موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

وفاة أبي تمام الطائي الشيعي :

قال المسعودي : في سنة (٢٢٨ ه‍) كانت وفاة أبي تمّام بالموصل (١) وذكره ابن النديم في «الفهرست» ولم يذكره الطوسي في «الفهرست» فاستدركه عليه النجاشي في «فهرست أسماء مصنّفي الشيعة / رجال النجاشي» وذكر له كتابين : كتاب الحماسة ، وكتاب مختار شعر القبائل ، وذكر طريقه إليهما : أبو أحمد بن الحسين البصري وذكر عنه أنّه رأى نسخة عتيقة لعلّها كُتبت في أيامه أو قريباً منها فيها قصيدة يذكر فيها الأئمة حتّى انتهى إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام (وإنما هي نسخة قصيدة وليست نسخة كتاب كبير).

ثمّ نقل عن «كتاب الحيوان» للجاحظ البصري قال : حدّثني أبو تمام الطائي وكان من رؤساء «الرافضة» (٢).

هو حبيب بن ثيودوس العطار الطائي النصراني من قرى الجيدور من أعمال دمشق بالشام ، وأسلم حبيب وانفصم عن أهله إلى مصر وبدّل اسم أبيه إلى أوس وأخذ يسقي الماء في المسجد الجامع في فسطاط ، وكان فهماً فطناً فجالس الأُدباء بالجامع فتعلّم منهم وأخذ عنهم وأحبّ الشعر فتعاطاه حتّى قاله وأجاده وشاع ذكره وسار شعره حتّى بلغ خبره إلى المعتصم لمّا كان على مصر على عهد أخيه المأمون. فلمّا بنى سامرّاء دعاه إليها وقدّمه على شعرائه ، ولم يمنعه ذلك عن تشيّعه بل إماميته ، ومن شعره في الغدير :

فعلتم بأبناء النبيّ ورهطه

أفاعيل أدناها الخيانة والغدر

ومن قبلهم أخلفتم لوصيّه

بداهية دهياء ليس لها قدر

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٨٠ ـ ٤٨٧ وأطال المقال فيه واتهمه بترك الفرائض والخلاعة والمجون!

(٢) رجال النجاشي : ١٤١ برقم ٣٦٧.

٣٢١

أخوه إذا عُدّ الفخار وصهره

فلا مثله أخٌّ ولا مثله صهر!

وشُدّ به أزر النبيّ محمد

كما شُدّ من موسى بهارونه الأزر!

هو السيف «سيف الله» في كل مشهد

وسيف الرسول لا كليل ولا دثر

بأُحد وبدر حين ماج برَجله

وفرسانه أُحد وماج بهم بدر

ويوم حنين والنضير وخيبر

وبالخندق الثاوي بساحته عمرو

ويوم الغدير استوضح الحق أهله

بفيحاء لا فيها حجاب ولا ستر

أقام رسول الله يدعوهم بها

ليقربهم عرف وينآهم نُكر

يمد بضبعيه ويُعلم أنّه

وليّ ومولاكم ، فهل لكم خُبر

فكان له جهر بإثبات حقّه

وكان لهم في بزّهم حقّه جهر (١)!

أحداث الثلاثين بعد المئتين :

كانت أقاصي الأندلس (إسپانيا) بيد النصارى ، فخرجوا منها بمراكبهم في البحر إلى بلاد المسلمين بها ، وعليها عبد الرحمن الأُموي ، حتّى دخلوا إلى حاضرة اشبيلية ، فوافاهم عبد الرحمن والمسلمون من كل جهة فانهزموا ، وغنم المسلمون أربعة من مراكبهم بما فيها (٢).

وتوفي في هذه السنة (٢٣٠ ه‍) أُشناس التركي فحُوّل عمله إلى ايتاخ التركي ، وتُركت أمواله وضياعه بحالها لولده وقام بها عبد الله بن صاعد. وكانت لأُشناس أعمال الجزيرة والشامات ومصر والمغرب ، ويدبّرها كاتبه أحمد بن الخصيب ، فرُفع إلى الواثق أنّه قد حاز أموالاً عظيمة ، فقبض أمواله وأموال أخيه إبراهيم وعُذّبا وعذّبت أُمهما!

__________________

(١) انظر الغدير ٣ : ٤٧٠ ـ ٤٩٠ / ٢٠ صفحة.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٤ وفيه : المجوس بدل النصارى!

٣٢٢

وضعف أمر السلطان في أرمينية وتغلّب بها ملوك الجبال وباب الأبواب «دربند» على ما يليهم من البطارقة والعرب ، فجهّز الواثق لهم جيشاً عظيماً بقيادة خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني ، فكتب إليه أكثرهم أنّهم لم يزالوا في الطاعة ووجّهوا إليه بهداياهم ، فقال : لا أقبل إلّاممّن يأتيني! واعتلّ خالد أياماً ثمّ مات ، وكان معه ابنه محمد بن خالد فولّاه الواثق مكان أبيه ، ولكن تفرّق أصحابه ، فكتب محمد بن خالد بذلك إلى الواثق فوجّه إليه أحمد بن بسطام ليردّهم ، فتوجه إلى نصيبين فضرب وحبس وأحرق دوراً حتّى ردّ إليه أصحاب أبيه فحارب بهم حتّى هزمهم وضبط البلاد (١).

واجتمع بطون من قيس في طريق الحجاز والحاج على رئيس لهم من سُليم يقال له عزيرة الخُفّافي السلمي وبايعوه بالخلافة! وأخذوا يقطعون الطرق وتخلّف الناس عن الحج! فوجّه الواثق بُغا التركي الكبير وأمره أن يقتل من يراه من الأعراب! فقاتلوه فقَتل خلقاً عظيماً منهم وصلبهم على الأشجار. وكانت قد بقيت بالمدينة دار كبيرة ليزيد بن معاوية ، فأسر كثيراً وحبسهم بها ، فنقبوه وخرجوا فقتل كثيراً منهم أهل المدينة ، وحمل بُغا الباقين منهم أُسراء إلى سامراء (٢).

كان عمر الهادي عليه‌السلام يومئذٍ (١٨) عاماً ، وكان يوم دخل بُغا التركي بتعبئته المدينة أبو هاشم الجعفري وجماعة عند الإمام فقال لهم : اخرجوا بنا حتّى ننظر إلى تعبئة هذا التركي!

قال أبو هاشم : فخرجنا فوقفنا على دوابنا فمرت بنا تعبئته وفيها تركي كلّمه أبو الحسن عليه‌السلام بالتركية. فنزل الرجل عن فرسه ووقع إلى الأرض حتّى قبّل حافر دابة أبي الحسن عليه‌السلام.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٠.

٣٢٣

قال أبو هاشم فدنوت منه وسألته : ما قال لك الرجل؟ قال : إنّه دعاني باسم سُمّيت به في بلادنا في صِغري ، ما علمه أحد حتّى الساعة! فهل هو نبي؟ قلت : لا (١).

الواثق ، وخلق القرآن ، وفك الأسرى :

وفي سنة (٢٣٠ ه‍) كتب الواثق إلى القضاة أن يمتحنوا الناس في خلق القرآن في البلدان ، فلا يجيزوا إلّاشهادة من يقول بالتوحيد (ونفي القديم مع الله ومنه القرآن) فحُبس بهذا السبب كثير. (وكان على الروم ثيادور امّ ميخائيل بن توفيل الملك تنوب عنه) فكتبت إلى الواثق تذكر كثرة أُسارى المسلمين عندهم وتدعوه إلى الفداء.

فولّى الواثق ذلك الثغر أحمد بن سعيد الباهلي ، وجهّز جيشاً قوامه سبعون ألف رامح عليهم خادمه خاقان التركي ومعه جعفر بن أحمد الحذّاء ، حتّى صاروا على مرحلتين من طرسوس مدفن عمّه المأمون على نهر اللامس ، فوقف جعفر والخاقان على القنطرة ، فكلّما اطلق أحد من الأسرى سألوه عن خلق القرآن وإنما يفادى من يقول بخلقه ، ثمّ يُدفع إليه ثوبان وديناران حتّى بلغوا خمسمئة رجل وسبعمئة امرأة! وذلك في المحرم سنة (٢٣١ ه‍).

هذا ما قاله اليعقوبي في أرقام اسارى المسلمين عند الروم ، وقاربه السيوطي إذ قال : في هذه السنة (٢٣١ ه‍) فُكّ من الروم ألف وستمئة أسير مسلم ، فقضى ابن دؤاد «قبّحه الله»؟ أنّ من امتنع منهم من القول بخلق القرآن دعوه في الأسر! ومن قال به خلّصوه وأعطوه دينارين (٢)!

__________________

(١) إعلام الورى ٢ : ١١٧ عن كتاب أخبار أبي هاشم الجعفري لابن عياش الجوهري. وأرسله في الخرائج والجرائح ٢ : ٦٧٤ ، الحديث ٤.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠١.

٣٢٤

وفارقهم خليفة فقال : فُدي من المسلمين نحو من أربعة آلاف وستمئة ونحوها من النساء والصبيان (١).

وقاربه ابن العبري فقال : في سنة (٢٣١ ه‍) اجتمع المسلمون على نهر اللامس على مسيرة يوم من طرسوس ، وكان الواثق قد أمر خاقان خادم الرشيد! أن يمتحن من يُفك من أسرى المسلمين فمن قال : القرآن مخلوق ، وأنّ الله لا يُرى في الآخرة فودي واعطي ديناراً! ومن لم يقل بذلك ترك في أيدي الروم ، فكان المسلمون يطلقون أسيراً رومياً فيطلق الروم أسيراً ، فإذا وصل الأسير إلى المسلمين كبّروا ، وإذا وصل الأسير الرومي إليهم صاحوا : كرياليسون! حتّى فرغوا. فكان عدة أُسارى المسلمين : أربعة آلاف وأربعمئة وستين نفساً ، والنساء والصبيان ثمانمئة! ومئة نفس من أهل الذمة مع المسلمين!

وبعد فراغ المسلمين من مفاداة أسراهم من الروم غزوهم ، وكان الفصل شتاءً ، فأصابتهم أمطار وثلوج فأُسر منهم مئتان أيضاً ، ومات مئتان ، وغرق نحوهم في البدندون (٢).

ولا مرجّح لقول المُقلّين فالراجح قول المكثرين.

ومن ردود الأفعال للإصرار على القول بخلق القرآن ، ما حدث في بغداد كما يلي :

قال اليعقوبي : وصار أحمد بن نصر الخزاعي البغدادي لبعض أُموره إلى أحمد بن أبي دؤاد الإيادي القاضي في سامراء ، فردّه ولم يقض أمره ، فجعل يشهد عليه بالكفر لقوله بخلق القرآن حتّى مال معه قوم للعصيان بسبب

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٣١٩.

(٢) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٤١.

٣٢٥

القرآن غضباً للدين! فخرجوا معه يضربون الطبول إلى ناحية صحراء أبي السريّ. وبلغ خبرهم إلى الواثق.

فكتب الواثق إلى إسحاق بن إبراهيم الخزاعي والي بغداد بإشخاص أحمد بن نصر الخزاعي ، فأشخصه إليه ، فكلّمه بكلام غليظ ، وحضر قوم فشهدوا عليه بشهادات ، وأبى أن يقول بخلق القرآن فشتمه الواثق فردّ عليه بمثله! فضرب عنقه بيده ، وصلبه بسامراء ، ووجّه برأسه فنُصب بالجانب الشرقي ببغداد (١) هذا ما قاله اليعقوبي.

وقال السيوطي : كان أحمد بن نصر من أهل الحديث ، فقام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! فأحضره الواثق موثوقاً إلى سامراء ، فسأله عن القرآن ورؤية الله يوم القيامة! فقال : أما القرآن فليس بمخلوق! ولرؤية الله يوم القيامة روى له الحديث! فكذّبه الواثق! فقال له : بل أنت تكذب! فقال له : ويحك! يُرى كما يُرى المحدود المتجسّم ويحويه مكان ويحصره الناظر؟! إني كفرت بربّ صفته ما تقولون فيه.

وكان حول الواثق جماعة من فقهاء «المعتزلة» فقالوا له : هو حلال الدم! فدعا بالنطع وأخذ السيف ، وأُجلس أحمد عليه مقيداً ، فمشى الواثق إليه حتّى ضرب عنقه! ونُصب رأسه ببغداد وكتبت ورقة علقت في أُذنه فيها : هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلّا المعاندة! فعجّله الله إلى ناره! ووُكل بالرأس من يحفظه ويصرفه برمحه عن القبلة (٢).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٢.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٠ ، ٤٠١ وقال : استمر ذلك ست سنين حتّى أنزله المتوكل ، وادّعى عن الموكّل بالرأس أنّه كان بالليل! يستدير إلى القبلة فيقرأ سورة يس!! فهو بعين الرضا!!

٣٢٦

وكان صاحب الشافعي في مصر أبو يعقوب يوسف البُويطي لم يُجب إلى القول بخلق القرآن فكان محبوساً ومات فيه في سنة (٢٣١ ه‍) (١).

ولعلّ من عواقب المضايقات على خلق القرآن أن كثر الحريق ببغداد ، ففرّق الواثق على قوم من التجار أموالاً جمة وبنى لهم ، وقسّم في أهل بغداد قِسماً كثيرة مرة بعد أُخرى على أهل البيوتات ، وعلى عامة الناس.

وكان على ديار ربيعة أبو سعيد محمد بن يوسف ، فخرج عليه محمد بن عمرو الشيباني في ثلاثمائة أو أربعمئة من الخوارج فصاروا إلى سنجار ، فخرج إليه أبو سعيد بجنده فانهزم إلى ناحية الموصل فتبعه أبو سعيد حتّى أسره وحمله إلى الواثق في سامراء وكتب إليه : أنّه لا ينبغي أن يُقتل فإنه لا يخرج خارجي مادام حياً! فحبسه.

وكما فرّق الواثق أموالاً جمة ببغداد ، فرّق مثلها بمكة والمدينة وعلى قريش والهاشميين وغيرهم (٢).

وقال ابن الوردي : لقد بالغ في إكرام العلويين ، وفرّق في الحرمين أموالاً ، حتّى لم يبق فيهما سائل! حتّى أنّه لما مات أخذ نساء أهل المدينة يخرجن إلى البقيع (ولعلّه على قبر جدّه العباس) كل ليلة يندبنه لفرط إحسانه بهم (٣).

ونقل السيوطي عن يحيى بن أكثم القاضي السابق قال : ما أحسن أحد إلى آل أبي طالب بما أحسن إليهم الواثق ، فإنه ما مات وفيهم فقير (٤) ولعلّه لذا قيل له : المأمون الثاني.

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٣.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٥.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٢.

٣٢٧

مولد الحسن بن علي عليه‌السلام :

إنما جاءنا عن أُمّ الحسن بن علي عليه‌السلام أنها لما اشتُريت في المدينة وأُدخلت على الهادي عليه‌السلام وكان اسمها سليل (فلعلّها من مولّدات العرب) قال لها : سليل ، مسلولة من الآفات والعاهات والأرجاس والأنجاس! ثمّ قال لها : وسيهب الله لك [من ابنك] حجة الله على خلقه ، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً (١).

وأسند الطبري الإمامي عن الحسن بن علي الثاني (العسكري) قال : كان مولدي بالمدينة في ربيع الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومئتين (٢) في أواخر عهد الواثق العباسي.

وعليه يكون عمر أبيه يوم مولده في العشرين.

موت الواثق وخلافة المتوكل :

في ذي الحجة لسنة (٢٣٢ ه‍) اعتلّ الواثق (بالاستسقاء) فوُصف له أن يُحفر له في الأرض حفيرة كالتنّور تُملأ بحطب الطرفاء وتحرّق ، ويخرج الرماد ، ويُدخل فيه! فصُيّر فيه مراراً! ولم يَعهد لأحد فقيل له في ذلك فقال : لا يراني الله أتقلّدها حيّاً وميتاً! حتى مات في الرابع والعشرين من ذي الحجة وله أربع وثلاثون سنة! وبويع أخوه جعفر المتوكل بن المعتصم من أُم ولد يقال لها : شجاع (تركية من طخارستان). فأمر بإعطاء الجنود لثمانية أشهر (٣)!

__________________

(١) إثبات الوصية : ٢٠٧.

(٢) دلائل الإمامة : ٢٢٣ ، وكذا في أُصول الكافي ١ : ٥٠٣ بلا رواية ، وكذا في الإرشاد ٢ : ٣١٣ ، وعنه في إعلام الورى ٢ : ١٣١ وزاد : في اليوم الثامن منه.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٣ ، ٤٨٤ ، ووصف شجاع من التنبيه والإشراف : ٣١٣.

٣٢٨

وكان الواثق أبيض مشرَّباً بحمرة ، حسن الجسم عريض الصدر كثّ اللحية ، وفي عينيه اليسرى نكتة بياض ، يذهب في كثير من أُموره مذاهب المأمون (١) وسلك في المذهب طريقة أبيه وعمّه المأمون من القول بالعدل (٢) وكلّموه لاسترداد فدك فقال : كان المأمون أعلم به منّا (٣) ودفن بقصره الهاروني (٤) وادّعى المتوكل أنّه رأى في نومه كأنّه سقط عليه من السماء سكريني سليم (؟!) مكتوب عليه : جعفر المتوكل على الله! فأمضاه قاضيه ابن أبي دؤاد وكتب به إلى الآفاق (٥)! وكان المتوكل يعتمد على محمد بن عبد الملك الزيّات بأُمور كثيرة ولكنّه أقرّ الأُمور على ما كانت عليه أربعين يوماً (إلى أربعين أخيه الواثق) ثمّ أظهر غضبه على الزيّات فاصطفى أمواله وعذّبه حتّى مات (٦).

وقال المسعودي : استوزر الزيّات أربعين يوماً ثمّ قتله ، وكان يحيى بن خاقان المروزي حياً واستوزر ابنه عبيد الله (واستبدل قاضيه ابن أبي دؤاد) بالقاضي السابق يحيى بن أكثم (٧) التميمي البصري. وكان سخطه على الزيات بعد خلافته بأشهر! فقبض منه كل ما كان له.

وكان الزيات في أيام وزارته للمعتصم وابنه الواثق اتخذ للمصادَرين

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣١٣.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٧٧.

(٣) كشف الغمة ٢ : ٢٤٣.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٥.

(٥) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤١٢.

(٦) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٤.

(٧) التنبيه والإشراف : ٣١٤.

٣٢٩

والمغضوب عليهم تنوّراً من حديد فيه مسامير إلى الداخل يعذّب به الناس! فأمر المتوكل بإدخاله فيه .. ولما أمر بإخراجه وجده ميتاً! وكان حبْسه في ذلك التنّور إلى أن مات أربعين يوماً (١).

وعليه فلا يصح ما أسنده الكليني عن خيران الأسباطي القراطيسي قال : قدمت على أبي الحسن (الهادي عليه‌السلام) المدينة (من بغداد خلال عشرة أيام) فقال لي : ما خبر الواثق عندك؟ قلت : جعلت فداك ، أنا من أقرب الناس به عهداً ، عهدي به منذ عشرة أيام خلّفته في عافية! فقال لي : إنّ (الناس من) أهل المدينة يقولون : إنّه مات! فلمّا أن قال لي : الناس ؛ علمت أنّه يعني نفسه ، ثمّ قال لي : ما فعل جعفر؟ قلت : تركته أسوأ الناس حالاً في السجن (؟!) قال : أما إنه صاحب الأمر! ثمّ قال لي : ما فعل ابن الزيّات؟ قلت : جعلت فداك ، الناس معه والأمر أمره! قال : يا خيران! مات الواثق وقعد المتوكل جعفر وقد قتل ابن الزيّات! فقلت : متى؟ جعلت فداك! قال : بعد ما خرجت بستة أيام (٢).

فالخبر خلاف المعروف من تاريخَي المتوكل وابن الزيّات ؛ إذ لم يُسجن الأول بل لم يُحبس أو يوقف! ولم يُقتل الثاني إلّابعد أشهر : ثمانين يوماً : أربعين قبل التنّور وأربعين يوماً في التنّور!

وإذ نجد الخبر قبل الكليني عند الحسين بن حمدان الخصيبي الغالي فإني أراه منه (٣).

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٥ و ٦.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٤٩٨ ، وعنه في الإرشاد ٢ : ٣٠١ ، وعنه في إعلام الورى ٢ : ١١٤ بلا تعاليق.

(٣) الهداية الكبرى : ٣١٤.

٣٣٠

قال اليعقوبي : وأطلق المتوكل من كان في السجون من أهل البلدان ، ومن أُخذ في خلافة الواثق ، فخلّاهم وكساهم! ونهى الناس عن الكلام في القرآن ، وكتب كتباً إلى الآفاق ينهى عن المناظرة والجدل ، فأمسك الناس (١).

زيد النار! والإمام والرُخَجيَّين :

مرّ الخبر عن زيد بن موسى بن جعفر عليه‌السلام الذي عُرف بزيد النار ، وأنّ المأمون منّ عليه بالرضا عليه‌السلام ويظهر من خبر نقله الطبرسي عن «كتاب الواحدة» للحسن بن محمد بن جمهور العميّ البصري : أنّ زيداً لم يؤمن لا بالرضا ولا بالجواد ولا بالهادي عليهم‌السلام :

كان أمير المدينة عمر بن فرج الرُّخجي (الأفغاني) وكان زيد بن موسى عمّ أبي الهادي عليه‌السلام ولكن الرُّخجي لا يقدّمه على الهادي عليه‌السلام ، وكان زيد يسأله مراراً أن يقدمه على ابن أخيه ويقول : إنّه حَدِث (في العشرين) وأنا عمّ أبيه! فقال عمر ذلك لأبي الحسن عليه‌السلام فقال له : أقعدني غداً قبله ثمّ انظر!

فلما كان الغد أجلس عمر أبا الحسن عليه‌السلام في صدر المجلس ، ثمّ أذن لزيد بن موسى ، فدخل فجلس بين يدي أبي الحسن عليه‌السلام! فلمّا كان بعده أذن لزيد بن موسى قبل أبي الحسن ، وأجلسه في صدر المجلس ، ثمّ أذن لأبي الحسن عليه‌السلام فدخل ، فلما رآه زيد قام من مجلسه وأقعده بمكانه وجلس هو بين يديه (٢) فقيل له في ذلك فقال : لما رأيته لم أتمالك نفسي (٣).

__________________

(١) تارو اليعقوض ٢ : ٤٨٤ ، ٤٨٥.

(٢) إعلام الورى ٢ : ١٢٥ عن كتاب الواحدة ، للحسن بن الله اكبر مد بن تمت هور العميّ البيي.

(٣) مناقب آل أض طالب ٤ : ٤٤٢ مرسلاً.

٣٣١

وكان أخو عمر الرخجي محمد بن فرج عاملاً على مصر ، وسخط المتوكل سنة (٢٣٣ ه‍) على الأخوين فوجّه كتاباً في حمل محمد وعمر ، فحُبس عمر ببغداد وحمل محمد إلى سامرّاء وقبضت أموالهما (١).

ويظهر من خبر أن محمد بن الفرج بمصر كان من موالي أبي الحسن الهادي عليه‌السلام ؛ ذلك ما أسنده الكليني عن علي بن محمد النوفلي : أنّ محمد بن الفرج حدثه بعد ثماني سنين أي بعد (٢٤١ ه‍) : أنّه كان على عمله بمصر إذ جاءه كتاب أبي الحسن عليه‌السلام إليه : أن يا محمد ، اجمع أمرك وخذ حِذرك! قال : فلم أدر ما كتب إليّ! وأنا في جمع أمري إذ ورد عليَّ رسول ضرب على كل ما أملك وحملني مقيّداً من مصر إلى السجن فكنت فيه (بسامراء) ثماني سنين! ثمّ ورد عليَّ منه كتاب في السجن جاء فيه : يا محمد ، لا تنزل في ناحية الجانب الغربي! فقلت في نفسي : إنّ هذا لعجب أن يكتب إليّ بهذا وأنا في السجن! فما مكث أن خُلّي عنه (٢) بعد ثمان سنين أي بعد (٢٤١ ه‍) وفيها كان الهادي عليه‌السلام بسامرّاء ولكنّ محمد بن الفرج لم يخرج إلى الإمام عليه‌السلام وإنما كتب إليه يسأله عن ضياعه ، فكتب الإمام إليه : سوف تُردّ عليك ، وما يضرك أن لا تُردّ عليك! وكأنّه كان على الأمر يومئذ أحمد بن الخصيب فكتب إلى محمد بن الفرج أن يخرج إليه ، فكتب محمد بن الفرج إلى أبي الحسن يشاوره هل يخرج إليه؟ فكتب إليه : اخرج فإنّ فيه فرجك إن شاء الله تعالى!

فلمّا شخص محمد بن الفرج إلى ابن الخصيب كتب له بردّ ضياعه ، فكأنّه بعد هذا اشتاق لزيارة الإمام عليه‌السلام فاستقبله ونظر إليه ، ثمّ اعتل بعدها. قال أبو يعقوب : فبعد أيام من علّته دخلت إليه عائداً وقد ثقل ، فأخبرني أنّ أبا الحسن عليه‌السلام

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٥. وانظر وقارن مروج الذهب ٤ : ١٩ وقارن : ٨٥.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٥٠٠ ، الحديث ٥ ، باب مولد الهادي عليه‌السلام.

٣٣٢

قد بعث إليه بثوب منه ، فكان قد أدرجه ووضعه تحت رأسه! إلّاأنّه لم يلبث إلّا يسيراً حتّى مات قبل أن تردّ ضياعه إليه (١) فكان كما قال عليه‌السلام.

وإنما أوردت خبره هنا باعتبار تاريخ سخط المتوكل على الأخوين الرُخَجيَّين في سنة (٢٣٣ ه‍) في نقل اليعقوبي ، وهو الذي قرن بينهما في خبره فعُلم ارتباطهما بالأُخوة ، وعُلم علة سخط المتوكل عليهما معاً بارتباط محمد بن الفرج بالهادي عليه‌السلام ، وهذا هو ما جاء في أخبارنا فقط.

إلّا أنّ اليعقوبي لم يذكر السجن ثمان سنين بل قال : فأقاما سنتين (٢) فيعلم أنّ عمر بن الفرج أقام في سجن بغداد سنتين حتّى علم عدم ارتباطه بأخيه محمد ، ولذا أُعيد إلى عمله بالمدينة بل وأُضيفت إليه مكة! كما قال أبو الفرج : استعمل المتوكل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرّخجي ، فمنع الناس من البرّ بآل أبي طالب ، حتّى أنّه كان لا يبلغه أنّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء وإن قلّ إلّاأنهكه عقوبة وأثقله غرماً!

ومنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس! حتّى كان بين جمع من العلويات قميص واحد يصلّين فيه واحدة بعد أُخرى ثمّ يرفعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر! حتّى قُتل المتوكل (٣)! وإنما يرفعن القميص اقتصاداً في مصرفه للضرورة كالصلاة فيه ، وجاءت الكلمة في الطبعتين : يرقعنه ، تصحيف.

وألزم الرخجيّ رجال آل أبي طالب بلبس السواد ، وأباه القاسم بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين عليه‌السلام فحمله الرخجيّ لذلك إلى المتوكل بسامرّاء

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٠٠ ، الحديث ٥ و ٦ ، باب مولد الهادي عليه‌السلام.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٥.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٣٩٦ ، وط. صقر : ٥٩٨.

٣٣٣

فلم يزالوا به حتّى ألبسوه شاشة سوداء (١) وعدّ ابن الأثير الرخجيّ هذا من منادمي المتوكل المعروفين بالنصب والبغض لعلي عليه‌السلام (٢).

وأسند الطوسي عن محمد بن جعفر بن محمد بن الفرج الرُّخجي ، أي عن حفيد محمد بن الفرج في خبر قال : كان عمّي عمر بن فرج شديد الانحراف عن آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنا أبرأ إلى الله منه ، وكان جدّي أخوه محمد بن فرج شديد الموالاة لهم رحمه‌الله ورضي عنه. فأنا أتولّاه لذلك وأفرح بولايته أو : بولادتي منه (٣) وسيأتي أنّ عمّه عمر بن فرج كان ممن حرث قبر الحسين عليه‌السلام!

حوادث عام (٢٣٤ ه‍):

قال اليعقوبي : في سنة (٢٣٤ ه‍) سخط المتوكل على اثنين من كتّابه : أحمد بن خالد والفضل بن مروان فاستصفى أموالهما وقبض ضياعهما ونفاهما وكانا على ديواني الخراج والضياع!

وكان موسى بن عبد الملك بن هشام ويحيى بن خاقان المروزي محبوسين عند إسحاق بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) والي بغداد ، فلما سخط المتوكل على ذين الكاتبين قال لاسحاق الخزاعي : انظر لي رجلين أحدهما لديوان الخراج والآخر لديوان الضياع. فقال إسحاق : هما عندي : يحيى بن خاقان وموسى بن عبد الملك! فأحضرهما : فولّى يحيى ديوان الخراج ، وموسى ديوان الضياع.

واستأذن إيتاخ التركي لحجّ هذه السنة (٢٣٤ ه‍) فأذن له فخرج في أحسن زيّ.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٦١٧ ، ط. صقر.

(٢) الكامل لابن الأثير ٧ : ٢٠ فاقرأ واعجب!

(٣) أمالي الطوسي : ٣٢٥ ، الحديث ٩٩ ، المجلس ١١.

٣٣٤

فرفُع إلى المتوكل : أن إيتاخ كان يحتال للايقاع به فلمّا لم يمكنه ذلك طلب الحج!

وكان عامل اليمن يومئذ جعفر بن دينار الخياط فكتب المتوكل إليه أن يصير إلى مكة فيأخذ ايتاخ بتعجيل الانصراف! ففعل جعفر ذلك فانصرف ايتاخ إلى الكوفة ، فوجّه المتوكل إليه حاجبه سعيد بن صالح فلقيه بالكوفة ، ثمّ كتب إلى إسحاق الخزاعي ببغداد أن يتلقّاه ، فلمّا قرب ايتاخ من بغداد تلقاه إسحاق فنزعه سيفه ومنطقته وسواده وألبسه قباءً أبيض وعمامة بيضاء! وصار به إلى قصر خُزيمة على رأس الجسر ببغداد فحبسه فيه وقيّده!

وكان مع ايتاخ ابنه منصور فأمره أن يبصق في وجهه فقال : لأمير المؤمنين أن يأمر عبيده بما أحب! وكان له كاتبان سليمان بن وهب وقدامة بن زياد فبكّتوه ووبّخوه بما كان منه ، فأقام عدّة أيام ثمّ مات كمداً! فطُرحت جثته في دجلة!

وكانت لايتاخ ولاية مصر والسند ، وكان عامله على مصر (ولعلّه بعد محمد بن الفرج) هرثمة بن نصر ، وقد رُفع عليه إلى المتوكل مكاتبته ايتاخ وموافقته له ، فصيّر المتوكل عمل مصر إلى إسحاق الخزاعي فقبض على ماله وعزله. فلمّا بلغ ذلك إلى عنبسة بن إسحاق عامل ايتاخ على السند ترك عمله وعاد إلى العراق ، فلم يعرض له المتوكل وولّى مكانه هارون بن أبي خالد.

وكأن المتوكل تمكّن بذلك من الأُمور ولذا ولّى عهده إلى ابنه محمد بن جعفر المنتصر وأمر أن يسلَّم عليه بالإمرة ويُدعى له على المنابر ، وكتب بذلك إلى الآفاق وذلك في ذي القعدة سنة (٢٣٤ ه‍).

وفيها توفي الحسن بن سهل (١) الخراساني في ضياعه ما بين المدائن وواسط ، منعزلاً عن الدولة.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٥ و ٤٨٦.

٣٣٥

قال السيوطي : وفي سنة (٢٣٤ ه‍) أظهر المتوكل الميل إلى أهل السنة وكتب إلى الآفاق برفع الامتحان في خلق القرآن ، وأمر المتحدثين بأن يحدثوا بأحاديث صفات الله وإمكان رؤيته يوم القيامة!

فجلس أبو بكر بن أبي شيبة في «جامع الرصافة» واجتمع إليه نحو من ثلاثين ألف نفس!

وجلس أخوه عثمان بن أبي شيبة في «جامع المنصور» فاجتمع إليه أيضاً ثلاثون ألف!

واستقدم المحدثين إلى سامرّاء وأجزل عطاياهم وأكرمهم.

وفي هذه السنة أصاب ابن أبي دؤاد فالج فصيّره حجراً ملقى!

وفي هذه السنة هبّت بالعراق ريح شديدة السموم لم يُعهد مثلها أحرقت زروع الكوفة والبصرة وبغداد وقتلت المسافرين ودامت خمسين يوماً ، واتصلت بهمدان فأحرقت الزرع والمواشي ، واتصلت بالموصل وسنجار ، ومنعت الناس من المعاش في الأسواق ومن المشي في الطرقات.

وكان ذلك بعد زلزلة مهولة بدمشق سقطت منها دور وهلك تحتها خلق ، وامتدت إلى انطاكية فهدّتها ، وإلى الجزيرة والموصل فهلك من أهلها خمسون ألفاً (١).

حوادث عام (٢٣٥ ه‍):

ثمّ بدا للمتوكل بعد كلّ ما رأى من آيات تمكّنه في بلاده أن يتشبّه بجده الرشيد فيكرّر تجربته الفاشلة في تولية ثلاثة من أبنائه وتوزيع نواحي الأرض

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٦ ، ٤٠٧.

٣٣٦

عليهم ، فأحضر من كل بلد وجوه الناس إلى سامرّاء ، وأخذ بيعتهم بولاية العهد لابنه محمد المنتصر ، ثمّ لابنيه أبي عبد الله المعتز بالله وإبراهيم المؤيد بالله! وأقام الخطباء ليخطبوا في ذلك! وأعطى جنوده لعشرة أشهر!

ثمّ صيّر إلى كل واحد من ولاة عهده ناحية من الأرض! فصير إلى المنتصر مصر والمغرب ، وجعل كاتبه أحمد بن الخصيب. وصيّر إلى أبي عبد الله المعتزّ بالله الجبال إلى خراسان وجعل كاتبه أحمد بن إسرائيل. وصيّر إلى إبراهيم المؤيّد بالله الشامات وأرمينية وآذربايجان ، وجعل كاتبه محمد بن علي المعروف.

ثمّ وجّه بوليّ عهده الأكبر محمد المنتصر إلى الحجّ أميراً للموسم لعام (٢٣٥ ه‍) مع جدّته شجاع أُم المتوكل ، فوقف بالناس في الموسم.

وفي هذه السنة (٢٣٥ ه‍) أمر المتوكل أهل الذمة أن يلبسوا الطيالسة العسلية ، ويركبوا البغال والحمير برُكب الخشب ، دون الخيول وحتّى البراذين ، ويجعلوا على أبوابهم أخشاباً منقوشة بنقوش الشياطين! وفي هذا الوقت كذلك أمر المتوكل عمّاله أن لا يستعينوا في شيء من عملهم بأحد من أهل الذمة ، ومنعهم من عمارة البيع والكنائس وأن يهُدم المحدَث منها!

وكان في مرند من آذربايجان محمد بن البُعيث متغلباً بها ، وكان على آذربايجان حمدويه بن علي فنافر ابن البعيث وحاربه حتّى حمله إلى باب المتوكل ، فلمّا تقدم عنده رفع عنده على حمدويه أنّه كان يحتال على الخليفة في الأموال ، فأُخذ حمدويه بها وضُرب عليها وسجن ، وخُلّي ابن البُعيث!

فهرب ابن البعيث عائداً إلى مرند وجمع إليه من كان بناحيته من الصعاليك وأظهر الخلاف والعصيان! فأُخرج حمدويه وولّي على مرند فسار إليه وحاربه فقُتل. فحُوّل البلد إلى بَغا التركي الصغير فأقام يحاربه شهوراً حتّى طلب الأمان فحمله إلى باب المتوكل ، فحبسه حتّى مات (٢٣٥ ه‍).

٣٣٧

وتوفي فيها إسحاق بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) والي بغداد ، فصيّر المتوكل أعماله إلى ابنه محمد ، وهي أعمال كور دجلة وطساسيج السواد وعمل مصر وفارس وغير ذلك! وقرّبه إليه وعقد له ألوية كثيرة وأخذ يخلع عليه سبعة أيام في كل يوم سبعة خلع!

وكان كتاب إسحاق الخزاعي : على الخراج علي بن عيسى بن آزاد رود ، وعلى الرسائل ميمون بن إبراهيم ، وعلى المظالم إسحاق بن يزيد ، فأقر محمد عمال أبيه ، وكان على خراج مصر وجندها عبد الواحد بن يحيى الحوط قرابة طاهر بن الحسين الخزاعي (مولاهم) فأقره محمد بن إسحاق الخزاعي (مولاهم).

وكان على فارس عمّه محمد بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) فرُفع عليه بأموال صارت إليه ، فوجّه إلى عمله الحسين بن إسماعيل وأمره بعزل عمّه وأن يعذبه ليستخرج الأموال فعُذّب حتّى مات! ثمّ مات محمد بن إسحاق بعد أبيه بسنة.

ثمّ ولّى المتوكل مكانه أحمد بن محمد بن مدبّر ، على سبعة دواوين : ديوان الخَراج ، والضياع ، والنفقات الخاصّة ، والعامة ، والصدقات ، والموالي ، والغلمان ، والجند ، والشاكرية. فأخذ أحمد العمّال السابقين على طساسيج السواد وصالحهم على أموال عظيمة ، فوفّر أموالاً عظيمة (١).

وفيها (٢٣٥ ه‍) ظهر بسامرّاء رجل يدعى محمود بن فرج النيشابوري يدّعي أنّه ذو القرنين وأنّه بُعث نبياً ، وتبعه سبعة وعشرون رجلاً ، فاخذوا والزم أصحابه أن يصفعه كل منهم عشر صفعات ثمّ ضربوه حتّى مات وحُبس أصحابه في ذي الحجة.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٦ ـ ٤٨٨ ، وقيل : مات في (٢٣٥ ه‍) تسعين سنة لافراطه في دواء ، كما في تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٦.

٣٣٨

وفاة الشاعر ديك الجن :

وفيها (٢٣٥ ه‍) أو (٢٣٦ ه‍) تُوفي الشاعر المتشيّع ديك الجنّ (١) وهو عبد السلام بن رغبان الكلبي من أهل حمص ، والتقى بأبي تمّام الطائي الشامي ويبدو أنّه تعلّم منه الشعر والتشيّع ، ومن شعره الأُرجوزة الكاملة يقول فيها :

صنو النبي المصطفى وروحه

وشمّه وذوقه وريحه

قرابة ونصرة وسابقه

هذي المعالي والسمات الفائقه

هو الذي سُمّي : أبا البيان

صدقت قد أصبت في المعاني

وهو أبو العلم الذي لا يُعلم

مَن قوله : اسألوا ولا تُمحمحوا!

***

إنّ النبيّ لم يزل يقول

والخير ما فاه به الرسول!

إنك مني يا علي ، ويا أخي

بحيث من موسى وهارون النبي

***

سطا يوم بدر بأشباله

وفي أُحد لم يزل يحمل

وعن بأسه فتحت خيبر

ولم يُنجها بابها المُقفل

دحا أربعين ذراعاً به

هِزبرٌ له دانت الأشبلُ

***

الحق أبلج والأعلام واضحة

لو آمنت أنفس الشانين أو نظروا

من ذا الذي كلّمته البيد والشجر

وسلّم التربُ إذ ناداه والحجرُ (٢)؟

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٦.

(٢) استخرجناها من فهارس مناقب آل أبي طالب ، وانظر الكنى والألقاب ٢ : ٣٧ ، والأعلام للزركلي ٤ : ١٢٨ ، ولم يُذكر في الغدير! ولا في شعراء الشيعة.

٣٣٩

شرفي محبّة معشر شُرفوا بسورة «هل أتى»

وولاي من في فتكه سمّاه ذو العرش «الفتى»

ثبْت إذا قد ما سواه إلى المهاوي زلّتا

ثقل الهدى (العترة) وكتابه بعد النبيّ تشتّتا

وا حسرتا من ذلّهم وخضوعهم وا حسرتا

طالت حياة عدوّهم حتّى متى؟ وإلى متى؟

***

لكنه ليس نبي بعدي

فأنت خير العالمين عندي

إنّ علياً خير أهل الأرض

بعد النبيّ فاربعي أو امضي

وعمدة ما عثرنا عليه من شعره في تفضيل علي عليه‌السلام ، وذلك ما أعلنه المأمون فأمن هؤلاء لإعلانه. وأظنّ منه عتاباً على بني العباس دفاعاً عن قتلى آل علي عليه‌السلام :

ملكنا فكان العفو منّا سجيّة

ولما ملكتم سال بالدم أبطح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا

وكل إناء بالذي فيه ينضح!

ولم أعثر الآن على مصدر له. وإنما لُقّب بديك الجن لزُرقة عينيه (١)!

من المدينة إلى بلد العسكر :

يظهر من الخبر التالي أنّ المتوكّل بعد سوء ظنّه بعمر بن الفرج الرّخجي الناصبي بسبب أخيه محمد عامل مصر الموالي للرضا والجواد والهادي عليهم‌السلام ، وضبطه أمواله وسجنه ببغداد ، استبدل عنه على المدينة بعبد الله بن محمد بن دواد العباسي ، وبعلمه بعلّة ذلك عرف تكليفه ووظيفته فيما بين المتوكل وبين

__________________

(١) أحداث التاريخ الإسلامي للترمانيني ، حوادث سنة (٢٣٤ ه‍).

٣٤٠