موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

ثمّ يجدّد وضوءه ويعود إلى مصلاه ، فإذا زالت الشمس قام فصلّى ستّ ركعات يقرأ في الركعة الأُولى الحمد وقل يا أيها الكافرون وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد. ويقرأ في الأربع (البواقي) في كل ركعة الحمد وقل هو الله أحد ، ويقنت في الثانية بعد القراءة وقبل الركوع ، ثمّ يؤذّن فيصلي ركعتين (تمام ثمان ركعات نوافل الظهر في الإقامة) ثمّ يقيم فيصلي الظهر ، فإذا سلّم سبّح الله وحمده وكبّره وهلّله ما شاء الله ، ثمّ سجد سجدة الشكر يقول فيها مئة مرة : شكراً لله.

فإذا رفع رأسه قام فصلّى ست ركعات (من نوافل العصر) يقرأ في كل ركعة الحمد وقل هو الله ويسلّم في كل ركعتين ، ثمّ يؤذّن ثمّ يصلي ركعتين (تمام ثمان ركعات) فإذا سلّم أقام وصلّى العصر ، فإذا سلّم جلس في مصلّاه يسبّح الله ويحمده ويكبّره ويهلّله ما شاء الله ، ثمّ يسجد سجدة يقول فيها مئة مرة : حمداً لله.

فإذا غابت الشمس توضأ وصلّى المغرب ثلاثاً بأذان وإقامة وقنت في الثانية بعد القراءة وقبل الركوع ، فإذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده ويكبّره ويهلّله ما شاء الله ، ثمّ يسجد سجدة الشكر ، ثمّ يرفع رأسه ويقوم ويصلّي أربع ركعات (نوافل المغرب) بتسليمتين ويقنت في الثانية بعد القراءة وقبل الركوع ، ثمّ يجلس بعد التسليم في التعقيب ما شاء الله ثمّ يُفطر (إذا كان صائماً في الإقامة).

ثمّ يلبث حتّى يمضي من الليل قريب من الثلث فيقوم فيصلّي العشاء الآخرة أربع ركعات (في الإقامة) ويقنت في الثانية بعد القراءة وقبل الركوع ، فإذا سلّم جلس في مصلّاه يذكر الله ويسبّحه ويحمده ويكبّره ويهلّله ما شاء الله ، وبعد التعقيب يسجد سجدة الشكر ، ثمّ يأوي إلى فراشه.

فإذا كان الثلث الأخير من الليل قام من فراشه فيستاك ثمّ يتوضأ ثمّ يقوم لصلاة الليل ، فيصلّي ثمان ركعات يسلّم في كل ركعتين بالحمد وقل هو الله أحد ثلاثين مرة! ثمّ يقوم فيصلي الركعتين الباقيتين يقرأ في الأُولى الحمد وسورة

٢١

المُلك وفي الثانية الحمد وهل أتى على الإنسان ، ثمّ يقوم فيصلّي ركعتي الشفع يقرأ في كل ركعة الحمد مرة وقل هو الله ثلاث مرات ويقنت في الثانية بعد القراءة وقبل الركوع ، فإذا سلم قام فصلّى ركعة الوتر يقرأ فيها الحمد مرّة وقل هو الله أحد ثلاث مرات وقل أعوذ برب الفلق مرة وقل أعوذ برب الناس مرة ويقنت فيها بعد القراءة وقبل الركوع يقول فيه : «اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد ، اللهم اهدنا في من هديت ، وعافنا في من عافيت ، وتولنا في من توليت ، وبارك لنا في ما أعطيت ، وقنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنّه لا يذلّ من واليت ولا يعزّ من عاديت تباركت ربنا وتعاليت» ثمّ يقول سبعين مرّة : أستغفر الله وأسأله التوبة. فإذا سلم جلس في التعقيب ما شاء الله.

فإذا قرب الفجر قام فصلّى ركعتي (نافلة) الفجر يقرأ في الأُولى الحمد وقل يا أيها الكافرون ، وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد ، فإذا طلع الفجر أذّن وأقام وصلّى الغداة (الفجر) فإذا سلم جلس في التعقيب حتّى تطلع الشمس ، ثمّ يسجد سجدتي الشكر حتّى يتعالى النهار.

فلمّا أخبرت المأمون بما شاهدته منه في ليله ونهاره وظعنه وإقامته قال لي : يابن أبي الضحاك! هذا خير أهل الأرض وأعبدهم وأعلمهم ، فلا تخبر أحداً بما شاهدته منه لا يظهر فضله إلّاعلى لساني ؛ وبالله أستعين على ما أقوى من الرفع منه والإشادة به (١)!

بداية محاولة المأمون :

يظهر من خبر رواه الصدوق : أنّ من العلويين الحاضرين مع الرضا عليه‌السلام بمرو محمّد بن يحيى بن عمر الأطرف بن علي عليه‌السلام ، قال : لما أراد المأمون

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٨٠ ـ ١٨٣ ، الحديث ٥ بتصرف يسير.

٢٢

أن يستعمل الرضا عليه‌السلام جمع بني هاشم (العباسيين) فقال لهم : إني أُريد أن استعمل أبا الحسن علي بن موسى لهذا الأمر بعدي!

فقالوا : أتولّي رجلاً ليس له بصر بتدبير الخلافة! فابعث إليه يأتنا فترى من جهله ما تستدل به عليه! فبعث إليه فأتاه.

فقال له بنو هاشم (العباسيون) : يا أبا الحسن ، اصعد المنبر وانصب لنا علماً نعبد الله عليه.

فصعد المنبر وقعد عليه مطرقاً لا يتكلم مليّاً! ثمّ انتفض انتفاضة واستوى قائماً ، وحمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيّه وأهل بيته ثمّ قال : أول عبادة الله معرفته ... (١).

وهكذا ينبتر الخبر بلا ذكر لردّ فعل هؤلاء العباسيين بعد سماعهم لكلام الإمام عليه‌السلام.

وكان أبو علي الريّان بن الصلت الأشعري القمي (٢) قد استعمله وزير المأمون : الفضل بن سهل بعثه إلى بعض كور خراسان (٣) فروى الصدوق عنه : أن الرضا عليه‌السلام قبل أن يُحمل إلى المأمون كان من أخصّ الناس عنده هشام بن إبراهيم الراشدي الهمداني ، وكان عالماً أديباً لبيباً ، فكانت أُمور الرضا تجري على يده ومن عنده ، وتصير الأموال من النواحي كلّها إليه! فلمّا حُمل أبو الحسن إلى المأمون ، تقرّب هشام الراشدي إلى الفضل ذي الرياستين ، فقرّبه الفضل وأدناه ،

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٤٩ ، ١٥٣ ، وذكرها في التوحيد : ٣٤ ، ٤١.

(٢) رجال النجاشي : ١٦٥ برقم ٤٣٧ وابناه محمّد وعلي من رواة الهادي عليه‌السلام ، جامع الرواة ١ : ٨٥.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٥٤٧ ، الحديث ١٠٣٦.

٢٣

وجعله يحمل أخبار الرضا إليه وإلى المأمون فلا يُخفى عليهما من أخباره شيئاً ، فحظي بذلك عند المأمون حتّى ولّاه حِجابة الرضا! فكان لا يصل إلى الرضا إلّا من أحبّ ، وكان من يقصده من مواليه لا يصل إليه! وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلّاأورده هشام على المأمون وذي الرياستين ؛ وحتّى جعله المأمون مؤدِّباً لابنه العباس ، ولذلك سُمي : هشام العباسي.

قال : وكان منزل أبي الحسن الرضا بجنب منزل المأمون ، وكان المأمون يأتي الرضا يوماً والرضا يأتي المأمون يوماً (١).

وروى الصدوق بسنده عن إبراهيم بن هاشم القمي قال : كان الريّان بن الصلت القمي من رجال الحسن بن سهل (أخ الفضل) قال : لما انقضى أمر المخلوع واستوى أمر المأمون .. حمل الرضا عليه‌السلام إليه على طريق البصرة والأهواز وفارس حتّى وافى مرو.

فلمّا وافى مرو عرض عليه المأمون أن يتقلد الإمرة والخلافة! فأبى الرضا عليه‌السلام ذلك ، وجرت في هذا مخاطبات كثيرة ، بقوا في ذلك نحواً من شهرين (ظ رجب وشعبان) كل ذلك يأبى أبو الحسن الرضا عليه‌السلام أن يقبل ما يعرض عليه.

فلمّا كثر الكلام والخطاب في هذا قال المأمون : فولاية العهد. فقال له : على شروط أسألك إياها! فقال المأمون : سل ما شئت.

فكتب الرضا عليه‌السلام : «إني أدخل في ولاية العهد على أن لا آمر ولا أنهى ، ولا أقضي ولا أُفتي ولا أُغيّر شيئاً مما هو قائم ، وتعفيني عن ذلك كلّه ..» فقبلها على كل هذه الشروط وأجابه المأمون إلى ذلك (٢).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٣ و ١٥٤.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤٩ ـ ١٥٠.

٢٤

إعلان ولاية عهد الرضا عليه‌السلام :

جاء في خبر الصدوق عن الريّان بن الصلت : أن المأمون دعا الشاكرية (الجنود) وقوّادهم والقضاة والولاة وولد العباس إلى البيعة بولاية عهده إلى الرضا عليه‌السلام ، فاضطربوا عليه ، فأخرج أموالاً كثيرة وأعطى القواد وأرضاهم ، إلّا ثلاثة نفر من قواده أبوا ذلك : أحدهم : عيسى الجلودي ، وعلي بن أبي عمران ، وأبو يونس (؟) فإنهم أبوا أن يدخلوا في بيعة الرضا ، فحبسهم (١).

تلكم ما رواه الصدوق عن إبراهيم بن هاشم عن الريّان بن الصلت مختصراً ، وروى قبله تفصيله عن أبي الصلت الهروي والذي اختاره المأمون فجعله من خاصته ، وخصّه أن يكون مع الرضا عليه‌السلام من المدينة إلى مرو ، قال : إنّ المأمون قال للرضا :

يابن رسول الله ؛ قد عرفتُ علمك وفضلك ، وزهدك وورعك وعبادتك ، وأراك أحق بالخلافة مني!

فقال الرضا عليه‌السلام : «بالعبودية لله عزوجل أفتخر ، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا ، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم ، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله عزوجل» ثمّ سكت عن أحقّيته بالخلافة ، وإقرار المأمون بها على نفسه! فعاد المأمون إليها وقال :

فإني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأُبايعك!

فقال له الرضا : إن كانت هذه الخلافة لك ، والله جعلها لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسك الله وتجعله لغيرك! وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩١ ، ٤٩٢.

٢٥

فقال له المأمون : يابن رسول الله ؛ لابدّ لك من قبول هذا الأمر!

فقال : لست أفعل ذلك طائعاً أبداً! (وانفضّ المجلس على هذا).

قال أبو الصلت : فما زال المأمون يجهد به أياماً (وقد مرّ أنها كانت شهرين) حتّى يئس من قبوله.

فقال له : فإن لم تقبل الخلافة ولم تحبّ مبايعتي لك ، فكن وليّ عهدي لتكون لك الخلافة بعدي.

فقال الرضا عليه‌السلام : والله لقد حدّثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّي أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسمّ مظلوماً! وادفن في أرض غربة إلى جنب (أبيك) هارون الرشيد! فتبكي عليَّ ملائكة السماء والأرض!

فبكى المأمون وقال : يابن رسول الله ، ومَن الذي يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حي؟

فقال الرضا عليه‌السلام : أما إني لو أشاء أن أقول مَن الذي يقتلني لقلت!

فقال المأمون : يابن رسول الله ؛ إنّما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك ؛ ليقول الناس إنك زاهد في الدنيا!

فقال الرضا عليه‌السلام : والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عزوجل ، وما زهدت في الدنيا للدنيا ، وإني لأَعلم ما تريد!

فقال المأمون : وما اريد؟ قال : الأمان على الصدق؟ قال : لك الأمان! قال : تريد بذلك أن يقول الناس : إنّ علي بن موسى لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه! ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة!

فغضب المأمون ثمّ قال : إنك تتلقاني أبداً بما أكرهه! وقد أمنت سطوتي! فبالله أُقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلّا أجبرتك على ذلك ، فإن فعلت وإلّا ضربت عنقك!

٢٦

فقال الرضا عليه‌السلام : قد نهاني الله عزوجل أن القي بيدي إلى التهلكة! فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك ، وأنا أقبل ذلك على أن لا اولّي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقض رسماً ولا سنّة ، وإنّما أكون مشيراً في الأمر من بعيد! فرضي المأمون منه بذلك (١).

وكان ذو الرياستين الفضل بن سهل حاضراً وعمّ الرضا محمّد بن جعفر العلوي غير حاضر ، فخرج الفضل يوماً إليه وإلى أصحابه ، وهو يقول : وا عجباً! لقد رأيت عجباً! سلوني ما رأيت! فقالوا : ما رأيت أصلحك الله؟ قال : رأيت أمير المؤمنين يقول لعلي بن موسى : إني قد رأيت أن أفسخ ما في رقبتي وأجعله في رقبتك وأُقلدك أُمور المسلمين! ورأيت علي بن موسى يقول له : الله الله! لا طاقة لي ولا قوة بذلك (٢)!

المجلس العام لتولية الإمام عليه‌السلام :

قال خليفة : فيها (٢٠١ ه‍) خلع المأمون أخاه القاسم بن هارون وبايع لعليّ بن موسى بالخلافة من بعده (٣) وعقّب اليعقوبي بذكر الشهر واليوم قال : كان ذلك لسبع خلون من شهر رمضان (٤) ولعلّه لتسع.

وفصّل الإصفهاني قال : جلس المأمون في يوم الخميس (غرة رمضان) وخرج الفضل بن سهل فأعلم الناس (الخواص) برأي المأمون في علي بن موسى ،

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٣٩ ـ ١٤٠ ، وفي علل الشرائع ١ : ٢٧٧ ، والأمالي : ١٢٥ ، الحديث ١١٥.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤١ ، الباب ٤٠ ، الحديث ٦.

(٣) تاريخ خليفة : ٣١٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٤٨.

٢٧

وأنّه ولّاه العهد ، وسمّاه «الرضا» وأمر بلُبس الخضرة ، والعود لبيعته في الخميس الآخر ، على أن يأخذوا رزق سنة!

فلمّا كان ذلك اليوم حضر القضاة والقواد في الخضرة بدل السواد ، وأمر المأمون فوُضع للرضا عليه‌السلام وسادتان عظيمتان إلى مجلسه ، وأحضر الرضا (في الخضار) وعليه عمامة (خضراء) وسيف ووضعت البدر (كل بدرة عشرة آلاف درهم جوائز) (١).

ثمّ صعد المأمون المنبر (فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وآله) ثمّ قال : أيها الناس ، قد جاءتكم بيعة علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ثمّ قال : والله لو قرئت هذه الأسماء على الصمّ البكم لبرئوا بإذن الله عزوجل (٢).

وكان للمأمون يومئذ اثنتان وثلاثون سنة وابنه البكر العباس بن عبد الله دون المراهقة ، فولّى عهده يومئذ للرضا عليه‌السلام دون ابنه العباس هذا ، بل أمره أول الناس أن يبايع ، فقام إليه ليبايع فرفع الرضا عليه‌السلام يده وأوقفها ظهرها إليه وبطنها إلى الناس! فقال المأمون له : ابسط يدك للبيعة! فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هكذا كان يبايع! فبايعه العباس بن المأمون كذلك.

ثمّ كان يدعو سائر الناس أبو عبّاد ، فنادى عمّ الرضا محمّد بن جعفر بن محمّد العلوي ، فقام حتّى قرب من المأمون (وبايع) ثمّ مضى فأخذ جائزته ورجع إلى مجلسه ، ثمّ جعل أبو عباد يدعو بعلوي وعباسي فيبايعان ثمّ يقبضان جوائزهما ، حتّى نفدت الأموال.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٧٦ بطريقين ، وعنه في الإرشاد ٢ : ٢٦١ بلا إسناد.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤٧ ، الباب ٤٠ الحديث ١٨ ، والأمالي : ٧٥٨ ، الحديث ١٥ ، م ٩٤.

٢٨

ثمّ قال المأمون للرضا : قُم فاخطب الناس ، فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وآله ثمّ قال (أيها الناس) : «إنّ لنا حقاً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكم علينا حقّ به ، فإذا أدّيتم إلينا ذلك وجب علينا الحق لكم».

وقام الخطباء والشعراء يذكرون ما كان من المأمون في الرضا ويذكرون فضله (١).

وكان ممن كتب في تاريخ الوزراء والكُتّاب : محمّد بن يحيى الصولي الجليس (٢) الشطرنجي (م ٣٣٦ ه‍) (٣) فروى عنه الصدوق قال : إنّ الخطيب العباس (؟) قام فتكلم فأحسن ثمّ ختم بقوله :

لابد للناس من شمس ومن قمر

فأنت شمس وهذا ذلك القمر

ثمّ أومأ الرضا عليه‌السلام إليهم فأنصتوا ، فقام وقال : الحمد لله الفعال لما يشاء لا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (٤)) وصلّى الله على محمّد في الأولين والآخرين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

أقول ـ وأنا علي بن موسى بن جعفر ـ إنّ أمير المؤمنين (عضّده الله بالسداد ، ووفّقه للرشاد) عرف من حقنا ما جهله غيره ، فوصل أرحاماً قطعت! وآمن نفوساً فزعت! بل أحياها وقد تلفت! وأغناها إذ افتقرت! مبتغياً رضا ربّ العالمين ، لا يريد جزاءً إلّامن عنده (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (٥)) و (لَايُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٦)).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٧٦ ، وعنه في الإرشاد ٢ : ٢٦١ ـ ٢٦٢ بلا إسناد.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣٠٥.

(٣) هدية الأحباب : ٢١٠.

(٤) غافر : ١٩.

(٥) آل عمران : ١٤٤.

(٦) التوبة : ١٢٠ ، ويوسف : ٩٠.

٢٩

وإنه جعل إليَّ عهده ، والإمرة الكبرى إن بقيتُ بعده! فمن حلّ عقدة أمر الله تعالى بشدها ، وفصم عروة أحبّ الله إيثاقها ؛ فقد أباح حريمه وأحل محرَّمه ، إذ كان بذلك زارياً على الإمام منتهكاً حرمة الإسلام! بذلك جرى السالف منهم فصبر على الفلتات ولم يعترض بعدها على الغرامات ، خوفاً على شتات الدين واضطراب حبل المسلمين ، ولقرب أمر الجاهلية ورصد المنافقين ، فرصة تُنتهز وبادرة تُبتدر! و (وَمَا أَدْري مَا يُفْعَل بِي وَلَا بِكُمْ (١)) ، (إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ يَقُصُّ الْحَقَ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (٢)).

فالخطبة إلى كونها إخطاراً بما يقع أقرب من كونها استبشاراً بما وقع ، واكتفى فيها الإمام من الثناء على الخليفة بأقل دعوة طفيفة ، دفعاً لحاضر الضرر أو مستحضر الشر.

بل نقل المفيد عن المدائني عن رجاله عن بعض من كان يختص بالرضا عليه‌السلام ممّن حضره اليوم قال : كنت في ذلك اليوم بين يديه مستبشراً بما جرى ، ورآني فأومأ إليَّ أن ادنُ مني فدنوت منه فقال لي حيث لا يسمعه غيري : لا تُشغل قلبك بهذا الأمر ولا تستبشر به ؛ فإنه شيء لا يتم (٣).

وكان المأمون قد استوزر أو استكتب ابن عم الصولي : عمرو بن مسعدة فأمره المأمون أن يستكتب من الرضا عليه‌السلام كتاباً في تقريظ المأمون ، قال : فأعلمته ذلك. فأطرق ملياً ثمّ قال : «يا عمرو ، إنّ من أخذه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لحقيق أن يعطى به» (٤) فلم يكتب له!

__________________

(١) الأحقاف : ٩.

(٢) الأنعام : ٥٧ ، والخبران في العيون : ١٤٦ ، الباب ٤٠ ، الحديث ١٩ و ١٧.

(٣) الإرشاد ٢ : ٢٦٣.

(٤) نثر الدر للآبي ١ : ٣٦١ ، ونحوه في العيون : ١٤٤ ، الباب ٤٠ ، الحديث ١١.

٣٠

كتاب العهد للرضا عليه‌السلام :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، هذا كتاب كتبه عبد الله بن هارون الرشيد أمير المؤمنين ، لعلي بن موسى بن جعفر وليّ عهده :

أما بعد ، فإنّ الله عزوجل اصطفى الإسلام ديناً واصطفى له من عباده رسلاً ، دالّين عليه وهادين إليه ، يبشّر أولهم بآخرهم ويصدّق تاليهم ماضيهم.

حتّى انتهت نبوة الله إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على فترة من الرسل ، ودروس من العلم ، وانقطاع من الوحي ، واقتراب من الساعة ، فختم الله به النبيين وجعله شاهداً لهم ومُهيمناً عليهم ، وأنزل عليه كتابه العزيز الذي (لَايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (١)) بما أحلّ وحرّم ، ووعد وأوعد ، وحذّر وأنذر ، ونهى عنه وأمر ، لتكون له الحجة البالغة على خلقه (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢)).

فبلّغ عن الله رسالته ، ودعا إلى سبيله بما أمره به من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ، ثمّ بالجهاد والغلظة ، حتّى قبضه الله إليه واختار له ما عنده.

فلمّا انقضت النبوة وختم الله بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الوحي والرسالة ، جعل قوام الدين ونظام أمر المسلمين بالخلافة ، وإتمامها وعزّها والقيام بحق الله تعالى فيها ، بالطاعة التي بها يُقام فرائض الله وحدوده ، وشرائع الإسلام وسننه ، ويجاهَد بها عدوّه!

فعلى خلفاء الله طاعته فيما استحفظهم واسترعاهم من دينه وعباده ، وعلى المسلمين طاعة خلفائهم ومعاونتهم على إقامة حق الله وعدله ، وأمن السبيل ،

__________________

(١) فصلت : ٤٢.

(٢) الأنفال : ٤٢.

٣١

وحقن الدماء ، وصلاح ذات البين وجمع الأُلفة! وفي خلاف ذلك اضطراب حبل المسلمين واختلالهم ، واختلاف ملتهم وقهر دينهم واستعلاء عدوّهم وتفرّق الكلمة وخسران الدنيا والآخرة!

فحق على من استخلفه الله في أرضه وائتمنه على خلقه : أن يُجهد لله نفسه ، ويؤثر ما فيه رضا الله وطاعته ، ويعتدّ لما الله مواقفه عليه ومسائله عنه! وأن يحكم بالحق ويعمل بالعدل فيما حمّله الله وقلّده ، فإنّ الله عزوجل يقول لنبيّه داود عليه‌السلام : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (١)) وقال الله عزوجل : (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٢)) وبلغنا : أن عمر بن الخطاب قال : لو ضاعت سخلة بشاطئ الفرات لتخوّفت أن يسألني الله عنها!

وأيم الله ؛ إنّ المسؤول عن خاصّة نفسه ، الموقوف على عمله فيما بين الله وبينه ، ليُعرض على أمر كبير وخطر عظيم! فكيف بالمسؤول عن رعاية الأُمة؟! وبالله الثقة وإليه المفزع والرغبة في التوفيق والعصمة والتسديد والهداية إلى ما فيه ثبوت الحجة ، والفوز من الله بالرضوان والرحمة.

وإنّ أَنظر الأُمة لنفسه وأنصحهم لله في دينه وعباده من خلائقه في أرضه : مَن عمل بطاعة الله وكتابه وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في مدة أيامه وبعدها ، وأجهد رأيه ونظره فيمن يولّيه عهده ويختاره لإمامة المسلمين ورعايتهم بعده ، وينصبه علماً لهم ومفزعاً لجمع الفتهم ولمّ شعثهم وحقن دمائهم ، والأمن بإذن الله من فُرقتهم

__________________

(١) ص : ٢٦.

(٢) الحجر : ٩٢ ـ ٩٣.

٣٢

وفساد ذات بينهم واختلافهم ، ودفع نزغ الشيطان وكيده عنهم (١) فإنّ الله عزوجل جعل العهد بعد الخلافة من تمام أمر الإسلام وكماله (٢) وعزّه وصلاح أهله. و (قد) ألهم خلفاءه من توكيده لمن يختارونه له من بعدهم ما عظمت به النعمة (٣) وشملت فيه العافية ، ونقض الله بذلك مكر أهل الشقاق والعداوة والسعي في الفرقة والتربّص للفتنة.

ولم يزل أمير المؤمنين منذ أفضت إليه الخلافة فاختبر بشاعة مذاقها! وثقل محملها وشدة مؤونتها! وما يجب على من تقلدها من ارتباط طاعة الله ، ومراقبته فيما حمّله منها ، فأنصب بدنه وأسهر عينه وأطال فكره ، فيما فيه عزّ الدين وقمع المشركين ، وصلاح الأُمة ونشر العدل ، وإقامة الكتاب والسنة ، ومنعه ذلك من الخفض والدّعة ـ ومهنأ العيش! علماً بما الله سائله عنه ، ومحبّة أن يلقى الله مناصحاً له في دينه وعباده ، ومختاراً لولاية عهده ورعاية الأُمة من بعده ـ أفضل من يقدر عليه في دينه وورعه وعلمه ، وأرجاهم للقيام في أمر الله وحقّه. مناجياً الله بالاستخارة في ذلك ومسألته إلهامه ما فيه رضاه وطاعته ، في آناء ليله ونهاره ، مُعملاً في طلبه والتماسه في أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس وعلي بن أبي طالب فكره ونظره ، مقتصراً فيمن علم حاله ومذهبه منهم على علمه ، وبالغاً في المسألة عمّن خفى عليه أمره ، جهده وطاقته ، حتّى استقصى أُمورهم معرفة وابتلى أخبارهم مشاهدة ، واستبرأ أحوالهم معاينة ، وكشف ما عندهم مُساءلة.

__________________

(١) كذا يصف المأمون الخلافة والعهد بها لما بعده ، وقد أوهم قبل هذا كأن الله ورسوله أهملا أمرها بعد النبيّ! ومع هذا يُتهم المأمون بالتشيع ، وهذا هو محور التشيع.

(٢) هل يشير بذلك إلى آية إكمال الدين وإتمام النعمة؟!

(٣) وهل يشير بهذا إلى آية إتمام النعمة؟!

٣٣

فكانت خيرته ـ بعد استخارته لله وإجهاده نفسه في قضاء حقه في بلاده وعباده من البيتين جميعاً ـ علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ؛ لما رأى من فضله البارع وعلمه النافع ، وورعه الظاهر وزهده الخالص وتخلّيه من الدنيا وتسلّمه من الناس! وقد استبان له ما لم تزل الأخبار عليه متواطئة ، والألسن عليه متّفقة ، والكلمة فيه جامعة ، ولِما لم يزل يعرفه به من الفضل يافعاً وناشئاً ، وحدثاً ومكتهلاً ، فعقد له بالعهد والخلافة من بعده ، واثقاً بخيرة الله في ذلك ، إذ علم الله أنّه فعله إيثاراً له وللدين ، ونظراً للإسلام والمسلمين ، و «طلباً للسلامة وثبات الحجة» والنجاة في اليوم الذي يقوم الناس فيه لربّ العالمين.

فدعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصّته ، وقوّاده وخدمه ، فبايعوا مسرعين مسرورين ، عالمين بإيثار أمير المؤمنين طاعة الله على الهوى في ولده وغيرهم ، ممن هو أشبك منه رحماً وأقرب قرابة.

وسمّاه «الرضا» إذ كان رضاً عند أمير المؤمنين!

فيا معاشر أهل بيت أمير المؤمنين ، ومَن بالمدينة المحروسة من قوّاده وجنده وعامة المسلمين ، بايِعوا لأمير المؤمنين وللرضا علي بن موسى من بعده ، على اسم الله وبركته وحسن قضائه لدينه وعباده ، بيعة مبسوطة لها أيديكم ، منشرحة لها صدوركم ، عالمين بما أراد بها أمير المؤمنين! وآثر طاعة الله والنظر لنفسه ولكم فيها ، شاكرين لله على ما ألهم أمير المؤمنين من قضاء حقه في رعايتكم ، وحرصه على رشدكم وصلاحكم ، راجين عائدة ذلك في : «جمع أُلفتكم وحقن دمائكم ، ولمّ شعثكم ، وسدّ ثغوركم ، وقوة دينكم ، ووقم عدوّكم ، واستقامة أُموركم» وسارعوا إلى طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين ، فإنه الأمن إن سارعتم إليه وحمدتم الله عليه وعرفتم الحظّ فيه ، إن شاء الله.

٣٤

وكتب بيده في يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومئتين.

فلمّا قدّمه للرضا عليه‌السلام وقرأه قَلبه فكتب على ظهره :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، الحمد لله الفعّال لما يشاء لا معقّب لحكمه ولا رادّ لقضائه : (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (١)) وصلّى الله على نبيه محمّد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين.

أقول ـ وأنا علي بن موسى بن جعفر ـ إنّ أمير المؤمنين (عضّده الله بالسداد ووفّقه للرشاد) عرف من حقنا ما جهله غيره ، فوصل أرحاماً قُطعت ، وأمن نفوساً فزعت ، بل أحياها وقد تلفت ، وأغناها إذ افتقرت ، مبتغياً رضا ربّ العالمين ، لا يريد جزاءً من غيره و (سَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (٢)) و (لَايُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٣)).

وإنّه جعل إليّ عهده ، والإمرة الكبرى إن بقيت بعده ، فمن حلّ عقدة أمر الله بشدها وفصم عروة أحبّ الله إيثاقها فقد أباح حريمه وأحلّ محرّمه! إذ كان بذلك زارياً على الإمام ، منتهكاً حرمة الإسلام. بذلك جرى السالف منهم فصبر على الفلتات ، ولم يعترض بعدها على الغرامات «خوفاً على شتات الدين واضطراب حبل المسلمين» ولقرب أمر الجاهلية ورصد فرصة تُنتهز وبائقة تُبتدر!

وقد جعلت لله على نفسي ـ أن استرعاني أمر المسلمين وقلّدني خلافته ـ العمل فيهم عامة وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصة ، بطاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن لا أسفك دماً حراماً ، ولا ابيح فرجاً ولا مالاً ، إلّاما سفكته حدوده وأباحته فرائضه ، وأن أتخيّر الكُفاة جهدي وطاقتي ، وجعلت بذلك على نفسي عهداً مؤكداً يسألني الله عنه ، فإنه عزوجل يقول : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ

__________________

(١) غافر : ١٩.

(٢) آل عمران : ١٤٤.

(٣) يوسف : ٩٠ ، والتوبة : ١٢٠.

٣٥

كَانَ مَسْئُولاً (١)) فإن أحدثت أو غيّرت أو بدّلت كنت مستحقاً للغِيَر متعرّضاً للنكال ؛ وأعوذ بالله من سخطه ، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته والحؤول بيني وبين معصيته في عافية لي وللمسلمين.

و «الجامعة» و «الجفر» (٢) يدلّان على ضدّ ذلك! و (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ (٣)) ، (إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (٤)) لكنني امتثلت أمر أمير المؤمنين (!) وآثرت رضاه! والله يعصمني وإياه! وأشهدت الله على نفسي بذلك ، وكفى بالله شهيداً.

وكتبت بخطي بحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ، والفضل بن سهل (وأبيه) سهل بن الفضل ، ويحيى بن أكثم ، وعبد الله بن طاهر ، وثمامة بن أشرس ، وبشر بن المعتمر ، وحمّاد بن النعمان ، في شهر رمضان سنة إحدى ومئتين.

وعلى الجانب الأيسر كتب الفضل بن سهل : رسم أمير المؤمنين أطال الله بقاءه : قراءة هذه الصحيفة التي هي صحيفة الميثاق بحرم سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين الروضة والمنبر على رؤوس الأشهاد ، بمرأى ومسمع من وجوه بني هاشم ، وسائر الأولياء والأجناد ... أوجب به أمير المؤمنين الحجة على جميع المسلمين ، ولتبطل الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين (؟!) (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ (٥)) وكتب الفضل بن سهل بأمر أمير المؤمنين بالتاريخ المذكور (٦).

__________________

(١) الإسراء : ٣٤.

(٢) الصحيفة الجامعة لعلي عليه‌السلام؟ والجفر الأبيض أو الأحمر الذي كان لديهم عليهم‌السلام!

(٣) الأحقاف : ٩.

(٤) الأنعام : ٥٧.

(٥) آل عمران : ١٧٩.

(٦) كشف الغمة ٣ : ٤٦٦ ـ ٤٧٤ وبهامشه مصادر أُخرى.

٣٦

نقله الإربلي وقال : حرفاً فحرفاً ، وهو بخط المأمون ، وفي ظهره بخط الإمام عليه‌السلام ، وصل به من مشهده الشريف (!) أحد قوّامه في سنة ستمئة وسبعين.

ونقله قبله ابن الجوزي (م ٥٩٧ ه‍) عن الكاتب هبة الله بن الفضل قال : رأيته بخطّ المأمون ، ابتاعه خالي يحيى بن صاعد بمئتي دينار! ليحمله إلى سيف الدولة صدقة بن منصور الحمداني ، وعليه خطوط الوزير المغربي وعبد الله الصولي (١).

واختصره سبطه وقال : ذكره عامة المؤرخين في تواريخهم (٢) هذا ولم نجد فيما بأيدينا من ذكره بنصه غير جده ابن الجوزي ، فهو أقدم مصدر وعنه أخذ من أخذ ، فهو قبل الإربلي بأكثر من سبعين عاماً ، ولم يعلم الإربلي به.

وزاد السبط قال : قرئ هذا العهد في جميع الآفاق ، وعند الكعبة ، وبين قبر رسول الله ومنبره (٣) ودعا له عامل المدينة عبد الجبار بن سعيد على منبر رسول الله ، دعا له بعد المأمون فقال : «اللهم وأصلح وليّ عهد المسلمين علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي عليهم‌السلام» ثمّ استشهد بشعر النابغة الذُبياني قال :

ستة آباء همُ ما همُ

أفضل من يشرب صوب الغمام (٤)

من نتائج البيعة في مكة :

في اليعقوبي : كان المأمون قد أرسل الحسن بن سهل أخا وزيره الفضل إلى العراق ، فصار إلى المدائن ، ووجّه حمدويه بن علي بن ماهان إلى مكة.

__________________

(١) المنتظم ١٠ : ٩٩ عام (٢٠١ ه‍).

(٢) تذكرة الخواص ٢ : ٤٧٤.

(٣) تذكرة الخواص : ٤٧٨.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٣٧٦ عن ابن عقدة الزيدي! وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤٥ ، الباب ٤٠ ، الحديث ١٤ عن كتاب الأوراق للصولي.

٣٧

وكان إبراهيم بن موسى بن جعفر العلوي قد ذهب إلى اليمن وتغلّب عليها ، فاستخلف حمدويه على مكة يزيدَ بن محمّد المخزومي وتوجه إلى إبراهيم في اليمن ، فحاربه إبراهيم بمن معه من اليمن في وقعات منكرة تأخذ من الفريقين ، ثمّ خرج إبراهيم بن موسى من اليمن يريد مكة.

وبلغ ذلك إلى يزيد بن محمّد المخزومي فخندق على نفسه في مكة ، وأرسل إلى سدنة الكعبة فأخذ منهم الذهب الذي كان بعث به المأمون من خراسان وضربه دنانير ودراهم ، واقترض قرضاً من الأعراب لينفقه.

وصار إبراهيم إلى مكة فواقفه يزيد في أصحابه ، وبعث إبراهيم بن موسى بعض أصحابه فدخل من الجبل ، فانهزم يزيد ولحقه بعضهم فقتله ، ودخل إبراهيم مكة فتغلّب عليها .. وأقام بها واستقامت له الأُمور وأخذ يدعو للمأمون!

ووجّه المأمون ببيعة الرضا عليه‌السلام إلى مكة مع عيسى بن يزيد الجلودي ومعه خلعة الخضرة لإبراهيم ، فخرج إبراهيم فتلقاه وبايع لأخيه الرضا ، ولبس الأخضر وأخذ بيعة الناس له بمكة.

وكان حمدويه بن علي بن ماهان لمّا خرج إبراهيم من اليمن إلى مكة ، استمال جماعة من أهل اليمن وخلع المأمون! فكتب المأمون إلى إبراهيم بن موسى بولايته على اليمن ، وأمر الجلودي بالخروج معه لمعونته في محاربة حمدويه.

وكان زيد بن موسى بن جعفر قد استمال معه جماعة من قيسية البصرة وتغلّب عليها ، ونهب دوراً وأموالاً كثيرة للناس ، فانصرف الجلودي إليه إلى البصرة وحاربه حتّى تغلّب عليه وأخذه وحمله إلى المأمون فأطلقه (للرضا عليه‌السلام).

وخرج إبراهيم إلى اليمن ، فاستقبله جماعة مع ابن حمدويه فحاربه إبراهيم فقتل من أصحابه خلقاً حتّى انهزم ابن حمدويه ، وصار إبراهيم إلى صنعاء ،

٣٨

فخرج حمدويه إليه فحاربه محاربة شديدة قتل فيها من أصحاب إبراهيم خلق عظيم وانهزم إبراهيم إلى مكة (١).

زيد بن موسى والرضا عليه‌السلام :

عقد الصدوق باباً لأخبار زيد بن موسى ، حدّث فيه عن علي بن أحمد النسابة قال : أُتي بزيد بن موسى إلى الحسن بن سهل بالعراق فحبسه ، ثمّ أحضره لقتله ، وجرّد السيّاف سيفه ، فقام الحجاج بن خيثمة إلى الحسن وقال له : أيها الأمير ؛ إن رأيت أن لا تعجل ، وتدعوني إليك فإن عندي نصيحة. فأشار إلى السيّاف فأمسك.

فلمّا دنا الحجاج من الحسن قال له : أيها الأمير ، هل أتاك بما تريد أن تفعله بزيد أمر من أمير المؤمنين؟! قال : لا ، قال : فعلامَ تقتل ابن عمّ أمير المؤمنين من غير إذنه وأمره واستطلاع رأيه فيه؟! إنّ الرشيد لما أمر خادمه مسرور الكبير بقتل جعفر بن يحيى البرمكي قال له : وإذا سألك جعفر عن ذنبه الذي تقتله به فقل له :

إنّما أقتلك بابن عمي أبي عبد الله بن الحسن الأفطس الذي قتلته من غير أمري! أيها الأمير ؛ أفتأمن أن تحدث حادثة بينك وبين أمير المؤمنين وقد قتلت هذا الرجل فيحتجّ عليك بمثل ما احتجّ به الرشيد على جعفر بن يحيى؟!

فقال الحسن للحجّاج : جزاك الله خيراً! ثمّ أمر بردّ زيد إلى محبسه ، فلم يزل فيه حتّى حُمل إلى المأمون (٢).

ونقل عن كتاب الصولي قال : لما جيء بزيد بن موسى أخي الرضا إلى المأمون ، وقد خرج بالبصرة وأحرق دور العباسيين حتّى سمي زيد النار!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٤٨ و ٤٤٩.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٣ ، الباب ٥٨ ، الحديث ٣.

٣٩

قال له المأمون : يا زيد ، خرجت بالبصرة وتركت أن تبدأ بدور أعدائنا من بني أُمية وآل زياد وعدي وباهلة وثقيف! وقصدت دور بني عمك!

وكان زيد مزّاحاً فقال له : يا أمير المؤمنين ؛ أخطأتُ من كل جهة! وإن عدتُ بدأتُ بهم!

فضحك المأمون. ثمّ بعث به إلى أخيه الرضا وقال له : وهبت جرمه لك! فلمّا جاءوا به إليه عنّفه ثمّ حلف أن لا يكلّمه ما عاش أبداً (١)!

ونقل الصدوق عن كتاب «الأوراق في الوزراء والكتاب» لمحمد بن يحيى الصولي بسنده قال : قال المأمون للرضا عليه‌السلام في أخيه زيد بن موسى : لئن خرج أخوك وفعل ما فعل لقد خرج من قبله زيد بن علي فقُتل! ولولا مكانك مني لقتلته! فليس ما أتاه بصغير!

فقال له الرضا عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين ، لا تقِس أخي زيداً إلى زيد بن علي! فإنه كان من علماء آل محمد ، غضب لله عزوجل فجاهد أعداءه حتى قُتل في سبيله!

ولقد حدّثني أبي أنه سمع أباه يقول : رحم الله عمّي زيداً ، إنه دعا إلى الرضى من آل محمد ، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه! ولقد استشارني في خروجه فقلت له : يا عم ، إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنَك! فلما ولّى قال : ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه!

فقال المأمون : يا أبا الحسن ؛ أليس قد جاء في من ادّعى الإمامة بغير حقها ما جاء!

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ زيد بن علي لم يك يدّعي ما ليس له بحق ، وإنه كان أتقى لله من ذلك ، إنه قال أدعوكم إلى الرضى من آل محمد عليهم‌السلام. وإنما جاء ما جاء

__________________

(١) المصدر ٢ : ٢٣٣ ، الحديث ٢.

٤٠