موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

الطائي! وأقصى قوماً من قواده اتهمهم بالشماتة بقتله وسمّاهم الشامتة! وأظهر عليه أشدّ جزع. ولم يوجد للفضل فضل مال ولا ضيعة ولا فرس ولا آنية إلّافرساً واحداً وبرذونا وخمسة عبيد (١).

ونقل الصدوق عن كتاب أبي علي الحسين بن أحمد السلامي ، الذي صنفه في «أخبار خراسان» قال : احتال المأمون على الفضل بن سهل حتّى قتله غالب خال (ظ خادم) المأمون في حمام بسَرخس غيلة ، في شعبان (٢).

وقال خليفة : في شعبان عام (٢٠٢ ه‍) قتل الفضل بن سهل في سرخس ، فاتّهم المأمون بقتله علي بن أبي سعيد وموسى بن عمران وعبد العزيز بن عمران فقتلهم (٣).

والمسعودي قال : يوم الاثنين لخمس خلون من شعبان من هذه السنة : (٢٠٢ ه‍) (٤).

وابن الوردي قال : في شعبان من عام (٢٠٢ ه‍) قصد المأمون العراق فلمّا وصل إلى سرخس وثب أربعة فقتلوا الفضل بن سهل في الحمام ، وعمره ستون سنة (٥) قال : وغلبت السوداء على أخيه الحسن بن سهل حتّى صعب واشتد فشُدّ في الحديد ، وكُتب إلى المأمون بذلك (٦) وتخلّص منها عام (٢١٠ ه‍) (٧).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٦ وفيه : سنة ثلاث ومئتين. وهو خلاف المعروف.

(٣) تاريخ خليفة : ٣١٢.

(٤) التنبيه والاشراف : ٣٠٣ ، ونحوه في مروج الذهب ٣ : ٤٤١ بلا تاريخ اليوم والشهر.

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٣.

(٦) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٤ أليس من هول قتل أخيه؟!

(٧) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٨.

١٦١

كيفية رحلة المأمون :

قال اليعقوبي : كانت خراسان قد استقامت وأعطى ملوكها الطاعة ، وأسلم حتّى ملك التبّت (من الصين) وقدم على المأمون بصنم له من ذهب على سرير من ذهب مرصّع بالجوهر ، فأرسله المأمون إلى الكعبة يعرّف الناس هداية الله لملك التبّت ، ولم تبقَ ناحية من نواحي خراسان يُخاف خلافها. وعند خروجه من مرو استخلف على خراسان رجاء بن أبي الضحاك قرابة الفضل بن سهل ، فلمّا فصل المأمون من خراسان قلَّت مداراة رجاء بن أبي الضحاك وضعف في تدبيره وحزمه في الأُمور ، فخاف المأمون اضطراب خراسان فعزله ، وولّى غسّان بن عبّاد ، فأحسن السيرة واستمال ملوك النواحي.

وكان المأمون كلما مرّ ببلد أقام فيه حتّى يصلح حاله وينظر في مصالح أهله (١).

وكان بمحضر الرضا عليه‌السلام يؤمّل أن يدخل بغداد ويقول : ندخل بغداد ونفعل كذا وكذا إن شاء الله! فقال له الرضا عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين : أنت تدخل بغداد! وسمعه كاتبه أبو الحسن محمّد بن أبي عبّاد الذي ضمّه إليه الفضل بن سهل ليكتب له ، قال : فلمّا خلوت به قلت له : إني سمعت منك شيئاً غمَّني ، وذكرت له ذلك فقال : يا أبا حسن ـ وكذا كان يكنّيني بطرح الألف واللام ـ وما أنا وبغداد؟! لا أرى بغداد ولا تراني (٢)!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥ ، الباب ٤٩ ، الحديث ١ عن كتاب الأوراق للصولي.

١٦٢

هل سمّ المأمون الرضا؟ ولماذا؟ :

أسند الصدوق عن أحمد بن علي الأنصاري قال : سألت أبا الصلت الهروي : كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا عليه‌السلام مع إكرامه ومحبته له وما جعل له من ولاية عهده بعده؟!

فقال : إنّ المأمون إنّما كان يكرمه ويحبّه لمعرفته بفضله ، وإنّما جعل له ولاية عهده بعده ليرى الناس أنّه راغب في الدنيا فيسقط محله في نفوسهم! فلمّا لم يظهر منه في ذلك للناس إلّاما ازداد به فضلاً عندهم ومحلاً في نفوسهم ؛ جلب عليه المتكلمين من البلدان طمعاً في أن يقطعه واحد منهم ، فيسقط محله عند العلماء ويشتهر نقصه عند العامة ، فكان لا يكلمه خصم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة والملحدين والدهرية ، ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين إلّاقطعه وألزمه الحجة. فكان الناس يقولون : إنّه والله أولى من المأمون بالخلافة! وكان أصحاب الأخبار (العيون والجواسيس) يرفعون ذلك إلى المأمون فيغتاظ من ذلك ويشتدّ حسده له.

وكان الرضا عليه‌السلام لا يحابي المأمون في حق ، بل يجيبه بما يكره في أكثر أحواله ، فيغيظه ذلك ويحقده عليه ، ولا يظهره له.

فلمّا أعيته الحيلة في أمره اغتاله فقتله بالسم (١).

ومن مصاديق عدم محاباته للمأمون في الحقوق بل جوابه له بما يكرهه في أكثر أحواله :

ما أسنده الصدوق عن ابن سنان قال : كان المأمون (بعد قتل الفضل أيضاً) يقعد للناس يومي الاثنين والخميس ويُجلس الرضا عليه‌السلام على يمينه. وكنت عنده

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٩ ، الحديث ٣.

١٦٣

فرُفع إليه أن «صوفيّا» قد سرق! فأمر باحضاره ، فاحضر فإذا هو رجل متقشّف بين عينيه آثار السجود!

فلمّا رآه المأمون قال : سوأة لهذه الآثار الجميلة ولهذا الفعل القبيح! ثمّ خاطبه فقال له : اتُنسب إلى السرقة مع ما أرى من ظاهرك وجميل آثارك!

فقال الرجل : إنّما فعلت ذلك اضطراراً حين مُنعت حقي من الفيء والخمس! فإنّ الله قسّم الخمس ستة أقسام قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ (١)) وكذلك قسّم الفيء على ستة أقسام قال : (مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَايَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ (٢)) وأنا من حملة القرآن ومسكين لا أرجع إلى شيء وابن سبيل منقطع بي وأنت منعتني حقي!

فقال له المأمون : أمن أجل أساطيرك هذه اعطّل حداً من حدود الله وحكماً من أحكامه في السارق؟!

فقال له الصوفي : ابدأ بنفسك فطهّرها ثمّ طهّر غيرك ، وأقم حدّ الله عليها ثمّ على غيرك!

فغضب المأمون غضباً شديداً وقال له : والله لأَقطعنّك! فقال : أتقطعني وأنت عبدي!

قال المأمون : ويلك ومن أين صرتُ لك عبداً!

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) الحشر : ٧.

١٦٤

قال : لأنّ امك اشتُريت من مال المسلمين! فأنت عبد لمن في المشرق والمغرب حتّى يُعتقوك وأنا لم أُعتقك ، ثمّ بلعت الخمس فلا أعطيت «آل الرسول» حقاً ولا أعطيتني ونظرائي حقنا! واخرى أنّ الخبيث لا يطهِّر خبيثاً مثله إنّما يطهِّره طاهر ، ومن في جنبه حدّ لا يقيم الحدود على غيره حتّى يبدأ بنفسه! أما سمعت الله تعالى يقول : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١)).

فالتفت المأمون إلى الرضا عليه‌السلام وقال : ما يقول؟ قال : إنّه يقول : سُرق فسَرق! فقال : فما ترى في أمره؟ قال : إنّ الله قال لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ (٢)) وهي الحجة التي لم يبلغهما الجاهل ، فيعلمها على جهله كما يعلمها العالم بعلمه! والدنيا والآخرة قائمتان بالحجة ، وقد احتجّ الرجل.

فعند ذلك أمر المأمون بإطلاق الصوفي! (ولكنّه) احتجب عن الناس! وكان قد قتل الفضل بن سهل وجماعة معه ، وبدأ اليوم يشتغل في قتل الرضا عليه‌السلام حتّى قتله بالسم (٣).

مقتل الرضا عليه‌السلام بعنب المأمون :

لا نعثر على خبر بتاريخ خروج المأمون من مرو ، حتّى نعثر على خبر قتله وزيره الفضل في الخامس من شعبان عام (٢٠٢ ه‍) في سَرخس ، وهو الواسط بين مرو ونيشابور ، وبعد سرخس إلى مرو نمرّ بطوس ومن قراها سناباد وفيها قصر

__________________

(١) البقرة : ٤٤.

(٢) الأنعام : ١٤٩.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، الباب ٥٩ ، الحديث ١.

١٦٥

القائد العباسي حُميد بن قحطبة الطائي ، وفيه قبة قبر الرشيد ، ويظهر من الخبر التالي قتل المأمون الرضا عليه‌السلام هنا لدفنه بجوار أبيه الرشيد ، في آخر صفر عام (٢٠٣ ه‍) أي بعد سبعة أشهر من قتله وزيره الفضل ، ذلك أنّه كما مرّ خبره : كان كلّما مرّ ببلد أقام فيه حتّى يصلح حاله وينظر في مصالح أهله (١) وهنا بسناباد قبل أن يصل إلى نيشابور التي بلغه عن المحدّثين بها احتفاؤهم بالرضا عليه‌السلام! وخبر المقتل كما يلي :

أسند الصدوق عن أبي الصلت الهروي قال : بينا أنا واقف بين يدي أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، إذ قال لي : يا أبا الصلت ، ادخل هذه القبة التي فيها قبر هارون و... (وهي في قصر ابن قحطبة بسناباد ، فهم قد وصلوا إليها من سَرخس).

ثمّ قال عليه‌السلام : يا أبا الصلت ، غداً أدخل على هذا «الفاجر» فإن أنا خرجت وأنا مكشوف الرأس (غير واضع ردائي على رأسي) فكلّمني اكلّمك ، وإن أنا خرجت وأنا مغطّى الرأس (بردائي) فلا تكلّمني!

فلمّا أصبحنا دخل علينا غلام المأمون (ياسر الخادم؟) فقال له : أجب أمير المؤمنين! وكان قد لبس ثيابه وجلس في محرابه ينتظره ، فلبس رداءه ونعله وقام يمشي وأنا أتبعه حتّى دخل على المأمون.

وكان المأمون بين يديه أطباق فواكه ومنها طبق عليه عنب ومنه عنقود بيده ، قد أكل بعضه وبقي بعضه ، فلمّا أبصر بالرضا وثب إليه فعانقه وقبّل ما بين عينيه ، وأجلسه معه ، ثمّ ناوله العنقود وقال له : يابن رسول الله ، ما رأيت عنباً أحسن من هذا! كل منه. فقال له الرضا : تعفيني منه. فقال : لابدّ من ذلك!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٢ ، وفي : ٤٥٣ : دخل بغداد في ربيع الأول سنة (٢٠٤ ه‍) أي بعد أكثر من سنة!

١٦٦

وما يمنعك منه؟! لعلّك تتّهمنا بشيء! فتناول المأمون العنقود فأكل منه! ثمّ ناوله الرضا عليه‌السلام فأكل منه ثلاث حبّات ، ثمّ رمى به (من يده إلى الطبق) وقام! فقال المأمون : إلى أين؟! فقال : إلى حيث وجّهتني! ثمّ غطّى رأسه (بردائه) فلم اكلّمه حتّى دخل الدار وآوى إلى فراشه فنام عليه وأمر أن يغلّق الباب فغُلّق.

قال أبو الصلت : وأنا مكثت في صحن الدار واقفاً مهموماً محزوناً ، فبينا أنا كذلك إذ دخل عليّ شاب حسن الوجه قطط الشعر أشبه الناس بالرضا عليه‌السلام! فبادرت إليه وقلت له : من أين دخلت والباب مغلق؟!

فقال : الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق!

فقلت له : ومن أنت؟ فقال لي : يا أبا الصلت ؛ أنا حجة الله عليك ، أنا محمّد بن علي! ثمّ مضى نحو أبيه وأمرني أن أدخل معه فدخل ودخلت خلفه ، فلمّا نظر إليه الرضا عليه‌السلام وثب إليه فعانقه وضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه ، ثمّ انهدّ الرضا إلى فراشه وسحب ابنه إليه فأكب محمّد على أبيه يقبّله ويسارّه بما لم أفهمه .. ثمّ مضى الرضا عليه‌السلام.

فقال لي أبو جعفر عليه‌السلام : يا أبا الصلت ، قُم وايتني بالماء والمغتسل من الخزانة .. فدخلت الخزانة فإذا فيها مغتسل وماء ، فأخرجته إليه وشمّرت ثيابي لأُغسّله ، فقال لي : يا أبا الصلت تنحّ فإنّ لي من يعينني غيرك! فغسّله. ثمّ قال لي : ادخل الخزانة فأخرج إليّ السفط الذي فيه حنوطه وكفنه. فدخلت فإذا أنا بسفط لم أره من قبل هذا ، فحملته إليه فحنّطه ثمّ كفّنه ، ثمّ صلّى عليه ، ثمّ قال لي : قُم فإنّ في الخزانة تابوتاً فأتني بالتابوت! قال : فدخلت الخزانة فوجدت تابوتاً لم أره قبل هذا فأتيته به ، فأخذ الرضا فوضعه في التابوت .. ثمّ انشق السقف وعلا التابوت فخرج من شق السقف ومضى! فقلت له : يابن رسول الله ، الساعة يجيئنا

١٦٧

المأمون ويطالبنا بالرضا عليه‌السلام فما نصنع؟! فقال لي : اسكت يا أبا الصلت فإنه سيُعاد .. وما أتم الحديث حتّى انشق السقف ونزل التابوت! فقام عليه‌السلام واستخرج الرضا من التابوت ووضعه على فراشه ، كأنّه لم يغسّل ولم يكفّن! ثمّ قال لي : يا أبا الصلت قُم فافتح الباب للمأمون. فقُمت إلى الباب وفتحته فإذا بالباب الغلمان والمأمون قد شق جيبه ولطم رأسه باكياً حزيناً منادياً : يا سيداه! فُجعت بك يا سيدي! ثمّ دخل فجلس عند رأسه وأمر بتجهيزه وحَفْر قبر له في قبلة (قبر أبيه الرشيد).

فقلت له : إنّه أمرني أن يُحفر له سبع مراقي وأن أشق له ضريحه (شقاً لا لحداً) فقال لهم : انتهوا إلى ما يأمر به أبو الصلت .. ثمّ دفن الرضا عليه‌السلام (١).

وأعقب الصدوق هذا الخبر عن أبي الصلت الهروي بخبر آخر أسنده عن الصولي عن هرثمة بن أعين ، هكذا بلا أي مميّز له عن مسمّاه من قوّاد الرشيد والذي قتله المأمون قبل هذا ، وهذا أيضاً يبدأ خبره بأنه كان من رجال المأمون قائماً بين يديه حتّى مضى من الليل أربع ساعات! إلّاأنّه يقول : إنّ الرضا عليه‌السلام أحضره نصف الليل وأخبره عن سمّ المأمون إيّاه غداً ، وأوصاه بوصايا في تجهيزه وقبره ودفنه ، ثمّ يخبر الرجل عن سمّ المأمون للرضا عليه‌السلام بالعنب والرمان ثمّ يقول :

لما رجع سيدي الرضا عليه‌السلام إلى داره رأيت الأطباء والمترفقين حضروا ، فقلت : ما هذا؟ فقيل : علّة عرضت لأبي الحسن الرضا ، ثمّ يقول : فلمّا كان الثلث الثاني من الليل علا الصياح وسمعت الصيحة من الدار! فأسرعت فيمن أسرع فإذا نحن بالمأمون مكشوف الرأس محلول الأزرار يبكي وينتحب (٢).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٤٢ ـ ٢٤٤ ، الباب ٦٣ ، الحديث ١.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٤٥ ـ ٢٤٨ ، الباب ٦٤ الحديث ١ عن كتاب محمّد بن يحيى الصولي : الأوراق في الوزراء والكتّاب.

١٦٨

وتباكت عيون المأمون :

جاء في خبر هرثمة بن أعيَن (؟!) قال : ثمّ أصبحنا ، فجلس المأمون للتعزية ، ثمّ قام فمشى إلى الموضع الذي فيه سيدنا الرضا عليه‌السلام فقال : أصلحوا لنا موضعاً للغسل وأنا أُريد غسله! ثمّ قال : لست أعرض لذلك .. ثمّ ضُرب فسطاط على جنازة الرضا عليه‌السلام ثمّ ارتفع الفسطاط فإذا بسيدنا الرضا عليه‌السلام مدرج في أكفانه ، فوضعته على نعشه ثمّ حملناه ، فصلّى عليه المأمون ومن حضر ، ثمّ جئنا به إلى موضع القبر .. وأخذت المعول بيدي فضربت به قبلة قبر هارون الرشيد ، فنفذ إلى قبر محفور وفي وسطه ضريح .. فجعلت نعشه إلى جانب قبره فغطي عنا بثوب أبيض وأُنزل إلى قبره بدون أيدينا .. ثمّ امتلأ القبر وانطبق وتربّع على وجه الأرض! فانصرف المأمون وانصرفنا.

قال : ثمّ دعاني المأمون واختلا بي وسألني يا هرثمة! أسألك بالله لما صدقتني عن أبي الحسن «قدّس الله روحه»! بما سمعته منه ، فهل أسرّ إليك شيئاً؟ قلت له : نعم ، خبر العنب والرمان! فتلوّن صفرة وحمرة وسواداً وتمدّد كأنه غشي عليه وسمعته يجهر في غشيته يقول : ويل للمأمون من الله ورسوله وفاطمة وعلي بن أبي طالب والحسن والحسين ثمّ عدّ أبناء الحسين الأئمة إلى الرضا عليه‌السلام! ثمّ جلس ودعاني وهو كالسكران فهدّدني بالقتل إن أظهرت ذلك لأحد (١).

وقال اليعقوبي العباسي (مولاهم) : قيل : إنّ علي بن هشام (قائد حرس المأمون) أطعمه رماناً مسموماً ، و «أظهر» المأمون عليه جزعاً شديداً ؛ وحضر جنازته في مبطّنة بيضاء! وحمل نعشه وهو يقول : إلى مَن أروح

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٤٨ ـ ٢٥٠ وعلّق عليه في قاموس الرجال قال : هي رواية على خلاف الدراية ١٠ : ٥٠٤ برقم ٨١٩٠.

١٦٩

بعدك يا أبا الحسن! ثمّ أقام عند قبره ثلاثة أيام! لا يأكل إلّاالخبز والملح! ثمّ انصرف (١).

والمسعودي في «مروج الذهب» قال : قيل : كان العنب مسموماً (٢) فقبض الرضا مسموماً بطوس ودفن هناك (٣) وجزم في «التنبيه والإشراف» فقال : فقُتل الرضا في طوس في أول صفر : (٢٠٣ ه‍) (٤). وقال العصفري البصري : بل في آخر صفر (٥) واكتفى الكليني بشهر صفر في سناباد من قرى طوس على دعوة من نوقان (٦) تاركاً تفصيل الأخبار في كيفية سمّه وتجهيزه ودفنه مما ذكره الصدوق. وتبع المفيد الكليني في تاريخ الوفاة (٧) وفي التفاصيل تاركاً الصدوق إلى ما في «مقاتل الطالبيين» بلا إسناد.

وفيه أجمل القول أولاً قال : وبعد ذلك ذكر أنّه دسّ إليه سمّاً فمات منه (٨) ثمّ قال : واختلف كيف كان سبب السمّ الذي سُقيه؟ فذكر خبرين :

فروى عن محمّد بن الجهم قال : اخذ له عنب وجعل في موضع أقمعه الابر (المسمومة) وذكر أنّ ذلك كان من لطيف السموم ، فتركت أياماً ، ثمّ قدّم إليه في علته ، فقتله!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٣.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٤١.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٤١٧.

(٤) التنبيه والإشراف : ٣٠٣.

(٥) تاريخ خليفة ابن الخياط : ٣١٢ وهو متوفى في (٢٤٠ ه‍).

(٦) أُصول الكافي ١ : ٤٨٦ ، باب مولده.

(٧) الإرشاد ٢ : ٢٤٦.

(٨) مقاتل الطالبيين : ٣٧٥.

١٧٠

وآخر عن عبد الله بن بشير (من غلمان المأمون) : أنّ المأمون أمره أن يطوّل أظفاره ، ثمّ أخرج إليه شيئاً يُشبه التمر الهندي وقال له : اعجنه بيديك! ففعل (ثم من دون أن يغسل يده منه) استتبعه معه لعيادة الرضا عليه‌السلام وسأله عن حاله فقال : أرجو أن أكون صالحاً! فقال المأمون : فخذ اليوم ماء رمان فإنه لا يستغنى عنه! ثمّ دعا برمان فناوله لعبد الله بن بشير وقال له : اعصر ماءه بيدك! ففعل ، وسقاه المأمون الرضا بيده فلم يلبث بعد ذلك إلّايومين.

وبعد أن خرج المأمون دخل عليه أبو الصلت الهروي فقال له الرضا عليه‌السلام : يا أبا الصلت ، قد فعلوها! (أي قد سقوني السم) (١) وانتشر هذا في الناس وبلغ خبره المأمون بعد يومين وقُبيل وفاته.

فدخل المأمون إلى الرضا يعوده فوجده يجود بنفسه! فبكى! وقال : يا أخي! عزيز عليَّ أن أعيش (بعد) يومك؟ وقد كان في بقائك أمل! وأشدّ عليَّ وأغلظ أن الناس يقولون : إني سقيتك سمّاً! وأنا بريء من ذلك!

ثمّ خرج المأمون من عنده ومات الرضا عليه‌السلام (٢).

وتركه المأمون ذلك اليوم ومساءه ، وفي غده أرسل إلى من معه من آل أبي طالب وفيهم عمّ الرضا محمّد بن جعفر بن محمّد العلوي فأحضرهم على جسد الرضا وأراهم إيّاه صحيح الجسد لا أثر به! وبكى وقال : يا أخي عزّ عليَّ أن أراك في هذه الحالة! وقد كنت أُؤمّل أن أُقدّم قبلك فأبى الله (!) إلّاما أراد! وأظهر عليه جزعاً شديداً وحزناً كثيراً (٣).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٧٧ و ٣٧٨.

(٢) المصدر السابق : ٣٨٠ عن أبي الصلت الهروي.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٣٧٨.

١٧١

ونقله المفيد وزاد : ثمّ أمر بغسله وتحنيطه وتكفينه ودفنه في قبلة قبر أبيه الرشيد (١).

ونقله الطبرسي وزاد ما عن الصدوق خبر أبي الصلت الهروي ومختصر خبر هرثمة بن أعين المزعوم (٢) ، وفي يوم الوفاة قال : آخر صفر (٣).

استبعاد الاستشهاد! :

نقل الأُموي الزيدي : أنّ الرضا عليه‌السلام رأى يوماً المأمون في حال الوضوء وغلامه يصب الماء على يده فقال له : يا أمير المؤمنين! لا تشرك بعبادة ربك أحداً!

قال : وكان يذكر ابنَي سهل عند المأمون فيُزرى عليهما وينهى المأمون عنهما ويذكر له مساوئهما (٤) ونقله المفيد بلا إسناد وزاد فيه قال : وينهاه عن الإصغاء إلى قولهما ، وعرفا ذلك منه ، فجعلا يحطبان عليه (يسعيان عليه) عند المأمون ويذكران له عنه ما يبعده منه ، ويخوفانه من حمل الناس عليه ، فلم يزالا كذلك حتّى قلبا رأيه فيه فعمل على قتله (٥).

ولم يعلم الاربلي بأصل النقل عن الأموي الزيدي وإنّما نقل عن المفيد ثمّ علّق عليه قال : ذكر المفيد شيئاً ما يقبله نقدي ، ولعلّي واهم! وهو : أنّ الإمام

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢٦٩ ـ ٢٧١.

(٢) إعلام الورى ٢ : ٨٠ ـ ٨٦.

(٣) المصدر السابق ٢ : ٤١ وهو أول مصدر للشيعة بعد تاريخ خليفة ذكر آخر صفر ، وكذا فعل الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٠٢ ـ ٤٠٥ ولم يؤرّخ لمولده عليه‌السلام!

(٤) مقاتل الطالبيين : ٣٧٧.

(٥) الارشاد ٢ : ٢٦٩.

١٧٢

عليه‌السلام كان يعيب ابني سهل عند المأمون ويقبّح ذكرهما ، إلى غير ذلك. ثمّ قال : وعلى رأي المفيد : إنّ الدولة المذكورة فاسدة من أصلها وهي على قاعدة غير مرضيّة ، فاهتمامه بالوقيعة فيهما حتّى أغراهما بتغيير رأي الخليفة عليه ، فيه ما فيه. وما كان أشغله بأُمور دينه وآخرته واشتغاله بالله عن مثل ذلك! ثمّ إنّ نصيحته للمأمون وإشارته عليه بما ينفعه في دينه لا يوجب أن يكون سبباً لقتله بل يكفي أن يكفّه عن وعظه أو أن يمنعه عن الدخول عليه (١).

والمجلسي ذكر كلام الاربلي ثمّ قال : لا يخفى وهنه ، إذ الوقيعة في ابن سهل لم يكن للدنيا حتّى يمنعه عنه الاشتغال بعبادة الله تعالى! بل كان ذلك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورفع الظلم عن المسلمين ما أمكن. وفساد خلافة المأمون أيضاً لا يمنع منه (٢).

وفاتهم جميعاً : أنّ المأمون كان قد أوكل أمر العراق إلى الحسن بن سهل قبل إحضار الرضا عليه‌السلام فكان في بغداد وضواحيها ، فلم يكن حاضراً معاصراً مع الرضا عليه‌السلام ، وكذلك أخوه الفضل كان قد قُتل قبل الرضا عليه‌السلام بسبعة شهور! فالوجه غير وجيه من أوّله.

ولكن هذا لا يستتبع استبعاد استشهاد أبي الجواد عليه‌السلام بيد المأمون غير المأمون! وسيأتي في مراثي الرضا عليه‌السلام يومئذ ما يؤيده.

والاربلي الكردي البغدادي الواسطي السني المتحول إلى التشيّع الإمامي ، يجمع في كتابه النقل عن كتب الخاصة وأهل السنة كابن طلحة والجنابذي وابن الجوزي وأبي نُعيم الإصفهاني ، فهنا قال : أما كمال الدين ابن طلحة فإنه

__________________

(١) كشف الغمة ٣ : ٣٧٤.

(٢) بحار الأنوار ٤٩ : ٣١١.

١٧٣

ذكر السلف والخلف وأقرّ واعترف وجرى وما وقف. وأما الجنابذي فإنه وصل إلى الحسن العسكري ، وحين وصل إلى ذكر الخلف الصالح وقف! وأما ابن الجوزي فإنه ذكر العبد الصالح موسى بن جعفر وما تعداه! والحافظ أبو نعيم وصل معنا إلى أخبار الصادق عليه‌السلام وأضرب صفحاً عن مَن سواه! وهما في كتابيهما يذكران من مجهولي العباد ومن شذّاذ العبّاد من لا يعرف اسمه ولا نسبه! ولا يتحقق طريقه ولا مذهبه! فيقولان مثلاً : عابد كان باليمن! وعبّادة حبشية! إلى أمثال هذا ، ولا يذكران مثل موسى الكاظم وعلي الرضا ومحمّد الجواد وأبناءهم (١)!

وقال ابن الوردي : في سنة (٢٠٣) مات علي الرضا بطوس فجأة! وهو ثامن الأئمة الاثني عشر على رأي الامامية ، وصلّى عليه المأمون ودفنه عند الرشيد (٢).

وقال السيوطي : وسار المأمون نحو العراق ، فلم ينشب أن مات الرضا (٣) ، فكتب المأمون إلى أهل بغداد يعلمهم : أنهم ما نقموا عليه إلّابيعته لعلي الرضا ، وقد مات (٤) مما يدل على تخلّصه منه لهم.

ومن المراثي للرضا عليه‌السلام يومئذ ما يؤيد قتله بالسمّ فيما يلي :

__________________

(١) كشف الغمة ٣ : ٤١٥ والغريب أنّه نقل عن ابن طلحة خبر هرثمة ولكنّه قال عن الرضا : إنني بعد أيام آكل عنباً ورماناً مفتوتاً فأموت! فحرّفه عن سمّ المأمون فيهما إياه.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٤.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ وللمزيد تذكرة الخواص ٢ : ٤٨١ ، الحديث ٤ ، وهامش تفسير القمي ١ : ١٨٥.

(٤) تاريخ الطبري ٨ : ٥٦٨ : في شهر ربيع الأول ، مما يؤيد تاريخ القتل في شهر صفر.

١٧٤

مراثي الرضا عليه‌السلام :

نقل الصدوق عن كتاب «الأوراق» في الوزراء والكتّاب لمحمد بن يحيى الصولي أنّه أسند عن دعبل الخزاعي قال : كنت مقيماً بقم إذ جاءني خبر موت علي الرضا عليه‌السلام فقلت قصيدتي الرائية هذه :

أرى أُمية معذورين إن «قتلوا»

ولا أرى لبني العباس من عذر!

إربع بطوس على قبر الزكيّ به

إن كنت تربع من دين على وطر!

قبران في طوس خير الناس كلهمُ

وقبر شرّهم هذا من العِبر

ما ينفع الرجس من قرب الزكيّ ولا

على الزكيّ بقرب الرجس من ضرر

هيهات كل امرئ رهن بما كسبت

له يداه فخذ ما شئت أو فذر (١)

ومات ابن له يدعى أحمد فرثاه والرضا عليه‌السلام قال :

على الكره ما فارقت «أحمد» وانطوى

عليه بناء جندل ورزين

إلى أن قال :

ألا أيها القبر الغريب محله

بطوس عليك الساربات هتون

شككت فما أدري أمسقيّ شربة

فأبكيك؟ أم ريب الردى فيهون؟

وأيهما ما قلت ، إن قلت شربة

وإن قلت موت ، إنّه لقمين!

فيا عجباً منهم يسمّونك «الرضا»

ويلقاك منهم كلحة وغضون (٢)

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٥١ ، الباب ٦٥ ، الحديث ٢ ، والأمالي : ٧٥٨ ، م ٩٤ ، الحديث ١٦.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٨٠.

١٧٥

فطلبه المأمون فهجاه مفتخراً بقومه خزاعة وأثرهم في نصرة العباسيين قال :

أيسومني المأمون خطّة عاجز؟!

أو ما رأى بالأمس رأس محمّد؟!

إني من القوم الذين هُم هُم

قتلوا أخاك وشرَّفوك بمقعد!

ولكنّه هجا عمّه إبراهيم بن المهدي العباسي ابن شكلة المغنّي! قال :

إن كان إبراهيم مضطلعاً بها

فلتصلحن من بعده لمخارقِ!

وهو من المغنّين المعروفين ببغداد ، وبلغ ذلك المأمون فضحك وقال : وهبته ذنبه فليظهر. فصار إليه واستأمنه فآمنه ، وكانت قصيدته الرائية للرضا عليه‌السلام قد بلغت المأمون فاستنشده إياها فأنكرها! فأعاد عليه الأمان لها أيضاً فأنشدها له قال :

تأسّفت جارتي لما رأت زوَري

وعدّت الشيب ذنباً غير مغتفر!

ترجو الصبا بعد ما شابت ذوائبها

وقد جرت طلقاً في حلبة الكِبر

أجارتي إن شيب الرأس أذهلني

ذكر الغواني ، وأرضاني من القدر

لو كنت أركن للدنيا وزينتها

إذن بكيت على الماضين من نفري

أخنى الزمان على أهلي فصدّعهم

تصدّع الشعب ، لا في صدمة الحجر

بعض أقام وبعض قد أهاب به

داعي المنية ، والباقي على الأثر

أما المقيم فأخشى أن يفارقني

ولست أوبة من ولّى بمنتظر

أصبحت أُخبر عن أهلي وعن ولدي

كحالمٍ قصّ رؤيا بعد مدّكر

***

لولا تشاغل دمعي بالأُلى سلفوا

من آل بيت رسول الله لم أقر

كم من ذراع لهم بالطفّ بائنة

وعارض من صعيد الترب منعفر

أنسى الحسين ومسراهم لمقتله

وهم يقولون : هذا سيد البشر

١٧٦

يا امة السوء ما جازيتِ أحمد عن

حسن البلاء على التنزيل والسور

خلّفتموه على الأبناء حين مضى

خلافة الذئب في إبقار ذي بقر

وليس حيٌّ من الأحياء نعلمه

من ذي يمان ومن بكر ومن مضر

إلّا وهم شركاء في دمائهم

كما تشارك أيسار على جُزر

قتل وأسر وتحريق ومنهبة

فعل الغزاة بأرض الروم والخزر

أرى أُمية معذورين إن قتلوا

ولا أرى لبني العباس من عذر

***

إلى آخر الأبيات السالفات في رثاء الرضا عليه‌السلام وشتم الرشيد! فلمّا أتمّها مدّ المأمون يده إلى عمامته ورفعها وضربها إلى الأرض وقال لدعبل : صدقت والله يا دعبل (١)!

وجرى قتل الرضا عليه‌السلام في الشعر العربي من يومئذ ، حتّى نظمه الأمير أديب آل حمدان أبو فراس الحارث بن سعيد (المقتول ٣٥٧ ه‍) في قصيدته الميمية في مظلومية أهل البيت الأطهار وظلم بني العباس لهم ، المعروفة بالشافية. يُحكى أنّه كان أميراً على خمسمئة فارس سيّاف ، فساقهم معه إلى بغداد (٣٥٠ ه‍) فدخلوها شاهرين سيوفهم حتّى دخلوا معسكر الرشيد وأنشد قصيدته :

الحق مهتضم والدين مخترم

وفيء آل رسول الله مقتسم

يا للرجال أما لله منتصر

من الطغاة؟ وما للدين منتقم؟!

بنو علي رعايا في ديارهم

والأمر يملكه النسوان والخدم

محلؤون فأصفى شربهم وشل

عند الورود ، وأوفى وردهم لمَم

فالأرض ـ إلّاعلى مُلّاكها ـ سعة

والمال ـ إلّاعلى أربابه ـ ديم

__________________

(١) أخبار شعراء الشيعة للمرزباني : ٩٣ ـ ٩٥.

١٧٧

تُزجى التلاوة في أبياتهم سحراً

وفي بيوتكم الأوتار والنغم!

عصابة شقيت من بعد ما سعدت

ومعشر هلكوا من بعد ما سلموا

باءوا بقتل الرضا من بعد بيعته

وأبصروا بعض يوم رشدهم فعموا (١)!

قال ابن الوردي : وحدثت زلازل بخراسان وماوراء النهر دامت سبعين يوماً! فخربت البلاد وهلك العباد (٢) ألم يكن غضباً لقتل الإمام عليه‌السلام؟!

__________________

(١) هدية الأحباب مختصر الكنى والألقاب للمحدث القمي : ٤٠ ـ ٤١ ، أتذكّر أني في أول حَجة لي بعد انتصار الثورة الإسلامية وبعد بدء الحرب العراقية الإيرانية ، وفي ليلة جمعة حضرت مجلس قراءة دعاء الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام الذي علّمه لصاحبه كميل بن زياد النخعي الهمداني لليالي الجُمع ، وإذا بأصوات الأنغام العالية من جهاز الراديو لمصريّ بوّاب لبعض الفنادق المجاورة لما بين البقيع الشريف وبين المسجد النبوي الأشرف ، فقمت وذهبت إليه وقرأت عليه هذا البيت المناسب لأبي فراس الحمداني :

تُزجى التلاوة من أبياتهم سحراً

وفي بيوتكم الأوتار والنغم

فتأثر الرجل به تأثراً بالغاً وقال بلهجته المصرية : الله الله يا سلام! وأعرض عن الدّعارة إلى الدعاء!

فحسبكم هذا التفاوت بيننا

وكل إناء بالذي فيه ينضح!

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٤.

١٧٨

عهد

الإمام الجواد عليه‌السلام

١٧٩
١٨٠