موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

التركي فحبسهم وعذّبهم بأنواع العذاب لأخذ أموالهم وضياعهم ، وهكذا تغلّب على الأمر (١) وبدأ المعتزّ يدبّر عليه وبلغ ذلك إلى صالح بن وصيف (٢).

فدبّر صالح بن وصيف مع قوّاد الأتراك على المعتزّ ، ولمّا رأى الأتراك إقدام المعتزّ على قتل رؤسائهم وإعمال الحيلة في إفنائهم ، وأنّه قد اصطنع الفراغنة والمغاربة لذلك دونهم ، اتفقوا فيما بينهم وعلى المصير إليه بأجمعهم في (٢٦) رجب سنة (٢٥٤ ه‍) فصاروا إليه بأجمعهم وطالبوه بأرزاقهم المعوّقة فأنكر أن يكون قِبله شيء من المال ، وجعلوا يقرعونه بذنوبه إليهم ويوبّخونه على أفعاله بهم (٣) وأخذ يماطلهم في أرزاقهم وحقوقهم (٤) ونزلوا معه إلى (خمسين ألف دينار) فلم يكن عنده (٥).

وشط السيوطي بعيداً فقال : اتّفق جماعة من كبار الأتراك وأتوه وقالوا له : يا أمير المؤمنين! أعطنا أرزاقنا لنقتل صالح بن وصيف (كذا)! ولم يكن بقي شيء في بيوت الأموال. وكانت في حوزة أُمه أموال ثِقال فطلب منها مالاً لينفقه فيهم ، فشحّت وأبت!

فاجتمع الأتراك إلى صالح بن وصيف ومحمد بن بُغا فتوافقوا على خلع المعتزّ ، فلبسوا السلاح وجاءوا إلى دار الخلافة فلم يخرج إليهم (٦).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٤.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣١٦.

(٣) مروج الذهب ٤ : ٩٢.

(٤) مختصر تاريخ الدول : ١٤٧.

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٤.

(٦) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢١.

٤٤١

فلمّا حُصر المعتزّ في أيديهم ، بعثوا إلى بغداد من يأتيهم بمحمد بن هارون الواثق الملقّب بالمهتدي من حبسه ، فأتوا به في يوم وليلة إلى سامرّاء! وتلقّوه قبلها. وأبى محمد بن الواثق أن يقبل البيعة له حتى يرى المعتزّ ويسمع كلامه! فأُتي إليه بالمعتزّ وعليه قميص مدنّس! وعلى رأسه منديل! فلمّا رآه محمد الواثق وثب إليه فعانقه وأجلسه معه على السرير وقال له : يا أخي ما هذا الأمر؟ فقال المعتزّ : هو أمر لا اطيقه ولا أقوم به ولا أصلح له ، فحاول المهتدي أن يتوسط ويصلح الحال بينه وبين الأتراك فقال له المعتزّ : لا حاجة لي فيها ولا يرضونني لها! فقال له المهتدي : إذاً فأنا في حلٍّ من بيعتك؟! قال له : أنت في حلّ وسعة! فصرف المهتدي وجهه عنه ، فأقاموه وردّوه إلى محبسه (١).

قال اليعقوبي : واجتمع القوّاد على أنّه ليس في أولاد الخلفاء أعقل ولا أفضل من محمد بن الواثق ، فشخص إليهم من بغداد فلمّا قدم اجتمعت كلمتهم عليه وبايعوه في يوم (٢٧ رجب) سنة (٢٥٥ ه‍) ، وبعد يومين جلس للناس ، وقرأ عليهم كتاباً ذكر فيه خلع المعتزّ نفسه وسمّاه خالع نفسه (٢) والغالب على الأمر والقائم بالتدبير صالح بن وصيف في غياب موسى بن بُغا الكبير إذ كان بالريّ (٣) والمهتدي دون الأربعين (٤).

وقال ابن العبري : دخل جماعة من الأتراك على المعتزّ فجرّوه برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وأقاموه في الشمس يرفع رجلاً ويضع رجلاً

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٩٢.

(٢) اليعقوبي ٢ : ٥٠٥.

(٣) التنبيه والإشراف : ٣١٧.

(٤) مروج الذهب ٤ : ٩٧.

٤٤٢

لشدة الحر (١) وقال السيوطي : أقاموه في الشمس في يوم صائف يلطمون وجهه ويقولون له : اخلع نفسك. وكان قاضيه ابن أبي الشوارب الأُموي فأحضروه وشهوداً آخرين فخلع نفسه. واحضروا محمد بن الواثق من بغداد فما قبل البيعة حتى أتوا بالمعتز فقام له المهتدي وسلّم عليه بالخلافة وجلس بين يديه! فجيء بالشهود فشهدوا : أنّ المعتزّ عاجز عن الخلافة! فاعترف هو بذلك ومدّ يده فبايع المهتدي ، فحينئذٍ ارتفع المهتدي إلى صدر المجلس (٢).

قال المسعودي : وتنازع الناس في كيفية قتل المعتز مفصّلاً ، ورأيت أصحاب السير والتواريخ وذوي العناية بأخبار الدول قد تباينوا فيه .. والأشهر في الأخباريين ممن عُني بأخبار العباسيين : أنّه اكره على دخول الحمام وكان محمياً جداً ومُنع الخروج منه وتُرك في الحمام حتّى فاضت نفسه ، ومنهم من ذكر أنه بعد أن كاد يموت أُخرج ولكنه سُقى شربة ماء مثلّجة فنثرت كبده وأمعاءه فخمد ، وذلك ليومين خلون من شعبان سنة (٢٥٥ ه‍) (٣) وصلّى عليه المهتدي ، وله ثلاثة أبناء : محمد وعبد الله والمهتدي أيضاً وعمره (٢٢) عاماً (٤) أو (٢٤) عاماً ، وكان أبيض حسن الوجه أسود الشعر حسن العينين لم يُر في الخلفاء أجمل منه ، ولكنه لا رأي له فتُدبّره أُمه قبيحة الرومية ، وهو يؤثر اللذات (٥).

وانفرد ابن العبري في كيفية قتله بقوله : سلّموه إلى من يعذّبه فمنعه الأكل

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول : ١٤٧.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢١ و ٤٢٢.

(٣) مروج الذهب ٤ : ٩٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٤.

(٥) التنبيه والإشراف : ٣١٦.

٤٤٣

والشرب ثلاثة أيام! ثمّ أدخلوه سرداباً وجصصوا عليه فمات فيه (١) وقد مرّ عن اليعقوبي أنّ المهتدي صلّى عليه ، وأورد نحوه ابن الوردي وزاد : ودفن مع المنتصر بسامرّاء (٢).

وقبل قتل المعتزّ بشهر تقريباً في الثاني من رجب (٢٥٥ ه‍) ظهر بالكوفة علي بن زيد وعيسى بن جعفر الحسنيان فقتلا بها عبد الله بن محمد بن داود العباسي (٣) المشهور بابن اترجة أو اترنجة وبالنصب والبغض لعلي عليه‌السلام ومن ندماء المتوكل العباسي وواليه على المدينة الذي كتب إليه يسعى على علي بن محمد الهادي عليه‌السلام.

وكان بسامرّاء من أولاد إبراهيم بن موسى الكاظم عليه‌السلام : علي وكان واقفيّاً ، وإسماعيل غير واقفي ، فأسند الكليني عن محمد بن إسماعيل هذا : أنّ أبا محمد

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول : ١٤٧.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٤.

(٣) تاريخ الطبري ٩ : ٣٨٨ وعنه في الكامل في التاريخ ٧ : ٦٥ في حوادث (٢٥٥ ه‍) قبل خلع المعتزّ وقتله أو موته ، والأُموي الزيدي لم يذكر عيسى بن جعفر! وإنما ذكر علي بن زيد بن الحسين بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، فهو زيدي حسيني وليس حسنياً كما في الطبري. والأُموي الزيدي ذكر أنّ المهتدي وجّه إليه الشاه بن المكيال في عسكر ضخم فهزمه ، ثمّ التحق بصاحب الزنوج بالبصرة! مقاتل الطالبيين : ٤٣٥ فلعلّ خروجه وقتله لابن اترجة كان قبل قتل المعتز. وصُحّف في الكافي : ابن اترجة بابن بُريحة! وفي خاتمة أحداث عام (٢٥٥ ه‍) قال ابن العبري : في أواخر عام (٢٥٥ ه‍) مات الطبيب النصراني شابور بن سهل الأهوازي باني «بيمارستان / مستشفى» جندي شابور (قلعة شاپور) صاحب «كتاب القرابادين الكبير» وهو اثنان وعشرون باباً في الصيدلة ، المعوّل عليه يومئذ في البيمارستانات ودكاكين الصيدلة وقال : توفي نصرانياً. يؤكّد عليه!

٤٤٤

العسكري كان قبل قتل عبد الله بن محمد بن داود بعشرة أيام قد كتب إلى رجل يخبره بقتله (خلال عشرة أيام) قال : فلمّا كان اليوم العاشر قتل!

وقبل قتل المعتزّ بنحو عشرين يوماً (أو أكثر بقليل) كتب إلى أبي القاسم إسحاق بن جعفر الزبيري : «الزم بيتك حتى يحدث الحادث» فلمّا قتل ابن تُرنجة تصور أن الحادث هو هذا فكتب إليه : قد حدث الحادث فما تأمرني؟ فكتب إليه : «ليس هذا الحادث ، الحادث الآخر ، فكان ما كان على المعتزّ» (١).

ونقل الاربلي عن «دلائل الإمامة» للحميري عن محمد بن عمر الكاتب ، عن علي بن محمد بن زياد الصيمري ، وكان من وجوه الشيعة وثقاتهم ومقدماً في الكتابة والأدب والعلم والمعرفة وله كتاب الأوصياء وذكر الوصايا (٢) ، وكان مع ذلك صهر جعفر بن محمود الوزير ، قال : دخلت على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) أمير شرطة بغداد بعد (٢٥٣ ه‍) وإذا بين يديه رقعة أبي محمد العسكري عليه‌السلام وإذا فيه : «إنّي نازلت الله (دعوته مكرراً) في هذا الطاغي ، وهو آخذه بعد ثلاث» وكان يعني الزبير (المعتزّ بن المتوكل) فلمّا كان اليوم الثالث فعل به ما فُعل (٣).

وفي الخبر فُسّر «الطاغي» قال : يعني الزبيري؟ ثمّ نقل الاربلي الخبر عن «الخرائج والجرائح» وفيه فُسّر «الطاغي» بالمستعين (٤) ثمّ علّق عليه الاربلي قال : كأنّ هذا من غلط النُسّاخ أو الرواة ، فإنّ المستعين بويع له في (٢٤٨ ه‍)

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٠٦ ، الحديث ٢ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام.

(٢) مهج الدعوات : ٢٧٣.

(٣) كشف الغمة ٤ : ٨٤ ، ٨٥ عن دلائل الإمامة للحميري ، وبهامشه مصادره الأُخرى.

(٤) كشف الغمة ٤ : ١٠٣.

٤٤٥

وكانت مدّة ملكه دون الأربع سنين فلا يكون ملكه في أيام إمامة أبي محمد العسكري عليه‌السلام فكيف ينازل الله فيه (١)؟!

وكأنّ المعتز كان قبل قتله بقليل أمر سعيد الحاجب بحمل العسكري عليه‌السلام إلى الكوفة وقتله في طريقه! وبلغ خبره إلى أبي الهيثم فكتب إليه : بلغنا خبر بلغ منّا وأقلقنا! فكتب إليه : بعد ثلاث يأتيكم الفرج! فقُتل المعتزّ في اليوم الثالث (٢).

مصير قبيحة الرومية أُمّ المعتزّ :

أورد ابن الوردي مصيرها فقال : اختفت في قتل ابنها في شعبان ، وظهرت في رمضان ، ونُبش لها ألف ألف (مليون) دينار ، وسفط من زمرّد ، وسفط من لؤلؤ ، وكيلجة ياقوت أحمر لا يوجد مثله ، حُمل كلّه إلى صالح بن وصيف فقال : قبّح الله قبيحة! عرّضت ابنها للقتل لأجل (خمسين ألف دينار) وعندها كل هذه الأموال (٣)!

وذكر السيوطي : أعطت صالح بن وصيف ألف ألف دينار وثلاثمئة ألف دينار ، وسفطاً فيه مسكوك زمرد ، وسفطاً فيه لؤلؤ حبٍّ كبار ، وكيلجة ياقوت أحمر ، فقُوّمت السفاط بألفي ألف (مليوني) دينار! فلمّا رأى ذلك ابن وصيف قال : قبّحها الله عرَّضت ابنها للقتل لأجل (خمسين ألف دينار) وعندها هذا! فأخذ الجميع ونفاها إلى مكة (٤).

__________________

(١) كشف الغمة ٤ : ١٠٩ ، ١١٠.

(٢) كشف الغمة ٤ : ٨١ عن دلائل الإمامة للحميري وبهامشه مصادره الأُخرى ومنها مناقب الحلبي ٤ : ٤٦٤.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٤.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢٢ وتمامه : بقيت بها إلى أيام المعتمد فردّها إلى سامراء وماتت (٢٦٤ ه‍).

٤٤٦

وكانت في مكة تصرخ وتقول : هتك صالح ستري وقتل ولَدي وأخذ مالي وغرّبني عن بلدي وركب الفاحشة مني (١)!

سوابق قيام صاحب الزنج :

قال المسعودي : في سنة (٢٥٢ ه‍) في خلافة المعتزّ ثارت الفتن بالبصرة بين البلالية والسعدية (من بني تميم) وجرّ ذلك إلى ظهور صاحب الزنج (٢) وهو علي بن محمد بن عبد الرحيم العبدي من عبد قيس بالبصرة ، وكان من حاشية المنتصر في سامراء يمدحهم ويستمنحهم بشعره ، وفي سنة (٢٤٩ ه‍) شخص من سامرّاء إلى البحرين فادّعى أنّه طالبي علوي حسني ، ورحل إلى الأحساء ثمّ عاد إلى البصرة سنة (٢٥٤ ه‍) ، ثمّ جمع الزنوج الذين كانوا يكسحون السباخ في جهة البصرة وخرج بهم في (٢٥٥ ه‍) واستفحل أمره بالاغارة والنهب (٣).

واختزل خبره اليعقوبي قال : وقعت العصبية بين أهل البصرة حتّى أحرق بعضهم منازل آخرين ، وقوى أمر صاحب (الزنج) بالبصرة وصار إلى ابلّة البصرة فخرّبها (٤).

وهنا كان ما نقله الإربلي عن «دلائل الإمامة» للحميري عن محمد بن صالح الخثعمي قال : كتبت إلى أبي محمد العسكري عليه‌السلام أسأله عن أشياء وكنت أُريد أن أسأله عن صاحب الزنج الذي خرج بالبصرة ، فنسيت ، فكتب إليّ : «صاحب الزنج ليس من أهل البيت» (٥).

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٤ ولعلّه لذلك ردّها المعتمد!

(٢) مروج الذهب ٤ : ٩٥.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٤ و ٢٢٥.

(٤) اليعقوبي ٢ : ٥٠٦.

(٥) كشف الغمة ٤ : ٩٧.

٤٤٧

بعض سيرة المهتدي :

قال اليعقوبي : وظهرت من المهتدي سيرة حسنة ومذاهب محمودة ، جلس للمظالم بنفسه ، وباشر الأُمور بجسمه ، ووقّع في قصاصات الناس (عرائضهم) بخطّه ، وأبطل الملاهي ، وقدّم أهل العلم ، وأقام أياماً كثيرة يلبس لُبسة واحدة فيقيم عليها لا يغيّرها. وكتب بالأمان لجميع المتحركين والمتغلّبين ، ومنهم عيسى بن الشيخ الربعي (الشيباني) فكتب إليه بمثل ذلك شريطة أن يحمل إليه ما قبله من أموال مصر وغيرها ، فامتنع.

فكتب إلى ابن طولون بالمسير إليه لقتاله ، فسار إليه إلى العريش بمصر إذ ورد عليه كتاب المهتدي بالانصراف عنه فانصرف عنه بلا قتال. وخرج إليه أماجور التركي عامل دمشق فهزمه أماجور ، فحمل ابن الشيخ عياله إلى قلعة له في صور فتحصّن بها.

وأخرج قبيحة أُمّ المعتزّ مع ابنها عبد الله ، وأبا أحمد وإسماعيل ابني المتوكل إلى مكة (١).

وقال المسعودي : جلس المهتدي للمظالم بنفسه ، بل بنى لها قبة سمّاها قبّة المظالم لها أربعة أبواب للخواص والعوام ، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وحرّم الشراب ، ونهى عن القيان ، وأظهر العدل. وكان يحضر كل جمعة إلى المسجد الجامع ويخطب الناس ويؤمّهم ، فثقلت وطأته على الخاصة والعامة لحمله إياهم على طريق الشرع وسئموا أيامه (٢).

وقال : وكان ورعاً كاد أن يكون في بني العباس مثل عمر بن عبد العزيز في

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ٥٠٥.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٢٦.

٤٤٨

بني أُمية ، هديا وفضلاً وقصداً وديناً ، فصادف أقواماً لا يجوز عندهم أخلاق الدين ، ولا يريدون إلّاأمر الدنيا فسفكوا دمه (١).

وقال : كان المهتدي بالله ذهب في أمره إلى القصد والدين ، فقرّب العلماء ورفع منازل الفقهاء ، وعمّهم ببرّه. وقلّل من اللباس والفرش والمطعم والمشرب ، وأمر بإخراج أواني الذهب والفضة من الخزائن لتضرب دراهم ودنانير ، وعمد إلى الصور التي كانت في المجالس فمحاها. وذبح الكباش والديوك التي كان يناطَح بها بين يدي الخلفاء! وقتل السباع المحبوسة. ورفع بُسط الديباج وكل فرش لم ترد إباحته في الشرع. وكان الخلفاء قبله ينفقون لموائدهم كل يوم عشرة آلاف درهم! فهو جعل لسائر مؤونته كل يوم نحو مئة درهم! وكان يواصل الصيام. وكان ينام من الليل ساعة بعد العشاء الآخرة ثمّ يقوم فيلبس جبة صوف ويركع ويسجد إلى أن يدركه الصباح.

وكان يقول لبني العباس : يا بني هاشم! دعوني أسلك فيكم مسلك عمر بن عبد العزيز ، فأكون فيكم مثل عمر بن عبد العزيز في بني أُمية (٢).

وحكى السيوطي عن رجل كان عند المهتدي في عشية يوم من رمضان فدعاه أن يفطر معه ، فصلّى ثمّ دعا بطعامه فاتي بطبق فيه أرغفة خبز نقي رقاق وزيت وخل وملح! فقال له : ولِمَ هذا وقد أسبغ الله عليك نِعَمه؟! قال : الأمر كما وصفت ، ولكن كان في بني أُمية عمر بن عبد العزيز ، وكان من التقلّل والتقشّف على ما بلغك ، فغِرتُ على بني هاشم (بني العباس) أن لا يكون فيهم مثله فأخذت نفسي بما ترى! (فهل يا ترى هذا من الدين في شيء؟!).

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣١٨.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٠٣.

٤٤٩

وقال : طرح الملاهي وحرّم الغناء ، وحسم أصحاب السلطان عن الظلم ، وضرب عليه جماعة من الرؤساء. وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين ، يجلس بنفسه للمظالم الاثنين والخميس! ثمّ يجلس بنفسه ويُجلس الكتّاب بين يديه فيعملون حسابهم. وكان قاضيه جعفر بن عبد الواحد نقل له قولاً عن أحمد بن حنبل وأشار إلى مخالفة آبائه إياه ، فقال : رحم الله أحمد بن حنبل ، ولو جاز لي أن أتبرّأ من أبي لفعلت! ونُسب عنده جعفر بن محمود إلى «الرفض» فكره مقامه معه بسامرّاء! فنفاه إلى بغداد (١).

ابن وصيف والمهتدي والعسكري عليه‌السلام :

صالح بن وصيف كان بعد أبيه مع المعتز ثمّ مع المهتدي وقُتل قبله ، وقد ورد في الخبر أنّ العسكري عليه‌السلام سُجن عنده بلا تاريخ له ، فهنا قبل أن نصل إلى مقتله في آخر عهد المهتدي نقف عند هذا الخبر الذي أسنده الكليني عن علي بن عبدالغفار : أنّ صالح بن وصيف لمّا حبس أبا محمد العسكري عليه‌السلام دخل عليه صالح بن علي (؟) والعباسيون المنحرفون عن هذه الناحية (الإمامة) يؤكّدون عليه بأن يشدّد على أبي محمد عليه‌السلام.

فقال لهم صالح : قد وكّلت به رجلين من شرّ من قدرت عليه (٢)! فصارا من

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢٣ فالسيوطي يحسب شدة وطأته على «الرافضة» من محاسنه!

(٢) نقله الحلبي في المناقب ٤ : ٤٦٢ فسمّاهما! اقتامش وعلي بن بارمش أو تارمش ، وبذلك انحلّت معضلة خبر الكافي ١ : ٥٠٨ ، الحديث ٨ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام عن العلوي قال : حُبس أبو محمد عند علي بن اوتارمش وهو أنصب الناس وأشدهم على

٤٥٠

الصلاة والصيام إلى أمر عظيم! فقلت لهما : ما رأيتما فيه؟ قالا : ما نقول في رجل لمّا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا! يقوم الليل كلّه ويصوم النهار ، لا يتشاغل ولا يتكلم!

فلمّا سمع المنحرفون ذلك انصرفوا خائبين (١).

فكأنّ يأسه عن نتائج التشديد عليه حمله على أن حبس جمعاً من مواليه منهم أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري قال : حبسنا صالح بن وصيف الأحمر أنا والحسن بن محمد العقيقي ، ومحمد بن إبراهيم العمري ، وفلان وفلان ، ثمّ أدخل علينا أبا محمد الحسن وأخاه جعفر معه! وكان قد أدخل معنا رجلاً من بني جُمح يدّعي أنه علوي!

فالتفت أبو محمد عليه‌السلام إلينا وقال : لولا أنّ فيكم من ليس منكم لأعلمتكم متى يُفرَّج عنكم! ثمّ أومأ إلى الجُمحي أن يخرج عنا ، فخرج ، فقال لنا أبو محمد عليه‌السلام : هذا الرجل ليس منكم فاحذروه ، وإن في ثيابه قَصّة (قطعة) كتبها للسلطان يخبره بما تقولون فيه.

فقام بعضهم وفتّش ثيابه (المتروكة هناك) فوجد فيها القَصّة (قطعة ورق) يذكرنا فيها بكل عظيمة!

وكان وصيف قد أذن لأبي الحسن أن يأتيه غلامُه بطعامه ، فكان عليه‌السلام يصوم ، وعند فطوره نأكل معه من الطعام الذي كان يحمله إليه في جُونة (سلّة) مختومة!

__________________

آل أبي طالب ، فما أقام عنده إلّايوماً حتّى وضع له خدّيه ، فكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً ، وخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وقولاً فيه. فهو أحد الرجلين وليس مستقلاً.

(١) أُصول الكافي ١ : ٥١٢ ، الحديث ٢٣ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام.

٤٥١

وكنت أصوم ، وذات يوم وجدت ضعفاً ، وكانت عندي كعكة فذهبت إلى بيت آخر وأفطرت بالكعكة وما شعر بي والله أحد! ثمّ عدت فجلست إليه ، وكان غلامه معه فقال له : أطعم أبا هاشم شيئاً فإنه مفطر! فتبسّمت! فقال لي : ما يُضحكك يا أبا هاشم؟ إذا أردت القوة فكل اللحم وأمّا الكعك فلا قوة فيه! فقلت له : صدق الله ورسوله وأنتم ، عليكم السلام. ثمّ قال لي : أفطر ثلاثة أيام ، فإنّ المُنّة (القوة) لا ترجع إذا أنهكها الصوم في أقل من ثلاث.

وسأله غلامه يوماً قال له : يا سيدي أحمل فطورك؟ قال : احمل ، وما أحسبني آكل منه.

فحمل إليه الطعام ظهراً ، وكان صائماً فلم يأكل ، وعند العصر أُطلق ، فقال لنا : كلوا منه هنّأكم الله (١).

غضب المهتدي وآخر أمره :

ولم يُذكر لنا لماذا غضب المهتدي على أبي المهدي خاصّة والعلويين عامة ، فبلغ الناس ذلك وأنّه تهدّدهم يقول : والله لأُجلينّهم من جديد الأرض! وقبل أن ينفّذ ذلك انشغل عنهم بقتل بعض مواليه ، فكأنه فرح بذلك بعض موالي العسكري عليه‌السلام فكتب إليه منهم أحمد بن محمد قال : حين أخذ المهتدي في قتل الموالي كتبت إلى أبي محمد عليه‌السلام : يا سيدي ؛ الحمد لله الذي شغله عنّا (وعنك) فقد بلغني أنّه يتهدّدك يقول : والله لأُجلينّهم من جديد الأرض!

__________________

(١) إعلام الورى ٢ : ١٤٠ ، ١٤١ عن كتاب أحمد بن محمد بن عياش مسنداً. وأسند صدر الخبر الطوسي في الغيبة : ٢٢٧ ، الحديث ١٩٤ وفيه سمّى أربعة أشخاص وقال : ممن حُبس بسبب قتل عبد الله بن اترجة العباسي. وهو قُتل قبل قتل المعتز بعشرة أيام!

٤٥٢

فردّ أبو محمد عليه‌السلام بخطّه وتوقيعه : «ذلك أقصر لعمره! عُدَّ من يومك هذا خمسة أيام ، وفي اليوم السادس يُقتل بعد هوان واستخفاف يمرّ به».

قال الراوي أحمد بن محمد : فكان كما قال عليه‌السلام (١).

وإذا كان يظهر من الخبر الآنف الذكر عدم كونه محبوساً ، فلعله في غضون هذه الأيام الخمسة أُعيد إلى الحبس مع أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري قال : كنت محبوساً مع أبي محمد العسكري عليه‌السلام في حبس المهتدي ابن الواثق (ففي آخر ليلة) قال لي أبو محمد : يا أبا هاشم ؛ إنّ هذا الطاغي (المهتدي) أراد أن يتعبّث (بأمر) الله في هذه الليلة (بقتله عليه‌السلام)! وقد بتر الله عمره وجعله للقائم من بعده (المعتمد) وليس لي ولد ، وسأُرزق ولداً!

قال أبو هاشم : فلمّا أصبحنا شغب الأتراك على المهتدي فقتلوه ، وولّي المعتمِد مكانه ، وسلّمنا الله تعالى (٢).

سيف المصري والعسكري عليه‌السلام :

وقبل أن يُقتل المهتدي ، لقد عُرف من خدّامه ومواليه شفيع الخادم المفادي لأسرى المسلمين لدى الروم عام (٢٥٣ ه‍) (٣) ويظهر من الخبر التالي أنّه كان على خراج مصر أو ضياعها على عهد المهتدي.

أسند الكليني عن عمر بن أبي مسلم السامرّائي قال : قدم علينا بسامرّاء رجل من أهل مصر يقال له : سيف بن الليث ، يتظلّم إلى المهتدي في ضيعة له قد

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥١٠ ، الحديث ١٦ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام.

(٢) إثبات الوصية : ٢١٥ ، وكتاب الغيبة للطوسي : ٢٠٥ ، الحديث ١٧٣ و ٢٢٣ و ١٨٧ مكرراً.

(٣) التنبيه والإشراف : ١٦٣.

٤٥٣

غصبها منه وأخرجه منها شفيع الخادم ، فأشرنا عليه أن يكتب إلى أبي محمد العسكري عليه‌السلام يسأله تسهيل أمرها. فكتب إليه فجاءه الجواب : «لا بأس عليك ضيعتك تُردّ عليك ، فلا تتقدّم إلى السلطان (المهتدي) والقَ الوكيل الذي في يده الضيعة وخوِّفه بالسلطان الأعظم رب العالمين». فلقيه فقال له الوكيل الذي بيده الضيعة وهو بسامرّاء : عند خروجك من مصر إلى هنا كُتب إليّ : أن أطلبَك وأردّ عليك الضيعة. ثمّ أحضر شهوداً والقاضي ابن أبي الشوارب الأُموي فردّها عليه. فصارت الضيعة له وفي يده ولم يحتج إلى أن يتقدم إلى المهتدي.

فكأنّه لمّا عرف العسكريَّ عليه‌السلام وله ابن عليل بمصر ، كتب إلى أبي محمد العسكري قال : كتبت إليه أسأله الدعاء لابني العليل. فكتب إليّ : «قد عُوفي ابنك المعتل ، ومات الكبير وصيّك وقيّمك ، فاحمد الله ولا تجزع فيحبط أجرك». وفي يوم وصول جواب أبي محمد إليّ ورد إليّ الخبر : أنّ ابني قد عوفي من علّته ومات الكبير (١)!

شغب يؤدي إلى قتل المهتدي :

قال اليعقوبي : وثب بناحية صعيد مصر رجل طالبي يُدعى إبراهيم بن محمد الصوفي من وُلد عمر بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

ووثب بها أيضاً رجل يدّعي أنّه عبد الله بن عبد الحميد من بني عمر بن الخطاب.

وكان على حِمص محمد بن إسرائيل فوثب عليه أهلها يتقدّمهم ابن عكّار ، فهرب ابن اسرائيل فخرج إليه ابن عكّار فكانت بينهما وقعة قُتل فيها ابن عكّار وهُزم جمعه ، وعاد ابن اسرائيل إلى عمله.

__________________

(١) الكافي ١ : ٥١١ ، الحديث ١٨.

٤٥٤

وكان أحمد بن إسرائيل بسامرّاء ، وزيراً وكان صالح بن وصيف قد حبسه مع عيسى بن إبراهيم والحسن بن مخلّد من أصحاب الدواوين ، فأخرجهم صالح من الحبس إلى باب العامة ، فهرب ابن مخلّد وضُرب أحمد وعيسى حتى ماتا (رمضان ٢٥٥ ه‍)! وكان صالح وبايكباك التركيان الغالبين على أُمور المهتدي (وقيل : بل هو من فعل المهتدي).

وتنكّر المهتدي للأتراك وعزم على تقديم الأبناء عليهم ، فأحضر جماعة منهم وضرب أعناقهم ، فاجتمع الأتراك وشغبوا وأظهروا الطعن عليه ، فاستنفر المهتدي العامة عليهم وأباحهم دماءهم وأموالهم ومنازلهم (١).

وقال المسعودي : كان موسى بن بُغا الكبير بالريّ مشغولاً بحرب الحسن بن زيد الحسني وما كان منه ببلاد قزوين والديلم ، فلمّا بلغه ما كان من أمر صالح بن وصيف والأتراك في قتل المعتزّ أنكر ذلك وقفل من تلك الديار إلى سامرّاء.

ولمّا اتصل بالمهدي مسير موسى بن بُغا إلى دار الخلافة أنكر ذلك وكاتبه بالإقامة في عمله بالريّ وأن لا يرحل من مركزه للحاجة إليه هناك ، فأبى موسى إلّا الإسراع في المسير حتى وافى سامرّاء (في المحرم ٢٥٦ ه‍) فلمّا دنا من سامرّاء أخذت الغوغاء من العامة يهتفون على ابن وصيف : يا فرعون قد جاءك موسى!

فدخل موسى سامرّاء حتّى انتهى إلى مجلس المهتدي وهو جالس للمظالم ، والدار غاصة بخواص الناس وعوامهم ، فدخل أصحاب موسى الدار وجعلوا يُخرجون منها العامة بضرب الدبابيس والطبرزينات! فقام المهتدي منكراً عليهم فعلهم ذلك فلم يُقلعوا.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٦.

٤٥٥

ولمّا رأى موسى ضجة العامة في دار المظالم انصرف عنها إلى دار القائد التركي يارجوج ، وقُدّم إلى المهتدي فرس فركبه فمضوا به إلى تلك الدار فأقام فيها ثلاثاً عند موسى بن بُغا حتى أخذ موسى عليه العهود والمواثيق أن لا يغدر به. وقد اختفى صالح بن وصيف لمّا دخل موسى ، فخاف موسى أن يكون صالح يعمل الحيلة عليهم في اختفائه فبثّ في طلبه العيون حتّى وقع عليه فقاتلهم حتّى قُتل وأُتي برأسه إلى موسى (في صفر عام ٢٥٦ ه‍) وكان في موسى ديانة وتقشف ولا يشرب النبيذ (١).

قال : وغلظ أمر الشاري (الخارجي) مساور بن عبد الحميد البجلي (مولاهم) ببلاد الموصل وشهزور والجبال وغيرها من البلاد ، ودنا بعسكره من سامرّاء وظهرت معه الأعراب حتّى انقطعت الطرق! فتجهّز موسى بن بُغا للخروج إليه ومعه بايكباك في جيش عظيم ، فلقياه وهزماه وقتلا من أصحابه جماعة. وكتب موسى إلى بايكباك بالفتك بموسى! وتسلم العسكر! فأطلع بايكباك موسى على الكتاب : وسار بايكباك إلى سامرّاء لمواقفة المهتدي على كتابه! فلمّا حضر عنده قبض عليه ، فشغب أصحابه فقتله ورمى برأسه إليهم ، في رجب من هذه السنة (٢٥٦ ه‍).

وخرج أخو موسى أبو نصر بن بُغا بعسكره الموالي إلى خارج سامرّاء ، فوجّه إليه المهتدي بالأمان فلمّا صار إليه قتله! فتنكّر له الموالي وشغبوا عليه.

فخرج المهتدي لحربهم مع المغاربة والفراغنة والأشروسنية واستنصر العامة ، فهزموهم ، وأسروه وبه ضربات مثخنة ، فقتل لمنتصف شهر رجب سنة (٢٥٦ ه‍) وله أربعون عاماً.

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٩٧ ، ٩٨.

٤٥٦

وكان مربوعاً حسن الجسم رحب الجبهة ، أشهل العينين قد طوّل لحيته ، عظيم البطن ، وأُمه رومية تسمّى قُرْب (١).

وقيل : إنّ المهتدي كتب إلى كل منهما بقتل الآخر ، وكل منهما أطلع الآخر على الكتاب إليه بذلك ، فلمّا رأيا ذلك تراجعا عن قتال مساور الشاري ، فأما موسى بن بُغا فانصرف إلى ظَهر سامرّاء متحرجاً عن قتال الخليفة المهتدي ، وأما بايكباك فإنه توجّه لقتاله ، فلمّا استشعر المهتدي رجوعهما خرج بعسكره من المغاربة والفراغنة وغيرهم إلى جسر سامرّاء لحرب بايكباك ، فكانت بين المهتدي وبين بايكباك حرب عظيمة قتل فيها خلق كثير من الناس ، وكان بايكباك قد قرّر القائد يارجوج التركي كميناً للمهتدي ، فلمّا استظهر المهتدي بعساكره على بايكباك خرج كمينه على المهتدي فولّى أصحابه ، فدخل سامرّاء مستغيثاً بالعامة يصيح بهم في الأسواق ومعه جمع من أنصاره ، ومضى آيساً إلى دار ابن خيعونة ليختفى فيه!

فهجموا عليه وحملوه منها إلى دار القائد يارجوج ، وقالوا له : ماذا تريد أن تفعل؟

فقال : أُريد أن أحمل الناس على سيرة الرسول و «أهل بيته»! والخلفاء الراشدين (٢).

فقيل له : إنّ الرسول كان مع قوم قد زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة ، وأنت إنّما رجالك ما بين تركي وخزري وفرغاني ومغربي من أنواع الأعاجم لا يعلمون ما يجب عليهم من أمر آخرتهم! وإنما غرضهم ما استعجلوه من هذه الدنيا! فكيف تحملهم على ما ذكرت من السيرة؟!

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣١٧ ، ٣١٨.

(٢) هذه من بوادر استعمال هذا اللقب لهم.

٤٥٧

وكاد أن يتم أمرهم ، فقام فيهم سليمان بن وهب الكاتب أو غيره وقال لهم : هذا إن أعطاكم بلسانه فنيّته فيكم غير هذا! فسيأتي عليكم ويفرّق جمعكم! فلمّا سمعوا هذا تراجعوا عن توافقهم ، وأخرجوا له خناجرهم. وأكثر حنقهم عليه من قتله بايكباك التركي في الحرب أو بضرب عنقه.

وكان في أوائلهم ابن عم لبايكباك كان سكران قد ارتوى يومئذٍ من الخمر ، فكان أول من جرحه بخنجره في أوداجه. قال المسعودي : وهذا هو أشهر ما ذُكر لنا في قتل المهتدي ، وقيل : قُتل خنقاً ، وقيل : كبُس عليه بالبُسط والوسائد حتى مات ، وقيل : شُدّ بالحبال بين لوحين عظيمين حتّى مات ، وقيل : عُصرت خصيتاه حتّى مات. ثمّ ندموا من ذلك وداروا به يبكون له وينوحون عليه! ولم يدخل في فعل الأتراك هذا صاحب الدار يارجوج التركي ولا موسى بن بُغا. وذلك في نصف رجب سنة (٢٥٦ ه‍) وله ١٧ ذكراً و ٦ بنات (١).

المهتدي وخبر عن علي عليه‌السلام :

كان محمد بن علي الربعي من علماء أخبار الناس وأيامهم وحسَن المجلس ، فاتّخذه المهتدي ملازماً له حتى أنّه يبايته الليالي عنده ، فروى المسعودي عنه قال : سألني المهتدي ذات ليلة : أتعرف خبر نَوف (البكالي الكوفي) حين بايت علي بن أبي طالب؟ قلت له : نعم.

ذكر نوف قال : رأيت علياً رضى الله عنه ليلةً أكثر من الخروج والنظر إلى السماء ، وكنت رامقاً ، فقال لي : أنائم أنت يا نَوف؟ قلت له : بل ارمق بعيني منذ الليلة يا أمير المؤمنين. فقال لي : يا نَوف ، طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٩٩ ، ١٠٠.

٤٥٨

أُولئك قوم اتخذوا أرض الله بساطاً وترابها سُباتاً وماءها طيباً ، والكتاب شعاراً والدعاء دثاراً. ثمّ قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام.

يا نَوف ؛ إنّ الله تعالى أوحى إلى عبده عيسى عليه‌السلام أن قل لبني إسرائيل أن لا يدخلوا إليّ إلّابقلوب وجلة وأبصار خاشعة وأكفّ نقيّة ، وأعلِمهم أني لا أُجيب لأحد منهم دعوة ولأحد من خلقي قِبلهم مظلمة!

فكتبه المهتدي بخطه ، فإذا بايتُّه سمعته في جوف الليل يبكي ويمرّ على الخبر يقرأه إلى آخره (١).

أيام أحمد المعتمد العباسي :

كان المهتدي خاف على نفسه من أبناء المتوكل ومنهم أحمد ، فكان قد حبسه عنده في جوسق القصر ، فلمّا حُبس المهتدي اخرج أحمد من حبسه في جوسق القصر ، فبايعه الأتراك وغيرهم ، ولُقّب بالمعتمد على الله ، ثمّ مات المهتدي (٢) لمنتصف شهر رجب سنة (٢٥٦ ه‍) ، فاتّخذ عبيدَ الله بن يحيى بن خاقان وزيراً وقلّده أُموره ، وكتب بالبيعة إلى الآفاق ، فبايع بخراسان محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) وفي كور الفرات مالك بن طوق التغلبي ، وفي ديار ربيعة ومضر وجند قنّسرين أبو الساج بن ديوداد الأشروسني وبمصر أحمد بن طولون التركي.

وامتنع في فلسطين عيسى بن الشيخ الربعي الشيباني ، وكانت فلسطين من أعمال دمشق ، فوجّه المعتمد أماجور التركي في سبعمئة منهم إلى دمشق لقتال الربعي الشيباني ، فقدم أماجور إلى دمشق ، وزحف إليه عيسى بن الشيخ من

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٠٦ ، ١٠٧ (وذكره الرضي في نهج البلاغة).

(٢) مختصر تاريخ الدول : ١٤٧ ، ١٤٨.

٤٥٩

فلسطين حتّى أناخ بباب دمشق وحاصرها ، فلمّا اشتد الحصار خرج أماجور وأصحابه ، وتقدم إليه خليفة عيسى أبو الصهباء ظفر بن اليمان وابن عيسى منصور ، فحمل عليهما أماجور وأصحابه ، فقتل منصور وأسر ظفر فقُتل وصلب ، وعاد عيسى إلى الرملة من فلسطين (١).

وغلب على أمره وتدبير ملكه وسياسة سلطانه أخوه أبو أحمد طلحة (٢) بن المتوكل الملقب بالموفق والناصر لدين الله ، وصيّره كالمحجور عليه فلا أمر ينفذ له ولا نهي ، وهو أهمل أُمور الرعية وتشاغل بلهوه ولذاته. أما الموفق فقد قام بأمر أخيه أحسن قيام فمن قرُب من الأعداء قمعه ومن نأى استصلحه ، على كثير ممّا كان يلقاه من اعتراض الموالي وسوء طاعتهم وشغبهم (٣).

مرّ خبر الكليني عن أحمد بن محمد بن عبد الله : أنّ المهتدي العباسي كان قد تهدّد العلويين عامة وأبا محمد العسكري عليه‌السلام خاصة يقول : والله لأُجلينّهم عن جديد الأرض (٤)!

ومرّ في آخر أخبار الشغب عليه وقتله : أنّ من قوّاد المغاربة المقتولين معه فيها : نصر بن أحمد الزبيري ، فلعلّه كان رسوله بتهديده إلى العسكري عليه‌السلام.

فقد أسند الكليني عن أحمد بن محمد بن عبد الله ـ وهو راوي التهديد السابق ـ قال : حين قُتل الزبيري خرج (توقيع) عن أبي محمد العسكري عليه‌السلام يقول : هذا جزاء من افترى على الله في أوليائه!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٧.

(٢) الملاحظ أن المتوكل سمّى اثنين من أبنائه بطلحة والزبير وهو المعتز ، ولم يسم أحداً منهم بعلي عليه‌السلام!

(٣) التنبيه والإشراف : ٣١٨.

(٤) أُصول الكافي ١ : ٥١٠ ، الحديث ١٦ باب مولد العسكري عليه‌السلام.

٤٦٠