موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

الجواد بعد أبيه الرضا عليه‌السلام :

مرّ خبر عن معمّر بن خلّاد وكأنه كان بوّاباً أو من خدم الرضا عليه‌السلام في مرو ، وفي يوم وفاة الرضا عليه‌السلام روى الحميري عنه : أنّ الجواد عليه‌السلام بالمدينة قال له : يا معمّر اركب. قال : قلت : إلى أين؟ قال : اركب كما يقال لك! قال : فركبت معه حتى انتهينا إلى واد أو وهدة خارج المدينة فقال لي : قف هاهنا. فوقفت (فغاب عني) ثمّ أتاني. فقلت له : جُعلت فداك ، أين كنت؟ قال : دفنت أبي الساعة (١) فلعله أرسله الرضا لخدمة الجواد عليه‌السلام ، ولعل المراد مقدمات الدفن من الغسل والتحنيط والتكفين ، كما مرّ في خبر أبي الصلت الهروي.

وكان ممن يتردّد عند الجواد عليه‌السلام حينما كان الرضا عليه‌السلام بخراسان : أُمية بن علي القيسي قال : دعا يوماً بجارية وقال لها : قولي لهم يتهيؤون للمأتم.

__________________

(١) كلا الخبرين عن الدلائل للحميري في كشف الغمة ٣ : ٤٠٤ و ٥١٥. وفي الخرائج ٢ : ٦٦٦ ، الحديث ٦.

١٨١

فلمّا كان الغد قلنا : مأتم من؟ قال : مأتم خير من على ظهرها! وبعد ذلك بأيام أتانا خبر أبي الحسن الرضا عليه‌السلام وإذا به قد مات في ذلك اليوم (١).

وبدأ بأداء ما على أبيه الرضا عليه‌السلام من دين ، ومن ذلك أربعة آلاف درهم للمطرِّفي رجل من أهل المدينة ، فأرسل إليه الجواد عليه‌السلام : إذا كان غداً فأتني بميزان وأوزان! فدخل الرجل بها عليه فقال له : مضى أبو الحسن (الرضا) ولك عليه أربعة آلاف درهم؟ قلت : نعم. فرفع طرف المصلّى الذي كان تحته فإذا تحتها ما يفي بدينه عليه (٢).

وكان أبو الحسن علي بن أسباط بن سالم الكوفي فطحياً ، فناقشه علي بن مهزيار حتى ردّه عنها ، وكان بيّاعاً للثياب الزطّية من مصر ، وفيها بعض الشيعة ، فلما قُتل الرضا عليه‌السلام دخل إلى الجواد عليه‌السلام قال : فنظرت إلى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر ، فبينا أنا كذلك إذ قعد عليه‌السلام وقال لي : يا علي! إنّ الله يحتجّ في الإمامة بمثل ما احتجّ في النبوة فقال : (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً (٣)) وقال : (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً (٤)) فقد يجوز أن يؤتى الحكم صبياً ، ويجوز أن يُعطاها (الرجل) وهو ابن أربعين سنة (٥). فأخبره بما أضمره.

__________________

(١) إعلام الورى ٢ : ١٠٠ عن نوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيى العطار القمي ، وفي دلائل الإمامة : ٤٠١ ، الحديث ٣٥٩.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٤٩٧ ، الحديث ١١ ، باب مولد الجواد عليه‌السلام.

(٣) مريم : ١٢.

(٤) الأحقاف : ١٥.

(٥) بصائر الدرجات : ٢٥٨ ، الحديث ١٠ ، وأُصول الكافي ١ : ٤٩٤ ، الحديث ٤ ، باب مولد الجواد عليه‌السلام.

١٨٢

ولم يكن علي بن جعفر بن محمد عم الرضا عليه‌السلام يلتحق به بمرو ، بل كان بالمدينة ، وكان بعض الشيعة يلتحقون به ليرووا عنه ما سمع من أخيه الكاظم عليه‌السلام ، منهم محمد بن الحسين بن عمار (أو عمارة المدني الكوفي) قال : كنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما سمع من أخيه (الكاظم) فكنت عنده في المسجد وحوله أصحابه ، إذ دخل المسجد أبو جعفر محمد بن علي الرضا عليه‌السلام ، فوثب علي بن جعفر بلا رداء فقبّل يده! فقال له أبو جعفر : يا عمّ اجلس رحمك الله. فقال : يا سيدي كيف أجلس وأنت قائم؟!

فلمّا مرّ أبو جعفر ورجع علي بن جعفر إلى أصحابه قالوا له : أنت عمّ أبيه وتفعل به هذا الفعل؟!

فقال لهم : اسكتوا! وقبض على لحيته وقال لهم : إذا كان الله عزوجل لم يؤهل هذه الشيبة وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه ، أفانكر فضله؟! نعوذ بالله ممّا تقولون ، ، بل أنا عبدٌ له (١).

وكان عليه‌السلام كل يوم مع الزوال يجيء إلى المسجد ، وكان على باب المسجد صخرة فينزل عليه ، ثمّ يصير بنعله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيسلّم عليه ، ثمّ يرجع إلى بيت فاطمة عليها‌السلام (في مؤخرة الحُجر الشريفة) فيخلع نعليه ويقوم فيصلّي.

وكان يجاور في المدينة شيخ من الشيعة يقال له : عبد الله بن رزين قال : فوسوس الشيطان إليّ أنّه عليه‌السلام إذا نزل أذهب فآخذ من التراب الذي يطأ عليه ؛ فجلست يوماً انتظره لذلك. فلمّا أن كان وقت الزوال أقبل عليه‌السلام على حماره فلم ينزل على التراب بل نزل على الصخرة ، ثمّ دخل فسلّم على رسول الله ثمّ صلّى ثمّ

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣٢٢ ، الحديث ١٢ باب النص على الجواد عليه‌السلام.

١٨٣

رجع إلى المكان الذي كان يصلّي فيه. فقلت : إذا خلع نعليه جئت فأخذت من الحصا الذي يطأه بقدميه ؛ فلما كان الغد عند الزوال جاء فنزل على الصخرة ثمّ دخل بنعليه فسلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ جاء إلى الموضع الذي كان يصلّي فيه فلم يخلع نعليه بل صلّى فيهما!

فسألت عن الحمّام الذي يتردّد إليه ، فقيل لي : يدخل حمّاماً بجانب البقيع لرجل من ولد طلحة التيمي ، وسألت عن يوم دخوله الحمام فتعرّفت عليه وصرت إلى باب الحمام وجلست إلى الطلحي صاحب الحمام احدّثه ، وانتظر مجيء ابن الرضا ، وسألته : ومَن ابن الرضا؟ قال : رجل من «آل محمد» له ورع وصلاح نخلي له الحمام إذا جاء! فبينا أنا كذلك وإذا به قد أقبل على حماره ، وبين يديه غلام معه حصير أدخله المسلخ وبسطه ، ومعه غلمان آخرون ، ووافى فسلّم ودخل المسلخ بحماره حتى نزل على الحصير. فقلت للطلحي : هذا الذي وصفت بما وصفت من الصلاح والورع؟! فقال : يا هذا ، لا والله ما فعل هذا إلّافي هذا اليوم! فقلت : انتظره حتى يخرج ولعلّي أنال ما أردت إذا خرج. فلمّا خرج وتلبّس دعا بحماره للمسلخ فركبه من فوق الحصير وخرج عليه‌السلام.

فقلت في نفسي : لعلّي آذيته فلا أروم ما رمت منه أبداً! فلمّا كان وقت الزوال ذلك اليوم أقبل على حماره فنزل ودخل وسلّم على رسول الله وجاء إلى بيت فاطمة وخلع نعليه وقام يصلي (١).

فالإمام عليه‌السلام لم يكره لعمّه أن يقبّل يده تواضعاً منه وتبرّكاً به ، وكره للناس أن يأخذوا تراب موطئه تبرّكاً ، وعلم ذلك من الرجل فامتنع عليه.

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٤٩٣ ـ ٤٩٤ ، الحديث ٢.

١٨٤

سقوط إبراهيم العباسي :

كان عيسى بن محمد بن أبي خالد من قوّاد الحسن بن سهل ببغداد ، وانفصل منه بعسكره وانضمّ إلى إبراهيم بن المهدي العباسي ، ثمّ بدا له أن يعود إلى الحسن بن سهل بتسهيل قائده حُميد بن عبد الحميد الطوسي وبوساطة محمد بن محمد المعبدي العباسي ، فكان كلّما يطالبه إبراهيم العباسي أن يخرج من بغداد لقتال حُميد الطوسي يقول : حتى تدرك الغلة فإنّ الجند يريدون أرزاقهم.

ففي أواخر شوال عام (٢٠٣ ه‍) بعث إبراهيم إلى عيسى أن يأتيه ليناظره فيما يريد ، ولم يزل إبراهيم يعيد الرسل إلى عيسى حتى أتاه إلى قصره بالرصافة ، فأخذ إبراهيم يعاتبه ، وأخذ عيسى ينكر بعض ما يقول إبراهيم ويعتذر إليه من بعضه ، فلمّا قرّره في أشياء أمر به فضُرب ثمّ حبسه وعدة من قواده وامرأته وصبيانه! وذلك ليلة الخميس لليلة بقيت من شوال عام (٢٠٣ ه‍).

ولما بلغ ذلك إلى أهل بيته وأصحابه واخوته حرّضوا الناس على إبراهيم وشدّوا على عامله على الجسر فطردوه وطردوا كل عامل لإبراهيم في الكرخ وغيره. وكتبوا إلى حُميد الطوسي قائد ابن سهل يسألونه أن يدخل بجنده بغداد شرط أن يعطى جند أهل بغداد كل واحد منهم خمسين درهماً ، فأجابهم إلى ذلك ووعدهم أن يضع لهم دفتر العطاء يوم السبت في الياسرية ببغداد ، على أن يصلوا الجمعة قبله فيدعوا للمأمون ويخلعوا إبراهيم ، فأجابوه إلى ذلك. فلمّا كان يوم الجمعة اتّفقوا مع الفقيه محمد بن أبي رجاء فصلّى بهم الجمعة ودعا للمأمون! فلمّا كان يوم السبت دخل حُميد بجنده إلى الياسرية واستعرض جند أهل بغداد ، وأعطى كل واحد منهم ستين درهماً.

١٨٥

فلمّا بلغ ذلك إلى إبراهيم أخرج عيسى القائد وأخذ منه كفلاء على أن يقاتل حُميد الطوسي ، فأجابه إلى ذلك فخلّى سبيله فقاتلهم بمن معه ساعة ثمّ لما كثر عليهم الناس انصرفوا عنهم وسلّموا.

وكان المطّلب بن عبد الله الخزاعي دعا من قبل إلى المأمون وقاتل قوات إبراهيم فهزم واختفى ، وأراد اليوم العبور إلى حُميد الطوسي فعرفه المعبّر وأخذه إلى إبراهيم ، فحبسه أربعة أيام ثمّ خلّى عنه في أول ذي الحجة عام (٢٠٣ ه‍) وخلى معه عن أبي حاتم سهل بن سلامة الأنصاري الخراساني.

وتحوّل كثير من قوّاد إبراهيم وأصحابه إلى حُميد الطوسي ، وأخرج إبراهيم كل من عنده إلى الجسر على نهر ديالى ليقاتلوا قوات حُميد الطوسي فقاتلوهم حتى هزموهم وأدخلوهم بيوتهم في بغداد.

وأخذ العباسيون والقوّاد يلتحقون بحميد الطوسي واحداً بعد واحد حتى الفضل بن الربيع الحاجب! وكاتب القوّاد سعيد بن الساجور وأبو البط وعبدويه وآخرون كاتبوا علي بن هشام من قوّاد الحسن بن سهل على أن يأخذوا له إبراهيم ، وعلم إبراهيم بأمرهم.

فلمّا جنّه مساء الثاني عشر من ذي الحجة عام (٢٠٣ ه‍). أحدق المطّلب بن عبد الله الخزاعي بأصحابه بدار إبراهيم وبعث إلى حُميد الطوسي يُعلمه بذلك ، وكذلك كتب بذلك ابن الساجور وأصحابه إلى علي بن هشام ، فركب حُميد في أصحابه وأتى باب الجسر. وجاء علي بن هشام حتى نزل نهر بَين ومسجد كوثر ، وخرج ابن الساجور وأصحابه والتقوا بباب الجسر ، وأقبلوا إلى دار إبراهيم ودخلوها فلم يجدوه.

وكان الحسن بن سهل قد مرض مرضاً شديداً حتى هاج به من مرضه تغيّر عقله بغلبة السوداء ، حتى شدّ في الحديد وحُبس في بيت ، وكتب قوّاده بذلك

١٨٦

إلى المأمون ، فأتاهم كتابه : أن يكون على عسكره قائده دينار بن عبد الله ، ويعلمهم أنه قادم عليهم على إثر كتابه.

وغلب علي بن هشام على شرقي بغداد ، وحُميد الطوسي على غربيّها (١).

وكان إبراهيم بن المهدي ترك أُمه في القصر وخرج منه ليلاً سرّاً ومعه امرأة من أهله وكاتبه عبد الله بن صاعد ، ولمّا صار في الطريق تظاهر لكاتبه ابن صاعد أنّه قد نسي جوهراً له عند أُمه فقال له : ارجع إلى أُمي فسلها أن تدفع إليك الجوهر الذي عندها! فرجع عبد الله ومضى إبراهيم فأبهم موضعه! وهرب الفضل بن الربيع إلى البصرة فاستتر عند يزيد بن المنجاب المهلّبي (٢).

رحلة المأمون إلى بغداد :

رحل المأمون من طوس في أواخر شوال ، وقدم جرجان فأقام بها شهر (ذي القعدة) ثمّ خرج منها إلى الريّ في ذي الحجة فأسقط من وظيفتها ألفي ألف (مليوني) درهم ، وأقام بها أياماً ، ثمّ خرج منها فجعل يسير المنازل ويقيم اليوم واليومين حتى صار إلى همدان في أواخر ذي الحجة.

وانكسفت الشمس في آخر ذي الحجة بأكثر من ثلثيها فذهب ضوءها حتى الظهر.

وكان الحسن بن سهل قد أحال طاهر بن الحسين الخزاعي إلى الرَّقة ، فكتب المأمون إليه أن يوافيه في النهروان. ثمّ صار إلى النهروان فأقام فيه أُسبوعاً حتى وافاه طاهر الخزاعي (مولاهم) وخرج إليه أهل بيته العباسيون والقوّاد

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٦٩ ـ ٥٧٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٤.

١٨٧

ووجوه الناس في بغداد فسلّموا عليه. ثمّ لما انتصف شهر صفر (٢٠٤ ه‍) دخل بغداد يوم السبت ، ولباسه ولباس أصحابه وأعلامهم كلها الخضرة ، حتى نزل قصر الرصافة ، ونزل طاهر بأصحابه الخيزرانية ثمّ بقصره على دجلة.

ثمّ إنّه أمر طاهر بن الحسين أن يسأله حوائجه ، فكان أول حاجة سألها أن يطرح الخضرة ويعود للسواد (١).

فأعدّ له خِلع سواد له ولعدد من قوّاده الكبار ، وجاء السبت القادم في أواخر شهر صفر (٢٠٤ ه‍) فقعد لهم وعليه ثياب خُضر ، فلما اجتمعوا عنده دعا بسواد فلبسه ، ثمّ دعا بخلعة سواد فالبسها الخزاعي ، ثمّ دعا بعدة من قوّاده فألبسهم أقبية وقلانس سوداً ، فلما خرجوا من عنده وعليهم السواد طرح القواد والجند لبس الخضرة ولبسوا السواد ، هذا ولم يكن معه يومئذٍ إلّاخمسون ألف درهم (٢).

وبلغ المأمون أنّ الفضل بن الربيع قد مات وشهد بذلك عنده جماعة! فأمر المأمون أن تقبض أمواله وعقاراته وضياعه. ومنها ضيعة تبلغ ماليّتها ثلاثمئة وستون ألف درهم ، ومنها داره أو قصره.

وكان محمد بن صالح بن المنصور العباسي بايع للمأمون فامتنع من البيعة لابراهيم العباسي ، فلما دخل المأمون بغداد زوّجه اخته خديجة بنت الرشيد ، وأمر له بألفي ألف درهم مكافأة له ، وأنزله دار الفضل بن الربيع ، وأعفاه من الركوب إليه.

__________________

(١) ونقل السبط هنا عن الصولي اجتماع العباسيين إلى كبيرتهم زينب بنت سليمان وحوارها مع المأمون ، تذكرة الخواص ٢ : ٤٨٣. وسيأتي في : ١٩٨ ، ١٩٩.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٦٨ و ٥٧٣ ـ ٥٧٥.

١٨٨

وكذلك كان أبو عيسى بن الرشيد أخو المأمون ، فولّاه الكوفة ، فاستخلف عليها محمد بن الليث.

وكذلك أخوه صالح بن الرشيد فولّاه البصرة ، فاستخلف عليها محمد بن عبد الحميد. فكأنّ الفضل بن الربيع راع منه فصار إلى بغداد طالباً للأمان ، فمنّ عليه وأعطاه الأمان ، وقال له : هبك تعتذر في محمد (الأمين) بأنه كانت له في عنقك بيعة من الرشيد ، فما عذرك في ابن شكلة (إبراهيم) وإنما محله محلّ السفهاء والمغنّين ، فقوّيت عزمه على خلعي والخروج عليَّ بعد أن صارت في عنقك بيعتي!

فقال ابن الربيع : يا أمير المؤمنين! ما أجد قلبي مكانه! وقد عظم جرمي عن الاعتذار ، وجلّ ذنبي عن الإقالة! وما أرجو الحياة إلّامن سعة عفوك! فهب لي دمي لحرمتي بآبائك! فأمسك عنه وردّ عليه من ضياعه ضيعة مبلغ مالها ثلاثمئة وستون ألف درهم قدّرها لقوته وقوت عياله.

ووجّه المأمون إلى طاهر بن الحسين الخزاعي بعهده على الجزيرة والشام ومصر!

وكان الحسن بن سهل قد ولّى الحسن بن عمرو الرستمي على الجبال فعصى وخلع ، فولّاها المأمون دينار بن عبد الله فحاربه حتى أسره وفلّ جمعه.

وكان الرشيد قد ولّى على الثغور الرومية ثابت بن نصر الخزاعي ، وخاف المأمون معصيته فولّاها ابن عمه نصر بن حمزة الخزاعي (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٤.

١٨٩

مجلس الاستفتاء العام (٢٠٣ ه‍):

اختصّ «الاختصاص» المنسوب إلى المفيد بمرسلة عن علي بن إبراهيم القمي عن أبيه قال : لما مات أبو الحسن الرضا عليه‌السلام حججنا (؟) فدخلنا على أبي جعفر الجواد عليه‌السلام ، وقد حضر خلق من «الشيعة» من كلّ بلد لينظروا إلى أبي جعفر عليه‌السلام.

فدخل عمه عبد الله بن موسى وكان شيخاً كبيراً نبيلاً عليه ثياب خشنة وبين عينيه سجّادة ، فجلس. وخرج أبو جعفر عليه‌السلام من الحجرة وعليه قميص قصب ورداء قصب ونعال أبيض. فقام إليه عمّه عبد الله وقبّل ما بين عينيه ، وقامت «الشيعة» وقعد أبو جعفر على كرسي! ونظر الناس بعضهم إلى بعض تحيّراً لصغر سنّه.

فابتدر رجل من القوم فقال لعمّه : أصلحك الله ما تقول في رجل أتى بهيمة!

فقال : تقطع يمينه! ويضرب الحد!

فغضب أبو جعفر عليه‌السلام ونظر إليه وقال له : يا عم ، اتّق الله! اتّق الله! إنه لعظيم أن تقف يوم القيامة بين يدي الله عزوجل فيقول لك : لِمَ أفتيت الناس بما لا تعلم؟!

فقال له عمّه : أستغفر الله ، يا سيدي ، أليس قال هذا أبوك صلوات الله عليه؟

قال أبو جعفر عليه‌السلام : إنما سئل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها (وسرق كفنها) فقال أبي : تقطع يمينه للنبش (وسرقة الكفن) ويضرب حدّ الزنا ، فإن حرمة الميتة كحرمة الحية.

فقال : صدقت يا سيدي! وأنا أستغفر الله. فتعجّب الناس وقالوا : يا سيدنا أتأذن لنا أن نسألك؟ قال : نعم ، فسألوه عن ثلاثين ألف مسألة! فأجابهم فيها وله تسع سنين (١).

__________________

(١) الاختصاص المنسوب إلى المفيد : ١٠٢ ويظهر من الخبر أنّ الراوي يستظهر هذا العدد من الأسئلة لكل موسم الحج من تلك السنة ، فيسميه : في مجلس واحد ، أي في موسم حج واحد.

١٩٠

وجاء في خبر : أنه قرب الحج ، فتواعد من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلاً ، خرجوا إلى المدينة وأتوا دار أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ودخلوها ، وبُسط لهم بساط أحمر!

وخرج عبد الله بن موسى فجلس في صدر المجلس ، وقام مناد ينادي : هذا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فمن أراد السؤال فليسأل!

فقام إليه رجل من القوم فقال له : ما تقول في رجل قال لامرأته : أنت طالق عدد النجوم؟!

فقال عبد الله : طُلقت ثلاثاً! فزاد حزن «الشيعة» وغمّهم بالغُمّة عليهم.

ثم قام إليه رجل آخر فقال له : ما تقول في رجل أتى بهيمة؟

قال : تقطع يده! ويجلد مئة جلدة! ويُنفى! فضجّ الناس!

فهم في ذلك إذ فتح باب خرج منه موفّق الخادم ، وخلفه أبو جعفر عليه‌السلام وعليه قميصان وإزار وعمامة بذؤابتين من أمام وخلف في نعال.

فلمّا جلس قام إليه صاحب المسألة الأُولى وقال له : يابن رسول الله ، ما تقول في من قال لامرأته : أنت طالق بعدد نجوم السماء؟!

فقال له : يا هذا ، اقرأ كتاب الله : قال الله تبارك وتعالى : (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ (١)) في الثالثة. فقال السائل : فإن عمّك أفتاني بكيت وكيت.

فالتفت الجواد إلى عمّه عبد الله وقال له : يا عم اتق الله ولا تفتِ وفي الأُمة من هو أعلم منك (٢)!

فقام إليه صاحب المسألة الثانية فقال له : يابن رسول الله ، رجل أتى بهيمة؟!

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩.

(٢) يدل على لزوم تقليد الأعلم!

١٩١

فقال عليه‌السلام : يُعزّر ، ويُحمى ظهر البهيمة وتُخرج من البلد لا يبقى على الرجل عارها! فقال له : عمّك أفتاني بكيت وكيت ، فالتفت إليه ورفع صوته عالياً قال : لا إله إلّاالله يا عبد الله ؛ إنه لَعظيم عند الله أن تقف غداً بين يدي الله فيقول الله لك : لمَ أفتيت عبادي بما لا تعلم وفي الأُمة من هو أعلم منك؟

فقال عبد الله بن موسى : رأيت أخي الرضا وقد أجاب في هذه المسألة بهذا الجواب!

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إنما سئل الرضا عليه‌السلام عن نبّاش نبش عن امرأة ففجر بها وأخذ ثيابها! فأمر بقطعه للسرقة ، وجلده للزنا ، ونفيه للمُثلة (كذا ، ولعلّه للنبش).

هذا ما صدّره البحراني بقوله : الذي رواه الطبري (الإمامي) في (مسند فاطمة) أسنده عن محمد بن أحمد المحمودي عن أبيه قال .. وذيّله بقوله : ورواه الحسين بن حمدان الخصيبي في هدايته (١). فهو أقدم مصدر غير معتبر ، ولعل عنه الطبري الإمامي.

وجاء في صدر الخبر : فلمّا مضى الرضا عليه‌السلام في سنة (١٨٢ ه‍) بل وفاته عليه‌السلام في (٢٠٣ ه‍) قال : اجتمع الريان بن الصلت ، وصفوان بن يحيى ، ومحمد بن حكيم ، وعبد الرحمن بن حجاج .. فقال يونس بن عبد الرحمن (مولى آل يقطين موالي بني أسد الكوفة) : مَن لهذا الأمر؟ يُفتي في المسائل إلى أن يكبر هذا الصبيّ (يعني أبا جعفر عليه‌السلام وكان له ستّ سنين وشهور) ثمّ قال أنا ومثلي! فقام إليه الريان بن الصلت فوضع يده في حلقه! ولم يزل يلطم وجهه ويضرب رأسه! ثمّ قال له : يابن الفاعلة!

__________________

(١) حلية الأبرار ٢ : ٤٠١ ـ ٤٠٢ ، والخصيبي هو المتوفى في (٣٥٨ ه‍) قال فيه النجاشي : كان فاسد المذهب ، وذكر من كتبه : تاريخ الأئمة ، النجاشي : ٦٧ برقم ١٥٩ وتاريخ الأئمة هو كتاب الهداية الكبرى ، تخليط.

١٩٢

وعينه بل مثله أو نحوه في «عيون المعجزات» بزيادة عن لسان الريان لابن عبد الرحمان : أنت تُبطن لنا الشك والشرك! وتُظهر الايمان (١)! بل إيماني أنّ هذا كلّه من تخليط الخصيبي الفاسد!

ونقل الحلبي عن «الجلاء والشفاء» (؟) : أنّه لمّا مضى الرضا عليه‌السلام جاء الحسن بن راشد ، وعلي بن مُدرك ، وعلي بن مهزيار ، ومحمد بن جمهور العمّي (البصري الغالي) وخلق كثير من سائر البلدان ، إلى المدينة ، وسألوا عن الخلف بعد الرضا عليه‌السلام ، فقالوا : هو في صِريا : قرية من المدينة على ثلاثة أميال بناها الكاظم عليه‌السلام ، قال (؟) : فجئنا ودخلنا القصر! فإذا الناس فيه متكابسون! فجلسنا معهم ، إذ خرج علينا عبد الله بن موسى وهو شيخ. فتساءل الناس : هذا صاحبنا؟ فقال الفقهاء : قد رُوينا عن الباقر والصادق عليهما‌السلام : أنه «لا تجتمع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين» فليس هذا بصاحبنا.

إلّا أنّه جاء حتى جلس في صدر المجلس ، فقال له رجل : ما تقول ـ أعزّك الله ـ في رجل أتى حمارةً؟

فقال : تُقطع يده! ويُضرب الحد! ويُنفى من الأرض سنة!

ثمّ قام إليه آخر وقال له : ما تقول ـ أصلحك الله ـ في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟!

قال : بانت منه بصدر الجوزاء والنسر الطالع والنسر الواقع! فتحيّرنا من جرأته على الخطأ!

إذ خرج علينا أبو جعفر عليه‌السلام وهو ابن ثمان سنين فسلّم على الناس. فقمنا إليه ، وقام إليه عمه عبد الله بن موسى من مجلسه وجلس أبو جعفر في صدر المجلس ثمّ قال : سلوا رحمكم الله.

__________________

(١) عيون المعجزات : ١٠٨.

١٩٣

فقال إليه الرجل الأول وقال : ما تقول ـ أصلحك الله ـ في رجل أتى حمارة؟

قال : يُضرب دون الحدّ ، ويغرّم ثمنها ، ويُحرّم ظهرها ونتاجها ، وتُخرج إلى البر حتى منيّتها ، ثمّ قال لعمه : يا هذا ، ذاك لرجل ينبش عن ميتة فيسرق كفنها ويفجر بها ، فعليه القطع بالسرقة ، والحدّ بالزنا والنفي إذ كان عزباً ، فلو كان محصناً لوجب عليه القتل والرجم.

فقال الثاني : يابن رسول الله ، ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟

قال : تقرأ القرآن؟ قال : نعم ، قال : فاقرأ في سورة الطلاق قوله : (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ) يا هذا ، لا طلاق إلّابخمس : شهادة شاهدين عدلين ، في طهر ، من غير جماع ، بإرادة وعزم! ثمّ قال : يا هذا ، هل ترى في القرآن عدد نجوم السماء؟! قال : لا (١).

وكان منهم (من بغداد) إسحاق بن إسماعيل بن نوبخت قال : فأعددت له في رقعة عشر مسائل لأسأله عنها ، وكان لي حمل فقلت في نفسي : إن أجابني عن مسائلي سألته أن يدعو الله لي أن يجعله ذكراً. فلما ألحّ الناس عليه بالمسائل قمت لأُخفّف اليوم وأسأله في غد ، فلما نظر إليّ قال : يا إسحاق ، قد استجاب الله دعائي فسمّه أحمد! فقلت : الحمد لله ، هذا هو الحجة البالغة! ولم يذكر شيئاً عن مسائله العشر. وانصرف إلى بلده (بغداد) فولد له ذكر فسماه أحمد (٢) فعاش مدة ومات (٣).

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤١٤ ـ ٤١٥ ، ولم يُعرّف كتاب الجلاء والشفاء في صدر كتابه.

(٢) عن عيون المعجزات في حلية الأبرار ٢ : ٤٠٠.

(٣) دلائل الإمامة للطبري الإمامي : ٢١٢.

١٩٤

المأمون ، والنضر النحوي البصري :

مرّ بعض أخبار الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري ، ومن أصحابه النضر بن شُميل بن خرشة النحوي البصري ، وكان في البصرة فقيراً فاجتذبه المأمون إليه إلى مرو.

قيل : لما خرج من البصرة إلى خراسان طلع لوداعه نحو من ثلاثة آلاف (؟!) فلما ودّعهم قال لهم : والله لو وجدت كل يوم كليجة باقلّاء ما فارقتكم! ثمّ حظى عند المأمون فتموّل وأثرى.

وكان المأمون أحياناً يزاول الحديث ، وكان قد سمع من هيثم بن بشر المحدّث : عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إذا تزوّج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان له سداد من عوَز» فقرأ السَداد بفتح السين. وكان النضر حاضراً فأعاد الحديث وكسر السين! فاستوى المأمون جالساً وقال له : تلحّنني يا نضر؟! فقال : إنّ هشيماً كان لحاناً ، فتبع أمير المؤمنين لفظه! قال : فما الفرق بينهما؟ قال : السَداد بالفتح : القصد في السبيل والدين ، وكلّ ما سددت به شيئاً فهو سِداد بالكسر ، وهي البلغة ، وأنشد :

أضاعوني ، وأيّ فتىً أضاعو

ليوم كريهة وسِداد ثغرِ

فأمر له المأمون بخمسين ألف درهم! فتموّل وأثرى ، وتوفى في سنة (٢٠٤ ه‍) (١).

وفات الشافعيّ بالفُسطاط :

وفيها أيضاً (٢٠٤ ه‍) مات الشافعي محمد بن إدريس بفُسطاط القديمة

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧ وبقية الخبر في تاريخ الخلفاء للسيوطي عن ابن عساكر : ٣٥٧ ـ ٣٧٧.

١٩٥

والتي أعاد بناءها جوهر الصقلي قائد الفاطميين فسمّاها القاهرة باسم القاهر بدين الله الفاطمي. ومرقده معروف بها يُزار. وهو من أولاد عبد مناف نُسب إلى جدّه شافع بن السائب الذي أسلم يوم بدر. ولد في غزّة من فلسطين ، وحفظ القرآن قبل العاشرة ، وحيث كان المنصور الدوانيقي ناصر مالك بن أنس ونشر موطّأه ، فالشافعي قال : حفظت الموطّأ وأنا ابن عشر سنين حتى قدمت على مالك وأنا ابن خمس عشرة سنة! فأخذ منه علمه ومن سفيان بن عُيينة ، وسافر إلى بغداد سنة (١٧٥ ه‍) فسمع بها الحديث من محمد بن الحسن الشيباني وناظره ، وناظر بها بشر المرّيسي المعتزلي. وسمع منه أحمد بن حنبل فكان يقول : ما عرفت ناسخ الحديث ومنسوخه حتى جالست الشافعي! وكفّر من كان يقول بخلق القرآن بحجة : أن الله خلق الخلق بكُن! فإذا كانت كن مخلوقة كان مخلوقاً خُلق بمخلوق!! وأنكر على أهل الكلام ومن يشتغل به! ونظر في النجوم ثمّ أعرض ودفن كتبها.

وكان يتعاطى الشعر حتى أنّ الأصمعي قرأ عليه ديوان الشنفري والهُذليين بمكة (١) ومن شعره :

إذا في مجلس ذكروا علياً

وسبطيه وفاطمة الزكيّة

فأجرى بعضهم ذكرى سواهم

فأيقِن أنه لِسَلَقلَقِيّة!

إذا ذكروا علياً أو بنيه

تشاغل بالروايات العلية

وقال : تجاوزوا يا قوم هذا

فهذا من حديث «الرافضية»

برئت إلى المهيمن من أُناس

يرون «الرفض» حبّ الفاطمية

على آل الرسول صلاة ربّي

ولعنته لتلك الجاهلية!

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٥ و ٢٠٦.

١٩٦

قالوا : «ترفَّضت» قلت : كلّا

ما «الرفض» ديني ولا اعتقادي!

لكن «تولّيت» غير شك

خير إمام وخير هادي

إن كان حبّ «الولي» رفضاً

فإنني «أرفض» العباد

***

يا راكباً قِف بالمُحَصَّب من مِنى

واهتف بقاعد خَيفها والناهض

سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضاً كملتطِم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حبّ آل محمد

فليشهد الثقلان أني «رافضي»!

***

إذا نحن فضّلنا علياً فإنّنا

 «روافض» بالتفضيل عند ذوي الجهل!

وفضلَ أبي بكر إذا ما ذكرتُه

رُميت «بنُصب» عند ذكري للفضل!

فلا زلت ذا «رفض ونصب» كليهما

بحبّهما ، حتى اوسَّد في الرّمل (١)

***

فهل كان يشفع للشافعي في هذا «الترفّض» ما اشتهر من اتجاه مثل هذا النبز والاتهام للخليفة المأمون؟! قد يكون ذلك ، والناس على دين ملوكهم وهم بهم أشبه منهم بآبائهم كما قد قيل ، ومن شعر المأمون في علي عليه‌السلام :

لا تُقبل التوبة من تائب

إلّا بحبّ ابن أبي طالب

حبّ علي لازم واجب

في عنق الشاهد والغائب

أخو رسول الله حِلف الهدى

والأخ فوق الخلّ والصاحب

إن جُمعا في الفضل يوماً فقد

فاق أخوه رغبة الراغب

__________________

(١) نظم درر السمطين للزرندي الشافعي : ١١٠ ـ ١١١ ، والفصول المهمة للمالكي : ١٩ ـ ٢١ ، ونور الأبصار للشبلنجي الشافعي : ١٢٧. والصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي : ١٣٣ ، وديوان شعر الشافعي.

١٩٧

فقدِّم الهادي في فضله

تسلم من اللائم والعائب

إن مال ذو «النصب» إلى جانب

ملت مع «الشيعة» من جانب

أكون في آل نبي الهدى

خير نبيّ من بني غالب

حبهُم فرض يؤدّى به

كمثل حجّ لازم واجب

***

الام على حبّ «الوصيّ» أبي الحسن

وذلك عندي من عجائب ذي الزمن

خليفة خير الناس والأول الذي

أعان رسول الله في السرّ والعلن

ولولاه ما عُدّت لهاشم إمرة

وكانت على الأيام تُقصى وتُمتهنِ

فولّى بني العباس ما اختص غيرَهم

فمن منه أولى بالتكرّم والمِنن؟!

فأوضح عبدُ الله بالبصرة الهدى

وفاض عبيدُ الله جوداً على اليمن!

وقسّم أعمال الخلافة بينهم

فلا زال مربوطاً بذا الشكر مرتهن (١)

***

والمأمون بهذه الأبيات الأخيرة يشير إلى ما مرّ عنه خطاباً لزينب بنت سليمان كبيرة العباسيين. قال الصولي : كان المأمون بعد علي بن موسى عليه‌السلام قد عزم على أن يعهد بعده لابنه محمد بن علي عليه‌السلام وكان قد أصرّ على ذلك! فاجتمع العباسيون إلى زينب هذه وسألوها أن تدخل عليه وتسأله الإضراب عن مثل ما كان عليه بل ترك الخضرة والعودة إلى السواد.

فلما دخلت عليه قام لها ورحّب بها واكرمها فقالت له : يا أمير المؤمنين! إنك على برّ أهلك من ولد أبي طالب والأمر في يدك أقدر منك على برّهم والأمر في يد غيرك! فلا تُطمعنّ أحداً في ما هو منك! ودع لباس الخضرة وعُد إلى لباس أهلك!

__________________

(١) تذكرة الخواص ٢ : ٤٨٥ ـ ٤٨٦ عن كتاب الأوراق في الوزراء والكتّاب للصولي

١٩٨

فقال لها : والله ـ يا عمّة ـ ما كلّمني أحد بكلام أوقع في قلبي من كلامك ، ولا أقصد لما أردت ، وأنا احاكمهم إلى عقلك. ثمّ قرّر لها أنّ علياً عليه‌السلام ما ترك أحداً ينتمي إلى العباس إلّاولّاه ، فكافأتُه بما فعلت. فقالت : ولكن المصلحة لبني عمك من ولد أبي طالب ما قلت لك. فقال : ما يكون إلّاما تحبّون (١).

ومع ذلك عزل عن مكة والمدينة والياً عباسياً وولّاهما عبيد الله بن الحسن بن عُبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأمّره أمر الموسم لسنة (٢٠٤ ه‍).

وفاة هشام الكلبي المؤرّخ النسّابة :

قال المسعودي في سنة (٢٠٤) : مات فيها هشام بن محمد بن السائب الكلبي (٢) وقال ابن خلكان فيه : كان أعلم الناس بعلم الأنساب من الحفّاظ المشاهير واسع الرواية لأخبار الناس وأيامهم ، توفي في (٢٠٦ ه‍) (٣) وقال ابن عدي : ذكره ابن حِبّان في الثقات ، وله أحاديث صالحة ، ورضوا به في التفسير وهو معروف به ، بل ليس لأحد تفسير أشبع ولا أطول منه (٤).

وقد نقل الطبري عنه في تاريخه ثلاثمئة وثلاثين خبراً ، ومع ذلك لم يعرض لذكره في «ذيل المذيل» وإنما ذكر أباه وجده وقال : إن جدّه بشر بن عمرو الكلبي وبنيه السائب وعبيد وعبد الرحمن ، شهدوا الجمل مع علي عليه‌السلام (٥).

__________________

(١) تذكرة الخواص ٢ : ٤٨٣ ـ ٤٨٤ عن كتاب الأوراق للصولي ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ٢ : ٣٦٦.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٣٧.

(٣) وفيات الأعيان ٦ : ٨٢.

(٤) لسان الميزان ٢ : ٣٥٩.

(٥) ذيل المذيّل لتاريخ الطبري : ١٠١.

١٩٩

وذكره الكشي (ق ٣ ه‍) في كتابه : «معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين» وقال : «الكلبي من رجال العامة ، إلّا أنّ له ميلاً ومحبة شديدة! (حتى) قد قيل : إنّ الكلبي لم يكن مخالفاً وإنما كان مستوراً» أي بالتقية. ونقل هذا الطوسي في «اختيار معرفة الرجال» (١) واختار قول الكشي الأول فلم يذكره في «الفهرست» ولا في «الرجال» مع عموم موضوعه!

والنجاشي مال مع القول الثاني فذكره وقال : «العالم بالأيام (التاريخ) المشهور بالعلم والفضل. وكان يختصّ بمذهبنا ، وله الحديث المشهور قال : اعتللت علة عظيمة فنسيت علمي! فذهبت إلى جعفر بن محمد عليه‌السلام فسقاني العلم في كأس! فعاد إليّ علمي! وكان أبو عبد الله عليه‌السلام يدنيه ويقرّبه وينشّطه ، وله كتب كثيرة» (٢). ثمّ عدّ كتبه ومنها «مقتل الحسين».

ولد بالكوفة قيل في (٩٦ ه‍) وقرأ على أبيه وأبي مخنف لوط بن يحيى بن سعيد بن سالم الأزدي الغامدي الكوفي. وعنه روى كتبه ومنها «مقتل الحسين» وزاد إليه ما رواه عن سواه فعُرف باسمه وروي عنه ، وعنه نقل الطبري في تاريخه ، ثمّ المفيد في «الإرشاد» (٣) ولما بنى المنصور بغداد وانتقل إليها كثير من أهل الكوفة انتقل معهم هشام الكلبي إلى بغداد ، وحمل كتبه على مئة وعشرين وقر بعير! فقيل له : ما أكثر كتبك! فقال : وعلمي أكثر من كتبي ، كما عن ابن خلكان (٤).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣٩٠ ، الحديث ٧٣٣.

(٢) رجال النجاشي : ٤٣٤ برقم ١١٦٦.

(٣) واستخرجته من تاريخ الطبري وقارنته بالارشاد وحققته وعلّقت عليه ونُشر باسم : وقعة الطف.

(٤) في دراسات عن التاريخ والمؤرخين العرب ، للدكتور مرجليوث الألماني تعريب إبراهيم نصّار المصري.

٢٠٠