تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٤

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٩

حقائق. وسعي النفس بتبديل الأخلاق وانتفاء الأوصاف الحيوانية ، فجزاؤه بإشراق نور ربها لإزالة ظلمة صفاتها واطمئنانها إلى ذكر ربها لتصير قابلة لجذبه (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] وسعي القالب باستعمال أركان الشريعة وآداب الطريقة ، فجزاؤه ورفعة الدرجات ونيل الكرامات في الدارين فلا يصدنك عن هذه السعادات النفس الأمارة بالسوء التي لا تؤمن بها. ويحتمل أن يقال : أكاد أخفي الساعة ودخول الجنة والنار لئلا تكون عبادتي مشوبة بطمع الجنة وخوف النار. قالوا : أخطأ موسى في قوله (هِيَ عَصايَ) وكان عليه أن يقول «أنت أعلم بحالها مني» وفي قوله (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) وكان عليه أن يتكىء على لطف الله وكرمه فلهذا قيل له (أَلْقِها يا مُوسى) وفي قوله (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) إذ نسي أن العصا لا تكون واسطة لرزق أغنامه وإنما الرزاق هو الله. (خُذْها وَلا تَخَفْ) فإن الضار والنافع هو الله وحده فلا يكن خوفك إلا منه ولا رجاؤك إلا به (وَاضْمُمْ) يد همتك إلى جناح قنوعك (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) نقية عن درن السؤال وعن الطمع وباقي الحقائق مذكور في التفسير. وفي قوله (قَدْ أُوتِيتَ) بلفظ الماضي إشارة إلى أنه أعطي ذلك بالتقدير الأزلي لا بالتدبير العملي والله أعلم بالصواب.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً

٥٤١

سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))

القراآت : (وَلِتُصْنَعَ) بسكون اللام والعين على الأمر : يزيد الآخرون بكسر اللام ونصب العين (لِنَفْسِي اذْهَبْ فِي ذِكْرِي اذْهَبا) بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو خلقه بفتح اللام على أنه فعل : نصير الباقون بالسكون. (مَهْداً) وكذلك في «الزخرف» : عاصم وحمزة وعليّ وخلف وروح. الآخرون (مِهاداً) (سُوىً) بكسر السين : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وعليّ الآخرون بالضم (لا نُخْلِفُهُ) بالجزم جوابا للأمر : يزيد (يَوْمُ الزِّينَةِ) على الظرف : هبيرة : (وَقَدْ خابَ) حيث كان بالإمالة : حمزة (فَيُسْحِتَكُمْ) من الإسحات : حمزة وعليّ وخلف ورويس وحفص. الباقون بفتح الياء والحاء (إِنْ) مخففة : ابن كثير وحفص والمفضل. الباقون مشددة. هذين أبو عمرو و (هذانِ) بالتشديد : ابن كثير. الباقون بالتخفيف (فَأَجْمِعُوا) بهمزة الوصل وفتح الميم أمرا من الجمع : أبو عمرو. والآخرون على لفظ الأمر من الإجماع : (وَقَدْ أَفْلَحَ) بنقل الحركة إلى الدال حيث كان : ورش وعباس وحمزة في الوقف تخيل بالتاء الفوقانية : ابن ذكوان وروح والمعدل عن زيد الباقون وابن مجاهد عن ابن ذكوان بالتحتانية. تلقف بالتشديد والرفع على الاستئناف : ابن ذكوان. (تَلْقَفْ) بالتخفيف والجزم : حفص والمفضل. وقرأ البزي وابن فليح مشددة التاء كيد سحر على المصدر : حمزة

٥٤٢

وعلي وخلف. الباقون (كَيْدُ ساحِرٍ) على الوصف. (قالَ آمَنْتُمْ) بالمد : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن عامر وأبو جعفر ونافع وابن كثير عن ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل قال أمنتم على الخبر بغير مد : حفص وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل. الباقون أآمنتم بزيادة همزة الاستفهام (وَمَنْ يَأْتِهِ) مختلسة الهاء : يزيد وقالون ويعقوب غير زيد ، وأبو عمرو عن طريق الهاشمي عن اليزيدي (وَمَنْ يَأْتِهِ) بسكون الهاء : خلا دور جاء والعجلي وشجاع واليزيدي غير أبي شعيب ويحيى وحماد. الباقون (يَأْتِهِ) بالإشباع.

الوقوف : (أُخْرى) ه لا لأن «إذ» تفسير المرة (ما يُوحى) ه لا لأن ما بعده تفسير (ما يُوحى وَعَدُوٌّ لَهُ) ط (مِنِّي) ج لأن الواو وقد تكون مقحمة وتعلق اللام بـ (أَلْقَيْتُ) وقد تكون عاطفة على محذوف أي لتحب ولتصنع ، ومن جزم اللام وقف على (مِنِّي) لا محالة (عَلى عَيْنِي) م لئلا يوهم أن «إذ» ظرف (لِتُصْنَعَ مَنْ يَكْفُلُهُ) ط لانقطاع النظم وانتهاء الاستفهام على أن فاء التعقيب مع اتحاد القصة يجيز الوصل. (وَلا تَحْزَنَ) ط لابتداء منة أخرى (فُتُوناً) ه ط (يا مُوسى) ه (لِنَفْسِي) ه لا تساق الكلام مع حق الفاء مضمرة (ذِكْرِي) ه ج لمثل ما قلنا والمضمر واو (طَغى) ه للآية مع الفاء (يَخْشى) ه (يَطْغى) ه (وَأَرى) ه (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) ط لأن «قد» لتوكيد الابتداء وقد انقطع النظم على أن اتحاد المقول يجيز الوصل (مِنْ رَبِّكَ) ط لذلك فإن الواو للابتداء (فِي كِتابٍ) ج لاحتمال ما بعده الصفة والاستئناف (وَلا يَنْسى) ه بناء على أن «الذي» صفة الرب والأحسن تقدير هو الذي أو أعني الذي (ماءً) ط للالتفات (شَتَّى) ه (أَنْعامَكُمْ) ط (النُّهى) ه (أُخْرى) ه (وَأَبى) ه (يا مُوسى) ه (سُوىً) ه (ضُحًى) ه (أَتى) ه (بِعَذابٍ) ج لاختلاف الجملتين (افْتَرى) ه (النَّجْوى) ه (الْمُثْلى) ه (صَفًّا) ه (اسْتَعْلى) ه (أَلْقى) ه (أَلْقى) ج لأن التقدير فألقوا ما ألقوه فإذا حبالهم مع فاء التعقيب وإذا المفاجأة المنافيين للوقف (نَفْسِهِ) ه (مُوسى) ه (الْأَعْلى) ه (ما صَنَعُوا) ط (كَيْدُ ساحِرٍ) ط (أَتى) ه (وَمُوسى) ه (لَكُمْ) ط (السِّحْرَ) ق للقسم المحذوف ولانقطاع النظم مع فاء التعقيب وإتمام مقصود الكلام (النَّخْلِ) ج لابتداء معنى القسم ولفظ استفهام يعقبه مع اتفاق الجملة واتحاد الكلام. (وَأَبْقى) ه (قاضٍ) ط (الْحَياةَ الدُّنْيا) ط (مِنَ السِّحْرِ) ط (وَأَبْقى) ه (جَهَنَّمَ) ط (وَلا يَحْيى) ه (الْعُلى) ه لا لأن ما بعده بدل (فِيها) ط (تَزَكَّى) ه.

التفسير : منّ عليه منا أنعم ، ومنّ عليه منة أي امتن عليه كأن الله سبحانه قال لموسى : إني راعيت صلاحك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال ، أو كنت

٥٤٣

ربيتك من غير سابقة حق فلو منعتك الحال مطلوبك لكان ذلك ردا بعد القبول وحرمانا بعد الإحسان وذلك ينافي الكرم الذاتي. قالوا : المنة تهدم الصنيعة فهي نوع من الأذى. فقوله (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ) يكون من المن لا من المنة ، قلت : يحتمل أن لا تكون المنة من المنعم المطلق أذية وإنما تكون تنبها على النعم وإيقاظا من سنة الغفلة حتى يتلقى المكاف النعمة بالشكر والطاعة. وإنما قال (مَرَّةً أُخْرى) لأن الجملة قصة واحدة وإن كانت مشتملة على من كثيرة ، والوحى إلى أم موسى إما أن يكون على لسان نبي في عصرها كشعيب مثلا ، أو عن لسان ملك لا على طريق النبوّة كالوحي إلى مريم في قوله (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ) [آل عمران : ٤٢] أو أراها في المنام أنه وضع ولدها في التابوت وقذف في البحر ثم رده الله إليها ، أو ألهمها بذلك ، أو لعل الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحق ويعقوب أخبروا بذلك وانتهى خبرهم إليها. ومعنى (ما يُوحى) ما يجب أن يوحى لما فيه من المصلحة الدينية ولأنه أمر عظيم ولأنه مما لا يعلم إلا بطريق الوحي. «وأن» هي المفسرة لأن الإيحاء في معنى القول ، والقذف يستعمل بمعنى الوضع أي ضعيه في التابوت وقد مر معناه في «البقرة» في قصة طالوت. قال جار الله : الضميران الباقيان في قوله (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ) عائدان إلى موسى أيضا لئلا يؤدي إلى تنافر النظم ، فإن المقذوف والملقى إذا كان موسى وهو في جوف التابوت لزم أن يكون التابوت أيضا مقذوفا وملقى ويؤيده أن الضمير في قوله (عَدُوٌّ لَهُ) لموسى بالضرورة لأن عداوة التابوت غير معقولة. وإذا كان الضمير الأول والضمير الأخير لموسى فالأنسب بإعجاز القرآن أن يكون الضمير المتوسط أيضا له ، لأن المعنى صحيح واللفظ متناسب فلا حاجة الى العدول اعتمادا على القرينة. واليم هو البحر ، والمراد هاهنا نيل مصر والساحل شاطىء البحر. وأصل السحل القشر ولهذا قال ابن دريد : هو مقلوب لأن الماء سحله فهو مسحول. قال أهل الإشارة : من خصوصية انشراح الصدر بنور الوحي أن يقذف في قلبه قذف الولد الذي هو أعز الأشياء في تابوت التوكل وبحر التسليم حتى يلقيه اليم بساحل إرادة الله ومشيئته. يروى أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية إذا بالتابوت فأمر به فأخرج ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجها فأحبه عدوّ الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر اللفظ يدل على أن التابوت التقط من الساحل ، فلعل اليم ألقاه بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون فأداه النهر إلى البركة. أما كون فرعون عدوا لله من جهة كفره وعتوه فظاهر ، وأما كونه عدوّا لموسى وهو صغير

٥٤٤

فباعتباره المآل ، أو لأنه لو ظهر له حاله لقتله فسبحان من يربي حبيبه في حجر عدوّه. قالوا : كان بحضرة فرعون حينئذ أربعمائة غلام وجارية ، فحين أشار بأخذ التابوت ووعد من يسبق إلى ذلك الإعتاق تسابقوا جميعا ولم يظفر بأخذه إلا واحد منهم فأعتق الكل. والنكتة فيه أن عدوّ الله لم يجوز من كرمه حرمان البعض إذ عزم الكل على الأخذ ، فأكرم الأكرمين كيف لا يعتبر عزائم المؤمنين على الطاعة والخير؟ فالمرجو منه إعتاق الكل من النار وإن وقع لبعضهم تقصير في العمل. قوله (مِنِّي) إما أن يتعلق بـ (أَلْقَيْتُ) أو يكون صفة للمحبة أي محبة حاصلة مني وعلى الوجهين فالمحبة إما محبة الله ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وإما محبة الناس التي زرعها الله في قلوبهم ، فقد يروى أنه كانت على وجهه مسحة جمال وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه. قال القاضي : هذا الوجه أقرب لأنه في الصغر لا يوصف بمحبة الله التي يرجع معناها إلى إيصال الثواب. ورد بأن محبة الله عبارة عن إرادة الخير والنفع وهو أعم من أن يكون جزاء على العمل أو لا يكون ولهذا بين المحبة بقوله (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعى الشيء بالعينين إذا عني بحفظه ، ولما كان العالم بالشيء حارسا له عن الآفات كما أن الناظر إليه يحرسه أطلق لفظ العين على العلم لاشتباههما من هذا الوجه. وأيضا العين سبب الحراسة فأطلق السبب وأريد المسبب ، ويقال : عين الله عليك إذا دعي له بالحفظ والحياطة ، فالجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المبني للمفعول في (لِتُصْنَعَ) وجوز في الكشاف أن يكون (إِذْ تَمْشِي) ظرفا (لِتُصْنَعَ) وليس بذلك وإنما هو ظرف بـ (أَلْقَيْتُ) أو بدل من (إِذْ أَوْحَيْنا) على الوقتين من زمان واحد واسع يقول الرجل : لقيت فلانا سنة كذا ، ثم تقول وأنا لقيته إذ ذاك وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها.

يروى أنه لما فشا الخبر أن آل فرعون أخذوا غلاما في اليم وأنه لا يرتضع من ثدي امرأة كما قال سبحانه (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) [القصص : ١٢] جاءت أخت موسى عليه‌السلام واسمها مريم متنكرة فقالت (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) فجاءت بالأم فقبل ثديها وذلك قوله (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ) وقال في القصص (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ) [القصص : ١٣] تصديقا لقوله (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) [القصص : ٧] (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بلقائك (وَلا تَحْزَنَ) بسبب وصول لبن غيرها إلى معدتك (وَقَتَلْتَ) وأنت ابن اثنتي عشرة سنة (نَفْساً) هو القبطي الذي يجيء ذكره في القصص (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) وهو اقتصاص فرعون منك. وقيل : الغم هو القتل بلغة قريش ، أو أراد بالغم خوف عقاب الله وذلك قوله

٥٤٥

(فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ) [القصص : ١٦] (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) مصدر على «فعول» في المتعدي كالشكور والكفور ، أو جمع فتن كالظنون للظن ، أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كبدور في بدرة ، وحجوز في حجزة ، والفتنة المحنة والابتلاء بخير أو شر قال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] وفيها معنى التخليص من قولهم «فتنت الذهب» إذا أردت تخليصه. عن سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عن الفتون فقال : أي خلصناك من محنة بعد محنة. ولد في عام كان يقتل فيه الولدان ، وألقته أمه في البحر ، وهمّ فرعون بقتله ، وقتل قبطيا ، وأجر نفسه عشر سنين ، وضل الطريق ، وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة ، وكان يقول عند كل واحدة فهذه فتنة يا ابن جبير. قال العلماء : لا يجوز إطلاق اسم الفتان على الله تعالى وإن جاء (وَفَتَنَّاكَ) لأنه صفة ذم في العرف وستجيء قصة لبثة في أهل مدين وأنه على ثمان مراحل من مصر في سورة القصص إن شاء العزيز. قوله (عَلى قَدَرٍ) أي في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأستنبئك فيه ، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء وهو رأس أربعين سنة ، أو على موعد قد عرفته بأخبار شعيب أو غيره. والصنع بالضم مصدر صنع إليه معروفا أو قبيحا أي فعل ، والاصطناع «افتعال» منه واستعماله في الخير أكثر ، واصطنع فلان فلانا إذا اتخذه صنيعة ، واصطنعت فلانا لنفسي إذا اصطنعته وخرجته ومعناه أحسنت إليه حتى إنه يضاف إليّ. وقوله (لِنَفْسِي) أي لأصرفن جوامع همتك في أو امري حتى لا تشتغل بغير ما أمرتك به من تبليغ الرسالة وإقامة الحجة. وقال جار الله : مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك أهلا للتقريب والتكريم لخصائص فيه فيصطنعه بالكرامة ويستخلصه لنفسه فلا يبصر إلا بعينه ولا يسمع إلا بأذنه ولا يأتمن على مكنون سره سواه. وقال غيره من المعتزلة : إنه سبحانه إذا كلف عباده وجب عليه أن يلطف بهم ، ومن حمله الألطاف ما لا يعلم إلا سمعا ، فلو لم يصطنعه للرسالة لبقي في عهدة الواجب فهذا أمر فعله الله لأجل نفسه حتى يخرج عن عهدة ما يجب عليه.

ولما عد عليه المنن السابقة بإزاء الأدعية المذكورة رتب على ذكر ذلك أمرا ونهيا. أما الأمر فقوله (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) وفيه بيان ما لأجله اصطنعه وهو الإبلاغ وأداء الرسالة. (بِآياتِي) أي مع آياتي لأنهما لو ذهبا بدونها لم يلزمه الإيمان وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد. وما هذه الآيات غير العصا واليد لأنه لم يجر إلا ذكرهما فأطلق الجمع على الاثنين ، أو لأن كلا منهما مشتملة على آيات أخر ، أو لأنه يستدل بكل منهما على وجود إله قادر على الكل عالم بالكل وعلى نبوة موسى وعلى جواز الحشر حيث

٥٤٦

انقلب الجماد حيوانا والمظلم مستنيرا ومثله قوله (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) [آل عمران : ٩٧] وقيل : هما مع حل العقدة. وقيل : أراد اذهبا إني أمدكما بآياتي وأظهرها على أيديكما متى وقع الاحتياج إليها. وأما النهي فقوله (وَلا تَنِيا) بكسر النون مثل تعدا وقرىء (تَنِيا) بكسر حرف المضارعة أيضا للإتباع. والونى بفتحتين الضعف والفتور والكلال والإعياء ، والمعنى لا تنسياني بل اتخذا ذكري وسيلة في تحصيل المقاصد واعتقدا أن أمرا من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكري فإن المداومة على ذكر الله توجب عدم الخوف من غيره. وأن يستحقر في نظره ما سواه لقوة نفسه واستنارة باطنه. وقيل : أراد بالذكر تبليغ الرسالة فإن الذكر يقع على كل العبادات فضلا عن أعظمها فائدة وأتمها عائدة. وقيل : اذكرني عند فرعون وقومه بأني لا أرضى بالكفر وأعاقب عليه وأثيب على الإيمان وأرتضيه ، وبالجملة كل ما يتعلق بالترهيب والترغيب. ما الفائدة في تكرير قوله (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ)؟ والجواب بعد التقرير والتأكيد أمرهما أن يشتغلا بأداء الرسالة معا لا أن ينفرد به موسى ، أو الأول أمر بالذهاب إلى كل بني إسرائيل والقبط ، والثاني مخصوص بفرعون الطاغي. ثم إنه خوطب كلاهما وموسى حاضر فقط لأنه أصل ، أو هو كقوله (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) [البقرة : ٧٢] والقاتل واحد منهم. ويحتمل أن هارون قد حضر وقتئذ فقد روى أن الله عزوجل أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى. وقيل : ألهم بذلك. وقيل : سمع بخبره فتلقاه.

سؤال : لم أمرا بتليين القول للعدوّ المعاند؟ جوابه لأن من عادة الجبابرة إذا أغلظ لهم في الكلام أن يزدادوا عتوا وعلوا. وقيل : لما له من حق تربية موسى شبه حق الأبوة. وكيف ذلك القول اللين؟ الأصح أنه نحو قوله تعالى (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) [النازعات : ١٨ ، ١٩] لأن ظاهره الاستفهام والمشهورة وعرض ما فيه صلاح الدارين. وقيل : أراد عداه شبابا لا يهرم بعده ، وملكا لا ينزع منه إلا بالموت ، وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته. حكى عمرو بن دينار قال : بلغني أن فرعون عمر أربعمائة وتسعا وستين سنة. فقال له موسى : إن أطعتني فلك مثل ما عمرت فإذا مت فلك الجنة. وقيل : أراد كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث : أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة. ويحتمل أن يكون أمر بالقول اللين لأنه كان في موسى حدة وخشونة. بحيث إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارا فعالج حدته باللين ليكون حليما في أداء الرسالة. ومعنى الترجي في (لَعَلَّهُ) يعود إلى موسى وأخيه أي اذهبا على رجائكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو أن يثمر سعيه فعساه يتذكر بأن يرجع من الإنكار إلى الحق رجوعا كليا

٥٤٧

إذا تأمل فأنصف (أَوْ يَخْشى) فيقل : إنكاره وإصراره. قالت المعتزلة : جدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن قطع المعذّرة وإلزامه الحجة. وقالت الأشاعرة : العقول قاصرة عن معرفة سر القدر ولا سبيل إلا التسليم وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان. قالوا : إنه كمن يدفع سكينا إلى من علم قطعا أنه يمزق بطن نفسه ثم يقول : إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان. ويروى عن كعب أنه قال : والذي يحلف به كعب إنه مكتوب في التوراة «(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) وسأفسي قلبه فلا يؤمن» (قالا رَبَّنا) فيه دليل على أن هارون أيضا كان حاضرا وقتئذ كما روينا. وسئل أن انشرح صدره وتيسر أمره فكيف قالا (إِنَّنا نَخافُ) فإن حصول الخوف ينافي شرح الصدر؟ وأجيب بأن المراد من شرح الصدر ضبط الأوامر والنواهي وحفظ الشرائع والأحكام بحيث لا يتطرق إليها خلل وتحريف ، وهذا شيء آخر مغاير لزوال الخوف. قلت : لعلهما خافا أن لا يتمكنا من أداء الرسالة بدليل قوله (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أي يسبق رسالتنا ويبادرنا بالعقوبة (أَوْ أَنْ يَطْغى) أي يجاوز الحد بأن يقول فيك ما لا ينبغي أو يجاوز حد الاعتدال في معاقبتنا إن لم يعاجل بنا فلا نتمكن من إقامة وظائف الأداء. وأيضا الدليل النقلي السمعي إذا انضاف إلى الدليل العقلي زاده إيقانا وطمأنينة ولهذا (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما) أي بالنصرة والتأييد (أَسْمَعُ وَأَرى) ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل فأفعل بكما ما يوجب عنايتي وحراستي ، فلا يذهب وهمكما إلى أن مواد كرامتي انقطعت عنكما إذا فارقتما مقام المكالمة فصار هذا الوهم سبب خوفكما. ويجوز أن يكون الفعلان متروكي المفعول كأنه قيل : أنا سامع مبصر وإذا كان الحافظ والناصر كذلك تم الحفظ وكملت النصرة. قال بعض الأصوليين : في الآية دلالة على أن الأمر لا يقتضي الفور وإلا كان تعللهما بالخوف معصية وإنها غير جائزة على الرسل في الأصح. وقال بعض المتكلمين : فيها دليل على أن السمع والبصر صفتان زائدتان عن العلم والإلزام التكرار فإن معيته هي بالعلم. ولقائل أن يقول : الخاص يغاير العام ولكن لا يباينه.

ثم كرر الأمر قائلا : (فَأْتِياهُ فَقُولا) فسئل إنهما أمرا بأن يقولا له قولا لينا فكيف غلظاه أوّلا بقوله (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) ففيه إيجاب انقياده لهما وإكراهه على طاعتهما وهذا مما يعظم على الجبار. وثانيا بقوله (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) وفيه إدخال النقص في ملكه لأنه كان يستخدمهم في الأعمال الشاقة. وثالثا بقوله (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) وفيه منعه عما يريده بهم؟ وأجيب بأن هذا القدر من التغليظ ضروري في أداء الرسالة. قيل : أليس الأولى أن يقولا (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ)

٥٤٨

فيكون ذكر المعجز مقرونا بادعاء الرسالة. والجواب أن قوله (فَأَرْسِلْ) من تتمة الدعوى ، وإنما وحد قوله (بِآيَةٍ) ومعه آيتان بل آيات لقوله (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) لأنه أراد الجنس كأنه قيل : قد جئناك ببيان من عند الله وبرهان. قال في الكشاف : قلت : وفيه أيضا نوع من الأدب كما لو قلت : أنا رجل قد حصلت شيئا من العلم ولعل عندك علوما جمة على أن تخصيص عدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد عليه. وأيضا الأصل في معجزات موسى كان هي العصا ولهذا وقعت في معرض المعارضة كما أن الأصل في معجزات نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان هو القرآن فوقع لذلك في حيز التحدي (وَالسَّلامُ) أي جنس السلامة أو سلام خزنة الجنة (عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) يحتمل أن يكون هذا أيضا مما أمر بأن يقولاه لفرعون ، ويحتمل أن تكون الرسالة قد تمت عند قوله (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) ويكون هذا وعدا بالسلامة من عقوبات الدارين لمن آمن وصدق. قالت الأشاعرة : في قوله (أَنَّ الْعَذابَ) أي جنسه أو كل فرد منه (عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) دليل على أنه لا يعاقب أحدا من المؤمنين ترك العمل به في بعض الأوقات ، فوجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام على أن العقاب المتناهي لا نسبة له إلى النعيم المقيم الذي لا نهاية له فكأنه لم يعاقب أصلا. وأيضا العارف بالله قد اتبع الهدى فوجب أن يكون من أهل السلامة (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) خاطب الاثنين ووجه النداء إلى موسى لأنه الأصل في ادعاء الرسالة وهارون وزيره ، ويجوز أنه خص موسى عليه‌السلام بالنداء لما عرف من فصاحة هارون والرتة التي كانت في لسان موسى. فأراد أن يعجز عن الجواب. قال أهل الأدب : إن فرعون كان شديد البطش جبارا ومع ذلك لم يبدأ بالسفاهة والشغب بل شرع في المناظرة وطلب الحجة ، فدل على أن الشغب من غير حجة شيء ما كان يرتضيه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم؟! وفي اشتغال موسى بإقامة الدلالة على المطلوب دليل على فساد التقليد وفساد قول القائل بأن معرفة الله تستفاد من قول الرسول ، وفيه جواز حكاية كلام المبطل مقرونا بالجواب لئلا يبقى الشك. وفيه أن المحق يجب عليه استماع شبهة المبطل حتى يمكنه الاشتغال بحلها. واعلم أن العلماء اختلفوا في كفر فرعون فقيل : كان عارفا بالله إلا أنه كان معاندا بدليل قوله (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الاسراء : ١٠٢] وقوله (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤] وقوله في سورة القصص (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) [الآية : ٣٩] وليس فيه إلا إنكار المعاد دون إنكار المبدأ. وقوله في الشعراء (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) إلى قوله (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧]

٥٤٩

يعني أنا أطلب منه الماهية وهو يشرح الوجود فدل على أنه اعترف بأصل الوجود.

وأيضا إن ملك فرعون لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام لأن موسى لما هرب إلى مدين قال له شعيب (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص : ٢٥] فكيف يعتقد مثل هذا الشخص إنه إله العالم بل كل عاقل مكلف يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم فلا يكون واجب الوجود. وأيضا إنه سأل هاهنا بمن طالبا للكيفية ، وفي «الشعراء» بما طالبا للماهية فكأن موسى لما أقام الدلالة على الوجود ترك المناظرة والمنازعة معه في هذا المقام لظهوره وشرع في مقام أصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر. وأيضا إنه قال في الجواب (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) وصلة الذي لا بد أن تكون جملة معلومة الانتساب. ومن الناس من قال : إنه كان جاهلا بالله بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما. فمنهم من قال : إنه كان دهريا نافيا للمؤثر أصلا. ومنهم من قال : إنه فلسفي قائل بالعلة الموجبة أو هو من عبدة الكواكب ، أو من الحلولية والمجسمة. وأم ادعاء الالهية والربوبية فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد لحكمه. قال بعض العلماء : إنما قال (فَمَنْ رَبُّكُما) [طه : ٤٩] ولم يقل «فمن إلهكما» تعريضا بأنه رب موسى كما قال (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) [الشعراء : ١٨] قلت : يحتمل أن يكون تخصيص موسى بالنداء تنبيها على هذا المعنى. ولم يعلم الكافر أن الربوبية التي أدعاها موسى لله في قوله (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) غير هذه في الحقيقة ولا مشاركة بينهما إلا في اللفظ ، وهذا كما عارض نمرود إبراهيم صلوات الرحمن عليه في قوله (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] ولم يعلم أن إحياءه وإماتته ليسا من الإحياء والإماتة في شيء ثم شرع موسى ، في الدلالة على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات ، وفيه دلالة على أن موسى كان أصلا في النبوة وأن هارون راعى الأدب فلم يشتغل بالجواب قبله لأن الأصل في النبوة هو موسى ، ولأن فرعون خصص موسى بالنداء. من قرأ خلقه بسكون اللام فإما بمعنى الخليقة أي أعطى الخلائق ما به قوامهم من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح ، ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها فيستخرجون الحديد من الجبال واللآلئ من البحار ويركبون الأغذية والأدوية والأسلحة والأمتعة ونظير هذا الكلام قوله (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى : ٢ ، ٣] وقوله حكاية عن إبراهيم (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨] وإما أن يكون الخلق بمعنى الصورة والشكل أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به فأعطى العين هيئتها التي تطابق الإبصار ، والأذن

٥٥٠

ما يوافق الاستماع ، والأنف للشم ، واليد للبطش ، بل أعطى رجل الآدمي شكلا يوافق سعيه ، ورجل الحيوانات الأخر شكلا يطابق مشيها ، بل أعطى ذوات القرون رجلا توافق حاجتهن ، وكذا الخف والحافر وذوات المخالب. وقيل : أراد وأعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة فجعل الحصان والحجر زوجين ، وكذا البعير والناقة والرجل والمرأة. ومن قرأ خلقه بفتح اللام صفة للمضاف أو المضاف إليه والمفعول الثاني متروك أي كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه.

واعلم أن عجائب حكمة الله تعالى في مخلوقاته بحر لا ساحل له ، وقد دون العلماء طرفا منها في كتب التشريح وخواص الأحجار والنبات والحيوان ، ولنذكر هاهنا واحدا منها هي أن الطبيعي يقول : الثقيل هابط والخفيف صاعد ، فالماء لذلك فوق الأرض والهواء فوق الماء والنار فوق الكل. ثم إنه سبحانه جعل العظم والشعر أصلب الأعضاء على طبيعة الأرض وجعل مكانهما فوق البدن. وجعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء وجعل تحته النفس الذي هو الهواء ، وجعل تحته الحرارة الغريزية في القلب كالنار ليكون دليلا على وجود الفاعل المختار خلاف ما يقوله الدهري والطبيعي وسائر الكفار. وأيضا اختصاص كل جسم بقوة وتركيب وهداية إما أن يكون واجبا أو جائزا ، والأول محال وإلا لم يقع فيها تغير. والثاني يستدعي مرجحا فإن كان ذلك المرجح واجب الوجود لذاته فهو المطلوب ، وإن كان جائز الوجود افتقر في اتصافه بالوجود إلى موجد ، ولا بد من الانتهاء إلى موجد يجب وجوده لذاته. ثم إنه يستغني عن سمات النقص وشوائب الافتقار وليس إلا الله الواحد القهار.

قال أهل النظم : إن موسى عليه‌السلام لما قرر عليه أمر المبدأ (قالَ) فرعون إن كان وجود الواجب في هذا الحد من الظهور (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) لم يؤمنوا وجحدوا فعارض الحجة بالتقليد والبال الحال؟ أو أنه لما هدده بالعذاب في قوله (أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) قال فما بالهم كذبوا فما عذبوا؟ فأجاب بأن هذا مما استأثر الله بعلمه وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما يخبرني به علام الغيوب. أو أنه سأله عن أحوال القرون الخالية وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد ليصرف موسى عن المقصود ويشغله بالحكايات خوفا من أن يميل قلوب ملته إلى حجته الباهرة ودلائله الظاهرة ، فلم يلتفت موسى إلى حديثه بل (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) ولا يتعلق غرضي بأحوالهم. ويجوز أن يكون الكلام قد انجر ضمنا أو صريحا إلى إحاطة الله سبحانه بكل شيء فنازعه الكافر قائلا : ما بال سوالف القرون في تمادي كثرتهم وتباعد أطرافهم كيف أحاط بهم وبأجزائهم

٥٥١

وجواهرهم؟ فأجاب بأن كل كائن محيط به علمه ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل. وقوله (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) مع قوله (فِي كِتابٍ) لا يتنافيان ، بل المراد أنه تعالى عالم بجميع المغيبات مطلع على الكليات والجزئيات من أحوال الموجودات والمعدومات ، ومع ذلك فإن جميع الأحوال ثابتة في اللوح المحفوظ ثم كان لقائل أن يقول : لعلها أثبتت في اللوح لاحتمال الخطأ والنسيان فتدارك ذلك بقوله (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) قال مجاهد : هما واحد المراد أنه لا يذهب عنه شيء ولا يخفى عليه. والأكثرون على الفرق فقال القفال : الأول إشارة إلى كونه عالما بالكل ، والثاني إشارة إلى بقاء ذلك العلم أي لا يضل عن معرفة الأشياء ، وما علم من ذلك لا ينساه ولا يتغير علمه ، يقال : ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له. وقال مقاتل : لا يخطىء ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه. وقال الحسن : لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه. وقال أبو عمر : ولا يغيب عنه شيء ولا يغرب عنه شيء. وقال ابن جرير : لا يخطىء في التدبير فيعتقد غير الصواب صوابا وإذا عرفه لا ينساه والوجوه متقاربة. والتحقيق ما قاله القفال. وعن ابن عباس : لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه.

ولما ذكر الدليل العام المتناول لجميع المخلوقات السماويات والأرضيات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النباتات والجمادات ذكر الدلائل الخاصة فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي كالمهد وهو ما يمهد للصبي. قال أبو عبيدة : الذي أختاره مهاد لأنه اسم لما يمهد والمهد مصدر. وقال غيره : المهد اسم والمهاد جمع. وقال المفضل : هما مصدران (وَسَلَكَ) أي حصل (لَكُمْ فِيها سُبُلاً) ووسطها بين الجبال والأودية والبراري. يقال : سلكت الشيء في الشيء سلكا بالفتح أي أدخلته فيه (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بواسطة إنزال الماء. ومن المتكلمين الأقدمين من أنكر تأثير الوسائط رأسا و (أَزْواجاً) أي أصنافا فأسميت بذلك لأنها مزدوجة مقترن بعضها ببعض. و (شَتَّى) صفة للأزواج جمع شتيت كمريض ومرضى ، أو صفة للنبات لا مصدر سمي به النابت كما سمي بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع يعني أنها مختلفة النفع والطبع والطعم واللون والرائحة والشكل. ثم هاهنا إضمار والتقدير وقلنا أو قائلين (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) وذلك أن بعضها يصلح للناس وبعضها يصلح للبهائم ، وإباحة الأكل تتضمن إباحة سائر وجوه الانتفاع كقوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ) [البقرة : ١٨٨] ومن نعم الله تعالى أن أرزاق العباد إنما تتحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله. قال الجوهري : النهية بالضم واحدة النهى وهي العقول لأنها تنهى عن القبيح. وجوز أبو علي الفارسي أن يكون مصدرا كالهدى وخص أرباب العقول بذلك لأنهم هم

٥٥٢

المنتفعون بالنظر فيها والاستدلال بها على وجود صانعها. (مِنْها خَلَقْناكُمْ) لأن آدم مخلوق من الأرض. أو لأن بني آدم خلقوا من النطفة ودم الطمث المتولدين من الأغذية المنتهية إلى العناصر الغالبة عليها الأرضية ، أو لما ورد في الخبر أن الملك يأخذ من تربة المكان الذي يدفن فيه الآدمي فيذرّها على النطفة. (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) لأن الجسد يصير ترابا فيختلط بالأرض إلا من رفعه الله إلى السماء ، وهو أيضا يحتمل أن يعاد إليها بعد ذلك. (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) بالحشر والبعث ، أو بأن نخرجكم ترابا وطينا ثم نحييكم بعد الإخراج ، أو المراد الإحياء في القبر. وهاهنا بحث وهو أن يكون قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) إلى هاهنا من تتمة كلام موسى ، أو هو ابتداء كلام من الله تعالى. وعلى الأول يمكن أن يوجه قوله : (فَأَخْرَجْنا) بأن المراد فأخرجنا نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراثة والزرع (أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) إلا أن قوله : (كُلُوا وَارْعَوْا) إلى قوله : (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ) لا يطابقه. وإن قيل : إن كلام موسى يتم عند قوله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) لم يصلح قوله : (فَأَخْرَجْنا) ابتداء كلام من الله لمكان فاء التعقيب ، فالصواب أن يتم كلام موسى عند قوله : (وَلا يَنْسى). ثم إنه تعالى ابتدأ فقال : (الَّذِي) أي هو الذي جعل إلى آخره ، وعلى هذا يكون قوله : (فَأَخْرَجْنا) من قبيل الالتفات؟؟؟ للكلام وإيذانا بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره تخصيصا بأن مثل هذا لا يدخل تحت قدرة أحد سواه. والحاصل أنه تعالى عدد عليهم ما علق بالأرض من المنافع حيث جعلها لهم فراشا يتقلبون عليها عند الإقامة ، وسوّى لهم فيها مسالك يتقلبون بها في أسفارهم ، وأنبت فيها أصناف النبات متاعا لهم ولأنعامهم. ثم إن الأرض لهم كالأم التي منها أنشئوا وهي التي تجمعهم وتضمهم إذا ماتوا. ثم يخرجون من الأجداث خروج الأجنة من الأرحام ، ومن ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تمسحوا بالأرض» أي ارقدوا واسجدوا عليها من غير حائل ، أو تيمموا بها فإنها بكم برة أي إنها لكم كالأم. ومنها خلقناكم وفيها معايشكم وهي بعد الموت كفاتكم.

قوله عز وعلا : (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا) أي عرفناه صحتها. ثم إن كان التعريف يستلزم حصول المعرفة فيكون كفره كفر جحود وعناد كقوله : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل : ١٤] وإلا كان كفر جهالة وضلالة. سؤال الجمع المضاف يفيد العموم ولا سيما إذا أكد بالكل ، لكنه تعالى ما أراه جميع الآيات لأن من جملتها ما أظهرها على الأنبياء الأقدمين ولم يتفق لموسى مثلها. الجواب هذا التعريف الإضافي محذوّ به حذو التعريف العهدي لو قيل الآيات كلها وهي التي ذكرت في قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ

٥٥٣

بَيِّناتٍ) [الإسراء : ١٠١] ولو سلم العموم فالمراد أنه أراه الآيات الدالة على التوحيد في قوله : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) وعلى النبوة بإظهار المعجزات القاهرة وعلى المعاد لأن تسليم القدرة على الإنشاء يستلزم تسليم القدرة على الإعادة بالطريق الأولى ، أو أراد أنه أراه آياته المختصة به وعدد عليه سائر آيات الأنبياء وإخبار النبي الصادق جار مجرى العيان ، أو إراءة بعض الآيات كإراءة الكل كما أن تكذيب بعض الآيات يستلزم تكذيب الكل كما قال : (فَكَذَّبَ) أي الآيات كلها (وَأَبى) قول الحق. قال القاضي : الإباء الامتناع وإنه لا يوصف به إلا من يتمكن من الفعل والترك وإلا لم يتوجه الذم. وجواب الأشاعرة أنه لا يسأل عما يفعل ثم إن فرعون خاف أن تميل قلوب ملته إلى قول موسى فذكر ما يوجب نفار القوم عنه مع القدح في نبوته لادعاء إمكان معارضته قائلا (أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا) فإن الإخراج من الديار قرينة القتل بدليل قوله : (أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) [النساء : ٦٦] ثم طالب للمعارضة موعدا فإن جعلته زمان الوعد بدليل قوله : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) بالرفع كان الضمير في (لا نُخْلِفُهُ) عائدا إلى الوعد المعلوم من الموعد أو إلى زمان الوعد مجازا. وانتصب (مَكاناً) على أنه ظرف للوعد المقدر ، وإن جعلته مكان الوعد ليكون قوله : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) مطابقا له معنى ، لأنه لا؟؟؟ من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان مشتهر عندهم وكأنه قيل : موعدكم مكان الاجتماع في يوم الزينة. وإن جعلته مصدرا ليصح وصفه بعدم الإخلاف من غير ارتكاب إضمار ، أو؟؟؟ انتصب (مَكاناً) على أنه ظرف.

ثم من قرأ (يَوْمُ الزِّينَةِ) بالنصب فظاهر أي وعدكم أو انجاز وعدكم في يوم الزينة ، أو وقت وعدكم في يوم الزينة. وفي يوم (يُحْشَرَ النَّاسُ) هو ضحى؟؟؟ ذلك اليوم. ومن قرأ بالرفع فيقدر مضاف محذوف أي وعدكم وعد يوم الزينة. و؟؟؟ (سُوىً) بالكسر والضم عدلا ووسطا بين الفريقين وهو معنى قول مجاهد. فوصف المكان بالاستواء باعتبار المسافة. وقال ابن زيد : أي مستويا لا يحجب شيئا بارتفاعه وانخفاضه ليسهل على كل الحاضرين ما يجري بين الفريقين. وقال الكلبي : (مَكاناً سُوىً) هذا المكان الذي نحن فيه الآن. قال القاضي : الأظهر أن قوله : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) من قول فرعون لأنه الطالب للاجتماع. وقال الإمام فخر الدين الرازي : الأقرب أنه من كلام موسى ليكون الكلام مبنيا على السؤال والجواب ، ولأن تعيين يوم الزينة يقتضي إطلاع الكل على ما سيقع وهذا إنما يليق بالمحق الواثق بالغلبة لا بالمبطل المزور ، على أن

٥٥٤

موعدكم خطاب الجمع وليس هناك إلا موسى وهارون ، فإما أن يرتكب أن أقل الجمع اثنان وهو مذهب مرجوح ، وإما أن يقال الجمع للتعظيم ولم يكن فرعون ليعظمهما ، ويوم الزينة يوم عيد لهم يتزينون فيه. وعن مقاتل يوم النيروز ، وعن سعيد بن جبير يوم سوق لهم. وعن ابن عباس : هو يوم عاشوراء. وإنما قال : (وَأَنْ يُحْشَرَ) من غير تسمية الفاعل لأنهم يجتمعون ذلك اليوم بأنفسهم من غير حاشر لهم. ومحل (أَنْ يُحْشَرَ) رفع أو جر عطفا على اليوم أو الزينة عين اليوم. ثم الساعة وهي (ضُحًى) ذلك اليوم. وإنما واعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيى عن بينة ، وليشيع أمره العجيب في الأقطار والأعصار والأطراف والأكناف ، ففي ذلك تقوية دين الحق وتكثير راغبيه وقلة شوكة المخالف وتوهين عزائمهم (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) انصرف إلى مقام تهيئة الأسباب المعارضة فإن صاحب السحر يحتاج في تدبير السحر إلى طول الزمان ولهذا طلب الموعد وقال مقاتل : أعرض وثبت على إعراضه عن الحق (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) أي أسباب الكيد وأدوات الحيلة والتمويه من مهرة السحر وغير ذلك (ثُمَّ أَتى) الموعد. عن ابن عباس : كانوا اثنين وسبعين ساحرا مع كل واحد منهم حبل وعصا. وقيل : أربعمائة. وقيل : أكثر من ذلك فضرب لفرعون قبة طولها سبعون ذراعا فجلس فيها ينظر إليهم فبين الله تعالى أن موسى قدم قبل كل شيء الوعيد والتحذير على عادة الصالحين من أهل النصح والإشفاق ، ولا سيما الأنبياء المبعوثين رحمة للأمم (وَيْلَكُمْ) نصب على المصدر الذي لا فعل له أو على النداء (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن تدعوا آياته ومعجزاته سحرا (فَيُسْحِتَكُمْ) السحت لغة أهل الحجاز والإسحات لغة أهل نجد وبني تميم ، ومعناه الاستئصال. حذرهم أمرين : أحدهما عذاب الدارين والتنوين للتعظيم ، والآخر الخيبة والحرمان عن المقصود فإن التمويه لا بقاء له (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) كقوله في الكهف : (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) [الكهف : ٢١] أي وقع التنازع بينهم (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) الضمير لفرعون وقومه. وقيل : للسحرة ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن نجواهم إن غلبنا موسى اتبعناه. وعن قتادة : إن كان ساحرا فسنغلبه ، وإن كان من السماء فله أمر. وعن وهب : لما قال (وَيْلَكُمْ) الآية قالوا : ما هذا بقول ساحر. والأكثرون على الأول وذلك أنهم تفاوضوا وتشاوروا حتى استقروا على شيء واحد وهو أنهم.

قالوا إن هذان ساحران إلى آخر الآية : لا إشكال في قراءة أبي عمرو وكذا في قراءة ابن كثير وحفص ، لأنه كقولك «إن زيدا لمنطلق» واللام فارقة بين المخففة والنافية.

٥٥٥

وأما من قرأ «إن» بالتشديد و (هذانِ) بالألف فأورد عليه أن «إن» لم يعمل في المثنى. وأجيب بأنه على لغة الحرث بن كعب وخثعم وبعض بني عذرة ، ونسبها الزجاج إلى كنانة ، وابن جني إلى بعض بني ربيعة ، جعلوا التثنية كعصا وسعدى مما آخره ألف فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب. وقيل : «إن» بمعنى «نعم» واعترض أن ما بعده حينئذ يصير كقوله :

أم الحليس لعجوز شهربة

ولا يجوز مثله إلا في ضرورة الشعر. وإنما موضع لام الابتداء في السعة هو المبتدأ. والجواب أن القرآن حجة على غيره ، وذكر الزجاج في جوابه أن التقدير لهما ساحران فاللام داخلة على صدر الجملة الصغرى. قال : وقد عرضت هذا القول على محمد بن يزيد وعلي وإسماعيل بن إسحق فارتضاه كل منهم وذكروا أنه أجود ما سمعنا في هذا الباب ، وضعفه ابن جنى بأن المبتدأ إنما يجوز حذفه لو كان أمرا معلوما جليا وإلا كان تكليفا بعلم الغيب للمخاطب ، وإذا كان معروفا فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام. وأيضا إن الحذف من باب الاختصار والتأكيد من باب الإطناب ، فالجمع بينهما محال مع أن ذكر المؤكد وحذف التأكيد أحسن في العقول من العكس. وأيضا امتنع البصريون من جعل النفس في قولك : «زيد ضرب نفسه» تأكيدا للمستكن فدل ذلك على أن تأكيد المنوي غير جائز. وأيضا لو كان ما ذهب إليه الزجاج جائزا لحمل النحويون قول الشاعر على ذلك ولم يحملوه على الاضطرار ، ولمن تبصر قول الزجاج أن يجيب عن الأول بأن التأكيد إنما هو لنسبة الخبر إلى المبتدأ لا للمبتدأ وحده ، ولو سلم فذكر اللام يدل على المبتدأ المنوي وذكر المبتدأ لا يدل على التأكيد فكان حذف المبتدأ أولى. وعن الثاني بأن الكلام قد يكون موجزا من وجه مطنبا من وجه آخر فلا منافاة ، وإنما المنافاة إذا كانت الجهتان واحدة. وعن الثالث بأنهم امتنعوا من حمل النفس على التأكيد في المثال المذكور لأنهم رأوا أن إسناد الفعل إلى المظهر أولى من إسناده إلى المضمر ، لا لأن تأكيد المنوي ممتنع على أنا بينا أن المؤكد ليس بمحذوف في الآية مطلقا فإن أحد طرفي الكلام مذكور. وعن الرابع بأن ذهول المتقدمين عن هذا الوجه لا يقتضي كونه باطلا فكم ترك الأول للآخر.

ولنرجع إلى التفسير قال الفراء : الطريقة اسم لوجوه الناس وأشرافهم الذين هم قدوة لغيرهم. ويقال : هم طريقة قومهم وهو طريقة قومه ، قبح أمر موسى في أعين الحاضرين

٥٥٦

ونفرهم عنه بأنه ساحر ، والطباع نفور عن السحر وبأنه يقصد إخراجكم من دياركم ـ وهذا أيضا مما يبغض القاصد إليهم ـ وبأنه يريد أن يذهب بأشراف قومكم وأكابركم قالوا وهم بنو إسرائيل لقول موسى أرسل معنا بني إسرائيل وجعلها الزجاج من باب حذف المضاف أي بأهل طريقتكم المثلى وسموا مذهبهم الطريقة المثلى والسنة الفضلى لأن كل حزب بما لديهم فرحون. والمثلى تأنيث الأمثل أي الأشبه بالحق ، ومنهم من فسر الطريقة هاهنا بالجاه والمنصب والرياسة وكان الأمر على ما يقال به. من قرأ (فَأَجْمِعُوا) من الجمع فظاهر ، ومن قرأ من الإجماع فمعناه اجعلوا كيدكم مجمعا عليه حتى لا تختلفوا نظيره ما مر في سورة يونس (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) [الآية : ٧١] سماه كيدا لأنه علم أن السحر لا أصل له. وقال الزجاج : معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد مجمعا عليه. ثم أمرهم بأن يأتوا صفا أي مصطفين مجتمعين ليكون أهيب في الصدور وأوقع في النفوس. وعن أبي عبيدة أنه فسر الصف بالمصلى أي مصلى من المصليات أو هو علم لمصلى بعينه لأن الناس يصطفون فيه لعيدهم وصلواتهم. (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) أي فاز من غلب وهو اعتراض. واعلم أن قصة السحرة أكثرها يشبه ما مر في «الأعراف» وقد فسرناها هنالك فنحن الآن نقتصر ونذكر ما هو المختص بهذه السورة. (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) أي اختر أحد الأمرين إلقاءك أو إلقاءنا (فَإِذا حِبالُهُمْ) هي «إذا» المفاجأة وأصلها الوقت أي فاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم. قال وهب : سحروا أعين موسى عليه‌السلام حتى تخيل ذلك. وقيل : أراد أنه شاهد شيئا لو لا علمه بأنه لا حقيقة لذلك الشيء لظن فيها أنها تسعى فيكون تمثيلا (فَأَوْجَسَ) أضمر (فِي نَفْسِهِ خِيفَةً) هو مفعول (فَأَوْجَسَ) و (مُوسى) فاعله أخر للفاصلة. وذلك الخوف إما من جبلة البشرية حين ذهل عن الدليل وهو قول الحسن ، وإما لأنه خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه قاله مقاتل ، أو خاف أن يتأخر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت ، أو خاف أن يتفرق بعض القوم قبل أن يشاهدوا غلبته ، أو خاف تمادي الأمر عليه وتكرره فأزال الله تعالى خوفه مجملا بقوله (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) وفيه من أنواع التأكيد ما لا يخفى وهي الاستئناف والتصدير بأن ، والتوسيط بالفصل ، وكون الخبر معرفا ولفظ العلو ومعناه الغلبة وصورة التفضيل ولا فضل لهم ومفصلا بقوله (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) لم يقل عصاك لما علم في الأعراف ولما في هذه السورة (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) وقال جار الله : هو تصغير لشأن العصا وتهوين لأمر السحرة أي ألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك فإنه بقدرة الله يبتلع (ما صَنَعُوا) أي زوّروا وافتعلوا على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها ، أو هو تعظيم لشأنها أي لا تحفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة لأن في يمينك شيئا أعظم شأنا من كلها (إِنَّما صَنَعُوا) إن

٥٥٧

الذي افتعلوه كيد سحر أي ذي سحر ، أو ذوي سحر ، أو هم في توغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه ، أو الإضافة للبيان أي كيد هو سحر كقولك «علم فقه» وإنما وجد ساحر فيمن قرأ على الوصف ليعلم أن المقصود هو الجنس كما قال.

(وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ) أي هذا الجنس ولو جمع لأوهم أن المراد هو العدد وإنما نكر أولا لأن المراد تنكير الكيد كأنه قال : هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر أو من أفعال السحرة وجميع أقسام السحر ، وأفراد السحرة لا فلاح فيها ومن نظائره «إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللا لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة». ومعنى سبهللا أنه يجيء ويذهب في غير شيء. ومعنى (حَيْثُ أَتى) أينما كان وأية سلك (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) قال جار الله : سبحان الله ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر في السجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!. وروي أنهم لم يرفعوا رءوسهم حتى رأوا الجنة والنار أو أثواب أهلها ، وعن عكرمة : لما خروا سجدا أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة. واستبعده القاضي لأنه كالإلجاء إلى الإيمان وأنه ينافي التكليف. وقلت : إذا كان الإيمان مقدما على هذا الكشف فلا منافاة ولا إلجاء. ثم إن فرعون لعب لعب الحجل وأنكر عليهم إيمانهم وألقى شبهته في البين أنه كبيرهم أي أسحرهم وأعلاهم درجة في الصناعة ، أو معلمهم وأستاذهم من قول أهل مكة للمعلم «أمرني كبيري» أي أستاذي في العلم أو غيره ، وأوعدهم بقطع الأيدي والأرجل (مِنْ خِلافٍ) قال في الكشاف : «من» لابتداء الغاية لأن القطع مبتدأ وناشيء من مخالفة العضو والعضو لا من وفاته إياه. قلت : الأولى أن يقال الخلاف هاهنا بمعنى الجهة المخالفة حتى يصح معنى الابتداء أي لأقطعن أيديكم وأرجلكم مبتدأ من الجهتين المتخالفتين يمينا وشمالا ، فيكون الجار والمجرور في موضع الحال أي لأقطعنها مختلفات الجهات. قيل (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي عليها والأصوب أن يقال : هي على أصلها شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن المظروف في الظرف (أَيُّنا أَشَدُّ) أراد نفسه وموسى وفيه صلف باقتداره وقهره وما ألفه من تعذيب الناس واستخفاف بموسى مع الهزء به ، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء قاله في الكشاف. قلت : يحتمل أن يريد بقوله (أَيُّنا) الله تعالى ونفسه لنقدم ذكر رب هارون وموسى ، وقد سبق عذاب الله في قوله (أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) وفي قوله (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) ويؤيده قول السحرة في جوابه (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى لَنْ نُؤْثِرَكَ) لن نختارك (عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) المعجزات الظاهرات (وَ) على (الَّذِي فَطَرَنا) أو الواو للقسم وعلى هذا يجوز أن يكون

٥٥٨

على ما جاءنا بمعنى فيما جاءنا أي لن نميل إليك والحالة هذه. وعلى الوجه الأول ففحوى الكلام لن نترك طاعة خالقنا والتصديق بمعجزات نبيه لأجل هواك (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) بما شئت من العذاب (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي في مدة الحياة العاجلة. وقرىء (تَقْضِي) مبنيا للمفعول هذه الحياة بالرفع إجراء للظرف مجرى المفعول به اتساعا مثل صيم يوم الجمعة. والحاصل أن قضاءك وحكمك منحصر في مدة حياتنا الفانية ، والإيمان وثمرته باق لا يزول ، والعقل يقتضي تحمل الضرر الفاني للفوز بالسعادة الباقية وللخلاص من العقاب الأبدي وذلك قولهم (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) قال الحسن : سبحان الله قوم كفار ثبت في قلوبهم الإيمان طرفة عين فلم يتعاظم عندهم أن قالوا في ذات الله تعالى (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) والله إن أحدهم ليصحب القرآن ستين عاما ثم ليبيع دينه بثمن غبن.

ولما كان أقرب خطاياهم عهدا ما أظهروه من السحر قالوا (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) وفي هذا الإكراه وجوه : عن ابن عباس أن الفراعنة كانوا يكرهون فتيانهم على تعلم السحر ليوم الحاجة فكانوا من ذلك القبيل. وروي أنهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائما ففعل فوجده تحرسه عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر الساحر لأن الساحر إذا نام بطل سحره فأبوا أن يعارضوه. وعن الحسن أنهم حشروا من المدائن مكرهين ، وزعم عمر بن عبيد أن دعوة السلطان إكراه ، وليس بقوي فلا إكراه إلا مع الخوف فحيثما وجد حكم بالإكراه وإلا فلا. وباقي الآيات ابتداء إخبار من الله أو هي من تتمة كلامهم فيه قولان ، ولعل الأول أولى (إِنَّهُ) أي الشأن (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ) أي حيث لا حكم إلا هو فيسقط استدلال المجسمة حال كون الآتي (مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها) موتة مريحة (وَلا يَحْيى) حياة ممتعة. قالت المعتزلة : صاحب الكبيرة مجرم وكل مجرم فإن له جهنم بالآية لعموم «من» الشرطية بدليل صحة الاستثناء فيحصل القطع بوعيد أصحاب الكبائر. أجابت الأشاعرة بأن المجرم كثيرا ما يجيء في القرآن بمعنى الكافر كقوله (يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) إلى قوله (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) [المدثر : ٤٦] ولا ريب أن التكذيب بالبعث والجزاء كفر ، وكقوله (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) [المطففين : ٢٩] إلى آخر السورة. فلم قلتم : إن المجرم هاهنا ليس بمعنى الكافر فتبطل المقدمة الأولى؟ سلمنا لكن المقدمة الثانية كليتها ممنوعة على الإطلاق وإنما هي كلية بشرط عدم العفو ، وحينئذ لا يحصل القطع بالوعيد على الإطلاق. سلمنا المقدمتين والنتيجة لكنه معارض بعموم الوعد في قوله (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً) فإن قيل :

٥٥٩

صاحب الكبيرة لم يأته مؤمنا عندنا. قلنا : يصدق عليه المؤمن لأن الإيمان صدر عنه في الزمان الماضي كالضارب على من قد ضرب أمس وليس بين الحال والزمان الماضي منافاة كلية ولهذا صح «جاءني زيد قد قام» بل صح قوله (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) وأنه حال آخر فكأنه قيل : ومن يأته قد آمن قد عمل. ولئن قيل : إن عقاب المعصية يحبط ثواب الطاعة. قلنا : ممنوع بل العكس أولى لأن الدفع أسهل من الرفع وإقامة الحد على التائب في بعض الصور لأجل المحنة لا لأجل التنكيل. وقوله (نَكالاً مِنَ اللهِ) في حق من لم يتب بعد من السرقة سلمنا أن قوله (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً) لا يعم صاحب الكبيرة إلا أن قوله (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) من الجنة لمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحات أي الواجبات ، لأن الزائد عليها غير محصور فسائر الدرجات التي غير عالية لا بد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الإيمان. ثم عظم شأن المذكور بقوله (وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) أي قال «لا إله لا إلا الله» قاله ابن عباس. وفيه دليل على أن قوله (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً) يشمل صاحب الكبيرة ، وقال آخرون (تَزَكَّى) أي تطهر من دنس الذنوب وعلى هذا يقع صاحب الكبيرة خارجا.

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي

٥٦٠