موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

ولم يعرضوا لهم ، وولّوا على الكوفة من أهلها الفضل بن محمّد الكندي! ثمّ ولّوها غسّان بن أبي الفرج فظفر بأبي عبد الله أخي أبي السرايا فقتله.

وكان الحسن بن سهل انزاح بقواته إلى واسط ، فأمر إبراهيم العباسي جنده أن يجتمعوا إلى واسط لقتال سهل ، فخرجوا إليهم يوم السبت لأربع بقين من رجب سنة (٢٠٢ ه‍) فاقتتلوا قتالاً شديداً إلى الزوال ثمّ وقعت الهزيمة على قوّات عيسى وأصحاب إبراهيم العباسي فانهزموا حتّى بلغوا النيل وطرفايا ، وغنم أصحاب الحسن بن سهل كل ما كان في عسكرهم من سلاح ودواب.

فلمّا صارت الهزيمة على أصحاب عيسى بن محمّد وجند إبراهيم العباسي دخلوا بغداد فعدوا على سهل بن سلامة الأنصاري الخراساني ، لأنّه كان يذكرهم بأسوأ أعمالهم وفعالهم ويسميهم الفسّاق! فقاتلوه أياماً حتّى هزموه يوم السبت لخمس بقين من شعبان ، فاختفى ثمّ أخذوه وحبسوه (١).

ونقل الصدوق عن كتاب (أخبار خراسان) للحسين بن أحمد السلامي قال : لما بلغ خبر الرضا عليه‌السلام إلى العباسيين ببغداد ساءهم ذلك ، فبايعوا إبراهيم بن المهدي العباسي بالخلافة! وفيه قال دعبل بن علي الخزاعي :

يا معشر الأجناد لا تقنطوا

خذوا عطاياكم ولا تسخطوا

فسوف يعطيكم حُنينيةً

يلذّها الأمرد والأشمط

وبالمُعيديات لقوادكم

لا تُدخل الكيس ولا تُربط

وهكذا يرزق أصحابه

خليفة مُصحفه البربط

قال : وذلك أن إبراهيم بن المهدي كان مولعاً بضرب العود منهمكاً في الشرب (٢)! والآن إلى تائية دعبل.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ٥٥٩ ـ ٥٦٣.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٩٥ ، ١٦٦ وفي الكتاب : مؤلفاً ، تصحيف.

٦١

دعبل الخزاعي لدى الرضا عليه‌السلام :

في أواسط العشر الأوائل من شهر رمضان سنة (٢٠١ ه‍) تمّت بيعة الرضا عليه‌السلام ، فكانت بقية الشهر كافية لانتشار أخبارها ووصولها إلى دعبل بن علي الخزاعي (١) أينما كان ، بل كانت كافية لوصولها مع كراهة الرضا عليه‌السلام لها وعدم رضاه بها. وسائر الوقت إلى أواسط العشر الأوائل من المحرم عام (٢٠٢ ه‍) كان كافياً لوصوله بقصيدته التائية إلى الرضا عليه‌السلام في مرو ، خالية من ذكر العهد ووافية بذكر مصائب عاشوراء الحسين عليه‌السلام.

قال عبد الله بن المعتز العباسي (م ٢٩٦ ه‍) في ترجمة دعبل ـ وهو أقدم ذكر له فيما بأيدينا ـ قال : وهو صاحب القصيدة التائية في آل الرسول ، التي أولها : «مدارس آيات خلت من تلاوة» وهي أشهر من الشمس! فلا حاجة لنا إلى تضمينها ولا تضمين شيء منها (٢) فبذريعة الشهرة تفصّى عن ذكرها! ومعاصره الكشي قال : بلغني أن دعبل الخزاعي وفد إلى أبي الحسن الرضا بخراسان ، فلمّا دخل عليه قال له : إني قد قلت قصيدة (فيكم) وجعلت على نفسي أن لا انشدها أحداً أوّل منك (أي قبلك) فقال : هاتها. فأنشده قصيدته ، فلمّا فرغ من إنشاده قام أبو الحسن ودخل منزله وبعث بخرقة فيها (ستمئة دينار) على يد جارية وقال لها : قولي له : يقول لك مولاي : استعن بهذه على سفرك ، واعذرنا!

__________________

(١) البغدادي في تاريخ بغداد ٨ : ٣٨٥ : عن إسماعيل ابن أخي دعبل : أن اسمه كان عبد الرحمن وإنما دايته رأت فيه دعابة فأرادت تشبيهه بذعبل فقالت : دعبل فغلب عليه! وذعبل كان يضرب به المثل في دعابته.

(٢) طبقات الشعراء : ٢٦٧.

٦٢

فلم يقبلها دعبل وقال : لا والله ما هذا أردت ولا له خرجت (إلى هنا) ولكن قولي له : هب لي ثوباً من ثيابك! فرجعت الجارية بجوابه فأخرج له جبة من ثيابه وبعث بها معها إليه وقال لها : قولي له : خذهما ، فأخذهما (١).

وقال المسعودي (م ٣٤٦ ه‍) : قال دعبل بن علي الخزاعي في قصيدة له أولها : «مدارس آيات خلت من تلاوة» ثمّ ذكر بيتين في مواضع بعض قبورهم (٢).

وقال الإصفهاني الأموي (م ٣٥٦ ه‍) : قصد بها علي بن موسى الرضا عليه‌السلام بخراسان ، قال : دخلت عليه فأنشدته .. حتّى انتهيت إلى آخرها ، فقال لي ثلاث مرات : أحسنت ، ثمّ أمر (بعشرة آلاف درهم) مما ضُرب باسمه ولم تكن دُفعت بعدُ إلى أحد! وأمر الخادم فأخرج لي من منزله حلياً كثيراً .. فحصل لي (مئة ألف درهم) واستوهب منه ثوباً قد لبسه ، ليجعله في أكفانه ، فخلع جبّة كانت عليه وأعطاها له (٣) ولم يذكر تمام القصيدة في كل كتابه الطويل!

وأسند الصدوق عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي ـ وكأنه كان حاضراً ـ قال : دخل دعبل على الرضا عليه‌السلام في مرو فقال له : يابن رسول الله ، إنّي قد قلت فيك (فيكم ظ) قصيدة وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك.

فقال عليه‌السلام : هاتها ، فأنشده :

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٠٤ ـ ٥٠٥ ، الحديث ٩٧٠ بتصرف يسير. والظاهر أن كلمة الجارية مصحف عن الخادم كما في الأخبار التالية.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٩٧.

(٣) الأغاني ٢٠ : ١٣٢ و ١٦٢ وانظر الغدير ٣ : ٤٩٧.

٦٣

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات (١)

ثمّ لم يذكر من شعر دعبل إلّامواقع تعليق الرضا عليه‌السلام وسنأتي عليها.

وأول من أكمل خبره وشعره فيما بأيدينا هو محمّد بن عمران المرزباني الخراساني البغدادي (م ٣٨٤ ه‍) فنحن هنا ننقل القصيدة عنه وتعاليق الرضا عليه‌السلام عن الصدوق.

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

لآل رسول الله بالخَيف من مِنى

وبالبيت والتعريف والجمرات

ديار لعبد الله بالخيف من منى

وللسيد الداعي إلى الصلوات

ديار علي والحسين وجعفر

وحمزة والسجاد ذي الثفنات

ديار لعبد الله والفضل صنوه

نجيّ رسول الله في الخلوات

وسبطي رسول الله وابني «وصيه»

ووارث «علم الله» والحسنات

منازل وحي الله ينزل بينها

على أحمد المذكور في السورات

منازل قوم يُهتدى بهُداهم

فتؤمَن منهم زلة العثرات

منازل كانت للصلاة وللتقى

وللصوم و «التطهير» والحسنات

منازل جبريلُ الأمين يَحِلّها

من الله بالتسليم والرحمات

منازل وحي الله خزّان «علمه»

سبيل رشاد واضح الطرقات

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٦٣ ، الحديث ٣٤ ، وفي الحديث ٣٥ عن دعبل وهنا أرسل الفتال النيشابوري في روضة الواعظين ١ : ٢٧٠ قال : وليس هذا البيت رأس القصيدة ، ولكن أنشدها من هذا البيت ، فقيل له : لِمَ بدأت بمدارس؟ قال : «استحييت من الإمام أن أنشده التشبيب فأنشدته من المناقب» ورأس القصيدة : «تجاوبن بالأرنان والزفرات» واختصره الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٦٧. ونحن في الكتاب نأتي بما أنشده للإمام عليه‌السلام ونترك تشبيبه كما تركه نحو (٣٠) بيتاً.

٦٤

منازل لا «تيم» يحِل بربعها

ولا ابن «صهاك» فاتك الحُرمات!

ديار عفاها جور كل منابذ

ولم تَعفُ للأيام والسنوات

فيا وارثي «علم» النبيّ وآله

عليكم سلام دائم النفحات

* * *

قفا نسأل الدار التي خفّ أهلها

متى عهدها بالصوم والصلوات

وأين الأُولى شطّت بهم غربة النوى

أفانين في الآفاق مفترقات

همُ أهل «ميراث» النبيّ إذا اعتزوا

وهم خير سادات وخير حُمات

مطاعيم في الإعسار في كل مشهد

لقد شرّفوا بالفضل والبركات

لقد آمنت نفسي بكم في حياتها

وإني لأرجو الأمن عند مماتي

وهنا رواها الصدوق عن أبي الصلت الهروي كما يلي :

لقد خفت في الدنيا وأيام سعيها

وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي

فقال له الرضا عليه‌السلام : آمنك الله يوم الفزع الأكبر.

إذا لم نناجي الله في صلواتنا

بأسمائهم ؛ لم يَقبل الصلوات!

وما الناس إلّاحاسدٌ ومكذّبٌ

ومضطغنٌ ذوا إحنة وتِرات

إذا ذكروا قتلى ببدر وخيبر

ويوم حُنين ، أسبلوا العبرات!

فكيف يحبون النبيّ ورهطه

وهم تركوا أحشاءهم وَغِرات؟!

لقد لاينوه في المقال واضمروا

قلوباً على الأحقاد منطويات!

فإن لم تكن إلّابقربى محمّد

فهاشم أولى من هنٍ وهنات!

* * *

سقى الله قبراً بالمدينة غيثه

فقد حلّ فيه الأمن بالبركات

نبي الهدى صلّى عليه مليكه

وبلّغ عنا روحه التحفات

وصلّى عليه الله ما ذرّ شارق

ولاحت نجوم الليل مبتدرات

* * *

٦٥

أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً

وقد مات عطشاناً بشطّ فرات

إذن للطمت الخدّ فاطم عنده

وأجريت دمع العين في الوجنات

أفاطم قومي يابنة الخير واندبي

نجوم سماوات بأرض فلات

قبور بكوفان وأُخرى بطيبة

وأُخرى بفخٍّ نالها صلواتي

وأُخرى بأرض الجوزجان محلّها

وقبر بباخمرا لدى الغربات

وقبر ببغداد لنفس زكية

تضمّنها الرحمان في الغرفات

وهنا روى الصدوق عن الهروي : أنّ الرضا عليه‌السلام قال لدعبل : أفلا الحق لك بهذا الموضع بيتين بهما تمام (كمال) قصيدتك؟ قال : بلى يابن رسول الله ، فقال عليه‌السلام :

 «وقبر بطوس يا لها من مصيبة

توقَّد في الأحشاء بالحرقات

إلى الحشر حتّى يبعث الله قائماً

يفرّج عنا الهمّ والكربات»

فقال دعبل : يابن رسول الله ، هذا القبر الذي بطوس قبر مَن هو؟

فقال الرضا عليه‌السلام : قبري ؛ ولا تنقضي الأيام والليالي حتّى تصير طوس مختلف «شيعتي» وزوّاري! ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له.

ثمّ أنشد دعبل :

فأما المهمات التي لست بالغاً

مبالغها مني بكنه صفاتي

قبور بجنب النهر من أرض كربلا

معرّسهم فيها بشطّ فرات

توفّوا عطاشا بالفرات فليتني

توفيت فيهم قبل حين وفاتي

وآل رسول الله تسبى حريمهم

وآل زياد آمنوا السَربات!

وآل زياد في القصور مصونةٌ

وآل رسول الله في الفلوات!

إلى الله أشكو لوعة عند ذكرهم

سقتني بكأس الثُكل والفضعات

٦٦

أخاف بأن أزدارَهم فتشوقني

مصارعهم بالجزع بالنخلات

تقسّمهم ريب الزمان كما ترى

لهم عقوة مغشية الحجرات

سوى أنّ منهم بالمدينة عصبة

مدى الدهر أنضاءٌ من الأزمات

قليلة زوّار سوى بعض زُوّرٍ

من الضبع والعقبان والرخمات

لهم كل حين نومة بمضاجع

لهم في نواحي الأرض مختلفات

وقد كان منهم بالحجاز وأهلها

مغاوير ، يُختارون في السروات

تنكَّبُ لأواء السنين جوارهم

فلا تصطليهم جمرة الجمرات

حمىً لم تزره المذنبات وأوجه

تضيء لدى الأستار في الظلمات

إذا وردوا خيلاً بسمر من القنا

مساعير جمر الموت والغمرات

وإن فخروا يوماً أتوا بمحمد

وجبريل والفرقان والسورات

وعدّوا علياً ذا المناقب والعلى

وفاطمة الزهراء خير بنات

وحمزة والعباس ذا الهدْي والتقى

وجعفراً الطيار في الحجبات

أُولئك لا منتوج هند وحزبها

سمية من نوكى ومن قذرات

ستُسأل «تيم» عنهم و «عديّها»

و «بيعتهم» من أفجر الفجرات!

همُ منعوا الآباء من أخذ حقهم

وهم تركوا الأبناء رهن شتات!

وهم عدلوها عن «وصي» محمّد

فبيعتهم جاءت عن الغدرات

***

مَلامَك في «أهل النبي» فإنهم

أحبّاي ما عاشوا وأهل ثقاتي

تخيّرتهم رشداً لأمري ، فإنهم

على كل حال خيرة الخيرات

نبذت إليهم بالمودة صادقاً

وسلّمت نفسي «طائعاً لولائي»

فيا رب زدني من «يقيني» بصيرة

وزد حبّهم يا ربّ في حسناتي

سأبكيهمُ ما حجّ لله راكب

وما ناح قمريٌ على الشجرات

٦٧

بنفسي أنتم من كهول وفتية

لفك عناءٍ أو لحمل ديات

وللخيل لما قيّد الموتُ خَطوها

فاطلقتمُ منهن بالذَّربات

أحبّ قصيّ الرحم من أجل حبكم

وأهجر فيكم اسرتي وبناتي

و «اكتم حبّيكم» مخافة كاشح

عنيد لأهل الحق غير مُواتي

فيا عين بكيّهم وجودي بعبرة

فقد آن للتسكاب والهملات

لقد حفّت الأيام حولي بشرّها

وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي

ألم ترَ أني مذ ثلاثين حجةً

أروح وأغدو دائم الحسرات

أرى فيئهم في غيرهم متقسّماً

وأيديَهم من فيئهم صفِرات

وهنا روى الصدوق عن الهروي قال : بكى أبو الحسن الرضا وقال له : صدقت يا خزاعي! وقال :

فكيفَ أُداوي من جوىً لي والجوى

أُمية أهل الفسق والتبعات

فآل رسول الله نُحفٌ جسومهم

وآل زياد حُفّل القصرات

سأبكيهمُ ما ذرّ في الأرض شارق

ونادى منادي الخير بالصلوات

وما طلعت شمس وحان غروبها

وبالليل أبكيهم وبالغُدوات

ديار رسول الله أصبحن بَلقعاً

وآل زياد تسكن الحجرات!

وآل رسول الله تُدمى نحورهم

وآل زياد آمنوا السَربات

إذا وُتروا مدوا إلى واتريهُم

أكفاً عن الأوتار منقبضات

٦٨

وهنا روى الصدوق عن الهروي : أنّ أبا الحسن الرضا جعل يقلب كفّيه ويقول : أجل والله منقبضات! ثمّ أنشد دعبل يقول :

فلولا الذي أرجوه في اليوم أو غدٍ

تقطّع قلبي إثرهم حسرات

خروج إمام لا محالة خارج

يقوم على اسم الله والبركات

يميّز فينا كل حق وباطل

ويجزي على النعماء والنقمات

وهنا روى الصدوق عن الهروي عن دعبل! وكأن الهروي لم يكن حاضراً هنا ، قال دعبل : فلمّا انتهيت من قولي ذلك بكى الرضا عليه‌السلام بكاءً شديداً ثمّ رفع رأسه إليّ وقال لي : يا خزاعي ، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الإمام؟ ومتى يقوم؟ فقلت : لا يا سيدي ، إلّاأني سمعت بخروج إمام منكم يطهّر الأرض من الفساد ويملأها عدلاً!

فقال : يا دعبل ؛ الإمام بعدي محمّد ابني ، وبعد محمّد ابنه علي ، وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في حضرته ، ولو لم يبق من الدنيا إلّايوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يخرج فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً! وأما متى؟ فإخبار عن الوقت.

ولقد حدثني أبي عن أبيه عن آبائه عن علي عليه‌السلام : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قيل له : يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال : إنّ مَثَله مَثَل الساعة (لَايُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَاتَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً (١)) ثمّ أنشد دعبل يقول :

سأقصر نفسي جاهداً عن جدالهم

كفاني ما ألقى من العبرات

فيا نفس طيبي ثمّ يا نفس أبشري

فغير بعيد كل ما هو آت

ولا تجزعي من مدة الجور أنني

أرى قوتي قد آذنت بشتات

فإن قرّب الرحمن من تلك مدتي

وأخّر من عمري لطول حياتي ..

شفيت ولم أترك بنفسي رزية

وروّيت منهم منصلي وقناتي!

__________________

(١) الأعراف : ١٨٧ ، والخبر في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٦٥ ، ٢٦٦ ، الحديث ٣٥ وليس فيه أنّه عليه‌السلام قام ووضع يده على رأسه ودعا له بالفرج ، مما زيد على الخبر أخيراً ، انظر الغدير ٣ : ٥١١.

٦٩

فإني من الرحمن أرجو بحبّهم

حياةً لدى الفردوس غير بتات

عسى الله أن يرتاح للخلق إنّه

إلى كل قوم دائم اللحظات

فإن قلت عرفاً أنكروه بمنكر

وغطّوا على التحقيق بالشبهات

اُحاول نقل الشمس عن مستقرها

واُسمع أحجاراً من الصلدات

فمن عارف لم ينتفع ، ومعاند

يميل مع الأهواء والشهوات

قصاراى منهم أن أموت بغصة

تردّد بين الصدر واللهوات

كأنك بالاضلاع قد ضاع رحبها

لما ضُمّنت من شدة الزفرات (١)!

آثار القصيدة وتوابعها :

قال الهروی : وبعد فراغ دعبل من انشاد القصيدة نهض الرضا عليه السلام وأمره أن لا يبرح من موضعه ، ودخل الدار ، فخرج الخادم إليه بصرّة فيها (مئة دينار رضوية)؟ فقال له : يقول لك مولاي : اجعلها في نفقتك. فقال دعبل : والله ما لهذا جئت ، ولا قلت هذه القصيدة طمعاً في شيء يصل إليّ. ولم يأخذ الصرّة ، وسأله ثوباً من ثياب الرضا ليتبرك ويتشرف به. فعاد الغلام ورجع ومعه جبة خزّ والصرة وقال : قال لي مولاي : قل له : خذ هذه الصرة فإنّك ستحتاج إليها ولا تراجعني فيها. فأخذ دعبل الجبة والصرة وانصرف (٢).

وأرسل المرزباني الخراساني البغدادي عن دعبل الزاعي البغدادي قال : اتصل خبري بالمأمون فأحضرني وأمرني بإنشادها له ، فقلت : لا أعرفها! فقال لأحد غلمانه : يا غلام سل ابن عمي الرضا أن يحضر! فلمّا حضر قال له :

__________________

(١) أخبار شعراء الشيعة للمرزباني : ٩٧ ـ ١٠٣.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٢٦٤ ، الحديث ٣٤.

٧٠

یا أبا الحسن ، إنّي قلت لدعبل ينشدني «مدارس آيات ..» فذكر أنّه لا يعرفها! فالتفت الرضا عليه السلام إليّ : أنشدها. فاندفعت أنشد ... فأمر لي المأمون (بخمسين ألف درهم) ، و (قد) أمر لي الرضا عليه السلام بمثلها.

وأمر لي الفضل بن سهل (وكان حاضراً) ببرذون أصفر حملني عليه وكان يوماً مطيراً فكان عليه ممطر خزّ سوسي وبُرنس منه ، فآثرني به ودعا لنفسه بغيره وقال لي : إنّما آثرتك بذلك لأنّه خير الممطرين ، وسايرني.

قال : وقضيت حوائجي ، وكررت راجعاً إلى العراق (بغداد) في قافلة ، فلمّا مرّت القافلة بين أكراد يُعرفون بالشادنجان قطعوا علينا الطريق وسلبوا القافلة وسلبوني ، وكان يوماً مطيراً ، فلبس الممطر (الذي أعطانيه الفضل) وركب البرذون الاصفر الذي حملني عليه الفضل ووقف بقربي ، ولم يبقوا عليَّ غير قميص خلق ، فاعتزلت وأكثر أسفي على الثوب والمنشفة التي وهبها لي الرضا عليه السلام وأنا اُحدّث نفسي أنّني أسألهم إياهما. فبينا أنا في غمرة الفكرة وإذا بالكردي الذي على برذوني وعليه الممطر وهو يرى نهب القافلة أنشد من شعري :

أرى فيئهم في غيرهم متقسّماً

وأيديهم من فيئهم صفرات

وبكى واستمر في القصيدة ، فعجبت من لصّ كردي «يتشيّع» وطعمت في القميص والمنشفة ، فدنوت منه وقلت له : یا سيدي! لمن هذا الشعر؟ فقال : وما أنت وذاك ويلك! قلت : لي فيه سبب اُخبرك به. قال : صاحبها أشهر من أن يُجهل! قلت : مَن هو قال : دعبل ، شاعر آل محمّد ، وجزاه الله خيراً! قلت : فأنا دعبل وهذه قصيدتي! فقال : أتدري ما تقول؟ قلت : سل من أحببت من أهل القافلة يخبرك بذلك! فقال : إذاً والله لا يذهب من القافلة خلال فما فوقه ، والحمدلله الذي أقدرني على قضاء حقك يا شاعر آل محمّد!

ثمّ نادى في أصحابه : من أخذ شيئاً فليرده على صاحبه!

٧١

قال دعبل : فردّوا علينا أموالنا حتّى لم يضع لأحدنا عقال (١).

هذا ما أرسله المرزباني الخراساني البغدادي عن دعبل الخزاعي البغدادي.

والصدوق لم ينقل القصيدة وإنّما أسند عن ابراهيم بن هاشم القمي عن أبي الصلت الهروي تعاليق الرضا عليه السلام على أبيات منها وإضافته بيتين منه في قبره بطوس كما سبق ، ثم استمر في ذكر خبري نهب اللصوص ، واختلاس أحداث قم منه الجبّة! كما يأتي. والأولى بالصدوق القمي أن لا يصدّق أن يكون الهروي الخراساني يروي للقمي أخبار قم! بل الصحيح ما في السند الخبر التالي أنّ الهروي يروي عن دعبل :

سار (دعبل) من مرو في قافلة ، فلمّا كان ميان كوهان (بين الجبال ، وليس اسم موضع) وقع عليهم اللصوص (وليس الاكراد) فأخذوا القافلة بأسرها ، وكتّفوا أهلها ، وكان دعبل في من كتف. وتملّك اللصوص القافلة وجعلوا يقسمونها بينهم ، فتمثّل أحدهم بقول دعبل :

أرى فيئهم في غيرهم متقسّماً

وأيديهم من فيئهم صفرات

وسمعه دعبل فسأله : لمن هذا البيت؟ فقال : لرجل من خزاعة يقال له : دعبل بن علي! قال : فأنا دعبل قائل القصيدة التي منها هذا البيت!

وكان رئيسهم يصلّي على رأس التل «وكان من الشيعة»! فوثب هذا الرجل إليه وأخبره ، فجاء بنفسه حتّى وقف على دعبل وقال له : أنت دعبل؟ قال : نعم ، قال : أنشدني القصيدة! فأنشده إياها فحلّ كتافه وأهل القافلة وردّ إليهم ما اُخذ منهم كرامة لدعبل!

وسار دعبل حتّى وصل إلى قم (وكانوا قد علموا بقصيدته)! فسألوه أن

__________________

(١) أخبار شعراء الشيعة للمرزباني : ٩٥ و ١٠٥ ولها في حاشية الصفحتين مصادر اُخرى وفي حاشية الصفحة : ٤٤١ ج ٣ من كشف الغمة ١٥ مصدراً.

٧٢

ينشدهم قصيدته ، فواعدهم في (المسجد الجامع) فلمّا اجتمعوا صعد المنبر فأنشدهم قصيدته ، فوصله الناس من الخلع والمال بشيء كثير ، وسألوه أن يبيعهم الجبّة بألف دينار! فامتنع ، فقالوا : فشيء منها بألف دينار ، فأبى.

فلمّا سار عن قم وخرج من روستا البلد (قرى البلد) اجتمع بعض شباب العرب ولحقوا به وأخذوا منه الجبّة وعادوا بها إلى قم! فرجع دعبل إلى قم (والقافلة؟) وسألهم الجبّة وأمر المشايخُ الشبابَ بردّها فعصوا المشايخَ في أمرها وامتنعوا وقالوا له : لا سبيل لك إلى الجبّة ، فخذ ثمنها ألف دينار! فأبى ، ولما يئس من ردّهم الجبّة سألهم أن يعطوه منها ، فأعطوه بعضها ودفعوا إليه ثمن باقيها ألف دينار! فانصرف دعبل.

فلمّا وصل إلى منزله (ببغداد) وجد اللصوص قد أخذوا ما فيه! (ولعلّها في فتن بغداد) فباع المئة دينار الرضوية «للشيعة» كل دينار بمئة درهم (بخمسة أضعافها) فحصل في يده عشرة آلاف درهم ، فعندئذ ذكر قول الرضا له : «إنّك ستحتاج إليها».

ورمدت عينا جاريته فأدخل عليها أهل الطبّ فيئسوا من اليمنى ، ثمّ ذكر بقية الجبّة فعصّبها منها بعصابة ليلاً ، فأصبحت وعيناها أصح مما كانتا من قبل ببركة الرضا عليه السلام (١).

استقبال القميين لفاطمة اُخت الرضا :

اذا كانت أخبار أشعار دعبل الخزاعي انتشرت حتى بين اللصوص بين الطرق وبين القميين بقم ، فمن الطبيعي أن تكون قد وصلت إلى عيال الرضا عليه السلام واُسرته بالمدينة.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٢٦٤ ، ٢٦٥ ، الحديث ٣٤.

٧٣

وكان له عليه السلام من أبيه وأُمه اُخت تدعى فاطمة ، فاشتاقت إليه. ولعلّها صادفت قافلة من قوافل الحجاج من بلاد الجبال في إيران ، فخرجت معهم ومع خادم لها حتى وصلت إلى بلدة ساوة فمرضت. وكانت تعرف «تشيّع» القميين لهم ، فسألت : كم بينها وبين قم؟ فقالوا : عشرة فراسخ (٥٥ كم تقريباً) فقالت : احملوني إليها.

ووصل خبرها إلى القميين ، وهم بالامس قد احتفلوا في مسجدهم الجامع بالقصيدة الجامعة لشاعر أخيها الرضا عليه السلام وودّعوه متبرّكين ببطانة جبّة الامام عليه السلام ، فعزموا على التبرّك بنزول اُخته فيهم ، فاستقبلها أشراف قم يتقدّمهم شيخهم يومئذ : الشيخ موسى بن خزرج بن سعد الاشعري ، فلما وصل إليها أخذ بزمام ناقتها وجرّها إلى منزله.

فكانت في داره سبعة عشر يوماً مريضة حتى توفيت ، فأمر موسى النساء بتغسيلها وتكفينها ، ثمّ حملوها إلى «مقبرة بابلان» من أراضي موسى الاشعري معهم آل سعد الاشعري ، وحفروا لها سرداباً ، واختلفوا في من ينزّلها ، ثمّ اتفقوا على خادم لهم صالح كبير السنّ يدعى قادر. وإذا براكبين مقبلين متلثمين وصلا وتقرّبا إلى الجنازة فصلّيا عليها. ثمّ نزلا السرداب وأنزلا الجنازة ودفناها ، ثمّ خرجا وركبا وذهبا ولم يكلّما أحداً. وسقّف موسى على قبرها بالبواري.

وعندئذ تذكر القميون ما رووه عن الصادق عليه السلام قال : «قُم ، تُقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة بنت موسى ، وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنة» و: قم «ستُدفن فيها امرأة من أولادي تسمّى فاطمة ، فمن زارها وجبت (ثبتت) له الجنة و «إنّ زيارتها تعادل الجنّة» (١).

__________________

(١) الترجمة الفارسية لكتاب تاري قم للمحسن بن محمد القمي (ق ٧ هـ) صفحة : ٢١٣ و ٢١٤ وعنه في بحارالانوار ٤٨ : ٢٩٠ ، الحديث ٩ و ٦٠ : ٢١٩.

٧٤

ویبدو تأكيداً لتلك المرويات وصل سعد بن سعد الاشعري إلى الرضا عليه السلام فسأله عن زيارتها فقال : «من زارها فله الجنة» (١) ، وفي خبر آخر : أنّ سعداً الاشعري روى لابراهيم بن هاشم : أنّ الرضا عليه السلام قال له : يا سعد ، إنّ لنا قبراً عندكم. قلت له : جعلت فداك ، قبر فاطمة بنت موسى بن جعفر؟ قال : نعم ، ثمّ قال : من زارها عارفاً بحقها فله الجنّة (٢).

ابنتا المأمون للرضا والجواد عليهما السلام :

لم يأمن المأمون من داخل دار الرضا عليه السلام ، حيث لم يفلح في إدخال الجاريتين واحدة بعد الاُخرى إليه ليرقبها بهما ، وقد مرّ خبرهما ، ولم يتكلّم عن جلب عيال الرضا إليه من المدينة ، بل كان له سوى ابنه العباس ابنتان : اُمّ حبيب واُم الفضل ، فتقدّم بالاُولى الكبرى للرضا وبالثانية الصغرى لابنه الجواد عليهما السلام.

وفي تاريخ ذلك نقل الصدوق في موضعين نقلين مختلفين عن كتاب الصُّولي ، نقل في الاول عنه عن عبيدالله بن طاهر بن الحسين الخزاعي

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٢٦٧ ، ومثله في ثواب الاعمال : ١٢٤ ، الحديث ١ ، وكامل الزيارات لابن قولويه : ٣٢٤ ، الحديث ٦٠.

(٢) بحارالانوار ١٠٢ : ٢٦٥ ، الحديث ٤ ، ومستدرك الوسائل ١٠ : ٣٦٨ ، الحديث ٣ عن بعض كتب الزيارات؟ ثمّ ذكر زيارةً لها ، والتبس الامر على بعضهم فتوهم أن ألفاظ الزيارة من الرواية عن الرضا عليه السلام! يا سلام!

وقد ذكر في الذريعة ٢٤ : ١٠٧ كتاب باسم : نزهة الابرار في نسب اولاد الائمة الاطهار للسيد موسى الموسوي البرزنجي الشافعي المدني ، مطبوع ، ونُقل عنه قوله في تاريخ وفاة فاطمة بنت موسى الكاظم عليه السلام : أنها توفيت في (١٠ ربيع الثاني سنة ٢٠١ هـ). وهذا التاريخ لا يتخلّف كثيراً عن تواريخ رجوع الحجاج في ذلك العهد.

٧٥

(مولاهم) : أنّ كل ذلك كان في يوم البيعة (١) وفي النقل الثاني عنه عن ابراهيم بن العباس قال : زوّجه ابنته اُمّ حبيب في أول سنة اثنتين ومئتين (٢) والحلبي المازندراني اختار هذا الثاني فقال به قولاً واحداً وزاد : وهو ابن خمس وخمسين سنة (٣) وهذا هو الاولى ، فمن المستبعد جداً أن يكون ذلك في يوم البيعة.

ولعلّ المأمون كان يريد بذلك جواب المعترضين بانتقال الخلافة ، بأنها إنّما تنتقل إلى أصهار العباسيين ثمّ إلى أسباطهم ، ولكنهم لم يقتنعوا بذلك.

فضائل علي عليه السلام لإقناع القواد؟!

مرّ صدر الخبر عن الريّان بن الصلت القمي : أنّ من لم يحبّ بيعة الولاية من الناس وقواد المأمون أكثروا من القول في ذلك ، وكان ذلك قد بلغ المأمون فبعث إليه في جوف الليل ، إلى أن أخبره بأن سبب ذلك عهده الله أن إذا أفضى الله إليه بأمر الخلافة أن يجعلها في موضعها الذي وضعه الله ، فلم ير أحداً أحق بهذا الامر من أبي الحسن الرضا فوضعها فيه. ومحاولة منه لاسترضاء هؤلاء القواد قال للريّان :

يا ريّان ، إذا كان غداً وحضر الناس ، فأقعد بين هؤلاء القوّاد وحدّثهم بفضل أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. قال ريّان : فقلت له : يا أميرالمؤمنين ، ما اُحسن شيئاً من الحديث إلّا ما سمعته منك! فأنا اُحدّث عنك ما سمعته منك من الاخبار؟ فقال : نعم ، حدّث عنّي بما سمعته منّي من الفضائل.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ١٤٧ ، الحديث ١٩.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٢٤٥ ، الحديث ٢.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٩٧. وكذا في تاريخ الطبري ٧ : ٥٦٦ ويبدو عنه في تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٤.

٧٦

قال : فلمّا كان الغد ، قعدت في الدار بين القواد وقلت :

حدّثني أميرالمؤمنين عن أبيه عن آبائه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال : «من كنت مولاه فهذا علي مولاه».

وحدّثني أميرالمؤمنين عن أبيه عن آبائه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال : «علي مني بمنزلة هارون من موسى» وحدثت بحديث خيبر والاحاديث المشهورة ، وكنت لا أحفظها على وجهها فأخلط بعض الحديث ببعض.

وكان المأمون قد بعث إلى مجلسنا غلاماً يسمع الكلام فيؤديه إليه! فبعث المأمون إليّ فدخلت عليه ، فلمّا رآني قال لي : يا ريّان! ما أحفظك للأحاديث وما أرواك لها (١)!

وکان الرضا علیه السلام سمع المأمون يروي عن آبائه عن النبي صلّى الله عليه وآله قوله : «حبّ علي إيمان وبغضه كفر» وسأل المأمون الرضا عليه السلام قال : يا أباالحسن أخبرني عن جدك علي بن أبي طالب بأيّ وجه هو قسيم الجنّة والنار فقد كثر فكري في ذلك! فقال له الرضا عليه السلام : يا أميرالمؤمنين! ألم ترو عن أبيك عن آبائه عن عبدالله بن عباس قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : «حبّ علي ايمان وبغضه كفر»؟ فقال : بلى. فقال الرضا : فقد قسّم الجنة والنار إذا كانت على حبّه وبغضه! فقال المأمون : لا أبقاني الله بعدك يا أباالحسن! أشهد أنك وارث علم رسول الله صلّى الله عليه وآله.

وكان أبو الصلت الهروي حاضراً قال : فلمّا رجع الرضا إلى منزله أتيته فقلت له : يابن رسول الله ما أحسن ما أجبت به أميرالمؤمنين! فقال لي : يا ابا الصلت ، أنا كلّمته حيث هو ـ وإلّا ـ فقد سمعت أبي يحدث عن آبائه عن علي عليه السلام قال : قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله : «يا علي ، أنت قسيم الجنّة والنار يوم القيامة ،

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٢ ، ١٥٣ ، الحديث ٢٢.

٧٧

تقول للنار : هذا لي ، وهذا لك» (١) وعليه فالرضا عليه‌السلام لا يرى المأمون في التشيع حتّى على مستوى أبي الصلت الهروي فما حدّثه بما حدّث به هذا. هذا ، اللهم إلّا أن يقال إنّه كان يتدرج في المعرفة بهم عليهم‌السلام.

ومن تدرّجه ما أخرجه المفيد : أنّ المأمون سأل الرضا عليه‌السلام يوماً عن أكبر فضل لعلي عليه‌السلام مما دلّ عليه القرآن الكريم ، فقال عليه‌السلام : فضيلته في المباهلة ثمّ تلا آية المباهلة ثمّ قال : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحسن والحسين ابنيه ودعا فاطمة عليها‌السلام فكانت في هذا الموضع «نساءنا» ودعا أمير المؤمنين عليه‌السلام فكان نفسه بحكم الله عزوجل! وقد ثبت أنّه ليس أحد من خلق الله سبحانه أجلّ من رسول الله وأفضل ، فوجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله (علي) بحكم الله عزوجل.

فقال المأمون : أليس قد ذكر الله الأبناء بلفظ الجمع وإنّما دعا رسول الله ابنيه خاصة ، وذكر النساء بلفظ الجمع وإنّما دعا رسول الله ابنته وحدها ، فلمَ لا يجوز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ، ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره؟! فلا يكون لأمير المؤمنين عليه‌السلام ما ذكرت من الفضل!

فقال الرضا عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين! ما ذكرت ليس بصحيح ؛ وذلك أن الداعي إنّما يكون داعياً لغيره كما يكون الآمر آمراً لغيره ، ولا يصح أن يكون داعياً لنفسه في الحقيقة ، كما لا يكون آمراً لها في الحقيقة ، وإذا لم يدعُ رسول الله رجلاً في المباهلة إلّاأمير المؤمنين عليه‌السلام فقد ثبت أنّه نفسه التي عناها الله تعالى في كتابه وجعل حكمه ذلك في تنزيله.

فقال المأمون : إذا ورد الجواب سقط السؤال (٢).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٨٦ ، الحديث ٣٠.

(٢) الفصول المختارة من العيون والمحاسن : ٣٨.

٧٨

ومن الطريف : أنّ المأمون سأل محمّد بن جعفر بن محمّد العلوي قال : كيف رأيت ابن أخيك؟ فقال له : عالم ، ولم نره يختلف إلى أحد من أهل العلم!.

فقال له المأمون : إنّ ابن أخيك من «أهل البيت» الذين قال فيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا إن أبرار «عترتي» وأطائب أُرومتي أحلم الناس صغاراً وأعلم الناس كباراً ، فلا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم ، لا يخرجونكم من باب هدى ولا يدخلونكم في باب ضلالة» (١).

ولعلّ انقطاع الريان القمي عن القيام بين قادة المأمون في مجلسه برواية الحديث في فضائل علي عليه‌السلام كان بأمر من الفضل بن سهل ، والريان ـ كما مرّ ـ كان من رجاله ، أمره برحلة إلى بعض كور خراسان ، فقال لمعمّر بن خلاد الخراساني ، أُحبّ أن تستأذن لي على أبي الحسن فأُسلّم عليه وأُودّعه ، وأُحبّ أن يكسوني من ثيابه (كما فعل دعبل) وأن يهب لي من الدراهم التي ضُربت باسمه!

قال معمّر : فدخلت على الرضا عليه‌السلام فقال لي مبتدئاً : يا معمّر! ريّان يحبّ أن يدخل علينا وأكسوه من ثيابي واعطيه من دراهمي؟ قال : فقلت : سبحان الله! والله ما سألني إلّاأن أسألك ذلك له. فقال لي : يا معمّر. إنّ المؤمن موفّق (أي إن علمه بذلك من توفيق الله له) ثمّ قال لي : قل له فليجيء! فدخل عليه فسلّم ، فدعا بثوب من ثيابه له وأعطاه في يده شيئاً ، فلمّا خرج سألته : أيّ شيء أعطاك؟ ففتح يده وإذا فيه ثلاثون درهماً (٢)!

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠٤.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٥٤٧ ، الحديث ١٠٣٦ وقبله مثله في قرب الاسناد عن الريان : ٢٧١ ، الحديث ١٢٦٩ ، وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٨ ، الباب ٤٧ ، الحديث ١٠ ، وفيه : ثوبين من ثيابه.

٧٩

وإنّما كان سفر الريّان هذا بعد ما حرّك المأمون به الساكن ممّا قرّر معه الاستمرار والإصرار عليه.

احتجاج المأمون على العباسيين :

قال ابن طاووس : من الطرائف المشهورة : ما بلغ إليه المأمون من مدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأهل بيته عليهم‌السلام ، ما ذكره ابن مسكويه الرازي (م ٤٣١ ه‍) صاحب التاريخ ، في كتاب سمّاه «نديم الفريد» حيث ذكر أن بني هاشم (بني العباس) كتبوا كتاباً إلى المأمون عاتبوه فيه على اتخاذه الرضا عليه‌السلام وليّ عهده ، ويسألونه البيعة لابنه العباس بولاية عهده ، فأجابهم ما هذا لفظه :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآل محمّد على رغم أنف الراغمين!

أما بعد ، فقد عرف المأمون كتابكم وتدبير أمركم ، ومخَض زبدتكم وأشرف على قلوب صغيركم وكبيركم ، وعرفكم مقبلين ومدبرين ، وما آل إليه ما بكم قبل كتابكم في مراوضة الباطل ، وصرْف وجوه الحق عن مواضعها ، ونبذكم كتاب الله تعالى والآثار ، وكل ما جاءكم به الصادق محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى كأنكم من الأُمم السالفة التي هلكت بالخسفة والغرق والريح والصيحة والصواعق والرجم! (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (١)).

وحقِّ الذي هو أقرب إلى المأمون من حبل الوريد لولا أن يقول قائل : إنّ المأمون ترك الجواب عجزاً ؛ لما أجبتكم ، من سوء أخلاقكم وقلة أخطاركم ، وركاكة عقولكم ، ومن سخافة ما تأوون إليه من آرائكم ، فليستمع مستمع ، وليبلِّغ الشاهد الغائب.

__________________

(١) محمّد : ٢٤.

٨٠