تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ١

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

ذلك ، فقيل : أراد بالذكر صلاة المغرب والعشاء ؛ لأنه ليس ثمّ ذكر يجب إلا هذا ، ولأنه عطف عليه بالذكر الثاني ، ويكون هذا دليلا على وجوب صلاتهما بالمزدلفة ، وهو الذي ذهب إليه أهل المذهب ، وأبو حنيفة ، ومحمد ، قال أبو حنيفة ، والقاضي زيد : إلا أن يخشى فواتهما صلّاهما في الطريق (١).

ومن الحجة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأسامة ، وقد أراد أن يصلي في الطريق : «الصلاة أمامك.

وقال الشافعي ، وأبو يوسف : إن صلاهما في الطريق لغير عذر جاز ؛ لأن ذلك رخصة.

وقيل : أراد بالذكر التلبية ، والتهليل ، والتكبير ، والدعاء ، ويكون الأمر على طريق الاستحباب لدلالة الإجماع أن ذلك لا يجب.

وعن ابن عباس أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال : لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون ، يتأولون (٢) قول الله تعالى : (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ).

وقوله تعالى : (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) قال الزمخشري : معناه مما يلي المشعر الحرام ، وقريبا منه ، وذلك للفضل ، والمشعر الحرام : هو قزح ، وهو جبل معروف هنالك ، وقيل : هو ما بين جبلي المزدلفة ، من مأزمي عرفة إلى وادي محسر ، وليس المأزمان ، ولا وادي محسر من المشعر.

وفي الآية دليل على وجوب المرور بالمشعر الحرام ، لكن زمان الوجوب وحكمه ، وهل ذلك شرط ، أو نسك ، مأخوذ من غير الآية ، بل من جهة السنة

__________________

(١) قال عليه‌السلام : (والأقرب أنه يلزم دم ، كمن بات في غير مزدلفة لعذر) غيث.

(٢) يعني : وجوب العشائين بمزدلفة ، لا كونهما ذكر المشعر.

٤٤١

وقوله تعالى : (كَما هَداكُمْ) قيل : (ما) مصدرية ، أي : اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة لدينه ومناسك حجه.

وقيل : هي كافة ، أي : كما علمكم كيف تذكرونه.

وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل الهدى ، وقيل : من قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن لم يتقدم ذكره.

قال في الثعلبي : والمعنى : وما كنتم من قبله إلا من الضالين ، كقوله تعالى : (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) [الشعراء : ١٨٦] يعني : ما نظنك إلا من الكاذبين. قال الشاعر :

ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما

وجبت عليك عقوبة الرحمن (١)

أي : ما قتلت إلا مسلما. وفي الكشاف ، والتهذيب : (إن) هنا هي المخففة من الثقيلة (٢). وعن الكسائي ، والكوفيين أنها نافية.

قوله تعالى

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ١٩٩].

هذا أمر بالإفاضة ، وقد اختلف : هل أراد تعالى بها الإفاضة من عرفات ، أو من المزدلفة؟ فقال كثير من المفسرين : أراد الإفاضة من عرفات ، وأن ذلك إشارة إلى ما كان عليه الحمس ، وهم قريش وحلفاؤها من الترفع على الناس ، والتعالي عليهم أن لا يساووهم في الموقف ، ويقولون : نحن أهل الله ، وقطان حرمه لا نخرج منه ، فيقفون بجمع ، وسائر الناس بعرفات ، ويقول بعضهم لبعض : لا تعظموا إلا الحرم ؛ لأنه

__________________

(١) ويروى (حلت عليك عقوبة المتعمد).

(٢) بدليل دخول اللام عليها.

٤٤٢

إن عظم غيره تهاون الناس به ، وسموا الحمس ؛ لأنهم تشددوا في دينهم ، والحماسة : الشجاعة. والحمس : جمع أحمس ، وهو الشجاع.

فإن قيل : إن الإفاضة من عرفات قد تقدم ذكرها ، ففيه جوابان :

الأول : أنه عطف بثم لبيان مرتبة الإفاضة التي أفاض منها الناس على غيرها ، فنظير (ثم) هنا نظير (ثم) في قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧].

وكما في قول الشاعر :

يرى غمرات الموت ثم تزورها (١)

الجواب الثاني : ذكره في الثعلبي : أن في ذلك تقديما وتأخيرا ، تقديره : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ ، وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) ... ، (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) ... ، (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ). وهذا التفسير بأنه أراد تعالى الإفاضة من عرفات مروي عن ابن عباس ، وعائشة ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة. قال في الثعلبي : وهو قول عامة المفسرين.

وقالت طائفة من أهل التفسير : أراد تعالى الإفاضة من مزدلفة ؛ لأنه قد تقدم ذكر الإفاضة من عرفات ، ويكون أمرا للجميع.

واختلف من المراد بقوله : (النَّاسُ)؟ فقيل : أراد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعبر عنه بلفظ الجمع ؛ لأن ذلك يرد للمعظم ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) [النحل : ١٢٠] وقوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٥٤] أراد محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران : ١٧٣] أراد نعيم بن مسعود

__________________

(١) أي : تغشاها.

٤٤٣

قاله الحاكم. وقال الثعلبي : أراد أبا سفيان ، وقيل : (النَّاسُ) هنا المراد بهم العرب كلهم غير الحمس ، وقيل : أهل اليمن وربيعة ، وقيل : العلماء الذين يعلمون الدين ، وعن سعيد بن جبير ، والزهري : المراد بالناس آدم عليه‌السلام و

يعضده قراءة ابن مسعود (من حيث أفاض الناسِ) بكسر السين ؛ لأنه نسي ما عهد إليه ، قال تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) [طه : ١١٥] وهذه القراءة غير مشهورة.

ويتعلق بهذه الجملة أحكام :

الأول : أن عرفات كلها موقف إلا بطن عرنة ، وهذا مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وإنما خرجت عرنة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» عرفة كلها موقف ما سوى عرنة «وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أفاض من عرنة فلا حج له.

وقال مالك : يجزيه ، وعليه هدي. واحتج بأن عرفات يدخل فيها بطن عرنة ، ولم يصحح الحديث.

الحكم الثاني : إذا اقتصر على الوقوف بجزء من النهار بعد الزوال دون الليل ، فقال أكثر العلماء : يجزيه ذلك. وقال مالك : يبطل حجه.

حجته : قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) والناس يفيضون بالليل ، قلنا : لا نسلم ذلك ؛ لأن الناس يفيضون بالليل وبالنهار ، وأيضا فإن (حيث) للمكان لا للزمان.

حجة الأكثر : حديث عروة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من صلى معنا هذه الصلاة ، وكان قد وقف بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه ، وقضى تفثه» قال في النهاية : وأجمعوا أن المراد بقوله : «نهارا» بعد الزوال ، وأراد بالصلاة صلاة الفجر بجمع ، قال مالك : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف ليلا.

قلنا : أخذ بالأفضل لهذا الحديث ، لكن في كلام أهل المذهب أنه

٤٤٤

يلزمه الدم إن أفاض قبل الغروب ؛ لأنه ترك نسكا واجبا ، ما ينقض قولنا أخذا بالأفضل.

وما قلنا : من إيجاب الدم هو قول أبي حنيفة ، وأحد قولي الشافعي.

وقال الناصر ، وأحد قولي الشافعي : لا يجب ، وقد يقال : الواجب أن يكون آخر جزء من النهار في الجبل إن وقف نهارا فوجب الدم لإخلاله بهذا الواجب ، لا بكونه ترك جزءا من الليل وهو خفي.

الحكم الثالث : أن الآية تدل على كون في المزدلفة إذا حملت الإفاضة عليها ، لكن تفصيل الكون بالمزدلفة ، وبالمشعر ، ووقته ، وبيان حكمه هل هو ركن ، أو نسك ، أو سنة مأخوذ من جهة السنة. وذكر الأقوال في كتب الفقه.

وقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) أي : اطلبوا منه المغفرة بالتوبة من ذنوبكم ، وقيل : من مخالفتكم في الموقف. من الثعلبي بإسناده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «الحجاج والعمار وفد الله تعالى إن دعوا أجابهم ، وإن استغفروا غفر لهم» وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اللهم اغفر للحاج ، ولمن استغفر للحاج ، ولمن استغفر له الحاج» رواية منه عن علي بن عبد العزيز (١) أنه

__________________

(١) علي بن عبد العزيز الجرجاني ، أبو الحسين الشافعي ، العلامة ، وهو المراد بقوله في الشرح (وقال أبو الحسين بن عبد العزيز) وكان زاهدا ، ورعا ، أديبا ، شاعرا ، روى له المرشد بالله أشعارا بديعة منها الأبيات المشهورة :

يقولون لي فيك انقباض وإنما

رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم

ولو عظموه في النفوس لعظما

ومن شعره :

لم أجد لذة السلامة حتى

صرت للبيت والكتاب جليسا

ليس شيء أعز عندي من العلم

فلا أبتغي سواه أنيسا

إنما الذل في مخالطة الناس

فدعهم تعش عزيزا رئيسا

توفي على ما قال العامري سنة ٣٦٦ ه‍ ولعله سهو ، وفي تاريخ ابن الأثير وغيره أنه مات سنة ٣٩٣ ه‍ والله أعلم.

٤٤٥

قال : كنت عديلا لأبي عبيد القاسم بن سلام سنة من السنين ـ إلى أن قال : فلما صرت إلى المأزمين قال أبو عبيد : لو اشتريت لنا زبدا وتمرا ، فخرجت لابتياعه ، وكنت قد نسيت نفقتي ، فذكرت النفقة ، فرجعت إلى الموضع فإذا النفقة بحالها ، فأخذتها ورجعت فصادفت الوادي مملؤءا قردة وخنازير ، وغير ذلك ، فلما دخلت على أبي عبيد وسألني عن أمري فأخبرته ، وذكرت القردة والخنازير ، فقال : تلك ذنوب بني آدم تركوها وانصرفوا».

قوله تعالى

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) [البقرة : ٢٠٠ ـ ٢٠٢]

المناسك هنا : أعمال الحج ، وقيل : الذبائح. والذكر المراد قيل : هو التكبير أيام منى ، وقيل : سائر الأدعية ، وخص الدعاء بتلك المواطن لفضلها ، وقيل : بالتوحيد والتمجيد ، وقيل : بالذكر عقيب قضاء المناسك ، وهو الظاهر.

وقيل : مع قضاء المناسك ، وتقديره : فإذا أخذتم في قضاء المناسك ، والأمر هنا للندب ؛ لأنه لا يجب ذكر يختص به هذا المكان.

وقوله تعالى : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) قيل : كانت العرب إذا فرغوا من الحج وقفوا عند البيت وذكروا مآثر آبائهم ، فأمر الله تعالى بأن يجعل الذكر له لا لهم ؛ فإنهم كانوا لا يذكرون الله ، بل يقول الرجل : اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة ، كثير المال ، فأعطني مثل ذلك ، وهذا عن كثير من المفسرين.

٤٤٦

وقيل : اذكروه بالاستغاثة به ، كذكر الصبي لأبيه إذا قال : يا أبت ، عن عطاء ، والربيع ، والضحاك ؛ لأنه يفصح بقوله : (أبه) (أمه) ويلهج بذلك.

وقيل : لا تنسوا المنعم في الأحوال ، كما لا تنسون الآباء.

قال في الثعلبي : عن أبي الجوزاء قلت لابن عباس : أخبرني عن قول الله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ) الآية ، وقد يأتي اليوم على الرجل فلا يذكر أباه؟

فقال ابن عباس : ليس كذلك بل أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما

قال أبو علي وغيره : (أو) في قوله : (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) بمعنى الواو (١) ، وقوله تعالى : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي : من نصيب.

دلت الآية على أنه ينبغي الإهتمام بذكر الله سبحانه عقيب الطاعة ، وفي المواضع الشريفة ، وأن ذلك يكون الاهتمام به ألزم من الاهتمام بالأعراض الدنيوية.

ودلت : على أنه لا ينبغي الاقتصار في الدعاء على غرض دنيوي لا يقرن بأمر أخروي.

وعن أنس : كانوا يطوفون بالبيت عراة ، ويقولون : اللهم اسقنا المطر ، واعطنا على عدونا الظفر ، وردنا صالحين إلى صالحين (٢).

وقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) المعنى : أن الناس بين مقل من ذكر الله وهم الأولون ، وبين مكثر ، وهم هؤلاء ، فكونوا من المكثرين.

__________________

(١) وتكون بمعنى : بل. (ح / ص).

(٢) في أحوال الدنيا. (ح / ص).

٤٤٧

وللمفسرين أقوال في تفسير الحسنتين : فعن أنس وقتادة : نعم الدنيا ، ونعم الآخرة

وعن السدي : رزقا حلالا في الدنيا ، ومغفرة في الآخرة.

وعن الحسن : العلم والعبادة في الدنيا ، والجنة في الآخرة.

وعن علي عليه‌السلام : الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة ، وفي الآخرة : الحوراء.

وعذاب النار : امرأة السوء. والظاهر : أنه العذاب في نار الآخرة.

وقيل : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) التوفيق والعصمة ، (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) النجاة والرحمة.

وقيل : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) الأولاد الأبرار ، (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) النجاة من عذاب النار.

وقيل : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) الثبات على الإيمان (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) السلامة في الرضوان.

وقيل : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) الإخلاص ، (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً).

وقيل : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) السنة ، (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) الجنة.

قال في الثعلبي : بالإسناد إلى أنس بن مالك (١) : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاد مريضا قد صار مثل الفرخ المنتوف ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هل كنت تدعو الله بشيء ، أو تسأله شيئا؟» قال : كنت أقول : اللهم ما عاقبتني به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سبحان الله ، إذا لا تستطيعه ،

__________________

(١) أنس بن مالك هو : أنس بن مالك بن النضر ، الأنصاري ، الخزرجي ، أبو حمزة ، خادم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، خدمه عشر سنين ، صحابي مشهور ، كثير الرواية ، مات سنة اثنين ، وقيل : ثلاث وتسعين ، وقد جاوز المائة ، رحمه‌الله تعالى.

٤٤٨

ولا تطيقه» ، هلا قلت : اللهم (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) دعا الله بها فشفاه ، قال فيه : وروي أنهم قالوا لأنس بن مالك : ادع لنا ، فقال : اللهم (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) قالوا : زدنا فأعادها ، فقالوا : زدنا ، فقال : ما تريدون قد سألت الله تعالى لكم خير الدنيا والآخرة.

قال أنس : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكثر أن يدعو بها.

وعن سفيان الثوري : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) الرزق الطيب والعلم (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) الجنة.

وعن ابن عباس قال : عند الركن اليماني ملك قائم مذ خلق الله السموات والأرض يقول آمين ، فإذا مررتم به فقولوا : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ).

وقال ابن جريج : بلغني أنه كان يؤمر أن يكون أكثر دعاء الرجل في الموقف (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ).

ففي هذه الآية الكريمة دلالة على استحباب الدعاء بها ، وقد قال الهادي عليه‌السلام : يستحب الدعاء بها عند الإستلام في الطواف.

وقوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) يعني : أولئك الداعون بالحسنتين لهم نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة ، والثواب (١) : هو المنافع الحسنة لهم نصيب منه.

أو المراد (مِمَّا كَسَبُوا) أي : من أجل ما كسبوا ، كقوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) [نوح : ٢٥].

__________________

(١) لفظ الكشاف (وهو الثواب).

٤٤٩

أو : لهم نصيب مما دعوا به ، يعطيهم الله منه بحسب مصالحهم في الدنيا ، وبحسب استحقاقهم في الآخرة ، وسمي الدعاء كسبا لأنه من الأعمال.

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون (أُولئِكَ) للفريقين جميعا ، وأن لكل فريق نصيبا من جنس ما كسب.

قال في الثعلبي : عن ابن عباس في هذه الآية : أن رجلا قال : يا نبي الله مات أبي ولم يحج ، أفأحج عنه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :» لو كان على أبيك دين فقضيته ، أما كان ذلك يجزي؟ قال : نعم. قال : فدين الله أحق أن يقضى. قال : فهل لي من أجر؟ فأنزل الله عزوجل : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) يعني : من حج عن ميت كان الأجر بينه وبين الميت.

وفيه بالإسناد إلى الفضل بن العباس أنه كان ردف خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتاه رجل فقال : إن أمي عجوز كبيرة لا تستمسك على الرحل ، فإن ربطتها خشيت أن أقتلها ، أفأحج عنها؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه؟ قال : نعم. قال : فحج عنها.

وفيه بالإسناد إلى أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في رجل أوصى بحجة : «كتب له أربع حجات ، حجة للذي كتبها ، وحجة للذي نفذها ، وحجة للذي أجرها ، وحجة للذي أمر بها».

وعن سعيد بن جبير : أن رجلا جاء إلى ابن عباس فقال : إني أكريت دابتي ، واشترطت عليهم أن أحج فهل يجزيني ذلك؟ فقال : أنت من الذين قال الله فيهم : (لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا).

وقد أفادت هذه الآثار في تفسير الآية ثلاثة أحكام :

الأول : أن من حج وهو أجير صح حجه ، ولا إشكال في ذلك.

الثاني : صحة النيابة عن الميت في الحج. وهذا قول الأكثر ، وعن

٤٥٠

أبي حنيفة : لا تصح النيابة كالصلاة ، لكن إذا امتثل استحق ثواب النفقة. فأبو حنيفة اعتبر القياس ، والأكثر تمسكوا بالأخبار.

الثالث : صحة الحج عن الغير ، وإن لم يكن بأمره ، وهذا فيه خلاف ، فالناصر ، والشافعي : يجيزان ذلك لهذه الآثار.

والهادي عليه‌السلام والمؤيد بالله ، وغيرهما : يمنعون ذلك ، لقوله تعالى في سورة النجم : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى».

والمنصور بالله يجوز ذلك من الولد ، ويقول : إنه من سعيه [لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند نزول هذه الآية : «ألا وإن ولد الإنسان من سعيه» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا مات الرجل انقطع عنه كل شيء إلا ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسعد بن عبادة حين سأله عن أمه هل ينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم» ونحو ذلك] (١).

قوله تعالى

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

هذه الآية الكريمة قد أفادت حكمين :

الأول : أن هنا ذكرا أمر الله تعالى به.

والثاني : التخيير بين التعجيل والتأجيل على ما نبين.

أما الحكم الأول : فاختلف أهل التفسير في الذكر المراد ، فقيل : هو

__________________

(١) ما بين قوسي الزيادة ساقط من النسخة أ ، وثابت في ب.

٤٥١

ما أمر الله به في الآية المتقدمة بقوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) [البقرة : ٢٠٠] لأن هذا خطاب للحجيج ، وقد تقدم أن ذلك أمر ندب.

[تكبير التشريق ووقته وكيفيته]

وقيل : الذكر هنا هو : تكبير أيام التشريق ، وهذا هو الذي عليه أكثر المفسرين. قال الحاكم : وهو الأولى ؛ لأنه المختص بهذه الأيام.

قال الزمخشري : هو التكبير في أيام التشريق عقيب الصلاة ، وعند الجمار.

قال في الثعلبي : كان عمر وابنه عبد الله يكبران في هذه الأيام عقيب الصلوات ، وعلى الفراش ، والفسطاط ، وفي الطريق ، ويكبر الناس بتكبيرهما ، ويتأولان هذه الآية.

واختلف من قال : إنه تكبير أيام التشريق ، في حكمه ، ووقته ، وماهيته ، وعلى من شرع.

أما حكمه فقال أبو طالب : إنه سنة مؤكدة ، وهذا هو الذي ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي ، والأكثر ، وقد قال في الثعلبي : أجمعوا على ذلك ، وقال المؤيد بالله ، والناصر ، والمنصور بالله : إنه واجب ، والواجب مرة عقيب الفرض ، ودلالة الآية مجملة.

وأما وقت التكبير : ففي ذلك أقوال للصحابة ولمن بعدهم من العلماء.

قال الحاكم : ذكر الشيخ أبو محمد أن ثلاثة من الصحابة ، وهم علي عليه‌السلام وعمر ، وابن مسعود اتفقوا في الابتداء ، واختلفوا في الإنتهاء ، اتفقوا أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة ، ثم اختلفوا في

٤٥٢

الانتهاء ، فقال علي عليه‌السلام : إلى العصر من آخر أيام التشريق ، وذهب إليه من الفقهاء أبو يوسف ، ومحمد (١).

وقال ابن مسعود : إلى صلاة العصر من يوم النحر ، وإليه ذهب أبو حنيفة.

وقال عمر : إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق ، وروي عنه كقول علي عليه‌السلام.

وثلاثة اتفقوا في الابتداء أيضا ، واختلفوا في الانتهاء ، وهم ابن عباس ، وابن عمر ، وزيد. قالوا : هو من صلاة الظهر يوم النحر ، قال زيد : إلى العصر من آخر أيام التشريق ، وهذا قول عطاء ، ورواية لأبي يوسف.

وقال ابن عمر : إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق ، وهو قول الشافعي.

وقال ابن عباس : إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق (٢).

وروى القاضي زيد عن الهادي ، والقاسم ، والناصر ، والمؤيد بالله كما روي عن علي عليه‌السلام.

وروي عن مالك : من ظهر يوم النحر إلى الفجر من آخر أيام التشريق.

وقال للشافعي ثلاثة أقوال : معنا ، ومع مالك ، والثالث : من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق (٣).

قال في نهاية المالكي : الخلاف في ذلك كثير ، وقد حكى ابن المنذر (٤) عشرة أقوال.

__________________

(١) وزاد في الحاكم (وعليه فعل المسلين في الأعصار ، وهو اختيار علي عليه‌السلام).

(٢) إلى هنا آخر كلام الحاكم في التهذيب.

(٣) إلى هنا آخر كلام القاضي زيد.

(٤) ابن المنذر هو : محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري ، أبو بكر ، فقيه من الحفاظ ، كان شيخ الحرم بمكة ، ولد سنة ٢٤٢ ه‍ وتوفي بمكة سنة ٣١٩ ه‍ ح / س.

٤٥٣

حجة الأئمة عليهم‌السلام : ما رواه زيد بن علي ، عن علي عليهما‌السلام أنه قال : «قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي كبر في دبر صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق إلى صلاة العصر».

وما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى الفجر يوم عرفة ، ثم أقبل بوجهه على الناس فقال : إن أفضل ما قلته ، وقاله الأنبياء من قبلي في مثل هذا اليوم : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد».

وأما الخلاف في ماهية تكبير التشريق ، فالمشهور عن علي عليه‌السلام وعبد الله : أنه يكبر أوله مرتين ، وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه.

وعن سعيد بن جبير : يكبر ثلاثا ، وهو قول الشافعي. وقال مالك : يقول : الله أكبر ، الله أكبر. ثم يقطع ، ثم يقول : الله أكبر لا إله إلا الله.

والمروي عن علي عليه‌السلام وعبد الله (١) ما ورد الأثر به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو «الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد (٢).

وزاد الهادي عليه‌السلام في المنتخب بعد هذا أن يقول : «والحمد لله على ما هدانا وأولانا ، وأحل لنا من بهيمة الأنعام» وهذه الزيادة استحسان لقوله تعالى في سورة الحج : (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [الحج : ٣٧].

ولقوله تعالى فيها : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) [الحج : ٣٤] ولقوله تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ

__________________

(١) عبد الله هو : عبد الله بن مسعود. وكلما أطلق في هذا الكتاب فالمراد به ابن مسعود رضي الله عنه.

(٢) أخرجه الإمام زيد بن علي عليه‌السلام في مسنده ١٤٧ في كتاب الصلاة ، باب التكبير في أيام التشريق.

٤٥٤

عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) [الحج : ٢٨] وقال الهادي في الأحكام : هو الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا».

قال أبو طالب : الاختيار هنا قول المنتخب ؛ لأنه الأشهر عن السلف.

قال في النهاية : وقالت جماعة : ليس في ذلك شيء مؤقت.

وأما من يشرع له هذا التكبير ، فالذي حصله الأخوان ، والقاضي زيد للهادي ، والقاسم عليهما‌السلام : أن ذلك عام في الفرض والنفل ، قال أبو طالب : إلا صلاة العيد ، وعام في الرجال والنساء ، قال القاسم عليه‌السلام : إلا أن المرأة تخفض صوتها ، وعام في المنفرد ، والمجمع ، والمسافر ، والمقيم ، وفي المصر وغيره ، وهذا أحد قولي الشافعي ؛ لأن الأدلة لم تفصل ، وأحد قوليه ، وأبو يوسف ، ومحمد : لا تكبير عقيب النفل ، وقال أبو يوسف ومحمد : لا يكبر عقيب التطوع ، والعيد ، والوتر. قال أبو حنيفة : إنما شرح التكبير للمجمع في المصر إذا كان مقيما ذكرا حرا ، مكلفا ، مصليا لفريضة لا عقيب عيد ، ووتر ، إلا أن المرأة إن ائتمت بالرجل ، أو المسافر بالمقيم كبرا.

قال في الانتصار : ويكبر عقيب ما قضى في هذه الأيام ، كما يكبر عقيب النوافل ، وعن زيد بن علي ، والناصر : لا يكبر عقيب النوافل.

قال المنصور بالله عليه‌السلام : إذا نسي التكبير كبر ما بقيت أيام التشريق ، وكذا عن أبي طالب : لا يسقط إن تكلم ، أو زال عن مكانه.

قال في الانتصار : في التباعد وجهان : هل يشبه بسجود السهو ، أو بالرواتب ، والمختار : أنه يأتي به إذا زال عن مكانه ، مادام قريبا ولم يتباعد.

٤٥٥

قوله تعالى : (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) قال أكثر المفسرين : هي أيام التشريق ، والمعلومات : هي العشر الأولى من ذي الحجة ، والدليل على أن المعدودات أيام النحر (١) أن الله سبحانه قال : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) والتقدير : فمن تعجل في يومين منها ، وإنما يكون النفر فيها لا في الأيام العشرة ، وهذا القول مروي عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وهو الظاهر من أقوال الأئمة عليهم‌السلام.

قال في التهذيب : هذا مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وأكثر أهل العلم.

وقيل : المعدودات : أيام العشر.

الحكم الثاني

يتعلق بقوله : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى) قيل : كانت الجاهلية فريقين : منهم من يؤثّم المتعجل ، ومنهم من يؤثّم المتأخر ، فورد القرآن ينفي الإثم عنهما جميعا.

والمعنى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ) ، أي : عجل فنفر النفر الأول ، أو عجل فترك الرمي في اليوم الرابع ، ويصح (فَمَنْ تَعَجَّلَ) أي : تعجل النفر ، ويجعله متعديا.

وقوله تعالى : (فِي يَوْمَيْنِ) أي : بعد يوم النحر ، ونفر في ثالث يوم النحر ، ويحتمل (فَمَنْ تَعَجَّلَ) أي : بتأنيه يومين لا أكثر ، ولا خلاف بين العلماء أن الحاج مخير فيما ذكر.

قال الزمخشري : والتأخر وإن كان أفضل فيصح التخيير بين الفاضل والأفضل ، كما خير المسافر بين الفطر والصوم ، وإن كان الصوم أفضل.

__________________

(١) في نسخة (أيام التشريق).

٤٥٦

قال في تعليق القاضي زيد : وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أيام منى ثلاثة» (١) فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه» وهذا التخيير ثابت إلى غروب شمس اليوم الثاني من أيام التشريق عند عامة العلماء خلافا لما روي عن الحسن أنه قال : إلى العصر ، وبعده يلزم النفر الثاني. فأما إذا غربت الشمس وهو في منى ، فقال الشافعي : قد لزمه المبيت ، والنفر الثاني ، واختار هذا في الانتصار.

وقال أبو حنيفة : إنما يلزمه النفر الثاني بطلوع الفجر وهو بمنى. وهذا القول للشيخين أبي جعفر ، وابن أبي الفوارس وغيرهما ، وأشار القاضي زيد : أنه يلزم المبيت بغروب الشمس مع العزم على المبيت ، والنفر الثاني يجب بطلوع الفجر وهو بمنى مع العزم على الرمي (٢) ، ولعل منشأ الخلاف من فوات التعجيل بماذا يكون؟ فإذا قلنا : يبطل تعجيله بغروب الشمس لزم التأخير ، لئلا يخرج عن التعجيل والتأجيل.

وإذا طلع فجر الثالث فعند القاسمية ، وأبي حنيفة : له أن يرمي وينفر لكن يكره قبل طلوع الشمس ، لما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس ، ولا ترموا حتى تصبحوا» فجعلوا رمي الرابع كرمي [اليوم] الأول.

وقال مالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، والوافي : لا يرمي ، ولا ينفر إلا بعد الزوال ؛ لأن في رواية عائشة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقام أيام التشريق الثلاثة يرمي الجمار حين تزول الشمس ، وقد قال : «خذوا عني مناسككم».

__________________

(١) هكذا في النسخة أ. وفي رواية ابن ماجه ، وأبي داود ، ورواية أحمد (ثلاثة أيام). ح / س

(٢) في نسخة (مع العزم على المقام).

٤٥٧

وعن علي عليه‌السلام : «ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، الحادي عشر ، والثاني عشر ، والثالث عشر يرمي فيهن الجمار الثلاث بعد الزوال.

سؤال : إن قيل : إذا (١) كان النفر الثاني أفضل لزيادة العمل فيه ؛ ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفر فيه ، وقلتم : النفر الأول رخصة فما معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من لم يقبل الرخصة فعليه من الإثم مثل جبال عرفات».

أما لو كانت الرخصة واجبة كأكل الميتة عند خشية الهلاك ، فهذا جلي ، وأما إذا لم تجب.؟ (٢).

وقوله تعالى : (لِمَنِ اتَّقى) قيل : اتقى قتل الصيد. وقيل : اتقى محظورات الإحرام. وقيل : اتقى عبادة الوثن. وقيل : المعاصي (٣) ، قال الحاكم : وهو الوجه لعمومه

وإنما جعل ذلك للمتقي ؛ لأنه الحاج على الحقيقة ، فأراد إزالة ما يتخالج في قلبه من التقديم والتأخير ، وانتفاء الإثم.

قال الزمخشري : ويجوز أن يراد ما تقدم من أحكام الحج وغيره لمن

__________________

(١) وفي نسخة (إن كان النفر الثاني).

(٢) بياض في الأصل ، وتقديره : (وأما إذا لم تجب فيمكن أن يقال : وإما إذا لم تجب الرخصة ، فالمراد من الحديث الأول أنه تعالى لا يحب مرادا دون مراد من العزائم والرخص ، فكما لا يختلج قلب المؤمن شيء من إتيان العزائم لا يختلج قلبه شيء من إتيان الرخص ، ولا يتم حقيقة الإمتثال وموافقة المراد إلا بالإنقياد للأمرين ، فلا يبعد إثم من يختلج قلبه شىء من ذلك ، ولا يلزم التساوي في الفضل ؛ لأن المشبه دون المشبه به ، بل التساوي في الإنقياد ..

والمراد من الحديث الثاني : أن معنى (من لم يقبل الرخصة) أي : من لم يعتقدها. فلا شك في إثم من كان كذلك لتحريمه ما أحل الله ورخص فيه.

(٣) وهو الصحيح : فالتقوى هي : الإتيان بجميع الأوامر ، واجتناب جميع المناهي. (ح / ص).

٤٥٨

اتقى ، دون ما عداه ؛ لأنه المنتفع به ، كقوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) [الروم : ٣٨]

وعن ابن مسعود : إنما جعل مغفرة الذنوب لمن اتقى الله تعالى في حجه.

قال ابن جريج : في مصحف عبد الله (لمن اتقى الله).

قوله تعالى

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٤ ـ ٢٠٥].

قيل : نزلت في الأخنس بن شريق ، وكان حلو المنطق إذا لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واسمه أبي ، وسمي الأخنس ؛ لأنه خنس بجماعة من بني زهرة عن قتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر (١) ، وكان من المنافقين ، وكان منه أنه بيّت بني ثقيف ، وأهلك مواشيهم ، وأحرق زروعهم. وقيل : نزلت في المنافقين عموما.

وقيل : نزلت في سرية الرجيع ، وذلك أن قريشا أرسلوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا قد أسلمنا فابعث الينا نفرا من علماء أصحابك نتعلم منهم ، فبعث جماعة فيهم خبيب بن عدي فنزلوا بطن الرجيع ، فأحاط بهم أهل مكة وقتلوهم ، وحمى الدبر رأس عاصم بن ثابت ، وأسروا خبيب بن عدي ، وأخرجوه من الحرم فقتلوه ، وقال : ذروني أصلي ركعتين ، فصلى ركعتين. قال في الثعلبي : فجرت سنة لمن قتل صبرا أن يصلي ركعتين ، ثم قال : لو لا أن يقال : جزع من الموت لزدت ، وأنشأ يقول :

__________________

(١) ترك مقاتلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان يقول لأصحابه : إن محمدا ابن اختكم فاتركوا قتاله. (ح / ص).

٤٥٩

ولست أبالي حين أقتل مسلما

على أي [جنب] (١) كان في الله مصرعي

ولهم قصة طويلة.

وقد أفاد كلام المفسرين في سبب نزولها أحكاما.

الأول : أن المنافقين يعاملون معاملة المسلمين ، كما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ذكر هذا أبو مضر (٢) من فقهاء المؤيد بالله.

الثاني : ما ذكره الثعالبي من صلاة الركعتين لمن قتل صبرا.

الثالث : أن تحريق الزروع ونحو ذلك من السعي في الأرض بالفساد ، قال في الثعالبي عن سعيد بن المسيب أن قطع الدراهم من الفساد ، وحكى ذلك شيخنا شرف الدين (٣) عن الإمام المهدي أحمد بن الحسين (٤) عليه‌السلام.

__________________

(١) في الأصل (علي أي شق) والرواية ما أثبتناه.

(٢) تقدمت ترجمته.

(٣) شيخنا شرف الدين : المراد به العلامة الحسن بن محمد النحوي رحمه‌الله تعالى

(٤) أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم ، الحسني ، الإمام المهدي الشهيد ، إذا أطلق المهدي في الشرح فهو المراد. دعوته : سنة ٦٤٦ ه‍ ، وبايعه الناس رغبة ورهبة ، وأولاد المنصور بالله ، وابن وهاس ، والشيخ أحمد بن محمد الرصاص ، ثم نكثوا بيعته ، وأحربوه وقتلوه في شهر صفر سنة ٦٥٦ ه‍ وله كرامات عظيمة ، كقصة المقعد بصعدة ، فإنه مسح عليه فقام.

وسيرته مشهورة [وفيها كتاب] وكان مجتهدا لا كما زعم من لا معرفة له ، وكان مفحما لا يقول الشعر ، وقبره بذيبين مشهور مزور.

قد يتوهم الكثير بأن الذي قاتل الإمام أحمد بن الحسين هو الشيخ أحمد بن الحسن الرصاص ، وليس هو وإنما هو أحمد بن محمد الرصاص ، وكان يلقب بالحفيد ، وترجمته في شرح الأزهار كالتالي : أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص ، الزيدي ، الحوثي ، صاحب التصانيف كالجوهرة في أصول الفقه ، وشرحها ، والكاشف أربعة أجزاء ، ويعرف بالحفيد. ـ

٤٦٠