موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

قال الرضا عليه‌السلام : الآن جئت بالنصَفة يا نصراني ، ألا تقبل مني العدل المقدَّم عند المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام؟ قال الجاثليق : ومَن هذا العدل؟ سمّه لي. قال : ما تقول في يوحنا؟ قال : بخ بخ ذكرت أحبّ الناس إلى المسيح! قال : فأقسمت عليك : هل نطق الإنجيل أن يوحنّا قال : إنّما المسيح أخبرني بدين محمّد العربي وبشّرني به أنّه يكون من بعده ، فبشّرت به الحواريين ، فآمنوا به؟

قال الجاثليق : قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشّر بنبوة رجل وبأهل بيته ووصيّه ، ولم يخصّ متى يكون ذلك ولم يسمّ لنا القوم فنعرفهم.

قال الرضا عليه‌السلام : فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمّد وأهل بيته وأُمته ، أتؤمن به؟ قال : سديداً .. ثمّ قرأ الرضا عليه‌السلام السفر الثالث من الإنجيل حتّى وصل إلى ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ قال الرضا عليه‌السلام : يا جاثليق سل عمّا بدا لك. قال الجاثليق : أخبرني عن حواريي عيسى بن مريم كَم كان عدّتهم؟ وعن علماء الإنجيل كم كانوا؟

قال الرضا عليه‌السلام : على الخبير سقطت ، أما الحواريون فكانوا اثني عشر رجلاً وكان أعلمهم وأفضلهم لوقا وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال .. ثمّ قال له : يا نصراني ، والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما ننقم على عيساكم شيئاً إلّاضعفه وقلة صلاته وصيامه!

قال الجاثليق : إنّ عيسى ما أفطر يوماً! ولا نام بليل قط ، فما زال قائم الليل صائم الدهر!

فقال الرضا عليه‌السلام : فلمن كان يصلي ويصوم؟! فخرس الجاثليق وانقطع!

قال الرضا عليه‌السلام : فلمّاذا تنكر أنّ عيسى كان يُحيى الموتى بإذن الله؟

قال الجاثليق : إنّما أنكرت ذلك لأنّ من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فهو ربّ يستحق أن يُعبد!

١٠١

قال الرضا عليه‌السلام : فإنّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى : مشى على الماء وأحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فلم تتخذه أُمّته رباً ولم يعبده أحد من دون الله عزوجل. ولقد صنع حزقيل النبيّ مثل ما صنع عيسى بن مريم فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل بعد موتهم بستين سنة!

وإنّ قوماً من بني إسرائيل وهم أُلوف خرجوا من بلادهم حذر الموت من الطاعون ، فأماتهم الله دفعة واحدة ، فحظر أهل القرية عليهم حضيرة حتّى نخرت عظامهم وصاروا رميماً ؛ ثمّ مرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب من كثرة عظامهم البالية ، فأوحى الله إليه : أتحب أن احييهم لك فتنذرهم؟ قال : نعم يا رب ، فأوحى الله إليه : أن نادهم ، فقال : أيتها العظام البالية قومي بإذن الله عزوجل! فقاموا أحياءً ينفضون التراب عن رؤوسهم!

ثمّ إبراهيم خليل الرحمن حين أخذ الطير فقطّعهن قِطَعاً ثمّ وضع على كل جبل منهن جزءاً ثمّ ناداهن فأقبلن إليه سعياً.

ثمّ موسى بن عمران وأصحابه السبعون الذين اختارهم ، صاروا معه إلى الجبل فقالوا له : إنك قد رأيت الله فأرناه كما رأيته! فقال لهم : إنّي لم أره! فقالوا : إنّا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً (١)) فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم! وبقي موسى وحيداً ، فقال : يا رب ، اخترت سبعين رجلاً من بني إسرائيل فجئت بهم ، وأرجع وحدي ، فكيف يصدّقني قومي بما أُخبرهم به؟ (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا (٢)) فأحياهم الله من بعد موتهم. وكل شيء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه ؛ لأنّ التوراة والإنجيل

__________________

(١) البقرة : ٥٥.

(٢) الأعراف : ١٥٥.

١٠٢

والزبور والفرقان قد نطقت به ، فإن كان كل من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يُتّخذ رباً من دون الله فاتّخذ هؤلاء كلهم أرباباً؟! ما تقول؟!

ولقد أبرأ محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأكمه والأبرص والمجانين ، وكلّمه البهائم والطير والجن والشياطين ، ولم نتخذه رباً من دون الله عزوجل ، فمتى اتخذتم عيسى رباً جاز لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل رباً ، لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى بن مريم من إحياء الموتى وغيره ...

ثمّ قال للجاثليق : يا نصراني ، كيف علمك بكتاب شعيا؟ قال : أعرفه حرفاً حرفاً. فالتفت الرضا عليه‌السلام إليه وإلى رأس الجالوت اليهودي وقال لهما : أتعرفان هذا من كلام اشعيا : «يا قوم ، إني رأيت صورة راكب الحمار ـ عيسى ـ لابساً جلابيب النور ، ورأيت راكب البعير ـ العربي محمّداً ـ ضوءاً مثل ضوء القمر» فقال : قد قال ذلك اشعيا.

قال الرضا عليه‌السلام : يا نصراني ، هل تعرف في الإنجيل قول عيسى : «إني ذاهب إلى ربكم وربي ، والبارقليطا جاء ـ يجيئ ـ هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له ، وهو الذي يفسّر لكم كل شيء ، وهو الذي يبدي فضائح الأُمم ويكسر عمود الكفر» ثمّ قال : يا جاثليق ، أتجد هذا ثابتاً في الإنجيل؟!

قال الجاثليق : ما ذكرت شيئاً من الإنجيل إلّاونحن مقرّون به.

قال الرضا عليه‌السلام : يا جاثليق ، ألا تخبرني حين افتقدتم الإنجيل الأول عند مَن وجدتموه؟ ومن وضع لكم هذا الانجيل؟

فقال : ما افتقدنا الإنجيل الأول إلّايوماً واحداً حتّى وجدناه غضّاً طرياً! أخرجه إلينا يوحنّا ومتّى.

فقال له الرضا عليه‌السلام : ما أقل معرفتك بسنن الإنجيل وعلمائه! فإن كان هذا كما تزعم فلِم اختلفتم في الإنجيل؟! إنّما وقع الاختلاف في هذا الإنجيل

١٠٣

الذي في أياديكم اليوم ، فلو كان على العهد الأول لم تختلفوا فيه. ولكني مفيدك علم ذلك :

اعلم أنّه لما افتُقد الإنجيل الأول اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم : قُتل عيسى بن مريم! وافتقدنا الإنجيل ، وأنتم العلماء فما عندكم؟ فقال لهم : ألوقا ومرقابوس : إنّ الإنجيل في صدورنا ونحن نخرجه لكم سِفراً سِفراً في كل يوم أحد ، فلا تحزنوا عليه ولا تخلو الكنائس ، فإنا سنتلوه عليكم في كل يوم أحد سِفراً سِفراً حتّى نجمعه كله. وقعد ألوقا ومرقابوس ويوحنا ومتّى فوضعوا لكم هذا الإنجيل بعد ما افتقدتم الإنجيل الأول ، وإنّما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ التلاميذ الأولين! أعلمت ذلك؟!

قال الجاثليق : أما هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن ، وقد بان لي من فضل علمك بالانجيل وسمعت أشياء مما علمتَه شهد قلبي أنها حق ، فاستزدت كثيراً من الفهم.

قال الرضا عليه‌السلام : يا جاثليق ، إنك تقول : إنّ من شهادة عيسى على نفسه قوله : «حقاً أقول لكم يا معشر الحواريين : إنّه لا يصعد إلى السماء إلّامن نزل منها ، إلّاراكب البعير خاتم الأنبياء فإنه يصعد إلى السماء وينزل» فما تقول في هذا القول؟ قال الجاثليق : هذا قول عيسى لا ننكره!

ثمّ قال الرضا للجاثليق : عليك بحق الابن وأُمه ، هل تعلم أن متّى قال في نسبة عيسى بن مريم : أن المسيح هو ابن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهوذا ابن خضرون. فقال مرقابوس : إنّه كلمة الله أحلّها في جسد الآدمي فصارت إنساناً. وقال ألوقا : إنّ عيسى بن مريم وأُمه كانا إنسانين من لحم ودم فدخل فيها الروح القدس! فما تقول في شهادة ألوقا ومرقابوس ومتّى على عيسى وما نسبوه

١٠٤

إليه؟ قال الجاثليق : إنّهم كذبوا على عيسى! بعدما كان قال : إنّهم علماء الإنجيل وكل ما شهدوا به فهو حق!

فالتفت الرضا إلى المأمون ومن حضره من أهل بيته وغيرهم وقال لهم : يا قوم أليس قد زكّاهم وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حق؟! فقال الجاثليق الآن : يا عالِم المسلمين! أُحبّ أن تعفيني من أمر هؤلاء! فقال له الرضا عليه‌السلام : فإنا قد فعلنا ذلك يا نصراني ، فسل عمّا بدا لك.

قال الجاثليق : ليسألْك غيري ، فلا وحق المسيح ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك (١)!

مناظرة الرضا ورأس الجالوت :

ثمّ التفت الرضا عليه‌السلام إلى رأس الجالوت وقال له : تسألني أو أسألك؟ قال : بل أسألك ، ولا أقبل منك حجة إلّامن التوراة (٢) أو من زبور داود أو بما في صحف إبراهيم وموسى.

قال الرضا عليه‌السلام : لا تقبل من حجة إلّابما تنطق به التوراة على لسان موسى بن عمران (٣) والزبور على لسان داود.

فقال رأس الجالوت : فمن أين تثبت نبوة محمّد؟ فقال الرضا عليه‌السلام : شهد بنبوته موسى بن عمران (٤) وداود خليفة الله عزوجل في الأرض. فقال الجالوت : ثبِّت قول موسى بن عمران.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٥٦ ـ ١٦٤ بتصرف يسير.

(٢ ـ ٤) جاء هنا في المواضع زيادة : عيسى والانجيل ، وهي من الخلط في الرواية ، فاليهودي لا يقبل الإنجيل!

١٠٥

فقال الرضا عليه‌السلام : يا يهودي ، هل تعلم أن موسى أوصى بني إسرائيل فقال لهم : «إنّه سيأتيكم نبيّ من إخوانكم ، فبه فصدِّقوا ومنه فاسمعوا» فهل تعلم أن لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل ، إن كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل والسبب الذي بينهما من قِبل إبراهيم عليه‌السلام؟ فقال الجالوت : هذا قول موسى لاندفعه.

فقال له الرضا عليه‌السلام : هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبيّ غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : لا ، قال : أو ليس قد صحّ هذا عندكم؟ قال : نعم ولكنّي أُحبّ أن تصححه لي من التوراة.

فقال الرضا عليه‌السلام : فهل تنكر أنّ التوراة تقول لكم : «جاء النور من قبل طور سيناء ، وأضاء لنا من جبل ساعير ، واستعلن ـ ويستعلن ـ علينا من جبل فاران» قال الجالوت : أعرف هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها!

فقال الرضا عليه‌السلام : أنا اخبرك به : أما قوله : «جاء النور من قبل طور سيناء» فذلك وحي الله الذي أنزله على موسى على جبل طور سيناء. وأما قوله : «وأضاء لنا من جبل ساعير» فهو الجبل الذي أوحى الله إلى عيسى عليه ، وأما قوله : «واستعلن لنا من جبل فاران» فذلك من جبال مكة .. (١).

ثمّ قال : وقال شعيا النبي كما في التوراة : «رأيت راكبَين أضاء لهما الأرض ، أحدهما على حمار والآخر على جمل» فمن راكب الحمار؟ ومن راكب الجمل يا رأس الجالوت؟ قال : لا أعرفهما فخبّرني بهما. قال : راكب الحمار عيسى وراكب الجمل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ قال : وحيقوق النبيّ قال كما في كتابكم : «جاء الله تعالى بالبيان من جبل فاران ، وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأُمته ، يحمل خيله في البحر

__________________

(١) يقال : هو اسم لجبل حِراء : جبل النور.

١٠٦

كما يحمل في البر ، يأتينا بكتاب جديد ، بعد خراب بيت المقدس» أتعرف هذا وتؤمن به يا رأس الجالوت؟ قال : قد قال ذلك حيقوق النبي ولا ننكر قوله!

قال الرضا عليه‌السلام : وقد قال داود في زبوره وأنت تقرأه : «اللهم ابعث مقيم السنّة بعد الفترة» فهل تعرف نبياً أقام السنة بعد الفترة غير محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال رأس الجالوت : هذا قول داود نعرفه ولا ننكره (١).

فقال له الرضا عليه‌السلام : يا رأس الجالوت ؛ أسألك عن نبيك موسى بن عمران عليه‌السلام؟ قال : سل.

قال : ما الحجة على أنّ موسى ثبتت نبوته؟ قال اليهودي : إنّه جاء بما لم يجئ به أحد (المعجزة) قال له : مثل ماذا؟ قال : مثل فلْق البحر ، وقلْبِه العصا حيّة تسعى ، وضرْبه الحجر فانفجرت منه العيون ، وإخراجه يده بيضاء للناظرين ، ولا يقدر الخلق على مثلها.

قال له الرضا عليه‌السلام : صدقت في أنّه كانت حجّته على نبوته أنّه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله (المعجزة) ولكن أليس كل من ادّعى أنّه نبيّ ثمّ جاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟

قال : لا يجب علينا الإقرار بنبوة من ادعاها حتّى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء به عيسى .. فمتى ما جاءوا على نبوتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ، ولو جاؤوا بما لم يجئ به موسى أو كان على غير ما جاء به موسى وجب تصديقهم.

قال الرضا : يا رأس الجالوت ؛ فما يمنعك من الإقرار بعيسى بن مريم

__________________

(١) جاء هنا في الخبر : لكنه عنى به عيسى! ثمّ نقل عن الرضا قولاً عن الانجيل ، وهذا أيضاً من خلط الراوي ، فاليهودي لا يقول بهما.

١٠٧

وقد كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من الطين كهيئة الطير ثمّ ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله تعالى؟ قال : يقال فعل ذلك ولم نشهده!

قال الرضا : أرأيت ما جاء به موسى من الآيات وشاهدته؟ أليس إنّما جاءت الأخبار من ثقات أصحاب موسى أنّه فعل ذلك؟ قال : بلى ، قال : فكذلك أيضاً أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم عليه‌السلام ، فكيف صدّقتم بموسى ولم تصدّقوا بعيسى؟ وكذلك أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمر كل نبيّ بعثه الله.

ثمّ قال : ومن آيات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه كان يتيماً فقيراً راعياً أجيراً (كذا) لم يتعلّم كتاباً ولم يختلف إلى معلّم ، ثمّ جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء وأخبارهم وأخبار من مضى .. ثمّ كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم. وجاء بآيات كثيرة لا تُحصى.

قال الجالوت : لم يصح عندنا خبر عيسى ولا خبر محمّد ، ولا يجوز لنا أن نقرّ لهما بما لا يصح!

قال الرضا عليه‌السلام : فالشاهد الذي شهد لعيسى ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله شاهد زور؟! فلم يُحر جواباً (١).

مناظرة الرضا مع الهِربد الأكبر وعمران الصابي :

ثمّ دعا الرضا عليه‌السلام بالهِربد الأكبر وقال له : أخبرني عن زردُشت الذي تزعم أنّه نبيّ ما حجتك لنبوته؟

قال : إنّه أتى بما لم يأتنا أحد بمثله (المعجزة) ولم نشهده ولكن الأخبار من أسلافنا وردت علينا (بذلك).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٦٤ ـ ١٦٧.

١٠٨

قال : أفليس إنّما أتتكم الأخبار فاتبعتموه؟ قال : بلى. قال : فكذلك سائر الأُمم السالفة أتتهم الأخبار بما أتى به النبيون وأتى به موسى وعيسى ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما عذركم في ترك الإقرار لهم؟ إذ كنتم إنّما أقررتم بزردُشت من قِبل الأخبار المتواترة بأنه جاء بما لم يجئ به غيره (المعجزة) فانقطع الهربد مكانه.

ثمّ التفت الرضا عليه‌السلام إلى الحاضرين وقال لهم : يا قوم ، إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام وأراد أن يسأل ، فليسأل غير محتشِم.

فقام إليه عمران الصابي (متكلم الصابئة) وقال : يا عالِم الناس! لولا أنك دعوت إلى مسألتك لم أَقدم عليك بالمسائل ، فلقد طفت الكوفة والبصرة والجزيرة والشام ولقيت بها المتكلمين ، فلم أقع على أحد يثبت لي واحداً ليس غيره ، قائماً بوحدانيته! أفتأذن لي أن أسألك؟

فقال الرضا عليه‌السلام : إن كان في الجماعة عمران الصابئ فأنت هو! قال : نعم أنا هو! فقال له : سل يا عمران ، وعليك بالنصَفة ، وإياك والخطل والجور!

فقال : يا سيدي والله ما اريد إلّاأن تثبت لي شيئاً أتعلّق به ولا أجوزه. وازدحم الحاضرون وانضمّ بعضهم إلى بعض!

وقال عمران : أخبرني عن الكائن الأول وعمّا خلق.

فقال الرضا عليه‌السلام : أما الواحد فلم يزل واحداً ، كائناً ، لا شيء معه ، بلا حدود ولا أعراض ، ولا يزال كذلك. ثمّ خلق خلقاً مبتدَعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة ، لا في شيء أقامه ، ولا في شيء حدّه ، ولا على شيء حذاه ومثّله له ، فجعل الخلق من بعد ذلك صفوة وغير صفوة ، واختلافاً وائتلافاً ، وألواناً ، وذوقاً وطمعاً. لا لحاجة كانت منه إلى ذلك ، ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلّابه ، ولا أبدى لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصاناً.

١٠٩

يا عمران ؛ واعلم أنّه لو كان خلق ما خلق لحاجة ؛ لم يخلق إلّامن يستعين به على حاجته ، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق ؛ لأنّ الأعوان كلما كثروا كان صاحبهم أقوى. والحاجة ـ يا عمران ـ لا يسعها ، لأنه كان لم يحدث من الخلق شيئاً إلّاحدثت فيه حاجة أُخرى. ولذلك أقول : لم يخلق الخلق لحاجة. ولكن بالخلق نقل حوائج بعضهم إلى بعض ، وفضّل بعضهم على بعض ، بلا حاجة منه إلى مَن فضّل ، ولا نقمة منه على من أذلّ. فلهذا خلق.

فقال عمران : يا سيدي ، فأخبرني بأيّ شيء علِم ما علِم؟ أبضمير أم بغير ذلك؟

قال الرضا عليه‌السلام : أرأيت إذا علم بضمير ، هل تجد بُدّاً من أن تجعل لذلك الضمير حداً تنتهى المعرفة إليه؟

قال عمران : لابدّ من ذلك. قال الرضا عليه‌السلام : فما ذلك الضمير؟! فانقطع ولم يَحر جواباً. فقال الرضا عليه‌السلام : إن سألتك عن الضمير نفسه تعرّفه بضمير آخر ؛ فإن قلت : نعم ، أفسدت عليك دعواك وقولك.

يا عمران ؛ أليس ينبغي أن تعلم أنّ الواحد لا يوصف بضمير ، ولا يقال له أكثر من : فعل وعمل وصنع ، ولا يتوهم فيه تجزية (أو تجربة) ومذاهب كمذاهب المخلوقين وتجزيتهم (أو : تجربتهم) فاعقل ذلك ، وما علمته صواباً فابن عليه.

قال عمران : يا سيدي ، ألا تخبرني عن حدود خلقه كيف هي؟ وما معانيها؟ وعلى كم نوع يكون؟

قال : اعلم أنّ حدود خلقه على ستة أنواع : ملموس وموزون ومنظور إليه ، وما لا ذوق له وهو الروح! ومنها : ما هو منظور إليه وليس له وزن ولا لمس ولا حس ولا لون ولا ذوق ، والتقدير ، والأعراض ، والصور ، والطول والعرض. ومنها : العمل والحركات التي تصنع الأشياء وتعملها وتغيّرها من حال إلى حال وتزيدها وتنقصها.

١١٠

فأمّا الأعمال والحركات فإنها لا وقت لها أكثر من قدر ما تحتاج إليه ، فإذا فُرغ من الشيء انطلق بالحركة وبقي الأثر ، ويجرى مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره.

قال عمران : يا سيدي ؛ ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لا شيء غيره ولا شيء معه ، أليس قد تغيّر بخلقه الخلق؟

قال الرضا عليه‌السلام : (بل هو) قديم لم يتغيّر بخلقه الخلق ، ولكن الخلق يتغيّر بتغييره. قال عمران : فبأيّ شيء عرفناه؟ قال : بغيره. قال : أي شيء؟ قال الرضا : اسمه وصفته ومشيّته وما أشبه ذلك ، وكل ذلك محدَث مخلوق مدبَّر. قال عمران : يا سيدي ، فأي شيء هو؟ قال : هو «نور» بمعنى أنّه «هاد» خلقه من أهل السماوات وأهل الأرض. وليس لك عليَّ أكثر من توحيدي إياه!

قال عمران : يا سيدي ، أليس قد كان قبل الخلق ساكتاً لا ينطق ثم نطق!

قال الرضا عليه‌السلام : لا يكون السكون إلّاعن نطق قبله ، والمثَل في ذلك : أنّه لا يقال للسراج هو ساكت لا ينطق ....

قال عمران : يا سيدي ، فإنّ الذي كان عندي : أن الكائن قد تغيّر في فعله عن حاله بخلقه الخلق.

قال الرضا عليه‌السلام : يا عمران ؛ هل تجد الحرارة تحرق نفسها؟ أو هل رأيت بصيراً قط رأى بصره؟

قال عمران : لم أرَ هذا يا سيدي ، إلّاأن تخبرني : أهو في الخلق أم الخلق فيه؟

قال الرضا عليه‌السلام : يا عمران ؛ (إنّ الله) أجل عن ذلك ، ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه تعالى عن ذلك ...

١١١

أخبرني عن المرآة أنت فيها أم هي فيك؟ فإن كان ليس واحد منكما في صاحبه ، فبأي شيء استدللت بها على نفسك يا عمران؟ قال : بضوء بيني وبينها. قال الرضا : هل ترى من ذلك الضوء في المرآة أكثر مما تراه في عينك؟ قال : نعم. قال الرضا : فأرناه. فلم يَحر جواباً. قال : فلا أرى النور إلّاوقد دلك ودل المرآة على أنفسكما ، من غير أن يكون في واحد منكما. ولهذا أمثال كثيرة غير هذا لا يجد الجاهل فيها مقالاً ، ولله المثل الأعلى.

ثمّ التفت الرضا عليه‌السلام إلى المأمون وقال : قد حضرت الصلاة. فقال عمران : يا سيدي لا تقطع عليَّ مسألتي فقد رقّ قلبي! قال عليه‌السلام : نصلي ونعود. ثمّ نهض عليه‌السلام ونهض المأمون ، ودخل الرضا. وبقي عمه محمّد بن جعفر فصلّى بالناس. وصلّى الرضا داخلاً ثمّ خرج فعاد إلى مجلسه ودعا بعمران وقال له : سل.

فقال عمران : يا سيدي ، ألا تخبرني عن الله عزوجل هو يوحَّد بوصف أو يوحَّد بحقيقة؟!

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ الله المبدئ الواحد الكائن الأول ، لم يزل واحداً لا شيء معه ، وفرداً لا ثاني معه ، لا معلوماً ولا مجهولاً ولا محكماً ولا متشابهاً ولا مذكوراً ولا منسياً ، ولا شيئاً يقع عليه اسم شيء من الأشياء غيره ، ولا من وقت كان ، ولا إلى وقت يكون ، ولا بشيء قام ولا إلى شيء يقوم ، ولا إلى شيء أسند ولا في شيء استكن وذلك كلّه قبل خلقه الخلق إذ لا شيء غيره ، وما أوقعت عليه (من صفة) فهي صفات محدثة .. واعلم أنّ الإبداع والمشية والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة .. والله عزوجل تدرك معرفته بالأسماء والصفات ، لا بالتحديد بالطول والعرض والقلة والكثرة واللون والوزن وما أشبه ذلك ، ولا يحُلّ بالله تعالى وتقدس شيء من ذلك .. ولكن يُدل على الله عزوجل بصفاته ويُدرك بأسمائه ، ويُستدلّ عليه بخلقه (وهو حق) لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين

١١٢

ولا استماع اذن ولا لمس كف ولا إحاطة بقلب. ولو كانت صفاته لا تدل عليه وأسماؤه لا تدعو إليه ، والخلق لا تُدركه بمعناه ، لكانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه ، ولو كان ذلك كذلك لكان المعبود الموحَّد غير الله ؛ لأنّ صفاته وأسماءه غيره ، أفهمت يا عمران؟ قال : نعم يا سيدي زدني.

قال عليه‌السلام : إنّما اختلف الناس في هذا الباب حتّى تاهوا وتحيّروا وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظلمة ، في وصفهم الله تعالى بصفة أنفسهم ، فازدادوا بعداً عن الحق ، ولو وصفوا الله بصفاته ووصفوا المخلوقين بصفاتهم لقالوا بالفهم واليقين ولما اختلفوا .. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

قال عمران : يا سيدي ، أشهد أنّه كما وصفت ، ولكن بقيت لي مسألة. قال : سل عما أردت.

قال : أسألك عن الحكيم في أي شيء هو؟ وهل يحيط به شيء؟ وهل يتحول من شيء إلى شيء؟

فقال الرضا عليه‌السلام : يا عمران ، اعقل ما سألت عنه ، فإنه من أغمض ما يرد على الخلق في مسائلهم ، وليس يفهمه المتفاوت عقله العازب حلمه ، ولا يعجز عن فهمه أُولو العقل المنصفون.

إنّه لو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول : إنّه يتحول إلى ما خلق لحاجته إلى ذلك ، ولكنّه لم يخلق شيئاً لحاجة إلى ذلك. ولم يزل ثابتاً لا في شيء ولا على شيء .. وليس يدخل في شيء ولا يخرج منه ، ولا يؤوده حفظه ولا يعجز عن إمساكه ، ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك إلّاالله عزوجل ومن أطلعه عليه من رسله وأهل سره والمستحفظين لأمره وخزّانه القائمين بشريعته. وإنّما أمره كلمح البصر أو هو أقرب ، إذا شاء شيئاً فإنما يقول له : كن فيكون بمشيّته وإرادته. وليس بشيء أقرب إليه من شيء ولا شيء أبعد منه من شيء آخر ، أفهمت يا عمران!

١١٣

قال : نعم ياسيدي ، قد فهمت ، وأنا أشهد أنّ الله تعالى على ماوصفت ووجدت ، وأشهد أنّ محمّداً عبده المبعوث بالهدى ودين الحق. فأسلمَ ثمّ توجّه إلى القبلة وخرّ ساجداً لله .. وكان جَدِلاً لم يقطعه عن حجته أحد منهم قط ، فلمّا رأى المتكلمون ذلك لم يدنُ أحد منهم ولم يسأل. فنهض المأمون والرضا عليه‌السلام فدخلا ، وانصرف الناس.

قال الراوي الحسن بن محمّد النوفلي : فلمّا انصرفت إلى منزل الرضا عليه‌السلام قال لغلامه : يا غلام ، صِر إلى عمران الصابي فأتني به. وكان قد ذهب إلى بعض إخواننا من «الشيعة» فقلت له : جعلت فداك ، أنا أعرف موضعه عند بعض إخواننا من «الشيعة» قال : فلا بأس ، قرّبوا إليه دابة.

قال النوفَلي : فصرت إلى عمران فأتيته به ، فرحّب به ودعا بكِسوة فخلعها عليه ، ودعا بعشرة آلاف درهم فوصله بها ، ثمّ دعا بالعشاء فأجلسني عن يمينه وأجلس عمران عن يساره ، حتّى إذا فرغنا قال لعمران : انصرف مصاحَباً (بالسلامة) وحمله وقال له : بكّر علينا نطعمك طعام المدينة.

فلمّا علم المأمون بصلة الرضا عليه‌السلام لعمران الصابي بعشرة آلاف درهم ، وصله المأمون بمثله! وأعطاه الفضل بن سهل مالاً وحمله!

فكان عمران بعد ذلك يجتمع إليه المتكلمون من أصحاب المقالات فيبطل أمرهم حتّى اجتنبوه!

قال النوفلي : وبعث إليّ محمّد بن جعفر العلوي (عمّ الرضا) فأتيته فقال لي : يا نوفلي! أما رأيت ما جاء به صاحبك (الرضا) لا والله ما ظننت أنّ علي بن موسى خاض في شيء من هذا قط ، ولا عرفناه أنّه كان يتكلم بالمدينة ، أو يجتمع إليه أصحاب الكلام! فإني أخاف عليه أن يحسده عليه هذا الرجل (المأمون) فيسمّه أو يفعل به بليّة! فأشِر عليه بالإمساك عن هذه الأشياء! وقل له : إنّ عمّك قد كره هذا الباب ، وأحبّ أن تمسك عن هذه الأشياء ، لخصال شتى!

١١٤

قال النوفلي : فقلت له : ما أراد الرجل (المأمون) إلّاامتحانه ليعلم هل عنده شيء من علوم آبائه؟

قال : ولما انصرفت إلى منزل الرضا عليه‌السلام أخبرته بما كان من عمّه ، فتبسم وقال : حفظ الله عمّي ما أعرفَني لم كره ذلك (١).

الرضا ، وسليمان المرْوزي ، والبَداء :

مرّ الخبر آنفاً عن النوفَلي الهاشمي : أنّ المأمون إنّما أراد امتحان الرضا عليه‌السلام ليعلم هل عنده شيء من علوم آبائه عليهم‌السلام ، وحديث محمّد بن جعفر العلوي للنوفَلي : يا أبا محمّد ، إني أخاف أن يحسده هذا الرجل (المأمون) فيسمّه أو يفعل به بلية! وعاد النوفَلي بالنقل عن المأمون أنّه قال لسليمان المروزي متكلم أهل خراسان : إنّما وجّهت إليك لمعرفتي بقوّتك ، وليس مرادي إلّاأن تقطع (الرضا) عن حجة واحدة فقط! فقال سليمان : (إذن) يا أمير المؤمنين! اجمع بيني وبينه وخلّني والذمّ!

قال : ثمّ وجّه المأمون إلى الرضا عليه‌السلام يقول : إنّه قدم إلينا رجل من أهل مرو ، وهو واحد أهل خراسان من أصحاب الكلام ، فإن خفّ عليك أن تتجشّم المصير إلينا ؛ فعلت.

قال : وكان معنا عمران الصابئ (المسلم) فقال لنا الرضا : تقدّموني ، ونهض هو للوضوء ، فصرنا مع ياسر خادم المأمون إلى بابه فأخذ ياسر بيدي وأدخلني على المأمون. فلمّا سلّمت عليه قال لي : أين أخي أبو الحسن أبقاه الله تعالى؟! قلت له : خلّفته يلبس ثيابه وأمرنا أن نتقدمه. قال : وبقي عمران الصابي على

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٦٨ ـ ١٧٠ بتصرف يسير من تقديم وتأخير.

١١٥

الباب ، فقلت للمأمون : إنّ مولاك عمران الصابي الذي أسلم على يدك كان معي ، وهو على الباب. قال : فليدخل. فدخل فرحّب به المأمون ثمّ قال له : يا عمران ، هذا سليمان المروزي متكلم أهل خراسان! فقال عمران : يا أمير المؤمنين ؛ إنّه يزعم أنّه واحد خراسان في النظر ويُنكر «البداء»!

فيظهر من الخبر أنّ عمران كان قد عرف البداء ، وأنّ المأمون أيضاً كان قد عرفه فقال لعمران : فلم لا تناظرون سليمان فيه؟ وهنا دخل الرضا عليه‌السلام فسألهم : في أي شيء كنتم؟ فقال له عمران : يابن رسول الله هذا سليمان المروزي. وابتدر سليمان فقال لعمران : أترضى بقول أبي الحسن في البَداء؟! فقال عمران : قد رضيت بقول أبي الحسن في البداء على أن يأتيني بحجة أحتج بها على نظرائي من أهل النظر!

وقال المأمون : يا أبا الحسن ، ما تقول في ما تشاجرا فيه؟ فالتفت الرضا إلى سليمان وقال له :

يا سليمان ، وما أنكرت من البداء والله عزوجل يقول : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِامْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ (١)) ويقول عزوجل : (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ (٢))؟ فقال سليمان : فهل رويت فيه عن آبائك شيئاً؟ قال : نعم.

رويت عن أبي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ لله عزوجل علمين : علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلّاهو ، من ذلك يكون البَداء ، وعلماً يعلّمه ملائكته ورسله ، فالعلماء من أهل بيت نبينا يعلمونه».

__________________

(١) التوبة : ١٠٦.

(٢) الفاطر : ١١.

١١٦

ولقد أخبرني أبي عن آبائه عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّ الله عزوجل أوحى إلى نبي من أنبيائه : أن أخبر الملك فلان : أني متوفيه في كذا. فأتاه ذلك النبيّ فأخبره. فدعا الله الملكُ قال : يا ربّ أجّلني حتّى يشبّ طفلي .. فأوحى الله إلى ذلك النبي : أن ائت الملك فلان فأعلمه أني قد أنسأت أجله وزدت في عمره خمس عشرة سنة! والله لا يسأل عما يفعل.

ثمّ التفت الرضا عليه‌السلام إلى سليمان وقال له : أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب إذ قالت (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ (١)) يعنون أنّ الله قد فرغ من الأمر فليس يُحدث شيئاً! فقال الله عزوجل : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا (٢)).

ولقد سمعت قوماً سألوا أبي موسى بن جعفر عليه‌السلام عن البَداء فقال : «وما ينكر الناس من البَداء وأن يوقف الله قوماً يرجّيهم لأمره». وكأنّ سليمان كان يرى القول بالبَداء منافياً للتقدير فقال : ألا تخبرني عن قوله سبحانه : (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ».)

فقال الرضا عليه‌السلام : يا سليمان ، ليلة القدر يقدّر الله عزوجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة من حياة أو موت أو خير أو شر ، فما قدّره في تلك الليلة فهو من المحتوم ... وإنّ من الأُمور أُموراً موقوفة عند الله عزوجل يقدّم منها ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء.

يا سليمان ، إنّ علياً عليه‌السلام كان يقول : «العلم علمان ، فعلم علّمه الله ملائكته ورسله ، فإنه لا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله ، وعلم مخزون عنده لم يُطلع عليه أحداً من خلقه (فذلك) يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء».

__________________

(١) المائدة : ٦٤.

(٢) المائدة : ٦٤.

١١٧

فالتفت سليمان للمأمون وقال له : يا أمير المؤمنين ، لا انكر البَداء بعد يومي هذا ولا اكذّب به إن شاء الله» (١).

الرضا ، وسليمان المروزي ، والإرادة :

ثمّ قال المأمون لسليمان المروزي : يا سليمان ، سل أبا الحسن (الرضا) عما بدا لك ، وعليك بحسن الاستماع والانصاف.

فالتفت سليمان إلى الرضا عليه‌السلام وقال : يا سيدي ؛ أسألك؟ قال : سل عمّا بدا لك.

قال : ما تقول في من جعل الإرادة اسماً وصفة مثل حي وسميع وبصير وقدير؟

قال الرضا عليه‌السلام : إنّما قلتم : حدثت الأشياء واختلفت لأنّه شاء وأراد ؛ ولم تقولوا : حدثت الأشياء واختلفت لأنه سميع بصير! فهذا دليل على أنهما (الإرادة والمشية) ليستا مثل سميع ولا بصير ولا قدير. قال : فإنه لم يزل مريداً! قال : فإرادته غيره؟! قال : نعم! قال : فقد أثبتّ معه شيئاً غيره لم يزل! قال الرضا : فهي محدَثة؟ قال : لا ما هي محدَثة! فصاح به المأمون وقال : يا سليمان ، مثله يعاجَز أو يكابَر؟! عليك بالإنصاف ، أما ترى مَن حولك من أهل النظر؟! ثمّ قال للرضا : يا أبا الحسن ، كلّمه فإنه متكلم خراسان! فأعاد الإمام القول : يا سليمان ، هي (الإرادة) محدَثة ؛ فإنّ الشيء إذا لم يكن أزلياً كان محدثاً وإذا لم يكن محدَثاً كان أزلياً.

قال سليمان : إرادته منه كما أنّ سمعه وبصره وعلمه منه .. إنّما أراد نفسه كما سمع نفسه وأبصر نفسه وعلم نفسه.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٧٩ ـ ١٨٢.

١١٨

قال الرضا عليه‌السلام : فما معنى أراد نفسه؟ (يعني) أراد أن يكون شيئاً وأراد أن يكون حياً وسميعاً وبصيراً وقديراً؟ فليس لقولك : أراد أن يكون حياً سميعاً بصيراً معنى إذا لم يكن ذلك بإرادته.

قال سليمان : بلى قد كان ذلك بإرادته! .. فضحك الرضا عليه‌السلام ثمّ قال : يا سليمان ؛ فقد تحوّل عندكم عن حاله وتغيّر عنها! وهذا ما لا يوصف به الله عزوجل! فانقطع!

ثمّ قال الرضا عليه‌السلام : يا سليمان .. الذي يعلمه الناس أنّ المريد غير الإرادة وأنّ المريد قبل الإرادة ، وأنّ الفاعل قبل المفعول ، وهذا يبطل قولكم : إنّ الإرادة والمريد شيء واحد .. فلم يَحر جواباً (١).

الرضا ، وسليمان المروزي ، والعلم :

ثمّ قال الرضا عليه‌السلام لسليمان المروزي : يا سليمان ، هل يعلم الله جميع ما في الجنة والنار؟ قال : نعم. قال : أفيكون ما يعلم الله أنّه يكون ؛ من ذلك؟ قال : نعم. قال : فإذا كان (وجد) حتّى لا يبقى منه شيء إلّاكان ، أيزيدهم؟ أو يطويه عنهم؟ قال سليمان : بل يزيدهم! قال : فأراه ـ في قولك ـ أنّه يزيدهم ما لم يكن في علمه أنّه يكون! قال : جعلت فداك ، فالمزيد لا غاية له! قال : فليس علمه عندكم يحيط بما يكون فيهما إذا لم يعرف غاية ذلك ، وإذا لم يُحط علمه بما يكون فيهما لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

فقال سليمان : إنّما قلت : لا يعلمه لأنه لا غاية لهذا لأنّ الله وصفهما بالخلود ، فكرهنا أن نجعل لهما انقطاعاً!

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٨٣ ـ ١٨٤.

١١٩

قال الرضا عليه‌السلام : ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم (بل هو) يعلم ذلك ولا يقطع عنهم الزيادة. أرأيت ما يأكل أهل الجنة وما يشربون أليس يُخلف مكانه؟ قال : بلى ، قال : أفيقطع ذلك عنهم وقد أخلف مكانه؟ قال : لا. قال : فكل ما كان فيها إذا اخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم .. إذن ، يبيد ما فيها ، وهذا إبطال للخلود وخلاف كتاب الله ، فالله عزوجل يقول : (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (١)) ويقول عزوجل : (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (٢)) ويقول عزوجل : (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (٣)) ويقول عزوجل : (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً (٤)) ويقول عزوجل : (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ* لَامَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (٥)) فلم يحَر سليمان جواباً.

ثمّ عاد كلامهما في صفة الإرادة لله سبحانه ، خمس صفحات ، وانقطع سليمان فيها خمس مرات ، وعند ذلك قال له المأمون : يا سليمان ، هذا أعلم هاشمي! ثمّ تفرّق القوم (٦).

الرضا ، وابن الجهم ، والعصمة :

جمع المأمون للرضا عليه‌السلام أهل المقالات من ديانات النصارى واليهود والمجوس والصابئين ، وسائر أهل المقالات من أهل الإسلام كسليمان بن حفص المروزي متكلم أهل خراسان. قال أبو الصلت الهروي : فلم يقم أحد منهم إلّا

__________________

(١) ق : ٣٥.

(٢) هود : ١٠٨.

(٣) الحجر : ٤٨.

(٤) البينة : ٨.

(٥) الواقعة : ٣٢ ـ ٣٣.

(٦) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٨٤ ـ ١٩١.

١٢٠