موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

فقال أبو جعفر : «نعم ـ يا أمير المؤمنين! إنّ المحرم إذا قتل صيداً في الحل ، والصيد من ذوات الطير من كبارها ، فعليه شاة. وإذا أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً. وإذا قتل فرخاً في الحل فعليه حَمل قد فطُم ، وليس عليه قيمة لأنه ليس في الحرم ؛ وإذا قتله في الحرم فعليه الحَمل وقيمته لأنه في الحرم ، وإذا كان من الوحش فعليه : في حمار الوحش بدنة ، وكذلك في النعامة ؛ فإن لم يقدر فعليه إطعام ستين مسكيناً ؛ فإن لم يقدر فصيام ثمانية عشر يوماً. وإن كانت بقرة فعليه بقرة ؛ فإن لم يقدر فعليه إطعام ثلاثين مسكيناً ، فمن لم يقدر فليصم تسعة أيام. وإن كان ضبياً فعليه شاة ؛ وإن لم يقدر فإطعام عشرة مساكين ؛ فإن لم يقدر فصيام ثلاثة أيام. وإن كان في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة حقاً واجباً عليه أن ينحره إن كان في حج بمنى حيث ينحر الناس ، وإن كان في عمرة ينحره بمكة ويتصدق بمثل ثمنه حتى يكون مضاعفاً. وكذلك إذا أصاب أرنباً فعليه شاة. وإذا قتل الحمامة تصدق بدرهم ، أو يشترى به طعاماً لحمام الحرم ، وفي الفرخ نصف درهم. وفي البيضة ربع درهم. وكل ما أتى به المحرم بجهالة فلا شيء عليه فيه إلّاالصيد فإنّ عليه الفداء بجهالة كان أو بعلم ، بخطأ كان أو بعمد. وكل ما أتى به العبد فكفارته على صاحبه بمثل ما يلزم صاحبه ، وكل ما أتى به الصغير الذي ليس ببالغ فلا شيء عليه فيه. وإن كان ممن عدا فهو ينتقم الله منه ليس عليه كفارة والنقمة في الآخرة وإن دلّ على الصيد وهو محرم فقُتل فعليه الفداء ، والمصرّ عليه يلزمه بعد الفداء عقوبة الآخرة ، والنادم عليه لا شيء عليه بعد الفداء. وإذا أصاب طيراً ليلاً في وكرها خطأ فلا شيء عليه إلّاأن يتعمده ، فإن تعمّد بليل أو نهار فعليه الفداء ، والمحرم بالحج ينحر الفداء بمنى حيث ينحر الناس ، والمحرم للعمرة ينحر بمكة».

ثمّ دعا المأمون أهل بيته الذين أنكروا عليه تزويجه (ومعه قاضيه ابن الأكثم والوزراء والقواد ، فقرأ عليهم جواب الإمام عليه‌السلام) فقال لهم : هل فيكم أحد

٢٢١

يجيب مثل هذا الجواب؟ قالوا : لا والله ولا القاضي! فقال لهم : ويحكم! إنّ أهل هذا البيت خلو من هذا الخَلق! أو ما علمتم أنّ أباه علياً عليه‌السلام ما دعا رسول الله طفلاً غيره إلى الإيمان وهو ابن اثني عشرة سنة ، وقبل الله ورسوله منه إيمانه ولم يقبل من طفل غيره! أو ما علمتم أنها ذرية بعضها من بعض يجري لآخرهم مثل ما جرى لأوّلهم؟!

فقالوا له : يا أمير المؤمنين! صدقت وكنت أنت أعلم به منّا!

وكان المأمون قد أعدّ ثلاثة أطباق تُنثر على أبي جعفر الجواد عليه‌السلام ، فيها رقاع مسك وزعرفان معجون بماء الورد ، وجوفها رقاع : على طبق رقاع عمالات (عمل إداري حكومي سياسي) وفي الطبق الثاني رقاع فيها ضياع (وعقارات) طعمة لمن أخذها ، والثالث فيه بُدر (فيها دنانير ودراهم) فأمر المأمون أن يؤتى بها ، فأمر أن يفرّق الطبق الذي عليه العمالات على بني هاشم (العباسيين وغيرهم) خاصة ، والذي عليه رقاع الضياع على الوزراء! والذي عليه البُدر على قوّاد جنوده (١).

هذا ما جاء في «تحف العقول» و «الاختصاص» عن القمي ، والقمي في «تفسيره» ويزيد عليه ما أخرجه عنه المفيد : بأنّ المأمون قال لأبي جعفر عليه‌السلام : يا أبا جعفر! فإن رأيت أن تسأل يحيى (كذا) عن مسألة كما سألك! فقال أبو جعفر ليحيى : أسألك؟ قال : ذلك إليك ـ جعلت فداك! ـ فإن عرفت جواب ما تسألني عنه وإلّا استفدته منك!

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ١٨٤ ـ ١٨٥ ، وتحف العقول : ٣٣٢ ـ ٣٣٤ ، والحرّاني من مشايخ المفيد. وفي الاختصاص : ٩٨ ـ ١٠١ عن القمي ، وهو منسوب إلى المفيد ، ويختلف عن نقله في الإرشاد ويوافق التفسير.

٢٢٢

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : خبّرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراماً ، فلمّا ارتفع النهار حلّت له ، فلمّا زالت الشمس حرمت عليه ، فلمّا كان وقت العصر حلّت له ، فلمّا غربت الشمس حرمت عليه ، فلمّا دخل وقت العشاء الآخرة حلّت له ، فلمّا كان انتصاف الليل حرمت عليه ، فلمّا طلع الفجر حلّت له. ما حال هذه المرأة؟ وبماذا حلّت له وحرمت عليه؟

فقال له يحيى بن أكثم : لا والله ما أهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا أعرف الوجه فيه! فإن رأيت أن تفيدناه.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه ، فلمّا ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له ، فلمّا كان الظهر أعتقها فحرمت عليه ، فلمّا كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له ، فلمّا كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه فلمّا كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظهار فحلّت له ، فلمّا كان نصف الليل طلّقها واحدة فحرمت عليه ، فلمّا كان عند الفجر راجعها فحلّت له.

قال الريّان : فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم : هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب؟! أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال؟!

قالوا : لا والله ، وإن أمير المؤمنين أعلم وأرى.

فقال لهم : ويحكم! إنّ «أهل هذا البيت» خُصّوا من الخلق بما ترون من الفضل! وإنّ صِغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال! أما علمتم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بايع الحسن والحسين عليهما‌السلام وهما ابنا دون الستّ سنين ، ولم يبايع صبيّاً غيرهما! أفلا تعلمون الآن ما اختصّ الله به هؤلاء القوم ، وأنهم ذريّة بعضها من بعض يجري لآخرهم ما يجري لأولهم؟!

٢٢٣

فصدّقوه ، ثمّ نهض القوم .. وانصرفوا وهم أغنياء بالعطايا والجوائز ، وأمر المأمون بالصدقة على كافّة المساكين .. وأخذ يكرم أبا جعفر عليه‌السلام ويعظم قدره ويؤثره على ولده وجماعة أهل بيته (١) وفيه جعل الجوائز والعطايا في آخر الخبر ، وذكرت ما انفرد به دون المكرّر فيهما ، فلو كان «الاختصاص» منه أيضاً فمعناه أنه فيه اكتفى بخبر القمي في تفسيره ، وفي «الإرشاد» رجّح الأشمل والأكمل. وكل ذلك كان عقداً ، والزفاف سيأتي في سنة (٢١٥ ه‍) (٢).

عودة الإمام من مدينة السلام :

عاد الجواد عليه‌السلام من بغداد إلى المدينة ، بلا زفاف فليست معه أُم الفضل ، وذلك وقبيل الغروب ومعه الناس يشايعونه ، وعند مغيب الشمس انتهى إلى المسجد عند دار المسيّب في شارع باب الكوفة ، فأوقف القافلة ونزل عند المسجد ليصلي فيه المغرب ، ودخل صحن المسجد وكانت فيه شجرة سدرة لم تحمل نبقاً بعد ، ودعا بماء فتوضأ عند السدرة.

ثمّ دخل وتقدّم فصلّى بالناس صلاة المغرب ، فقرأ في الأُولى منها الحمد و «إذا جاء نصر الله» وقرأ في الثانية الحمد و «قل هو الله أحد» وقنت قبل ركوعه فيها. ثمّ صلّى النوافل أربع ركعات ثمّ عقّب بعدها ثمّ سجد سجدتي الشكر! وخرج ، فرأى الناس أنّ السدرة قد حملت وقطفوا من نبقها فكان حلواً لا عُجم له (٣) وصلاة الجماعة العامة تؤيد كون عمر الإمام عليه‌السلام (١٦) عاماً كما مرّ عن الطبري الإمامي.

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢٨٦ ـ ٢٨٨ عن القمي عن الريان بن شبيب خال المعتصم.

(٢) الطبري ٨ : ٦٢٣.

(٣) الإرشاد ٢ : ٢٨٨ ـ ٢٨٩ ويلاحظ إتمام السور والقنوت والنوافل والتفريق بين الصلاتين.

٢٢٤

تبرّي المأمون من معاوية وتفضيله :

قال الطبري في حوادث عام (٢١١ ه‍) : وفيها تبرّأ المأمون ممّن يذكر معاوية بالخير أو يفضّله على أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمر منادياً ينادي بذلك فنادى (١).

قال المسعودي : قيل إن سبب ذلك : أنّ بعض سُمّاره حدّثه بحكاية عن المُطرّف بن المغيرة بن شعبة ، حكاها أبو الحسن علي بن محمد المدائني قال : قال المطرّف بن المغيرة : كان أبي يذهب إلى معاوية يتحدث عنده ثمّ ينصرف فيذكر عقله ويُعجب بما يرى منه! إذ جاء ذات ليلة فرأيته مغتماً وأمسك عن العشاء. وظننت أنّه لشيء حدث من عملنا ، فانتظرته ساعة ثمّ قلت له : ما لي أراك مغتمّاً منذ الليلة؟ فقال : يا بُني ، إني جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم (٢)! قلت : وما ذاك؟!

قال : خلوت به فقلت له : يا أمير المؤمنين! إنك قد بلغت سنّاً وقد كبرت ، فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً! فنظرت إلى اخوتك من بني هاشم! فوصلت أرحامهم ، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه! وإنّ ذلك ممّا يبقى لك ذكره وثوابه!

فقال لي : هيهات هيهات! ملك أخو تيم (أبو بكر) فعدل وفعل ما فعل ، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره ، إلّاأن يقول قائل : أبو بكر. ثمّ ملك أخو عدي (عمر) فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فو الله ما عدا أن هلك فهلك ذكره ، إلّاأن يقول قائل : عمر! ثمّ ملك أخونا (عثمان) فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٦١٨.

(٢) حكاها المسعودي في مروج الذهب ٣ : ٤٥٤ ، والمعتزلي في شرح نهج البلاغة ٥ : ١٢٩ ـ ١٣٠. كلاهما عن الموفقيات للزبير بن بكار ففي الثاني : أكفر الناس ، والمسعودي : أخبث الناس! تخفيفاً بل تحريفاً سخيفاً!

٢٢٥

فعمل ما عمل وعُمل به ، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره وذكرُ ما فُعل به. وإنّ ابن أبي كبشة (١) يُصرخ به كل يوم خمس مرّات : «أشهد أن محمداً رسول الله» فأيُّ عمل يبقى مع هذا؟! وأيّ ذكر يدوم مع هذا؟! لا امّ لك! لا والله إلّا دفناً دفناً!

فالمأمون لما سمع هذا الخبر بعثه ذلك على ما أمر من النداء ، وانشئت الكتب إلى الآفاق «بلعنه» على المنابر! فأعظم الناس ذلك وأكبروه واضطربت العامة منه ، فاشير عليه بتركه فأعرض عنه (٢).

وتوفي في هذه السنة (٢١١ ه‍) عبد الرزاق بن همام (٣) الصنعاني اليمني في بغداد ، صاحب «المصنَّف» في الحديث ، وشيخ أحمد بن حنبل الشيباني البغدادي ، ولعلّه أخرج في كتابه ما جرّ ابن الوردي أن يقول عنه : «المحدث المتشيع» (٤)! وقال : وتوفي فيها بالبصرة أبو عبيدة معمر بن المثنّى التيمي ، والأخفش النحوي (الأوسط) أبو الحسن سعيد بن مسعدة والخفش : صِغر العين وسوء النظر ، وكان سيبويه الفارسي عرض كتابه «الكتاب» عليه.

__________________

(١) كنايتهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخفّفها المسعودي أيضاً إلى : أخا هاشم!

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٥٤ ـ ٤٥٥ وهو وإن نقل الخبر عن كتاب الأخبار الموفقيات للزبير بن بكار (م ٢٥٦ ه‍) إلّا أنّ محادثة سامر المأمون له كان سابقاً على الموفقيات عن المدائني المعاصر لهم (م ٢٢٠ ه‍) وعلّق المعتزلي على ابن بكار قال : كان معلوم الحال بالانحراف عن علي عليه‌السلام فهو غير متهم على معاوية ولا هو منسوب إلى الشيعة. ونقل أصحابنا (المعتزلة) عن معاوية في فلتات ألفاظه وسقطات كلامه ما يدل على أنّه كان ملحداً لا يعتقد بالنبوة! شرح النهج ٥ : ١٢٩.

(٣) تاريخ خليفة : ٣١٤.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٩.

٢٢٦

إعلان المأمون تفضيل علي عليه‌السلام :

قال الطبري في حوادث عام (٢١٢ ه‍) : في شهر ربيع الأول منها أظهر المأمون القول بتفضيل علي عليه‌السلام أنّه أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) وتفضيله على جميع الصحابة (٢) وعطفه السيوطي على البراءة من معاوية قال : فيها أمر المأمون بأن ينادى : برئت الذمة ممّن ذكر معاوية بخير ، وأن أفضل الخلق بعد النبي علي بن أبي طالب .. وفضّله على أبي بكر وعمر. وأظهر القول بخلق القرآن مضافاً إلى ذلك ، فاشمأزّت منه النفوس وكاد أن يفتتن البلد فكفّ عنه (٣).

وقد ورد تفصيل هذا التفضيل في ما أسنده الصدوق عن إسحاق بن حماد بن زيد (الأزدي البغدادي القاضي؟) قال : سمعنا القاضي يحيى بن أكثم التميمي قال (٤) : أمرني المأمون باحضار جماعة من أهل الحديث وجماعة من أهل الكلام والنظر. فجمعت له من الصنفين زهاء أربعين رجلاً ، ثمّ مضيت بهم إلى مجلس الحاجب ، ودخلت عليه فأعلمته ، فأمرني بادخالهم ، فدخلوا وسلّموا فقال لهم : ضعوا أرديتكم وسلّوا أخفافكم ومن كان منكم حاقناً (ببول) أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته وانبسطوا ، فإني اريد أن أجعلكم في يومي هذا حجة بيني وبين الله تبارك وتعالى!

فقاموا وفعلوا ما أرادوا واجتمعوا إليه فقال لهم : يا أيها القوم! إنما استحضرتكم لأحتجّ بكم عند الله تعالى! فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم وإمامكم ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٦١٩.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٩.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٦٦.

(٤) هنا يحكي عن ابن أكثم وفي أواخر الخبر خطاب المأمون لإسحاق الراوي! كما يأتي.

٢٢٧

ولا يمنعكم جلالتي ومكاني من قول الحق حيث كان ، وردّ الباطل على من أتى به ، وأشفقوا على أنفسكم من النار! وتقربوا إلى الله تعالى برضوانه وإيثار طاعته فما أحد تقرّب إلى مخلوق بمعصية الخالق إلّاسلّطه الله عليه! فناظروني بجميع عقولكم!

ثمّ قال : إني رجل أزعم أنّ علياً خير البشر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! فإن كنت مصيباً فصوّبوا قولي ، وإن كان خطأً فهلّموا وردّوا عليَّ! فإن شئتم سألتكم وإن شئتم فاسألوني.

فقال بعض أهل الحديث : بل نسألك! فقال : هاتوا ، وقلّدوا كلامكم رجلاً واحداً منكم ، فإذا تكلّم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزد ، وإن أتى بخلل فسدّدوه.

فقال قائل منهم : إنما نزعم نحن أنّ خير الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر من قِبل أنّ الرواية المُجمع عليها عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله جاءت أن قال : اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر! فلمّا أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما علمنا أنّه لم يأمر بالاقتداء إلّابخير الناس.

فقال المأمون : الروايات كثيرة ، ولابدّ من أن تكون كلّها حقاً ، أو كلهّا باطلاً ، أو بعضها حقاً وبعضها باطلاً. فلو كانت كلّها حقاً لزم أن تكون كلها باطلاً! من قبل أن بعضها ينقض بعضاً! ولو كانت كلّها باطلاً كان في بطلانها بطلان الدين واندراس الشريعة. فلمّا بطل الوجهان ثبت الثالث بالضرورة ، وهو : أنّ بعضها حق وبعضها باطل. وإذا كان كذلك فلابدّ من دليل يدلّ على ما يحقّ منها ليُعتقد ويُنفى خلافه ، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقّاً كان أولى ما أعتقده وآخذ به.

وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها ؛ وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحكم الحكماء وأولى الخلق بالصدق ، وأبعد الناس عن الأمر بالمحال

٢٢٨

وعن حمل الناس على التدين بالخلاف. وذلك أنّ هذين الرجلين لا يخلوا من أن يكونا متفقين من كل جهة ، أو مختلفين؟ فإن كانا متفقين من كل جهة لزم أن يكونا واحداً في العدد والصفة والصورة والجسم ، وهذا معدوم أن يكون اثنان معنى واحداً من كل جهة. وإن كانا مختلفين ، فكيف يجوز الاقتداء بهما؟! وهذا تكليف بما لا يُطاق ؛ لأنّك إذا اقتديت بواحد خالفت الآخر.

والدليل على اختلافهما : أنّ أبا بكر سبى أهل الردة ، وعمر ردّهم أحراراً! وأشار عمر على أبي بكر بعزل خالد وبقتله بمالك بن نويرة فأبى عليه أبو بكر! وعمر حرّم المتعتين ، ولم يفعله أبو بكر! ووضع عمر «ديوان العطايا» ولم يفعله أبو بكر ، واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر ، وله نظائر كثيرة (١).

فقال آخر من أصحاب الحديث : فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر!

فقال المأمون : هذا مستحيل ؛ من قِبَل أنّ رواياتكم أنّه آخى بين أصحابه وأخّر علياً ، فقال له في ذلك ، فقال له : «ما أخّرتك إلّالنفسي» فأي الروايتين ثبتت بطلت الأُخرى!

قال الآخر : إنّ علياً قال على المنبر : خير هذه الأُمة بعد نبيّها أبو بكر وعمر!

__________________

(١) علّق الصدوق هنا فقال : هنا معنى لم يذكره المأمون ، وهو : أنهم لم يرووا أنّ النبيّ قال : اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر! وإنما ورد : أبو بكر وعمر ، ومنهم من روى : أبا بكر وعمر. فلو كانت الرواية صحيحة لكان معنى قوله بالنصب (أبا بكر وعمر) : اقتدوا باللذَين من بعدي (كتاب الله وعترتي) يا أبا بكر وعمر! وعلى قوله بالرفع (أبو بكر وعمر): (أيها الناس) وأبو بكر وعمر اقتدوا باللذَين من بعدي (كتاب الله وعترتي).

٢٢٩

قال المأمون : هذا مستحيل ؛ من قبل أن النبيّ لو علم أنهما أفضل ما ولّى عليهما مرّة عمرو بن العاص ومرّة أُسامة بن زيد. وممّا يكذّب هذه الرواية قول علي لمّا قبض النبيّ : «أنا أولى بمجلسه منّي بقميصي هذا ولكنّي أشفقت أن يرجع الناس كفاراً» وقوله : «أنى يكونان خيراً مني وقد عبدت الله تعالى قبلهما وعبدته بعدهما».

قال آخر : فإنّ أبا بكر أغلق بابه وقال : هل مستقيل (لبيعته) فأقبله؟! فقال له علي : قدّمك رسول الله فمن ذا يؤخّرك؟!

فقال المأمون : هذا باطل ؛ من قِبَل أنّ علياً قعد عن بيعة أبي بكر ، ورويتم! أنّه قعد عنها حتى قُبضت فاطمة ، وأنها أوصت أن تدفن ليلاً لئلّا يشهدا جنازتها. ووجه آخر ، وهو أنّه إن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله استخلفه فكيف كان له أن يستقيل؟! وهو يقول للأنصار : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين : أبا عبيدة وعمر!

قال آخر : إنّ عمرو بن العاص قال : يا نبيّ الله ، من أحبّ الناس إليك من النساء؟ قال : عائشة! فقال : ومن الرجال؟ قال : أبوها.

فقال المأمون : هذا باطل ؛ من قِبَل أنكم رويتم : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وُضع بين يديه طائر مشوي فقال : «اللهم ايتني بأحبّ خلقك إليك» فكان علياً! فأيّ روايتيكم تُقبل؟!

فقال آخر : فإنّ علياً قال : من فضّلني على أبي بكر وعمر جلدته حدّ المفتري!

قال المأمون : كيف يجوز أن يقول علي : أجلد الحدّ ، على من لا يجب عليه الحدّ؟! فيكون متعدياً لحدود الله عزوجل عاملاً بخلاف أمره؟! وليس تفضيل من فضّله عليهما فرية! وقد رويتم عن إمامكم أنّه قال : «وليتكم ولست بخيركم» فأي الرجلين أصدق عندكم : أبو بكر على نفسه أو علي على أبي بكر؟!

٢٣٠

مع تناقض الحديث في نفسه! فلابدّ له في قوله من أن يكون صادقاً أو كاذباً ، فإن كان صادقاً فأ نّى عرف ذلك؟ بوحي؟ فالوحي منقطع ، أو بالتظنّي فالتظنّي متحيَّر ، أو بالنظر فالنظر مبحث. وإن كان غير صادق فمن المحال أن يلي أمر المسلمين ويقوم بأحكامهم ويقيم حدودهم كذّاب!

قيل : فقد جاء أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة!

قال المأمون : هذا الحديث محال ؛ لأنّه لا يكون في الجنة كهل ، ويُروى أنّ امرأة أشجعية كانت عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «لا يدخل الجنة عجوز» فبكت ، فقال النبي : إنّ الله تعالى يقول : (إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً* فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً* عُرُباً أَتْرَاباً (١)) فإن زعمتم أنّ أبا بكر يُنشأ شاباً إذا دخل الجنة فقد رويتم : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال للحسن والحسين : «إنهما سيّدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين ، وأبوهما خير منهما».

قال آخر : فقد جاء أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لو لم أكن ابعث فيكم لبُعث عمر!

قال المأمون : هذا مُحال : لأنّ الله تعالى يقول : (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ (٢)) وقال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (٣)) فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ ميثاقه على النبوة مبعوثاً ومن اخذ ميثاقه ومؤخّراً؟!

قال آخر : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم عرفة نظر إلى عمر فقال : إنّ الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة وبعمر خاصة!

__________________

(١) الواقعة : ٣٥ ـ ٣٧.

(٢) النساء : ١٦٣.

(٣) الأحزاب : ٧.

٢٣١

فقال المأمون : هذا مستحيل ، من قِبَل أن الله تبارك وتعالى لم يكن ليباهى بعمر ويدع نبيّه ، فيكون عمر في الخاصة والنبي في العامة!

ثمّ قال المأمون : وليست هذه الروايات بأعجب من روايتكم : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : دخلت الجنة (في المعراج) فسمعت خفق نعلين فإذا بلال مولى أبي بكر سبقني إلى الجنة! وإنما قالت «الشيعة» : علي خير من أبي بكر ، فقلتم : عبد أبي بكر خير من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ السابق أفضل من المسبوق!

قال : وكما رويتم : أنّ الشيطان يفرّ من ظل عمر! و (رويتم) : أنّ الشيطان ألقى على لسان نبي الله : «وهي الغرانيق العلى»! فهو فرّ من عمر ، ولكنه ألقى على لسان النبيّ الكفر بزعمكم!

قال آخر : قد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو نزل العذاب ما نجا إلّاعمر بن الخطاب!

قال المأمون : هذا خلاف الكتاب أيضاً ؛ لأنّ الله تعالى يقول لنبيّه : (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ (١)) فجعلتم عمر مثل الرسول!

قال آخر : فقد شهد النبيّ لعمر بالجنة في «عشرة» من الصحابة.

قال المأمون : لو كان هذا كما زعمتم لما كان عمر يقول لحذيفة : نشدتك بالله أمن «المنافقين» أنا؟ فإن كان قد قال له النبيّ : أنت من أهل الجنة ، ولم يصدّقه حتى زكّاه حذيفة ؛ فصدّق حذيفة ولم يصدّق النبي ، فهذا على غير الإسلام! وإن كان قد صدّق النبيّ فلِم سأل حذيفة؟! فهذان الخبران متعارضان.

قال الآخر : فقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : وضعتُ في كفّة الميزان ووضعت أُمتي في كفّة أُخرى فرجحتُ بهم ، ثمّ وُضع مكاني أبو بكر فرجح بهم ، ثمّ عمر فرجح بهم ، ثمّ رُفع الميزان!

__________________

(١) الأنفال : ٣٣.

٢٣٢

فقال المأمون : هذا محال ، مِن قِبل أن لا يخلو من أن يكون الموزون أجسامهما أو أعمالهما ؛ فإن كانت الأجسام فلا يخفى على ذي روح أنّه محال ، لأنّه لا يرجح أجسامهما بأجسام الأُمة! وإن كانت أفعالهما فلم تكن بعد ، فكيف يرجح بما ليس (موجوداً)!

ثمّ قال لهم : أخبروني بما يتفاضل الناس؟ فقال بعضهم : بالأعمال الصالحة.

قال : فأخبروني عمّن فضل صاحبه على عهد النبيّ ثمّ إنّ المفضول عمل بعد وفاة رسول الله بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي ، أيلحق به؟ فإن قلتم :

نعم ، أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهاداً وحجاً وصوماً وصلاة وصدقة من أحدهم.

ثمّ قال المأمون : فانظروا فيما روت أئمتكم ـ الذين عنهم أخذتم أديانكم ـ في فضائل علي ، وقيسوا إليها ما رووا في فضائل تمام «العشرة» الذين شهدوا لهم بالجنة ، فإن كانت جزءاً من أجزاء كثيرة فالقول قولكم. وإن كانوا قد رووا في فضائل علي أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا ولا تعدوه.

ثمّ قال المأمون : فإني أسألكم : خبّروني أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

قالوا : السبق إلى الإسلام ؛ لأنّ الله تعالى يقول : (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١)).

قال : فهل علمتم أحداً أسبق من علي إلى الإسلام؟!

قالوا : إنه سبق حدثاً لم يجر عليه حكم ، وأبو بكر أسلم كهلاً قد جرى عليه الحكم ، وبين هاتين الحالتين فرق!

__________________

(١) الواقعة : ١٠ و ١١.

٢٣٣

قال المأمون : فخبّروني عن إسلام علي كان بإلهام من قبل الله تعالى. فإن قلتم : بإلهام ، فقد فضّلتموه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله! لأنّ النبيّ لم يُلهم بل أتاه جبرئيل داعياً عن الله تعالى! وإن قلتم بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهل دعاه من قبل نفسه؟ أو بأمر الله تعالى؟ فإن قلتم من قبل نفسه فهذا خلاف ما وصف الله تعالى به نبيّه في قوله تعالى : (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (١)) وفي قوله تعالى : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٢)). وإن كان من قبل الله تعالى فقد أمر الله تعالى نبيّه بدعاء علي من بين صبيان الناس وإيثاره عليهم فدعاه ، ثقةً به وعلماً بتأييد الله تعالى له.

قال : وخُلّة أُخرى : خبّروني عن الحكيم هل يجوز أن يكلّف خلقه ما لا يطيقون؟ فإن قلتم : نعم ، فقد كفرتم! وإن قلتم : لا ، فكيف يجوز أن يأمر نبيّه بدعاء من لا يمكنه قبول ما يؤمر به لصغره وحداثة سنّه وضعفه عن القبول؟!

قال : وخُلّة أُخرى : هل رأيتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا أحداً من صبيان أهله وغيرهم فيكونوا أُسوة بعلي؟ فإن زعمتم أنه لم يدعُ غيره فهذه فضيلة لعلي على جميع صبيان الناس.

ثمّ قال : وبعد السبق إلى الإيمان أي الأعمال أفضل؟ قالوا : الجهاد في سبيل الله.

قال : فهل تجدون لأحد من «العشرة» في الجهاد ما لعلي في جميع مواقف النبيّ من الأثر؟ هذه بدر قُتل فيها من المشركين نيف وستون رجلاً ، قَتل علي منهم نيفاً وعشرين ، وأربعون لسائرهم.

فقال قائل : كان أبو بكر مع النبيّ في عريشه يدبّرها!

__________________

(١) ص : ٨٦.

(٢) النجم : ٣ و ٤.

٢٣٤

فقال المأمون : لقد جئت بها عجيبة! أكان يدبر دون النبيّ؟ أو معه فيشركه؟ أو لحاجة النبيّ إلى رأي أبي بكر؟ أي الثلاث أحبّ إليك أن تقول؟

فقال : أعوذ بالله من أن أزعم أنه كان يدبّر دون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو يشركه ، أو بافتقار من النبيّ إليه.

قال : فما الفضيلة في العريش؟ فإن كانت فضيلة لأبي بكر بتخلّفه عن الحرب فيجب أن يكون كل متخلف فاضلاً أفضل من المجاهدين! والله عزوجل يقول : (لَايَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (١)).

وهنا يتداخل الخبر ، فبعد أن كان الراوي إسحاق بن حمّاد بن زيد يروي عن يحيى بن أكثم ، هنا يقول :

قال لي المأمون : يا إسحاق إقرأ : (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) فقرأت حتى بلغت : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) إلى قوله : (وَكَانَ سَعيُكُمْ مَشكُوراً) فقال لي : فيمن نزلت هذه الآيات؟ فقلت : في علي ، فقال : فهل بلغك أنّ علياً قال : (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ (٢)) على ما وصف الله عزوجل في كتابه؟ قلت : لا. قال : فإنّ الله عرف سريرة علي ونيّته فاظهر ذلك في كتابه تعريفاً لخلقه بأمره! فهل علمت أنّ الله وصف في شيء ممّا وصف في الجنة ما في هذه السورة؟ قلت : لا ، قال : فهذه فضيلة أُخرى.

__________________

(١) النساء : ٩٥.

(٢) الدهر : ١ ، ٨ ، ٢٢ ، ٩.

٢٣٥

ثمّ قال : يا إسحاق ؛ ألست ممّن يشهد أنّ «العشرة» في الجنة؟ قلت : بلى ، قال : أرأيت لو أنّ رجلاً قال : ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا؟ أيكون كافراً عندك؟ (وهو من قضاة بغداد) قال : قلت : لا. قال : أفرأيت لو قال : ما أدري هذه السورة من القرآن أم لا ألا يكون كافراً عندك؟ قلت : بلى. قال : فأرى أنّ فضل الرجل (علي) يتأكّد!

ثمّ قال لي : يا إسحاق ، خبّروني عن حديث «الطائر المشوي» أغير صحيح عندك؟ قلت : بلى. قال : لا يخلو هذا من أن يكون (علي) كما دعاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (أحبّ خلقه إليه) أو يكون (دعاؤه) مردوداً؟ أو عرف الله الفاضل من خلقه وكان المفضول أحبّ إليه؟ أو تزعم أنّ الله لم يعرف الفاضل من المفضول؟ فأيّ الثلاث أحبّ إليك أن تقول به؟!

قال إسحاق : فقلت : يا أمير المؤمنين ؛ إنّ الله تعالى يقول في أبي بكر : (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَاتَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا (١)) فنسبه الله إلى صحبة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال المأمون : سبحان الله! ما أقل علمك باللغة والكتاب! أما يكون الكافر صاحباً للمؤمن؟! فأي فضيلة في هذا؟! أما سمعت قول الله تعالى : (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٢)) فقد جعله له صاحباً. وقال الهذلي شعراً :

ولقد غدوت وصاحبي وحشية

تحت الرداء بصيرة بالمشرق!

وقال الأزدي شعراً :

ولقد ذعرت الوحش فيه وصاحبي

محض القوائم من هجان الهيكل

__________________

(١) التوبة : ٤٠.

(٢) الكهف : ٣٧.

٢٣٦

فصيّر فرسه صاحبه.

وأما قوله : (إِنَّ اللهَ مَعَنَا) فإنّ الله مع البرّ والفاجر! أما سمعت قوله تعالى : (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا (١)).

وأما قوله : (لَاتَحْزَنْ») فأخبرني أكان حزن أبي بكر طاعة أو معصية؟ فإن زعمت أنه طاعة فقد جعلت النبيّ ينهى عن الطاعة ، وهذا خلاف صفة الحكيم. وإن زعمت أنّه معصية فأيّة فضيلة؟!

ثمّ خبّرني عن قوله تعالى : (فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ») على مَن؟ قال إسحاق ، قلت : على أبي بكر ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مستغنياً عن السكينة!

فقال : إنّ الناس انهزموا يوم حُنين فلم يبق مع النبيّ إلّاسبعة من بني هاشم! علي يضرب بسيفه ، والعباس بيده لجام بغلة رسول الله ، وخمسة يحدقون بالنبيّ أن لا يناله سلاح الكفار ، حتّى أعطى الله رسوله الظفر فقال : (ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٢)) فعنى بالمؤمنين هنا علياً ومن حضر من بني هاشم. فمن كان أفضل؟ أمن كان مع النبيّ فنزلت السكينة على النبيّ وعليه؟ أم من كان مع النبيّ في الغار ولم يكن أهلاً لنزولها عليه؟!

يا إسحاق ؛ إنّ الله تبارك وتعالى أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأمر علياً بالنوم على فراشه ووقايته بنفسه (للهجرة) فأمره بذلك. فقال علي : أتسلم يا رسول الله؟ قال : نعم. قال : إذن طاعة وسمعاً. ثمّ أتى مضجعه وتسجّى بثوبه ، وأحدق المشركون به لا يشكون في أنّه النبيّ ، وقد أجمعوا على أن يضربه من كل بطن رجل ضربة لئلّا يطلب الهاشميون بدمه! وعلي يسمع بأمر القوم فيه ، من التدبير في تلف نفسه ،

__________________

(١) المجادلة : ٧.

(٢) التوبة : ٤٠ و ٢٦.

٢٣٧

فلم يدعُه ذلك إلى الجزع كما جزع أبو بكر في الغار وهو مع النبيّ وعلي وحده! فلم يزل صابراً محتسباً.

فبعث الله تعالى ملائكة تمنعه من مشركي قريش. فلمّا أصبح قام ، فنظر القوم إليه وقالوا : أين محمد؟ قال : وما علمي به؟ قالوا : فأنت غررتنا! ثمّ لحق بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

يا إسحاق ، فمن أفضل؟ من كان مع النبيّ في الغار؟ أو من نام على مهاده وفراشه ووقاه بنفسه حتى تمّ للنبيّ ما عزم عليه من الهجرة؟! ثمّ قال : لم يزل عليٌّ أفضل لما بدا منه ، ما يزيد إلّاخيراً ، حتى قبضه الله تعالى إليه وهو محمود مغفور له.

يا إسحاق ، أما تروي حديث الولاية؟ قلت : بلى. قال : إروه. فرويته. فقال : أما ترى إنه أوجب لعلي على أبي بكر وعمر من الحق ما لم يوجب لهما عليه؟!

قلت : فإن الناس يقولون : إنّ هذا قاله بسبب زيد بن حارثة (؟!) فقال : أين قال النبيّ هذا؟ قلت : بغدير خم منصرفه من حجة الوداع. قال : فمتى قُتل زيد بن حارثة؟ قلت : بمؤتة. قال : أفليس قد كان قتل زيد بن حارثة قبل غدير خم؟ قلت : بلى.

ثمّ قال : أرأيت لو رأيت ابناً لك أتت عليه خمسة عشر سنة يقول : مولاي مولى ابن عمّي أيها الناس فأقبلوا! أكنت تكره ذلك؟ قلت : نعم. قال : أفتنزّه ابن عمّك عما لا تنزّه النبيّ عنه!

ثمّ التفت إليهم وقال لهم : ويحكم! أجعلتم فقهاءكم أربابكم؟! إنّ الله تعالى يقول : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ (١)) والله ما صلّوا لهم ولا صاموا ، ولكنهم أمروهم فأطاعوهم!

__________________

(١) التوبة : ٣١.

٢٣٨

ثمّ قال لي : أتروي قول النبيّ لعلي : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» قلت : نعم ، قال : أما تعلم أنّ هارون أخو موسى لأبيه وأُمه؟ قلت : بلى. قال : فعلي كذلك؟ قلت : لا. قال : وهارون نبيّ وليس علي كذلك ، فما المنزلة الثالثة إلّا الخلافة. وهذا كما حكى الله عن موسى حيث يقول لهارون : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١)).

فقلت : إنّ موسى خلّف هارون في قومه وهو حي ثمّ مضى إلى ميقات ربّه تعالى ، وإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خلّف علياً حين خرج إلى غزاته (تبوك)!

فقال : أخبرني عن موسى حين خلّف هارون أكان معه حيث مضى إلى ميقات ربه عزوجل أحد من أصحابه؟ قلت : نعم. قال : أليس قد استخلفه على جميعهم؟

قلت : بلى. قال : فكذلك علي خلّفه النبيّ حين خرج إلى غزاته في الضعفاء والنساء والصبيان ، إذ كان أكثر قومه معه ، وإن كان قد جعله خليفة على جميعهم.

والدليل على أنّه جعله خليفة عليهم في حياته إذا غاب وبعد موته قوله : «علي مني بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبيّ بعدي» وهو وزير النبيّ أيضاً بهذا القول ، لأن موسى قد دعا الله تعالى وقال فيما دعا : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٢)).

فإذا كان علي منه بمنزلة هارون من موسى فهو وزيره كما كان هارون وزير موسى ، وهو خليفته كما كان هارون خليفة موسى عليه‌السلام.

ثمّ أقبل على أصحاب الكلام والنظر :

فقال لهم : أسألكم أو تسألوني؟ قالوا : بل نسألك. قال : قولوا.

__________________

(١) الأعراف : ١٤٢.

(٢) طه : ٢٩ ـ ٣٢.

٢٣٩

فقال قائل منهم : أليست إمامة علي (١) من قبل الله عزوجل نُقل ذلك عن رسول الله؟ قال : بلى.

قال : فما بالهم لم يختلفوا في الفرائض واختلفوا في خلافة علي وحدها؟

قال المأمون : لأنّ جميع الفرائض لا يقع فيها من التنافس والرغبة ما يقع في الخلافة!

فقال آخر : أفهل تنكر أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله دون أن يستخلف هو بنفسه أمرهم باختيار رجل منهم يقوم مقامه ، رأفة بهم ورقّة عليهم أن يستخلف هو بنفسه فيعصى فينزل بهم العذاب؟!

قال : أُنكر ذلك ؛ من قِبَل أنّ الله تعالى أرأف بخلقه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد بعث نبيّه إليهم وهو يعلم أنّ فيهم مطيع وعاص فلم يمنعه ذلك من إرساله إليهم.

وعلة أُخرى : أن لو أمرهم باختيار رجل منهم فلا يخلو من أن : يأمرهم كلهم؟ أو بعضهم ، فلو أمر الكل فمن يكون المختار؟ ولو أمر بعضاً دون بعض فلا يخلو أن يكون عليه علامة ، فإن كانوا الفقهاء فلابدّ من تحديد الفقيه وسمته (كذا).

فقال آخر : فقد روي : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن عند الله! وما رأوه قبيحاً فهو قبيح عند الله!

فقال المأمون : فلابدّ من أن يكون يريد كل المؤمنين أو بعضهم ، فإن أراد الكل فهذا مفقود ؛ لأنّه لا يمكن اجتماع الكل ، وإن كان البعض فقد روى كلٌ في صاحبه حسناً : مثل رواية «الشيعة» في علي ، ورواية «الحشوية!» في غيره ، فكيف تثبت الإمامة؟!

قال آخر : أفيجوز أن تزعم أنّ «أصحاب محمد» أخطؤوا؟!

__________________

(١) هكذا ينقلب الحديث هنا من الكلام في تفضيل علي عليه‌السلام إلى القول بإمامته!

٢٤٠