المشرق قبلة (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) لا بد لهذا الاحتجاب من غرض صحيح فمن المفسرين من قال : إنها لما رأت الحيض تباعدت عن مكانها المعتاد لكي تنتظر الطهر فتغتسل وتعود ، فلما طهرت جاء جبريل عليه‌السلام ، وقيل : طلبت الخلوة لأجل العبادة.

٤٧٦

وقيل : في مشربة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو شيء يسترها. وقيل : كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه ، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها بابها فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها ، فانفجر السقف لها فخرجت وجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك وذلك قوله : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) يعني جبرائيل لأن الدين يحيا به وبوحيه ، والإضافة للتشريف والتسمية مجاز كما تقول لمن تحبه إنه روحي (فَتَمَثَّلَ لَها) حال كونه (بَشَراً سَوِيًّا) تام الخلق أو حسن الصورة. وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ، وتدرع الروحاني كجبريل مثلا تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالصغير غير مستبعد ، والذين اعتقدوا أن جبرائيل جسماني جوزوا أن يكون له أجزاء أصلية قليلة وأجزاء فاضلة ، فبتلك الأجزاء الأصلية يكون متمكنا من التشبه بصورة الإنسان ، ولندرة أمثال هذه الأمور لا يلزم منها قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس. فلا يلزم الشك في أن زيدا الذي نشاهده الآن هو الذي شاهدناه بالأمس. قوله : (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله وترجع بالاستعاذة به فإني عائذة به منك. وقيل : إنه كان في ذلك العصر إنسان فاجر اسمه تقي وكان يتتبع النساء فظنت أن ذلك المتمثل هو ذلك الشخص فاستعاذت بالله. وقيل : «إن» نافية أي ما كنت تقيا حين استحللت النظر إلي وخلوت بي. وحين علم جبريل خوفها (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) أرسلني (لِأَهَبَ لَكِ) أو ليهب لك (غُلاماً زَكِيًّا) طاهرا من الذنوب ينمو على النزاهة والعفة. وكيف زال خوفها بمجرد القيل؟ احتمل أن يكون قد ظهر لها معجزة من جهة زكريا أو إرهاصا لعيسى أو إلهاما من الله سبحانه. وهل تقدر الملائكة على تركيب الأجزاء وخلق الحياة والنطق حتى صح قول جبرائيل (لِأَهَبَ لَكِ)؟ قال : اجتمعت الأمة على أن لا قدرة للأجسام على إيجاد الجواهر وإعدامها وإلا فلا استبعاد في تأثير بعض الأجسام في بعضها الخاصية خصها الله بها. ووجه صحة هذه القراءة أن جبرائيل صار سببا في الهبة بالنفخ في الدرع.

(قالَتْ) استغرابا من حيث العادة لا تشكيكا في قدرة الله (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) ولم تقل هاهنا «رب» إما لأنها تخاطب جبرائيل ، وإما اكتفاء بما سلف في آل عمران (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) هي الفاجرة التي تبغي الرجال. عن المبرد أن أصله يغوى على «فعول» قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء وكسرت الغين للمناسبة. عن ابن جنى أنه «فعيل» وإلا لقيل بغو كنهو عن المنكر خصصت بعد ما عممت لزيادة الاعتبار بهذا الخزي تبرئة لساحتها عن الفحشاء. ولما جرى في أول القصة من تمثل جبرائيل لها بصورة البشر

٤٧٧

حتى ظنت أنه يريدها بسوء فاستعاذت بالرحمن منه بخلاف هذه القصة في آل عمران فإنها بنيت على الأمن والبشارة بقوله : و (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ) [آل عمران : ٤٥] فلم تحتج إلى هذه الزيادة. وقال جار الله : المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه في قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [البقرة : ٢٣٧] أو لمستم النساء [النساء : ٤٣] وإنما يقال في الزنا «فجر بها» و «خبث بها» ونحو ذلك ولا يليق به الكنايات والآداب. قلت لو سلم هذا من حيث اللغة إلا أنه لا بد لزيادة قوله : (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) في هذا المقام من فائدة وقد عرفت ما سنح لنا والله أعلم. (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) تفسيره كما مر في قصة زكريا (وَلِنَجْعَلَهُ) أي ولنجعل الغلام أو خلقه (آيَةً لِلنَّاسِ) يستدل بها على كمال اقتدارنا على إبداع الغرائب فعلنا ذلك ، ويجوز أن يكون معطوفا على تعليل مضمر يتعلق بما يدل عليه (هَيِّنٌ) أي تخلقه لنبين به قدرتنا (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً) وقد مر مثل هذا في قوله : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ) [يوسف : ٢١] (وَرَحْمَةً مِنَّا) على عبادنا لأن كل نبي رحمة لأمته فبه يهدون إلى صلاح الدارين (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) مقدرا في اللوح أو أمرا حقيقا بأن يقضي به لكونه آية ورحمة ، وهذا مبني على أن رعاية الأصلح واجبة على الله. وهاهنا إضمار قال ابن عباس : فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى بطنها فحملت. وقيل : في ذيلها فوصلت إلى الفرج. وقيل : في فمها. وقيل : إن النافخ هو الله كقوله (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص : ٧٢] وعلى هذا يقع تقديم ذكر جبرائيل كالضائع ولا سيما في قراءة من قرأ (لِأَهَبَ لَكِ) قيل : حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة. وقيل : بنت عشرين وقد حاضت حيضتين قبل أن تحمل. وكم مدة حملها؟ عن ابن عباس في رواية تسعة أشهر كما في سائر النساء لأنها لو كانت مخالفة لهن في هذه العادة لناسب أن يذكرها الله تعالى في أثناء مدائحها. وقيل : ثمانية أشهر ولم يعش مولود لثمانية إلا عيسى. قال أهل التنجيم : إنما لا يعيش لأنه يعود إلى تربية القمر وهو مغير معفن بسرعة حركته وغلبة التبريد والترطيب عليه. وعن عطاء وأبي العالية والضحاك : سبعة أشهر. وقيل : ستة أشهر. وقيل : حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها. وعن ابن عباس في رواية أخرى : كما حملته نبذته لقوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ) إلى قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] ولفاآت التعقيب في قوله : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) وعلى هذا فالمكان القصي هو أقصى الدار أو وراء الجبل بعيدا من أهلها. ومعنى انتبذت به اعتزلت متلبسة به وهو في بطنها. وقصى مبالغة قاص.

٤٧٨

وروى الثعلبي عن وهب قال : إن مريم لما حملت فأول من عرف هو يوسف النجار ابن عمها وكانت سميت له ، وكانا يخدمان المسجد ولا يعلم من أهل زمانهما أكثر عبادة وصلاحا منهما. فقال لها : إنه وقع في نفسي من أمرك شيء ولا أحب أن أكتمه عنك. فقالت : قل قولا جميلا. فقال : أخبريني يا مريم هل نبت زرع بغير بذر؟ قالت : نعم. ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر! أو تقول : إن الله لا يقدر على الإنبات حتى يستعين بالماء ، ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى! فقال يوسف : لا أقول هذا ولكني أقول : إن الله قادر على ما يشاء ، وزالت التهمة عن قلبه وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لضيق قلبها واستيلاء الضعف عليها من الحمل. فحين دنا نفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك ، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ، فلما بلغت تلك الدار أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة. قال جار الله : منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. لا يقال : جئت المكان وأجاءنيه زيد كما يقال بلغته وأبلغنيه ، ونظيره «آتى» حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء ولم يقل «أتيت المكان وآتانيه فلان». قلت : حاصله تخصيص باء التعدية بعد تعميم و (الْمَخاضُ) بفتح الميم وجع الولادة. قال الجوهري : مخضت الناقة بالكسر مخاضا مثل سمع سماعا. قيل : طلبت الجذع لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة. يروى أنه كان جذعا لنخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمرة خضرة ، وكان الوقت شتاء والتعريف إما كتعريف النجم والصعق لكون ذلك الجذع مشهورا هناك ، وإما للجنس أي جذع هذه الشجرة خاصة أرشدت إليها لتطعم منها الرطب الذي هو خرسة النفساء أي طعامها الموافق لها ، ولأن النخلة أقل الأشياء صبرا على البرد ولا تثمر إلا باللقاح فكان ظهور ذلك الرطب من ذلك الجذع في الشتاء من دون لقاح وإبار دليلا على حصول الولد من غير ذكر. قال في الكشاف : النسي اسم ما من حقه أن يطرح وينسى كخرقة الطامث ونحوها ، ونظير الذبح لما من شأنه أن يذبح. وعن يونس : أن العرب إذا ارتحلوا قالوا : انظروا أنساءكم يعنون العصا والقدح والشظاظ ونحوها. تمنت لو كانت شيئا يعبأ به فحقه أن ينسى في العادة.

ومعنى (مَنْسِيًّا) أنه قد نسي وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو حقه. وإنما تمنت ذلك لما لحقها من فرط الحياء والخجل ، أو لأنهم بهتوها وهي عارفة ببراءة ساحتها فشق ذلك عليها ، أو لخوفها على الناس أن يعصوا الله بسببها. ومن قرأ (نَسْياً) بالفتح فقد قال الفراء : هما لغتان كالوتر والوتر. ويجوز أن يكون تسمية بالمصدر كالحمل. وقرىء نسأ بالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ينسؤه أهله لقلته ونزارته (فَناداها مِنْ تَحْتِها)

٤٧٩

الذي هو تحتها أو إنسان تحتها يعني جبريل بناء على أنه كان يقبل الولد كالقابلة ، أو أراد أسفل من مكانها لأن مريم كانت أقرب إلى الشجرة منه ، أو كان جبريل تحت الأكمة وهي فوقها فصاح بها لا تحزني. وعن الحسن وسعيد بن جبير أن المراد به عيسى لأن ذكر عيسى أقرب ، ولأن موضع اللوث لا يليق بالملك ، ولأن الصلة يجب أن تكون معلومة للسامع والذي علم كونه حاصلا تحتها هو الولد ويجري القولان فيمن قرأ بكسر الميم. وعن عكرمة وقتادة أن الضمير في تحتها للنخلة. قوله : (سَرِيًّا) جمهور المفسرين على أن السريّ هو الجدول. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم سمي بذلك لأن الماء يسري فيه. وقيل : هو من السر ومعناه سخاء في مروءة : ويقال : فلان من سروات قومه أي من أشرافهم. وجمع السري سراة وجمع سراة سروات. عن الحسن : كان والله عبدا سريا حجة هذا القائل أن النهر لا يكون تحتها بل إلى جنبها ولا يمكن أن يقال : المراد أن النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كما في قوله : (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف : ٥١] لأنه خلاف الظاهر. وأجيب بأن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق ، وكل من كان أبعد منه كان تحت. وأراد أن النهر تحت الأكمة وهي فوقها. وأيضا حمل السري على النهر موافق قوله : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) [المؤمنون : ٥٠] وقوله : (فَكُلِي وَاشْرَبِي) يروى أن جبريل ضرب برجله فظهر ماء عذب. وقيل : كان هناك ماء جار ، والأول أقرب لأن قوله (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ) مشعر بالأحداث في ذلك الوقت. قال القفال : الجذع من النخلة هو الأسفل وما دون الرأس الذي عليه الثمرة. وقال قطرب : كل خشبة في أصل شجرة هي جذع ، والباء في قوله : (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) كالزائد لأن العرب تقول هزة وهز به والمعنى حركي جذع النخلة أو افعلي الهز به. و (رُطَباً) تمييز ومفعول تساقط على حسب القراآت اللازمة والمتعدية. وعن الأخفش المراد جواز انتصابه بـ (هُزِّي) أي هزي إليك رطبا جنيا بجذع النخلة أي على جذعها. والجني المأخوذ طريا. والظاهر أنه ما أثمر إلا الرطب وقد صار نخلا. وقيل : إنه كان على حاله وإنه أثمر مع الرطب غيره. قالوا : إذا عسر ولادة المرأة لم يكن لها خير من الرطب ، والتمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذا التحنيك. والمراد أنه جمع لها فائدتان في السري والرطب : إحداهما الأكل والشرب وقدم الأكل مع أن ذكر السري مقدم لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال من الدماء ، والثانية سلوة الصدر لكونهما معجزين لزكريا أو إرهاصا لعيسى أو كرامتين لمريم وأشار إلى هذه بقوله : (وَقَرِّي عَيْناً) لأن قرّة العين تلزم قوة القلب والتسلي من الهموم والأحزان.

٤٨٠