موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

أما بعد ، فإنّ الله تعالى بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله على فترة من الرسل ، وقريش في أنفسها وأموالها لا يرون أحداً يساميهم ولا يباريهم! فكان نبياً أميناً ، من أوسطهم بيتاً وأقلهم مالاً. وكانت خديجة بنت خويلد أول من آمنت به (كذا) فواسته بمالها ، ثمّ آمن به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ابن تسع سنين (كذا) ولم يُشرك بالله شيئاً طرفة عين ، ولم يعبد وثناً ولم يأكل رباً (في إشارة إلى جدهم العباس) ولم يشاكل الجاهلية في جهالاتهم.

وكانت عمومة رسول الله إمّا مسلم مهَين (كذا) أو كافر معاند ، إلّاحمزة ، فإنه لم يمتنع من الإسلام .. وأما أبو طالب فإنه كفله وربّاه ، ولم يزل مدافعاً عنه ومانعاً منه. فلمّا قبض الله أبا طالب همّ القوم وأجمعوا عليه ليقتلوه ، فهاجر إلى القوم (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١)).

فلم يقم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المهاجرين أحد كقيام علي بن أبي طالب عليه‌السلام فإنه آزره ووقاه بنفسه ونام في مضجعه ، ثمّ لم يزل بعد ينازل الأبطال ولا ينكل عن قِرن ولا يولّى عن جيش ، منيع القلب ، يؤمَّر على الجميع ولا يؤمَّر عليه أحد ، أشد الناس وطأة على المشركين ، وأعظمهم جهاداً في الله ، وأفقههم في دين الله ، وأقرأهم لكتاب الله ، وأعرفهم بالحلال والحرام ، وهو صاحب الولاية في حديث «خم» وصاحب قوله : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبيّ بعدي» وصاحب يوم «الطائف» إذ كان أحبّ الخلق إلى الله وإلى رسول الله ، ومن فتح له بابه وسدّ أبواب المسجد ، وهو صاحب الراية يوم «خيبر»

__________________

(١) الحشر : ٩.

٨١

وصاحب عمرو بن عبد وَدّ في المبارزة (في الخندق) وأخو رسول الله حين آخى بين المسلمين ، وهو صاحب قوله سبحانه : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (١)).

وهو زوج فاطمة سيدة نساء أهل الجنة وسيدة نساء العالمين ، وهو ختن خديجة وابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو ابن أبي طالب في نصرته وجهاده ، وهو نفس رسول الله في يوم «المباهلة».

وهو الذي لم يكن أبو بكر وعمر ينفّذان حكماً حتّى يسألانه عنه! فما رأى إنفاذه نفّذاه وإلّا ردّاه! وهو الذي أُدخل في «الشورى» من بني هاشم ، ولعمري لو قدروا على دفعه عنه كما دفعوا العباس ووجدوا إلى ذلك سبيلاً لدفعوه!

وأما تقديمكم العباس عليه فإنّ الله يقول : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَايَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ (٢)).

والله لو كان ما في أمير المؤمنين من الفضائل والمناقب والآي المفسَّرة من القرآن ، في رجل واحد من رجالهم غيره خَلّة واحدة ، لكان بتلك الخَلّة متأهّلاً مستأهلاً للخلافة مقدَّماً على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله!

ثمّ لم تزل الأُمور إلى أن ولي أُمور المسلمين ، فلم يُعن بأحد من بني هاشم عنايته بعبد الله بن عباس! تعظيماً لحقه وصلة لرحمه وثقة به! فكان من أمره ما يغفر الله له (٣)!

__________________

(١) هل أتى : ٨.

(٢) التوبة : ١٩.

(٣) يبدو أنّه يشير إلى تهمة اختلاسه من بيت مال البصرة ، وقد مرّ الجواب والصواب فيها فراجع وانظر.

٨٢

ثمّ نحن وهم كما زعمتم يد واحدة ، حتّى قضى الله بالأمر إلينا (!) فأخَفناهم وضيّقنا عليهم ، وقتلناهم أكثر من قتل بني أُمية إياهم! فإنّ بني أُمية إنّما قتلوا منهم من سلّ سيفاً! وإنّا معشر بني العباس قتلناهم جُملاً! فلتُسألنّ أعظُمٌ هاشمية : (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (١)) ولتُسألنّ نفوس القيت في دجلة والفرات ، ونفوس دُفنت ببغداد والكوفة أحياءً! هيهات إنّه (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه (٢)).

وأما ما وصفتم من أمر «المخلوع» وما كان فيه من لَبس ، فلعمري ما لبَّس عليه أحد غيركم! إذ هوّنتم عليه النكث وزيّنتم له الغدر! وقلتم له : ما عسى أن يكون من أمر أخيك وهو رجل مُغرَّب! ومعك الأموال والرجال تَبعث عليه فيؤتى به! فكذبتم! ونسيتم قول الله تعالى : (ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ (٣)).

أما ما ذكرتم من (لزوم) استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام فإنه ما بايع المأمون إلّامستبصراً في أمره ، عالماً بأنه لم يبقَ أحد على ظهرها أبين فضلاً ولا أظهر عفة ولا أورع ورعاً ولا أزهد زهداً في الدنيا ، ولا أطلق نفساً ولا أرضى في الخاصة والعامة ، ولا أشدّ في ذات الله منه! وإنّ البيعة له لموافقة لرضا الربّ عزوجل. ولقد جهدت ، وما أجد في الله لومة لائم. ولعمري أن لو كانت بيعتي معه محاباةً لكان العباس ابني وسائر ولدي (؟) أحبّ إلى قلبي وأجلى في عيني ، ولكن أردت أمراً وأراد الله أمراً فلم يسبق أمري أمر الله.

__________________

(١) التكوير : ٩.

(٢) الزلزلة : ٧ و ٨.

(٣) الحج : ٦٠.

٨٣

وأما ما ذكرتم ممّا مسّكم من الجفاء في ولايتي ، فلعمري ما كان ذلك إلّا منكم بمُظافرتكم عليه ومُمايلتكم إياه (المخلوع) فلمّا قتلته تفرّقتكم عباديد : فطوراً أتباعاً لابن أبي خالد (١) وطوراً أتباعاً لأعرابي (٢) وطوراً أتباعاً لابن شِكلة (٣) ثمّ لكل من سلّ سيفاً عليَّ! ولولا أن شيمتي العفو وطبيعتي التجاوز ما تركت على وجهها منكم أحداً! فكلكم حلال الدم مُحلّ بنفسه!

وأما ما سألتم من البيعة للعباس ابني (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ (٤)) ويلكم! إنّ العباس غلام حدث السنّ ولم يؤنس رشده ، ولم يمهل وحده ولم تحكمه التجارب ، تدبّره النساء وتتكفّله الإماء. ثمّ هو لم يتفقه في الدين ولم يعرف حلالاً من حرام ، إلّامعرفة لا تأتي به رعية ولا تقوم به حجة. ولو كان مستأهلاً قد أحكمته التجارب ومتفقّهاً في الدين ؛ وبلغ مبلغ أمير العدل في الزهد في الدنيا وصرف النفس عنها ؛ ما كان له عندي في الخلافة إلّاما كان لرجل من عَكّ وحِميَر! فلا تكثروا في هذا المقال فإنّ لساني لم يزل مخزوناً عن أُمور وأنباء كراهية أن تخبث النفوس عندما تنكشف! علماً بأن الله بالغٌ أمرَه ومظهر قضاه يوماً.

وإن أبيتم إلّاكشف الغطاء وقشر اللحاء ؛ فالرشيد أخبرني عن آبائه عما وَجد في كتاب الدولة وغيره : أن السابع من ولد العباس لا تقوم بعده

__________________

(١) محمّد بن أبي خالد من قواد الحسن بن سهل والواثب المتمرّد عليه ، مرّ خبره.

(٢) لعلّه يريد سهل بن الحسن الخراساني الأنصاري البغدادي الثائر بعنوان الأمر بالمعروف ، مرّ خبره.

(٣) ابن شكلة ، نُسب إلى أُمه وهو إبراهيم بن المهدي العباسي بويع بعد الأمين بدل المأمون ، مرّ خبره.

(٤) البقرة : ٦١.

٨٤

لبني العباس قائمة ، فالنعمة لا تزال عليهم متعلقة بحياته! فإذا فقدتم شخصي فاطلبوا لأنفسكم معقلاً! وهيهات! ما لكم إلّاالسيف! يأتيكم الحسني (الحسيني) الثائر البائر فيحصدكم حصداً! أو السفياني المُرغِم! والقائم المهدي لا يحقن دماءكم إلّابحقها!

وأما ما أردت من البيعة لعلي بن موسى ؛ فبعد استحقاق منه لها في نفسه واختيار منّي له ، فما كان ذلك مني إلّالأن أكون الحاقن لدمائكم والذائد عنكم ، باستدامة المودّة بيننا وبينهم ، وهي الطريق التي أسلكها في إكرام آل أبي طالب ، ومواساتهم في الفيء بيسير ما يصيبهم منه!

وإن زعمتم أن أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ؛ فإني في التدبير والنظر لكم وأبنائكم ولعقبكم من بعدكم ، وأنتم ساهون لاهون تائهون ، وفي غمرة تعمهون ، لا تعلمون ما يراد بكم ، وما أظللتم عليه من النقمة وابتزاز النعمة.

همّة أحدكم أن يُمسى مركوباً! ويصبح مخموراً! تباهون بالمعاصي وتبتهجون بها ، وألهتكم البرابط! مخنّثون مؤنثون! لا يفكر مفكر منكم في إصلاح معيشة ولا استدامة نعمة ولا اصطناع مكرمة ، ولا كسب حسنة يمدّ بها عنقه (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (١)) أضعتم الصلوات واتّبعتم الشهوات ، وأعرضتم عن الغنيمات وأكببتم على اللذات (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (٢)).

وأيم الله لربّما أُفكّر في أمركم فلا أجد أُمة من الأُمم استحقوا العذاب حتّى نزل بهم ، لخُلّة من الخِلال ، إلّاأني أُصيب تلك الخُلّة بعينها فيكم! مع خِلال كثيرة لا أظن أن إبليس اهتدى إليها ولا أمر بالعمل بها! وقد أخبر الله عن قوم صالح أنّه

__________________

(١) الشعراء : ٨٨ ـ ٨٩.

(٢) مريم : ٥٩.

٨٥

(وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (١)) فأيكم لا يكون معه تسعة وتسعون من المفسدين في الأرض ، قد اتّخذتموهم شعاراً ودثاراً ، استخفافاً بالعباد وقلة يقين بالحساب ، فأيكم له رأي يُتّبع أو روية تنفع؟! فشاهت الوجوه وعُفّرت الخدود!

وما ذكرتم من عثرتي في أبي الحسن «نوّر الله وجهه» ، فلعمري إنها عندي النهضة والاستقلال! الذي أرجو به قطع الصراط ، والأمن والنجاة من الخوف يوم الفزع الأكبر ، ولا أظن أني عملت عملاً أفضل من ذلك عندي إلّاأن أعود بمثلها إلى مثله ، وأنى بذلك وأنى لكم بتلك السعادة؟!

وأما قولكم : إني سفّهت آراء آبائكم وأحلام أسلافكم! فكذلك قال مشركو قريش : (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢)) ويلكم! إنّ الدين لا يؤخذ إلّامن الأنبياء! فافقهوا! وما أراكم تعقلون.

وأما تعبيركم إياي بسياسة المجوس إياكم! فما يدفعكم الأنفةُ من ذلك (حتّى) لو ساستكم القردة والخنازير! (ولكنكم) ما أردتم إلّاأمير المؤمنين! ولعمري لقد كانوا مجوساً فأسلموا ، كآبائنا وامهاتنا في القديم! فهم المجوس الذين أسلموا وأنتم المسلمون الذين ارتدّوا ، فمجوسيّ أسلم خير من مسلم ارتدّ! فإنهم يتناهون عن المنكر ويأمرون بالمعروف ، ويتقربون من الخير ويتباعدون من الشرّ ، ويذبّون عن حرم المسلمين ، ويبتهجون بما ينال الشرك وأهله من النُكر ، ويتباشرون بما نال الإسلام وأهله من الخير (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٣)).

__________________

(١) النمل : ٤٨.

(٢) الزخرف : ٢٣.

(٣) الأحزاب : ٢٣.

٨٦

وأنتم ليس منكم إلّالاعب بنفسه! مأفون في عقله وتدبيره ، مغنٍّ أو ضارب دفّ أو زامر! والله لو أن بني أُمية الذين قتلتموهم بالأمس نُشروا فقيل لهم : لا تأنفوا من المعايب! لما زادوا على ما صيّرتموه لكم شعاراً ودثاراً وصناعة وأخلاقاً! ليس فيكم إلّامن إذا مسّه الشرّ جزع ، وإذا مسّه الخير منَع! ولا تأنفون ولا ترجعون إلّاخشية (من الناس)! وكيف يأنف من يبيت مركوباً ويصبح باثمه معجباً كأنّه قد اكتسب حمداً! غايته بطنه وفرجه! لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبيّ مرسل أو ملَك مقرّب! أحبّ الناس إليه من زيّن له معصية أو أعانه في فاحشة! تنظّفه المخمورة وتربده المطمورة (يقيم بها).

فإن ارتدعتم عما أنتم فيه من السيّئات والفضائح! وعمّا تهذرون به من عذاب ألسنتكم! وإلّا فدونكم تُعلَوا بالحديد (تُقتلون)! ولا قوة إلّابالله ، وعليه توكلي ، وهو حسبي» (١).

الرضا و «الآل» و «الأُمة» و «العترة» :

كان يجتمع في مجلس المأمون في مرو جماعة من علماء خراسان والعراق ، وحضره الرضا عليه‌السلام وحضره الريان بن الصلت الأشعري القمي قال : تلا المأمون هذه الآية : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا (٢)) وقال لهم : أخبروني عن معنى هذه الآية. فقال العلماء : أراد الله عزوجل بذلك الأُمة كلها!

فالتفت المأمون إلى الرضا عليه‌السلام وقال له : ما تقول يا أبا الحسن؟

__________________

(١) الطرائف في مذاهب الطوائف لابن طاووس ٢ : ٣٩٤ ـ ٤٠٠ عن نديم الفريد لابن مسكويه ، وانظر مقدمة تجارب الأُمم له ١ : ٢٢ بعنوان : انس الفريد ، وروضات الجنات ١ : ٢٥٥ وأعيان الشيعة ١٠ : ١٤٦ وهدية الأحباب : ٩٩.

(٢) فاطر : ٣٢.

٨٧

فقال عليه‌السلام : لا أقول كما قالوا ، ولكني أقول : أراد الله عزوجل بذلك «العترة الطاهرة»!

فقال المأمون : وكيف عنى «العترة» من دون الأُمة؟ فقال الرضا : لو أراد الأُمة لكانت بأجمعها في الجنة! لقول الله عزوجل (في الآية) : (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) ثمّ جمعهم كلهم في الجنة فقال عزوجل : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ (١)) ثمّ قال : فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم.

فقال المأمون : ومَن «العترة الطاهرة»؟

فقال الرضا عليه‌السلام : الذين وصفهم الله في كتابه عزوجل : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٢)) وهم الذين قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي مخلّف فيكم الثَقلين : كتاب الله و «عترتي أهل بيتي» ألا وإنهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما. أيها الناس ، لا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم».

فقال العلماء : يا أبا الحسن ، أخبرنا عن «العترة» أهم الآل؟ أم غير الآل؟ قال : هم الآل.

فقالوا : فهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يؤثَر عنه أنّه قال : «وأُمّتي آلي» و «آل محمّد أُمّته»!

فقال أبو الحسن : أخبروني فهل تحرم الصدقة على الآل؟ قالوا : نعم. قال :

فتحرم على الأُمة؟! قالوا : لا ، قال : فهذا فرق بين الآل والأُمة. ثمّ قال : ويحكم!

__________________

(١) فاطر : ٣٢.

(٢) الأحزاب : ٣٣.

٨٨

أين يُذهب بكم؟! أضربتم عن الذكر صفحاً أم أنتم قوم مسرفون؟! أما علمتم أنّه وقعت الوراثة والطهارة على المصطفين المهتدين دون سائرهم (وذلك) من قول الله عزوجل : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (١)) فصارت وراثة النبوة والكتاب للمهتدين دون الفاسقين. أما علمتم أن نوحاً حين سأل ربه عزوجل فقال : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (٢)) ذلك أنّ الله كان قد وعده أن ينجّيه وأهله. فقال ربّه عزوجل : (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣)).

فقال المأمون : هل فضَّل الله العترة على سائر الناس؟

فقال أبو الحسن : إنّ الله عزوجل قد أبان فَضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه (وذلك) قول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤)) وقال عزوجل في موضع آخر : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥)) ثمّ في إثر هذه ردّ الخطاب إلى سائر المؤمنين فقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (٦)) يعني الذين قرنهم بالكتاب والحكمة فحُسدوا عليهما ، فقوله عزوجل :

__________________

(١) الحديد : ٢٦.

(٢) هود : ٤٥.

(٣) هود : ٤٦.

(٤) آل عمران : ٣٣ ـ ٣٤.

(٥) النساء : ٥٤.

(٦) النساء : ٥٩.

٨٩

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ (١)) يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين ، فالملك هاهنا هو الطاعة لهم.

فقال له العلماء : فأخبرنا هل فسّر الله الاصطفاء في الكتاب؟ فقال : لقد فسّره في اثني عشر موضعاً :

فأول ذلك قوله عزوجل : (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢)) وهذه منزلة رفيعة وفضل عظيم وشرف عال عنى الله بذلك الآل فذكرهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فهذه واحدة.

والآية الثانية في الاصطفاء قوله عزوجل : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣)) وهذا فضل لا يجهله أحد إلّامعاند ضال!

والآية الثالثة : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٤)) فأبرز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم وقرنهم بنفسه .. عنى بالأبناء الحسن والحسين عليهما‌السلام وعنى بالنساء فاطمة عليها‌السلام ، فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد ، وفضل لا يلحقهم فيه بشر ، وشرف لا يسبقهم إليه خلق ؛ إذ جعل نفسَ علي كنفسه .. ومما يدل على ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لينتهيُنَّ بنو وليعة (من كندة) أو لأبعثنّ إليهم رجلاً مني كنفسي» يعني علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

والآية الرابعة : قول الله عزوجل : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً (٥)) ففي هذه الآية منزلة هارون

__________________

(١) النساء : ٥٤.

(٢) الشعراء : ٢١٤.

(٣) الأحزاب : ٣٣.

(٤) آل عمران : ٦١.

(٥) يونس : ٨٧.

٩٠

من موسى .. وفي هذا تبيان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» ففيه منزلة علي عليه‌السلام من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ومع هذا دليل ظاهر في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين قال : «ألا إنّ هذا المسجد لا يحل لجنب إلّالمحمد وآله» فأخرج الناس من مسجده ما خلا «العترة» حتّى تكلّم الناس في ذلك وتكلّم العباس فقال : يا رسول الله ، تركت علياً وأخرجتنا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أنا تركته وأخرجتكم ، ولكن الله عزوجل تركه وأخرجكم»!

فقال العلماء : يا أبا الحسن ، هذا الشرح والبيان لا يوجد إلّاعندكم معاشر «أهل بيت» رسول الله!

فقال : ومن ينكر لنا ذلك ورسول الله يقول : «أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها» ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء ، والطهارة ما لا ينكره ـ والله ـ إلّامعاند! والحمد لله على ذلك ، فهذه الرابعة.

والآية الخامسة : قول الله عزوجل : «وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ (١)) ولما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ادعو لي فاطمة ، فدُعيت له ، فقال لها : «يا فاطمة ، هذه فدك وهي مما لم يوجَف عليه بالخيل والركاب ، فهي لي خاصة من دون المسلمين ، وقد جعلتها لك ، لما أمرني الله تعالى به ، فخذيها لك ولولدك» خصوصية خصهم الله العزيز الجبار واصطفاهم بها على الأُمة ، فهذه الخامسة.

والآية السادسة : قول الله عزوجل : (قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى (٢)) وقد حكى الله عزوجل عن نوح في كتابه قال : (يَا قَوْمِ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي

__________________

(١) الإسراء : ٢٦.

(٢) الشورى : ٢٣.

٩١

أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (١)) وحكى عزوجل عن هود قال : (يَا قَوْمِ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٢)) ولكنّه قال لنبيه محمّد : قل : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى») ولم يفرض الله مودتهم إلّاوقد علم أنهم لا يرتدّون عن الدين أبداً ولا يرجعون إلى ضلال أبداً .. ومن تركها ولم يأخذ بها وأبغض أهل بيته فعلى رسول الله أن يبغضه ، لأنّه قد ترك فريضة من فرائض الله عزوجل ، فأي فضيلة وأيّ شرف يتقدم هذا أو يدانيه؟!

ثمّ قال أبو الحسن عليه‌السلام : حدّثني أبي عن آبائه عن الحسين بن علي عليهم‌السلام قال : اجتمع (جمع من) المهاجرين والأنصار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا له : يا رسول الله ، إنّ لك مؤونة في نفقتك ، وفي من يأتيك من الوفود ، وهذه أموالنا ـ مع دمائنا ـ فاحكم فيها باراً مأجوراً ، أعطِ ما شئت وأمسك ما شئت من غير حرج! فأنزل الله عزوجل عليه الروح الأمين فقال له : يا محمّد (قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى (٣)) يعني : أن توَدّوا قرابتي بعدي ...

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : يا أيها الناس ، إنّ الله عزوجل قد فرض لي عليكم فرضاً ، فهل أنتم مؤدّوه؟ فلم يجيبوه! فقال لهم : يا أيها الناس ، إنّه ليس من ذهب ولا فضة ولا مأكول ولا مشروب! فقالوا : إذن فهاتِ! فتلا عليهم الآية. فقالوا : أما هذه فنعم! وخرجوا ، فقال المنافقون : ما حمله على ترك ما عرضنا عليه إلّاليحثّنا على قرابته بعده! إنْ هو إلّا شيء افتراه في مجلسه! فأنزل الله عزوجل : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنْ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ

__________________

(١) هود : ٢٩.

(٢) هود : ٥١.

(٣) الشورى : ٢٣.

٩٢

الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١)) فبعث النبي عليهم وسألهم : هل حدَث شيء؟ قالوا : يا رسول الله ، لقد قال بعضنا كلاماً غليظاً كرهناه! فتلى عليهم رسول الله الآية! فبكوا واشتدّ بكاؤهم ، فأنزل الله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٢)).

وما بعث الله عزوجل نبياً إلّاأوحى إليه أن لا يسأل قومه أجراً لأنّ الله يوفّيه أجر الأنبياء ، إلّامحمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد فرض الله عزوجل مودة قرابته على أُمته ، وأمره أن يجعل أجره فيهم ليوَدّوه في قرابته ، بمعرفة فضلهم الذي أوجب الله لهم ، فإنّ المودة إنّما تكون على قدر معرفة الفضل. فلمّا أوجب الله تعالى ذلك ثقل لثقل وجوب «الطاعة» فتمسك بها قوم قد أخذ الله ميثاقهم على الوفاء ، وعاند أهل الشقاق والنفاق ، وألحدوا في ذلك فصرفوه عن حدّه الذي حده الله عزوجل فقالوا : القرابة هم العرب كلهم أو أهل دعوته! وعلى أي الحالتين فقد علمنا أن المودة للقرابة ، فأقربهم من النبيّ أولاهم بالمودة ، وكلما قربت القرابة كانت المودة على قدرها.

ثمّ قال : وما أنصفوا نبي الله في حيطته ورأفته ، وما منّ الله به على أُمته ، مما تعجز الألسن عن وظيفة الشكر عليه أن لا يوَدّوه في ذريته ، وأن لا يجعلوهم فيهم بمنزلة العين في الرأس ، حفظاً لرسول الله فيهم وحبّاً لهم ، فكيف والقرآن ينطق به ويدعو إليه؟! والأخبار ثابتة بأنهم الذين فرض الله تعالى مودّتهم ، ووعد الجزاء عليها ، فما وفى أحد بها ولا يأتي أحد بها مؤمناً مخلصاً إلّااستوجب الجنة .. وما وفّى بها أكثرهم! فهذه هي الآية السادسة.

__________________

(١) الأحقاف : ٨.

(٢) الشورى : ٢٥.

٩٣

والآية السابعة : فقول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (١)) قالوا : يا رسول الله ، قد عرفنا التسليم عليك ، فكيف الصلاة عليك؟ فقال : تقولون : «اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» فهل بينكم ـ معاشر الناس ـ في هذا خلاف؟ فقالوا : لا.

وقال المأمون : هذا مما لا خلاف فيه أصلاً وعليه «اجماع» الأُمة ، فهل عندك شيء في «الآل» من القرآن أوضح؟

فقال أبو الحسن : أخبروني عن قول الله عزوجل : (يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢)) مَن عنى بقوله : (يس)؟! قالوا : (يس) محمّد لم يشك أحد فيه! قال أبو الحسن : فإنّ الله عزوجل أعطى محمّداً وآل محمّد من ذلك فضلاً لا يبلغ أحد كنه وصفه ، إلّامن عقله! وذلك أنّ الله سلّم على الأنبياء صلوات الله عليهم فقال : (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٣)) وقال : (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (٤)) وقال : (سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (٥)) ولم يقل : سلام على آل نوح ، أو على آل إبراهيم ، أو على آل موسى وهارون ، ولكنّه قال : (سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (٦)) يعني آل محمّد صلوات الله عليهم! فقال المأمون : لقد علمتُ أنّ في معدن النبوة شرح هذا وبيانه! فقال الرضا : فهذه السابعة.

__________________

(١) الأحزاب : ٥٦.

(٢) يس : ١ ـ ٤.

(٣) الصافات : ٧٩.

(٤) الصافات : ١٠٩.

(٥) الصافات : ١٢٠.

(٦) الصافات : ١٣٠.

٩٤

والآية الثامنة : فقول الله عزوجل : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى (١)) فقرن سهم ذوي القربى بسهمه وسهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فهذا أيضاً فصل بين «الآل» و «الأُمة» لأنّ الله جعل «الآل» في حيّز وجعل الناس في حيّز دون ذلك ، ورضي «للآل» ما رضي لنفسه ، واصطفاهم فبدأ بنفسه ثمّ ثنّى برسوله ثمّ بذي القربى في كل ما كان من الفيء والغنيمة وغير ذلك مما رضيه لنفسه ، فهذا تأكيد مؤكّد وأثر قائم لهم إلى يوم القيامة في كتاب الله الناطق.

و (لكن) لما جاءت قصة الصدقة نزّه نفسه ورسوله وأهل بيته عنها فقال : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللهِ (٢)) فهل تجدون في شيء من ذلك أنّه سمى لنفسه أو لرسوله أو لذي القربى؟! ذلك لأنه لما نزّه نفسه عن الصدقة نزّه رسوله ونزّه أهل بيته ، لا بل حرّمها عليهم ، فالصدقة محرمة على محمّد وآل محمّد ، فهي أوساخ أيدي الناس لا تحلّ لهم ، فهم طُهّروا من كل دنس ووسخ ، فلمّا طهَّرهم الله واصطفاهم ؛ رضى لهم ما رضى لنفسه وكره لهم ما كره لنفسه عزوجل.

والآية التاسعة : قال الله عزوجل : (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٣)) فالذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن أهله ، وذلك بيّن في كتاب الله عزوجل حيث يقول : (فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً* رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ (٤)) فالذكر رسول الله ونحن أهله.

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) التوبة : ٦٠.

(٣) النحل : ٤٣.

(٤) الطلاق : ١٠ ـ ١١.

٩٥

وقال العلماء : إنّما عنى الله بذلك اليهود والنصارى! فقال أبو الحسن : سبحان الله! إذاً يدعوننا إلى دينهم ويقولون إنّه أفضل من دين الإسلام! وهل يجوز ذلك؟!

والآية العاشرة : فقول الله عزوجل : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ (١)) الآية .. أخبروني هل تصلح ابنتي وابنة ابني وما تناسل من صلبي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتزوّجها لو كان حياً؟ قالوا : لا ، قال : فأخبروني هل تصلح ابنة أحدكم له أن يتزوجها لو كان حياً؟ قالوا : نعم. قال : وهذا لأني أنا من آله ولستم من آله (كذا).

والحادية عشرة : فقول الله عزوجل : (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ (٢)) الآية ، إذ نسبه إلى فرعون بنسبه وليس بدينه ، ونحن من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بولادتنا منه ، ويعمّنا الدين مع الناس (في الأُمة) فهذا فرق (آخر) بين «الآل» و «الأُمة» فهذه الآية الحادية عشرة.

وأما الثانية عشرة : فقوله عزوجل : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا (٣)) إذ أمرنا (الله) مع الأُمة بإقامة الصلاة ، ثمّ خصّنا من دون الأُمة ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد نزول هذه الآية إلى تسعة أشهر يجيء إلى باب علي وفاطمة عليهما‌السلام كل يوم عند حضور كل صلاة خمس مرات (كذا) فيقول : «الصلاة رحمكم الله» فخصّصنا الله تبارك وتعالى بهذه الخصوصية .. وما أكرم الله أحداً من ذراري الأنبياء بمثل هذه الكرامة التي أكرمنا وخصّنا بها من دون أهل بيتهم جميعاً.

__________________

(١) النساء : ٢٣.

(٢) المؤمن : ٢٨.

(٣) طه : ١٣٢.

٩٦

فقال المأمون والعلماء : جزاكم الله «أهل بيت» نبيّه عن هذه الأُمة خيراً ، فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا إلّاعندكم (١).

ولعلّ هذا الشرح والبيان للفوارق الشواهق بين عموم «الأُمة» وبين خصوص «الآل والعترة» هو ما مهّد للمأمون لعرض ابنتيه على الرضا وابنه الجواد عليهما‌السلام ، ليصبح أسباطه من خواص الآل والعترة.

وكذا لعل هذا الشرح والبيان كان مما بعث المأمون على أن لا يقتصر في مجلسه مع الرضا عليه‌السلام بخصوص علماء خراسان والعراق ، بل يجمع للمناظرة معه علماء الأديان.

مجلس الرضا عليه‌السلام مع علماء الأديان :

من أبناء عبد المطلب بن هاشم : الحارث ، أسلم وشهد أُحداً وبرز مع أخيه حمزة فقُطعت رجله وقضى شهيداً ، ومن أبنائه نوفَل ، ومن أحفاده الإخوة : إسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمّد أبناء الفضل بن يعقوب ، ذكرهم النجاشي عن أبي العباس ابن عقدة ، وقال في محمّد أنّه روى عن الصادق والكاظم عليهما‌السلام ، وفي ابنه أبي محمّد الحسن قال : شيخ من الهاشميين ثقة صنّف (مجالس الرضا مع أهل الأديان) (٢) وذكر أبا محمّد الحسن وقال : ثقة جليل روى عن أبيه محمّد بن الفضل عن الصادق والكاظم ، وروى هو عن الرضا ، وله كتاب ونسخة عن الرضا (٣) وذكره ولقّبه بالنوفَلي وقال : له كتاب جمعه حسن كثير الفوائد وسمّاه (ذكر مجالس

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٢٨ ـ ٢٤٠ بتغيير يسير.

(٢) رجال النجاشي : ٥٦ برقم ١٣١ باسم الحسين مصحفاً.

(٣) رجال النجاشي : ٥١ برقم ١١٢.

٩٧

الرضا مع أهل الأديان) ثمّ ذكر طريقه إليه (١) هذا الهاشمي النوفَلي أفاد أنّه رحل من العراق لزيارة الرضا عليه‌السلام في مرو خراسان ، قال : كان ياسر الخادم يتولّى أمر أبي الحسن عليه‌السلام (من قبل المأمون) فبينا نحن عند أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في حديث لنا (مساءً ظ) إذ دخل علينا ياسر الخادم فقال له :

يا سيدي ، إنّ أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك : فداك أخوك! (ولعلّه كان قبل مصاهرته) إنّه اجتمع (كذا) إليّ أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلمون من جميع الملل! فرأيك في البكور إلينا إن أحببت كلامهم! وإن كرهت ذلك فلا تتجشّم! وإن أحببت أن نصير إليك خفّ ذلك علينا؟

فقال أبو الحسن : أبلغه السلام وقل له : قد علمت ما أردت! وأنا صائر إليك بكرة إن شاء الله.

فلمّا مضى ياسر التفت إليّ (النوفَلي) وقال لي : يا نوفَلي ؛ أنت عراقي ، والعراقيّ دقيق ؛ فما عندك في جمع ابن عمك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات؟

فقلت له : جعلت فداك! يريد الامتحان أن يعرف ما عندك؟! ولقد بنى على أساس غير وثيق ، وبئس ما بنى والله! إنّ أصحاب الكلام خلاف العلماء ، ذلك أن العالم لا ينكر غير المنكر ، وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة : إن احتجت عليهم بأن الله واحد ، قالوا : صحّح وحدانيّته ، وإن قلت : إنّ محمّداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا : أثبت رسالته ، ثمّ هم يباهتون الرجل وهو يطلّ عليهم بحجته ويغالطونه حتّى يترك قوله! فاحذرهم جعلت فداك!

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٧ برقم ٧٥ وقطع القاموس باتحادهم ج ٣ : ٣٦٧ برقم ٢٠٣٥ و ٣٧٢ برقم ٢٠٤١ و ٤٢ و ٥٢٦ برقم ٢٢٥١ وإن لم يحكم به الخوئي كما في المفيد من معجم رجال الحديث : ١٥٤ و ١٥٥ و ١٧٩ و ١٨٠.

٩٨

قال النوفَلي : فتبسّم الإمام وقال لي : يا نوفَلي ؛ أفتخاف أن يقطعوا عليَّ حجتي؟!

فقلت : لا والله ما خفت عليك قط ، وإني لأرجو أن يُظفرك الله بهم إن شاء الله تعالى.

فقال لي : يا نوفَلي ؛ أتحب أن تعلم متى يندم المأمون؟! قلت : نعم. قال : إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم! وعلى أهل الانجيل بانجيلهم! وعلى أهل الزبور بزبورهم! وعلى الصابئين بعبرانيتهم (كذا) وعلى الهرابذة بفارسيتهم ؛ وعلى أهل الروم بروميتهم! وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم! فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته ، وترك مقالته ورجع إلى قولي ، علم المأمون أن الموضع الذي بسبيله ليس بمستحِق له! فعند ذلك تكون الندامة ، ولا حول ولا قوة إلّابالله العلي العظيم.

قال : وكان المأمون قد أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات : مثل الجاثليق (رئيس أساقفة النصارى) ونسطاس الرومي ورأس الجالوت (اليهودي) والهربد الأكبر من أصحاب زرادشت ، ورؤساء الصابئة (عمران الصابئي) والمتكلمين ، ليسمع كلامهم مع الرضا عليه‌السلام. فجمعهم الفضل بن سهل وأعلمه بهم.

ويظهر من الخبر أن النوفَلي الهاشمي بات تلك الليلة عند الرضا عليه‌السلام ، قال : فلمّا أصبحنا أتانا الفضل بن سهل وقال للرضا : جعلت فداك! قد اجتمع القوم عند ابن عمك فما رأيك في إتيانه؟

فقال له الرضا عليه‌السلام : تَقدّمْني ، وأنا صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله. ثمّ توضأ وضوء الصلاة ، ثمّ شرب شربة سويق وسقانا منه ، ثمّ خرج وخرجنا معه حتّى دخلنا على المأمون ، وإذا المجلس غاصَ بأهله ، ومحمّد بن جعفر العلوي

٩٩

وجماعة من الطالبيين والهاشميين والقواد حضور ، فلمّا دخل الرضا عليه‌السلام قام المأمون فقام محمّد بن جعفر وبنو هاشم حتّى جلس الرضا مع المأمون وأمرهم بالجلوس فجلسوا. وأقبل المأمون عليه يحدّثه (١).

مناظرة الرضا مع الجاثليق :

ثمّ التفت إلى الجاثليق وقال له : يا جاثليق ، هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر ، وهو من ولد فاطمة بنت نبيّنا وابن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم. فأُحبّ أن تكلمه أو تحاجّه وتنصفه!

فقال الجاثليق : يا أمير المؤمنين ، كيف أُحاج رجلاً يحتج عليَّ بكتاب أنا منكره ونبيّ أنا لا أُؤمن به؟!

فقال له الرضا عليه‌السلام : يا نصراني ؛ فإن احتججت عليك بإنجيلك أتُقرّ به؟

قال الجاثليق : وهل أقدر على دفع ما نطق به الانجيل؟! نعم والله أقُرّ به على رغم أنفي!

فقال له الرضا عليه‌السلام : فاسأل عما بدا لك واسمع الجواب.

فقال الجاثليق : ما تقول في نبوة عيسى وكتابه؟ فهل تنكر منهما شيئاً؟

قال الرضا عليه‌السلام : أنا مقرّ بنبوة عيسى وكتابه وما بشّر به امته وأقَرّ به الحواريّون ، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقرّ بنبوة محمّد وبكتابه ولم يبشّر به أُمته!

قال الجاثليق : أليس إنّما نقطع الأحكام بشاهدَي عدل؟ قال : بلى. قال : فأقم شاهدَين من غير أهل ملتك على نبوة محمّد ممّن لا تنكره النصرانية ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٥٤ ـ ١٥٦.

١٠٠