موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

وذكره الشيخ الشوشتري ، ومن سكوت ابن قتيبة وابن النديم والخطيب عن مذهبه استظهر عدم تشيّعه (١). فالحق ما اختاره الطوسي من القول الأول للكشي من ميل الكلبي ومحبّته ، لا التشيع الخاص فلا دليل عليه.

عيسى الجلودي إلى اليمن :

مرّ علينا أنه لما ولّى المأمون الحسن بن سهل على العراق ، كان إبراهيم بن موسى بن جعفر عليه‌السلام متغلباً على اليمن ، فوجّه ابن سهل حمدويه بن علي بن ماهان إلى اليمن ، فحاربه إبراهيم بمن معه من اليمن ، ثمّ خرج من اليمن يريد مكة ، ودخل إبراهيم إلى مكة فغلب عليها (٢) وأقام بها إلى أن وجّه المأمون ببيعة الرضا عليه‌السلام مع عيسى بن يزيد الجلودي إلى مكة ، فقدم الجلودي ومعه خلعة الخضراء وبيعة الرضا عليه‌السلام فخرج إبراهيم فتلقاه ، وبايع الناس للرضا بمكة ولبسوا الأخضر.

واستمال حمدويه بن علي بن ماهان جماعة من أهل اليمن وخلع طاعة المأمون ، وكتب المأمون إلى إبراهيم بن موسى بولايته على اليمن ، فخرج إبراهيم وصار إلى اليمن وصار إلى صنعاء ، فخرج حمدويه إليه وحاربه محاربة شديدة حتى انهزم إبراهيم إلى مكة (٣).

فلمّا تخلّص المأمون من الرضا عليه‌السلام ودخل بغداد ، وجّه بعيسى بن يزيد الجلودي عاملاً على اليمن ، وأنفذ معه عبيد الله بن الحسن بن عباس بن علي بن

__________________

(١) قاموس الرجال ١٠ : ٥٦٨ ـ ٥٦٩ برقم ٨٢٣٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٤٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٤٩.

٢٠١

أبي طالب عليه‌السلام والياً على مكة ، فلمّا صار الجلودي إلى مكة أشخص إبراهيم بن موسى إلى بغداد ، وولّى بمكانه عبيد الله بن الحسن العلوي. ثمّ نفذ إلى اليمن في أواخر ربيع الثاني وأوائل جمادى الأُولى سنة (٢٠٥ ه‍) فدعا حمدويه بن علي بن ماهان إلى الطاعة فامتنع ، وزحف إلى الجلودي لحربه ، وشبّت الحرب بينهما ، فقتل من أصحاب حمدويه خلق عظيم حتى انهزم ودخل صنعاء واختفى في ثياب جارية من جواريه في الدار التي كان ينزلها ، فاتبعه الجلودي إلى الدار حتى أخذه وقال له : قائد ابن قائد يقاتل الخليفة ويفرّ من الموت هذا الفرار؟! سوأة لك! أنا اصيّرك إلى أمير المؤمنين فيحكم فيك برأيه! وأشخصه إلى المأمون (١).

وخالد الشيباني إلى مصر :

كان على مصر عبد العزيز الجروي ومات فخلفه ابنه علي متغلّباً على أسفل مصر ، فوجّه إليه المأمون خالد بن يزيد الشيباني ومعه عمر بن فرج الرخجي في جيش ، عمر على الخراج وخالد له المعاونة والصلاة. فأخذا طريق البرية إلى فلسطين حتى قدما مصر ، وبلغ خبرهما إلى علي الجروي فكتب إليهما أنّ أباه كان على السمع والطاعة وأنه لم يزل عليها. وكان عبيد الله بن السريّ متغلباً بناحية من أرض مصر فكاتباه ثمّ زحف إليه خالد الشيباني وحاربه حتى أسره عبيد الله السري فحمله في البحر إلى العراق ، وخرج عمر الرخجي في وقت الحج إلى مكة (٢) في موسم عام (٢٠٥ ه‍).

وفي أول سنة (٢٠٦ ه‍) ولّى المأمون طاهر بن الحسين الخزاعي (مولاهم)

__________________

(١) المصدر : ٤٥٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧.

٢٠٢

على خراسان بمكان خليفته عليها غسّان بن عبّاد. وولّى ابنه عبد الله بن طاهر الخزاعي على الجزيرة والشام ومصر والمغرب! وصيّر إليه كل أعمالها وحرب المتغلبين عليها.

فبعد نفوذ أبيه طاهر إلى خراسان بشهرين نفذ ابنه عبد الله إلى الرَّقة في أوائل سنة (٢٠٦ ه‍) وكان نصر بن شبث النصري في بلدة كيسوم بالجزيرة متغلباً عليها وما والاها من نواحي الجزيرة ، فواقعه ، وكتب إلى سائر المتغلّبين في نواحي الجزيرة والشام فسألوه أن يكتب لهم الأمان فقبل ذلك وكتب لهم فكتب القوم له جميعاً أنهم في الطاعة (١).

وطاهر الخزاعي بخراسان :

قدم طاهر الخزاعي (مولاهم) إلى خراسان في أول سنة (٢٠٦ ه‍) وقد خرج بها حمزة الشاري ، فحاربه ، ومات حمزة ، فقام بعده إبراهيم بن النصر التميمي ، فما زالا يتصاولان ويتجاولان (٢).

وفي يوم جمعة صعد طاهر المنبر فخطب ولم يدعُ للمأمون! فكتب صاحب الخبر بخراسان يذكر ذلك للمأمون. وكان أحمد بن أبي خالد هو الذي شفع عند المأمون لطاهر بولاية خراسان ، فشكا المأمون ذلك إليه فقال : أنا أخرج إليه فأَكفيك أمره. ثمّ توفي طاهر في السنة التالية (٢٠٧ ه‍) فولّى المأمون ابنه طلحة بن طاهر ، وأنفذ إليه بجيش مع أحمد بن أبي خالد ومعه حيدر بن كاووس الأشروسنيّ المشهور بالأفشين ومعه جملة من أبناء ملوك خراسان (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٦.

(٢) المصدر السابق.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٧.

٢٠٣

والبرمكي بدل المهلّبي على السند :

وكان عامل السند بشر بن داود المهلّبي الأزدي البصري ، وظن به صاحب الخبر في خراسان وما والاها من أرض السند المخالفة. فكتب بذلك إلى المأمون. واستقرب المأمون موسى بن يحيى البرمكي ، وكان خليفة المأمون على خراسان قبل طاهر : غسّان بن عباد قد عاد إلى بغداد ، فوجّه معه بجماعة من قوّاده وجنوده وأمره أن يعزل بشر المهلّبي عن السند ويولّيها موسى بن يحيى البرمكي.

فلمّا صار غسّان إلى بلاد السند وبلغ إلى بشر المهلّبي ذلك ، خرج بشر إليه وأعطاه الطاعة بلا حرب ولا منازعة! فعزله وأشخصه إلى بغداد ، وولّى البلاد موسى بن يحيى البرمكي ، فكان بها حتى مات ، فخلفه ابنه عمران بن موسى بن يحيى البرمكي. وقدم بشر العراق بمن كان معه من آل المهلّب ، فأحسن المأمون إليهم وأطلقهم (١).

وفاة الواقدي البغدادي :

قال خليفة في سنة (٢٠٧ ه‍) : ومات فيها : محمد بن عمر الواقدي (٢) وكتب محمد بن سعد كاتب الواقدي وفاته في ذي الحجة سنة (٢٠٧ ه‍) ودفن في مقابر الخيزران (٣) وكان قد أوصى إلى المأمون ، ولم يكن يملك ما يكفّن به ـ قيل لسخائه ـ فقبل المأمون وصيته وأرسل بأكفانه وقضى دينه (٤) وكان قاضي عسكر

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٨.

(٢) تاريخ خليفة : ٣١٣.

(٣) الطبقات الكبرى ٧ : ٧٧.

(٤) الطبقات الكبرى ٥ : ٣٢١ ، وتاريخ بغداد ٣ : ٢٠.

٢٠٤

المهدي وبغداد منذ دخول المأمون إليها سنة (٢٠٤ ه‍) ولما انتقل من غربيّ بغداد إلى شرقها حمل كتبه على مئة وعشرين وقراً (١).

ولد بالمدينة لأبيه عمر بن واقد مولى فارسي لبني أسلم ، قُبيل مولد دولة العباسيين ، وبدأ حياته في سنّ مبكّرة في جمع أخبار السيرة النبوية ومغازيها ، ويدرّس جزءه في ذلك إلى اسطوانة من المسجد النبوي.

فلمّا حجّ الرشيد مع وزيره يحيى بن خالد البرمكي وزارا المدينة ، طلب البرمكي للرشيد من يدلّهم على المشاهد وقبور الشهداء فدلّوهما على أبي عبد الله الواقدي ، فصحبهما في زيارتهما ، فلم يدع موضعاً من المواضع ولا مشهداً من المشاهد إلّامرّ بهما عليه ، فمنحه الرشيد عشرة آلاف درهم ، فقضى بها دينه وزوّج بعض ولده.

قال : ثمّ إنّ الدهر ضايقنا ، فقالت لي أُم عبد الله : إنّ وزير أمير المؤمنين (يحيى البرمكي) قد عرفك وسألك أن تسير إليه! فما قعودك؟! فرحل من المدينة إلى بغداد ، فوجد البلاط قد انتقل إلى الرَّقة بالشام (٢) فلحق بهم ، قال : فصار إليّ من السلطان ستمئة ألف درهم (٣) وعاد الواقدي معهم إلى بغداد ، وأقام بها ، حتى عاد المأمون من خراسان فجعله قاضياً لعسكر المهدي في شرقي بغداد (٤) وعليه فلم يكن بمرو مع المأمون والرضا عليه‌السلام.

وأراد منه المأمون أن يصلي الجمعة ، فقال : ما أحفظ القرآن حتى سورة

__________________

(١) الوافي بالوفيات ٤ : ٢٣٨.

(٢) الطبقات الكبرى ٥ : ٣١٥.

(٣) تاريخ بغداد ٣ : ٢٠.

(٤) الطبقات الكبرى ٧ : ٧٧.

٢٠٥

الجمعة! وأصرّ عليه المأمون وقال له : أنا احفّظك! وأخذ يلقّنه حتى حفظ نصف السورة ، فلما بلغ النصف الثاني نسي الأول! فقال المأمون : هذا رجل يحفظ التأويل ولا يحفظ التنزيل! وقرأ في صلاته سورة الأعلى فقرأ : صحف عيسى وموسى (١)!

وقد اتّهم علياً عليه‌السلام بأنه أكره الناس على بيعته! فقال المفيد : أما الواقدي فعثماني المذهب معروف بالميل عن علي أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) ونقل الخطيب عنه قال : الكرخ مغيض السفلة! يعني «الرافضة». ومع ذلك اتهمه ابن النديم بالتشيع وأنه كان يلزم «التقية» (٣) وأخباره وكتبه تدل على خلاف ذلك ، بل على ما أفاده المفيد ، فترجمته في «الذريعة» و «طبقات أعلام الشيعة» و «أعيان الشيعة» في غير محلها.

وفيات وحوادث :

قال ابن الوردي : وفيها (٢٠٧ ه‍) مات يحيى بن زياد الفرّاء النحوي الديلمي الكوفي ، أبرعهم في الأدب واللغة والنحو ، وله كتب ، كان لفريه الكلام لُقّب بالفرّاء! (وكان مؤدب آباء المأمون).

قال : وفي سنة (٢٠٨ ه‍) هدم عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) حصون الشام منها حصن هَناك ، وحصن كفَر وحصن معرّة النعمان ، لعصيانهم.

قال : وفي سنة (٢٠٩ ه‍) مات ملك الروم ميخائيل وملك ابنه توفيل (٤).

__________________

(١) تاريخ بغداد ٣ : ٣ ـ ٢٠.

(٢) الجمل : ١١٢.

(٣) الفهرست لابن النديم : ١١١ ونقل عنه قولاً باطلاً لا نجده في أخباره وكتبه.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٨.

٢٠٦

قال المسعودي : وفيها (٢٠٩ ه‍) كانت وفاة يحيى بن الحسين بن زيد بن علي ، وصلّى عليه المأمون (١).

وفي اليعقوبي : في سنة (٢١٠) انتصر عبد الله بن طاهر الخزاعي على نصر بن شبث وفتح بلدته كيسوم في ثغور العراق إلى الشام ، وظفر به فحمله إلى المأمون (٢).

وفاة يونس بن عبد الرحمن :

أبو محمد يونس بن عبد الرحمن مولى علي بن يقطين مولى بني أسد ، ولد في آخر زمان هشام بن عبد الملك ، ذكره العلّامة وقال : مات سنة (٢٠٨ ه‍) (٣).

وقال : رأيت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام يصلّي في الروضة بين القبر والمنبر ، ولم يمكنني أن أسأله عن شيء .. وقال : صمت عشرين سنة ثمّ سألت عشرين سنة ، ثمّ أجبت. وعن الفضل بن شاذان : إنّ يونس بن عبد الرحمن حجّ أربعاً وخمسين حجة واعتمر أربعاً وخمسين عمرة ، فانتهى إليه علم الأئمة عليهم‌السلام حتى ما نشأ في الإسلام رجل بعد سلمان الفارسي من سائر الناس أفقه من يونس بن عبد الرحمن رحمه‌الله (٤).

أدرك بالكوفة جماعة من أصحاب الباقر عليه‌السلام ، وأصحاب الصادق عليه‌السلام متوافرين فسمع منهم وأخذ كتبهم وأخذ منها. وسمع من هشام بن الحكم عن

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٤٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٠٨.

(٣) خلاصة الرجال : ١٨٤.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٤٨٤ ، ٤٨٥ ، الحديث ٩١٤ و ٩١٧ و ٩١٨.

٢٠٧

الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي (الباقر) أحاديث لم يحدّث بها أبي! إنا إذا حدّثنا قلنا : قال الله عزوجل وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما يخالف قول ربنا وسنة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا تقبلوا علينا حديثاً إلّاما وافق القرآن والسنة ، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة فكان يونس شديداً في الحديث ويكثر الانكار لما يرويه الرواة» (١).

ولما مات أبو الرضا عليه‌السلام ببغداد توقف بعض الشيعة عن القول بوفاته وإمامة الرضا عليه‌السلام بعده ، وأخذوا يروون : أنّ فيه شبهاً من أربعة أنبياء ، يطبّقون عليه أخبار آبائه عن القائم من آل محمد عليهم‌السلام وشبهه بأربعة من الأنبياء في غيبتهم والفرج بعد الشدة والخروج بالسيف والاختلاف فيهم.

فالتقى يونس بالرضا عليه‌السلام وسأله عن وفاة أبيه وقال له : جعلت فداك! إنّ بعض شيعتك أو مواليك يروون أنّ في أبيك شبهاً بأربعة أنبياء! فقال : قد والله الذي لا إله إلّاهو هلك! قال : فأوصى إليك؟ قال : نعم ، قال : فما شرك معك أحداً؟ قال : لا ، قال : فأنت إمام؟ قال : نعم (٢).

وكان قد روى عنهم عليهم‌السلام أنهم قالوا : «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه ، فإن لم يفعل سُلب نور الايمان» فلمّا تبيّن له الحق وعرف من أمر أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ما علم ، تكلم ودعا الناس إليه. وكان زياد القندي وعلي بن أبي حمزة البطائني من قوّام أموال الكاظم عليه‌السلام وعندهما مئة ألف دينار منها! فكان ذلك سبب وقوفهم وجحودهم موته ، فبعثا إلى يونس ضمنا له عشرة آلاف دينار ليكفّ عنهما فأبى عليهما (٣).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٤ ، الحديث ٤٠١.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٤٩٤ ، الحديث ٩٤٧.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٤٩٣ ، الحديث ٩٤٦.

٢٠٨

ثمّ أخذ كتبه التي أخذها عن كتب أصحاب الصادق عليه‌السلام وعرضها على الرضا عليه‌السلام فأنكر أحاديث كثيرة منها أن تكون من أحاديث أبي عبد الله عليه‌السلام وقال له : إنّ أصحاب أبي الخطاب إلى يومنا هذا يدسّون هذه الأحاديث في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنّا إن تحدّثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة! إنّا نحدث عن الله ورسوله ولا نقول : قال فلان وفلان ليتناقض كلامنا ، إنّ كلام آخرنا مثل كلام أولنا وكلام أولنا مصادق لكلام آخرنا ، فإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردّوه عليه وقولوا له : أنت أعلم بما جئت به! فإنّ مع كل قول منا حقيقة وعليه نوراً ، فما لا حقيقة له معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان (١).

وكان للرضا عليه‌السلام وكيل في قم يدعي عبد العزيز بن المهتدي من خواص الرضا ومن خيار القميين ، وقال للرضا يوماً : إني لا ألقاك في كل وقت ، فعن مَن آخذ معالم ديني؟ قال : خذ من يونس بن عبد الرحمن (٢).

وله ثلاثون كتاباً منها (كتاب يوم وليلة) في أدعية الليالي والأيام ، وكانت نسخة منه لدى أحمد بن أبي خلف ومرض فعاده الجواد عليه‌السلام وإذا عند رأسه كتاب يونس ، فعجل بتصفّحه ورقة ورقة حتى أتى عليه إلى آخره وهو يكرّر : رحم الله يونس رحم الله يونس. وكان قد ضمن له الجواد الجنة على نفسه وعلى آبائه ، بعد أن ضمن له الرضا عليه‌السلام ذلك ثلاث مرات (٣)! وهو بعد الرضا كان يحجّ عنه (٤).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٤ ، اگ ديث ٤٠١.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٤٨٣ ، اگ ديث ٩١٠.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٤٨٤ ، اگ ديث ٩١١ و ٩١٢ و ٩١٣.

(٤) ا كل عام وانتم بخير صدر السابق : ٤٨٨ ، اگ ديث ٩٢٦.

٢٠٩

وكان من شدة ولائه لعلي عليه‌السلام وسعة صدره أنه كان يبلغه أن كثيراً من العصابة يقعون فيه وحتى أنهم يتّهمونه بالزندقة! ويذكرونه بغير الجميل! فيقول : أُشهدكم أن كل من له في أمير المؤمنين نصيب ، فهو في حلّ مما قال (١)!

وكتب عبد العزيز بن المهتدي القمي بعد وفاة يونس إلى الجواد عليه‌السلام : ما تقول في يونس بن عبد الرحمن؟ فكتب إليه بخطّه : أحِبّه وترحّم عليه. وإن كان يخالفك أهل بلدك (٢)!

ومنهم أحمد بن محمد بن عيسى ، ولكنّه رأى رؤيا فتاب واستغفر الله من وقيعته في يونس (٣).

وفاة حمّاد بن عيسى الجهني البصري :

كان من جهينة الكوفة ثمّ انتقل إلى البصرة ، وعاش سبعين أو تسعين سنة إلى ما (بعد) الرضا عليه‌السلام وتوفي في (٢٠٩ ه‍) (٤).

بعد انتقاله من الكوفة إلى البصرة خرج مع عبّاد بن صهيب البصري إلى الديار المقدسة ، يسمعان من الصادق عليه‌السلام ، فحفظ عبّاد مئتي حديث ، وحفظ حمّاد سبعين حديثاً. قال حماد : فلم أزل أشك حتى اقتصرت على عشرين منها لم تدخلني الشكوك فيها. وإنما يشك في حفظه لا في صحتها.

ودخل على الكاظم عليه‌السلام في حجة له قال : فقلت له : جعلت فداك! ادع الله لي أن يرزقني داراً ، وزوجة ، وولداً ، وخادماً ، والحجّ كل سنة! فقال : اللهمّ صلّ

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤٨٨ ، الحديث ٩٢٠ و ٩٢٨ و ٩٢٩.

(٢) المصدر السابق : ٤٨٩ ، الحديث ٩٣١.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٤٩٦ ، الحديث ٩٥٢.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٣١٧ ، ذيل الحديث ٥٧٢.

٢١٠

على محمد وآل محمد ، وارزقه داراً ، وزوجة ، وولداً ، وخادماً ، والحج خمسين سنة! قال : فلما قال : خمسين سنة ، علمت أني لا أحجّ أكثر من خمسين سنة.

حدّث بهذا بعد أن حجّ منها ثمانياً وأربعين حجة وقال للراوي العُبيدي معه : حججت ثمانياً وأربعين حجة ، وهذه داري قد رزقتها ، وهذه زوجتي وراء الستر تسمع كلامي ، وهذا ابني ، وهذا خادمي ، قد رزقت كل ذلك.

قال الراوي العبيدي : فحجّ بعد هذا الكلام حجّتين تمام الخمسين ، ثمّ خرج بعد الخمسين فزامل أبا العباس النوفلي القصير (١).

وفي المدينة زامله أُمية بن علي القيسي قال : دخلت أنا وحمّاد بن عيسى على أبي جعفر (الجواد) لنودّعه فقال لنا : لا تخرجا اليوم أقيما إلى غد. فلما خرجنا من عنده قال لي حمّاد : أنا أخرج فقد خرج ثقلي! وأنا قلت : أما أنا فأُقيم. فخرج حمّاد (٢) فلما صار في موضع الاحرام (مسجد الشجرة من ذي الحليفة قرب السيّالة التي تأتي من جحفة) دخل يغتسل ، فجاء السيل فحمله وغرق فيه قبل أن يحجّ زيادة على الخمسين (٣) فقبره بوادي سيّالة.

وذكره النجاشي وقال : مولى جُهينة. وقيل : عربي (٤).

ابن طاهر طهّر الشام ثمّ مصر :

قال اليعقوبي : وسار عبد الله بن طاهر (الخزاعي مولاهم) يستقرئ الشام لا يمرّ ببلد إلّاأخذ من رؤساء القبائل والعشائر ، والصعاليك والزواقيل!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣١٦ ، الحديث ٥٧١ و ٥٧٢.

(٢) كشف الغمة ٣ : ٥١٨ عن دلائل الإمامة للحميري.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٣١٧ ، الحديث ٥٧٢.

(٤) رجال النجاشي : ١٤٢ برقم ٣٧٠.

٢١١

وهدم الحصون وحيطان المدن ، فبسط الأمان للأسود والأبيض والأحمر ، ونظر في مصالح البلدان ووضع الخراج عن بعضها ، فلم يبق خالع للطاعة ولا مخالف إلّا خرج من حصنه وقلعته.

ومرّ الخبر عن مصر أن علي بن عبد العزيز الجرويّ كان متغلّباً بأسفله ، فأعلن الجرويّ أن أباه وهو بعده في طاعة الخلافة ، فقبل قوله وأنزله بلدة ببليس. وكان المتغلّب المتمرد بالصعيد عبيد الله بن السريّ فواقعه ابن الطاهر عدّة وقعات ، فجعل أصحابه يستأمنون حتى لم يبق معه ممّن كان يعتمد عليه أحد ، فطلب هو الأمان فأعطاه الأمان على أن يسوّغ له ما اخذ بل يطلق له جباية الصعيد شهرين! في أوائل (٢١١ ه‍).

ودخل ابن طاهر الفسطاط وكتب بالفتح إلى المأمون ، وسيّر السريّ إلى العراق (١).

زواج المأمون بپوران :

مرّ الخبر أنّ الحسن بن سهل بعد وصول رؤوس قاتلي أخيه الفضل ذي الرياستين ، وقبل وصول المأمون إلى بغداد ، مرض مرضاً شديداً ، فهاج به من شدة مرضه تغيّر عقله حتى شُدّ في الحديد وحُبس في بيت ، وكتب قوّاده بذلك إلى المأمون فجعل على عسكره دينار بن عبد الله (٢).

ويظهر من الخبر التالي أنّه بعد ورود المأمون إلى بغداد واستقرار أمره ، تخلّص الحسن ممّا كان به ، واعتزل الدولة واستولى بأعوانه على كورة قرب

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٠.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٦٨.

٢١٢

الواسط على نهر فرعي على شرقي دجلة تُسمّى فم الصِلح ، أقام بها مزارع وبنى بها منازل وقصوراً له (١).

وبعد أن استقرّ أمر المأمون أراد أن يأمن جانب الحسن ويحسن علاقته به ويسهّل سبيل الوصول إليه ، فجرت مقدّمات ومراسلات حتى انتهت بتسمية خديجة ابنة الحسن بن سهل التي تلقّب بالفارسية «پوران» (٢) للمأمون.

وفي أول الأُسبوع الثاني من رمضان سنة (٢١٠ ه‍) قدّم المأمون ابنه العباس في عسكر إلى الحسن برّاً ثمّ اصطحب المأمون معه خليفة الحسن على عسكره دينار بن عبد الله وركب إليه زورقاً في دجلة حتى أرسى على باب قصر الحسن أو جوسق بُني له على شاطئ دجلة بعد الإفطار فأفطر هو والعباس ابنه والحسن ، ودينار بن عبد الله قائم على رجله حتى فرغوا من إفطارهم وغسلوا أيديهم! ثمّ دعا المأمون «بشراب» فاتي بجام «ذهب» فصُبّ فيه وشرب ، ثمّ مدّ يده بجام فيه شراب إلى الحسن ، ولم يكن الحسن يشرب فتباطأ عنه فغمزه دينار! فقال الحسن : يا أمير المؤمنين! أشربه بإذنك وأمرك؟! ثمّ أخذ الجام فشربه!

وكانت العباسة بنت الفضل بعد قتله عند عمها الحسن ، وللحسن ابن يدعى محمداً فزوّجهما المأمون في الليلة الثانية.

وكان المأمون قد حمل معه امرأته أُم جعفر! واخته حمدونة بنت الرشيد ، وكانت ام الحسن حاضرة ، فلما كانت الليلة الثالثة دخل المأمون على «پوران» وعندها جدّتها وحمدونة وام جعفر! ومع المأمون رجال من خاصّته! فلما جلس المأمون إلى پوران كانت جدّتها قد أعدّت صينية ذهب فيها ألف درة

__________________

(١) معجم البلدان لياقوت الرومي ، حرف الفاء.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٤٣ وپوران باسم پوراندخت بنت كسرى انوشيروان.

٢١٣

فنثرته عليهما! فسألها المأمون عن عدد الدرّ؟ فقالت : ألف حبّة! فأمر المأمون أن تُجمع ، وجمع المأمون ذلك الدر في آنية فوضعها في حجر پوران وقال لها : هذه نحلتك ، وسلي حوائجك. وكانت أُم جعفر تريد الحج فسألته پوران أن يأذن لها فأذن لها ، وسألته العفو عن إبراهيم المغنّي فعفا عنه. وابتنى بها في تلك الليلة.

وكان الحسن قد أعدّ لها شمعة من العنبر أربعين منّاً! في تور من ذهب! بل شمعتين ، فكثر دخانهما فقال : ارفعوهما وهاتوا الشمع. وكان المأمون قد نحل فم الصِّلح لُام جعفر فنحلتها الليلة لپوران! وكتب الحسن رقاعاً فيها أسماء ضياعه فنثرها على العباسيين وقوّادهم ، فمن وقعت في يده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث من يتسلّمها له.

ثمّ أقام المأمون عند الحسن سبعة عشر يوماً أو أربعين يوماً ، يُعدّ الحسن لجميع من معه جميع ما يحتاجون إليه ، وخلع على القوّاد على مراتبهم وحملهم ووصلهم ، فكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم! فأمر المأمون غسّان بن عبّاد أن يدفع إلى الحسن عشرة آلاف ألف! فدفعها إليه ، فجلس الحسن ففرّقها في أصحابه وحشمه وخدمه وقوّاده. وكانت ام جعفر أنفقت إلى سبعة وثلاثين ألف ألف درهم ، وحمدونة أنفقت خمسة وعشرين ألف ألف (١).

وخبر رقاع الضياع رواه الطبري عن أحمد بن الحسن بن سهل قال : كان أهلنا يتحدثون .. فلم يكن مشاهداً حاضراً ناظراً ، وزاد المسعودي : أسماء جوار وصفات دواب وغير ذلك ، وزاد على العباسيين وقوّادهم : الوجوه والكُتّاب : بنادق مسك فيها رقاع .. فيجد فيها على قدر إقباله وسعوده! وعلى الناس :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٦٠٦ ـ ٦٠٩ عن عدّة رواة : كاتب المأمون وأحمد بن الحسن بن سهل.

٢١٤

نوافج المسك وبيض العنبر ودنانير ودراهم! فلما أراد المأمون أن يصعد في دجلة إلى بغداد قال للحسن : يا أبا محمد حوائجك! قال : يا أمير المؤمنين ، أسألك أن تحفظ عليَّ مكاني من قلبك! فإنه لا يتهيّأ لي حفظه إلّابك! فأمر المأمون بحمل خراج سنة من الأهواز وفارس إليه (١)!

وزاد ابن الوردي قال : نثرت عليه ام الحسن والفضل الفا (كذا) حبة لؤلؤ نفيسة!

وزاد : ولما خلا المأمون بها هابته فحاضت من هيبته! فقالت : أتى أمر الله فلا تستعجلوا! وإنما حذفت الهاء حذراً من قراءة القرآن في حال قُرئها ، فأعجب بكنايتها وخرج وأنشد شعراً (٢).

تمرّد القميين عن الخراج للمأمون :

مرّ الخبر أن المأمون حين دخل الريّ في عودته من مرو إلى بغداد ، حطّ عن أهل الريّ ألفي ألف درهم ، فبلغ ذلك أهل قم فطمعوا في مثله لهم فرفعوا إليه يشكون ثقل خراجهم ألفي ألف ويسألونه الحطّ عنهم ، فلم يجبهم إليه فامتنعوا عليه سنة (٢١٠ ه‍) ، ومقدّمهم في ذلك يحيى بن عمران (٣).

فوجّه المأمون إليهم قائده علي بن هشام ، ثمّ أمده بعُجيف بن عنبسة ، وكتب إلى محمد بن يوسف الكح أن يصير إلى قم مع علي بن هشام لحرب أهلها ،

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٤٣ وقال : نثر الحسن ما لم ينثره ملك قط في جاهلية ولا في إسلام!

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٨.

(٣) القمي الأشعري جدّ محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران صاحب نوادر الحكمة ، وكان وكيلاً للجواد عليه‌السلام كما يأتي.

٢١٥

فحاربوهم فظفروا بهم وهدموا سورهم وجبوهم سبعة آلاف ألف (١) ولعلهم بلغهم ما بلغ إليه ترف المأمون في عرسه ببوران ، فذلك أثارهم عليه.

وقبل ذلك كان الجواد عليه‌السلام قد كتب إلى إبراهيم بن محمد الهمداني كتاباً وأمره أن لا يفكه إلّابعد وفاة يحيى بن عمران الأشعري! فلما توفي يحيى وحمل إلى المقبرة ، حمل إبراهيم الهمداني كتاب الجواد عليه‌السلام إليه معه إلى المقبرة فهناك فكه وقرأه فإذا فيه أن : قُم بما كان يقوم به (٢).

المأمون والجواد عليه‌السلام ببغداد :

ولعلّ شدة بطشه بشيعة قم حمله على استعطافهم باستقدام الإمام الجواد عليه‌السلام. أضف إلى أنّ عفو المأمون عن إبراهيم المغنّي ابن المهدي العباسي الذي اختاره العباسيون ببغداد بديلاً عن المأمون ، لعلّه حمله على أن يعيد عليهم ما نقموه عليه من اختياره الرضا عليه‌السلام ولياً لعهده وصهراً على ابنته ام حبيب ، يعيدها أو بعضها مع ابنه الجواد عليه‌السلام إصراراً وتأديباً وتأنيباً ، وتبجّحاً وتحدّياً وتقريعاً!

واخترنا هذا الموقع الزمني في أواخر العاشرة بعد المئتين أو أوائل ما بعدها : (٢١١ ه‍) ترجيحاً لما رجحه الطبري الآملي : أنّ المأمون استقدم الجواد عليه‌السلام إلى بغداد وله ست عشرة سنة (٣) أي في (٢١١ ه‍) بعد التسالم على مولده في (١٩٥ ه‍) وأكثر انسجاماً وتناسباً مع ما يأتي عن المفيد من صلاة الناس مع الجواد عليه‌السلام جماعة عامة في مسجد ببغداد عند عودته منها يومئذٍ. لا لما في

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٦١٤ في حوادث عام (٢١٠ ه‍).

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٢٩.

(٣) دلائل الإمامة : ٢٠٦.

٢١٦

خبره عن الريان بن شبيب الكوفي أخي ماردة بنت شبيب امّ المعتصم ، من كونه في التاسعة وأشهر (١) ولا لما في تفسير القمي عنه عن محمد بن الحسين (؟) عن محمد بن عون النصيبي من كونه في العاشرة أو الحادي عشرة (٢).

وخلت الأخبار عن تفصيل كيفية استقدام المأمون للإمام عليه‌السلام إلى بغداد ، اللهم إلّا : ما رواه القمي عن أبيه عن إسماعيل بن مهران : أنّه لما حُمل أبو جعفر الجواد عليه‌السلام من المدينة إلى بغداد المرة الأُولى قلت له : جُعلت فداك! إني أخاف عليك في هذا الوجه! فإلى مَن الأمر بعدك؟

فكرّ بوجهه إليّ ضاحكاً وقال : ليست الغيبة حيث ظننت (غيبة الموت) في هذه السنة (٣).

وخبر التفسير قصير بالقياس إلى خبر المفيد ، فنقدّمه ونكمله بالآخر : عن النصيبي قال : لما أراد المأمون أن يزوّج أبا جعفر محمّد بن علي بن موسى عليه‌السلام ابنته امّ الفضل ، اجتمع إليه أهل بيته الأدنين منه ، فقالوا له :

يا أمير المؤمنين! ننشدك الله أن لا تُخرج عنا أمراً قد ملكناه! وتنزع عنّا عزّاً قد ألبسناه الله! فقد عرفت الأمر الذي بيننا وبين آل علي قديماً وحديثاً!

فقال المأمون : اسكتوا ، فوالله لا قبلت من أحدكم في أمره!

فقالوا له : يا أمير المؤمنين! أفتزوّج قرّة عينك صبيّاً لم يتفقّه في دين الله! ولا يعرف فريضة ولا سنّة! ولا يميّز بين الحق والباطل! فلو صبرت عليه حتى يتأدّب! ويقرأ القرآن! ويعرف فرضاً من سنّة!

__________________

(١) الارشاد ٢ : ٢٨١ ، ٢٨٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٨٢ في تفسير آية الصيد من المائدة.

(٣) أُصول الكافي ١ : ٣٢٣ ، الحديث ١ ، باب النص على علي الهادي عليه‌السلام.

٢١٧

فقال لهم المأمون : والله إنه لأفقه منكم وأعلم بالله وبرسوله وبفرائضه وسننه وأحكامه ، وأقرأ لكتاب الله ، وأعلم بمحكمه ومتشابهه وخاصّه وعامّه ، وناسخه ومنسوخه ، وتنزيله وتأويله منكم ، فاسألوه ، فإن كان الأمر كما قلتم قبلت منكم في أمره ، وإن كان كما قلت علمتم أنّ الرجل (!) خير منكم! فخرجوا من عنده (على ذلك).

(وكان قاضي قضاة الزمان يحيى بن أكثم التميمي المروي) فبعثوا إليه وأطمعوه في هدايا! على أن يحتال لأبي جعفر عليه‌السلام بمسألة عند المأمون لا يدري كيف الجواب فيها!

فلما حضروا وحضر أبو جعفر عليه‌السلام قالوا : يا أمير المؤمنين! هذا يحيى بن أكثم ، إن أذنت له أن يسأل أبا جعفر عن مسألة؟

فقال المأمون له : يا يحيى ؛ سل أبا جعفر عن مسألة في الفقه لننظر كيف فقهه؟

فقال يحيى : يا أبا جعفر! أصلحك الله ، ما تقول في محرم قتل صيداً؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : قتله في حلّ أو حرم؟ عالماً أو جاهلاً؟ عمداً أو خطأً؟ عبداً أو حراً؟ صغيراً أو كبيراً؟ مُبدئاً أو مُعيداً؟ من ذوات الطير أو من غيرها؟ من صغار الصيد أو من كبارها؟ مُصرّاً عليها أو نادماً؟ بالليل في وكرها أو بالنهار جهاراً؟ محرماً للعمرة أو للحج؟

فانقطع يحيى بن أكثم انقطاعاً لم يخفَ على أهل المجلس ، وأكثر الناس تعجباً من جوابه عليه‌السلام.

ونشط المأمون فقال : نخطب يا أبا جعفر؟! قال : نعم يا أمير المؤمنين! فقال المأمون : «الحمد لله اقراراً بنعمته ، ولا إله إلّاالله إخلاصاً لعظمته. وصلّى الله على محمد عند ذكره. (وبعد) فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال

٢١٨

عن الحرام فقال : (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

ثمّ إنّ محمد بن علي ذكر أُم الفضل بنت عبد الله! وبذل لها من الصداق خمسمئة درهم! وقد زوّجتك فهل قبلت يا أبا جعفر؟

قال أبو جعفر عليه‌السلام : نعم يا أمير المؤمنين! قد قبلت هذا التزويج بهذا الصداق» (١).

وليس في هذا الخبر خطبة للإمام عليه‌السلام ، وروى عن القمي أيضاً عن أبيه عن ابن شبيب : أنّ الإمام عليه‌السلام خطب فقال : الحمد لله منعم النعم برحمته ، والهادي إلى فضله بمنّته. وصلّى الله على محمد خير خلقه ، الذي جمع فيه من الفضل ما فرّقه في الرسل قبله ، وجعل تراثه إلى من خصّه بخلافته! وسلّم تسليماً. وهذا أمير المؤمنين زوّجني ابنته (؟) على ما جعل الله للمسلمات على المسلمين : (فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ (٢)) وقد بذلت لها من الصداق ما بذله رسول الله لأزواجه وهو (خمسمئة درهم) ونحلتها من مالي (مئة ألف درهم) زوّجتني يا أمير المؤمنين (٣)؟ ثمّ نقل الخطبة السابقة عن المأمون جواباً.

والمفيد روى بالسند نفسه عن ابن شبيب إلّاأنّه لم يذكر خطبة للمأمون ونسب الخطبة السابقة إلى الإمام عليه‌السلام ، وفي آخرها : وقد بذل لها من الصِّداق مَهر جدته فاطمة بنت محمد عليهما‌السلام وهو خمسمئة درهم جياد ، فهل زوّجته يا أمير المؤمنين بها على هذا الصَّداق المذكور؟

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٨٢ ـ ٨٣.

(٢) البقرة : ٢٢٩.

(٣) إثبات الوصية من (ق ٤ ه‍) : ١١٦ ـ ١١٧.

٢١٩

فقال المأمون : نعم ، قد زوجتك ـ يا أبا جعفر ـ أُم الفضل ابنتي على الصداق المذكور ، فهل قبلت النكاح؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : قد قبلت ذلك ورضيت به (١).

واختار خطيب بغداد أن يرويها عن قاضيها التميمي البصري يحيى بن أكثم : أنّ المأمون خطب فقال :

الحمد لله الذي تصاغرت الأُمور لمشيّته ، ولا إله إلّاالله إقراراً بربوبيته. وصلّى الله على محمد عبده وخيرته. أما بعد ، فإنّ الله جعل النكاح الذي رضيه لكما سبب المناسبة ، ألا وإني قد زوجت زينب ابنتي من محمد بن علي بن موسى الرضا ، أمهرناها عنه أربعمئة درهم (٢) ثمّ كتم ابن الأكثم ما تلعثم به في الكلام أمام الإمام عليه‌السلام ، ولم يستنطقه الخطيب!

وهنا يشترك خبر الريّان والنصيبي في نصب الموائد للوليمة للناس على مراتبهم الخاصة في دار الخاصة والعامة في دار العامة. وأنّ المأمون كان قد أعدّ سفينة من فضة على عجلات! مشدودة بحبال من الابريسم ، مملوءة من العطور الغالية من دهن البان والعود والعنبر والمسك والكافور! فإذا بالخدم يجرونها بحبال الإبريسم إلى دار الخاصة ، فأمر المأمون أن تخضب لحى الخاصة منها ، ثمّ مرّوا بها إلى دار العامة فطيّبوهم بها. وإنما اختلف الخبران في تقديم الطيب أو الطعام ، وتفرّق الناس ، وبقي الخاصة.

فقال المأمون لأبي جعفر : إن رأيت ـ جُعلت فداك ـ أن تذكر الفقه فيما فصّلته من وجوه قتل المحرم الصيد : ما الذي يجب على كل صنف من هذه الأصناف التي ذكرت ، لنعلمه ونستفيده. وأمر المأمون أن يُكتب ذلك كلّه عن أبي جعفر عليه‌السلام.

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

(٢) عن تاريخ بغداد في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤١٤.

٢٢٠