موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

الحسين الحلّاج إلى الوزير ، فأمر بتسليمه إليه ، فلمّا رأى منه ذلك الكتاب أحضر القاضي أبا عمرو وأمر بقراءة ذلك الكتاب عليه ، فلمّا قرئ الكتاب قال القاضي للحلّاج : من أين لك هذا؟ قال : من كتاب الإخلاص للحسن البصري! فقال القاضي : قد سمعناه بمكة وليس فيه هذا فقد كذبت يا حلال الدم! فطلب الوزير من القاضي أن يكتب له بحلّ دمه وألزمه بذلك. فدافعه شيئاً ثمّ كتب له بإباحة دمه ، وكتب بعده من حضر المجلس ، فأرسل الوزير الفتاوى بذلك إلى المقتدر واستأذنه في قتله فأذن ، فضُرب ألف سوط ثمّ قطعت يده ثمّ رجله ثمّ قُتل واحرق ، ونُصب رأسه ببغداد ، وكان يقول : أنا الحق! وما في الجبّة إلّاالله (١)!

قتل الطبري بفعل الحنابلة :

محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري الآملي المولود (٢٢٤ ه‍) بدأ أول دورة تفسيرية بالتفسير الترتيبي «جامع البيان في تفسير القرآن» في بغداد وأكمله في ثلاثين جزءاً ، ثمّ أنهى «تاريخ الأُمم والرسل والملوك» في عشرة أجزاء في سنة (٣٠٢ ه‍) إلى سنة (٣٠٠ ه‍) ثمّ صنّف كتباً في الأُصول والفروع والمناقب ومنها في مناقب علي عليه‌السلام عُرف باسم كتاب الولاية أو الردّ على الخوارج «الحرقوصية» نسبةً إلى حُرقوص بن زُهير ذي الثُديّة رأس الخوارج الأولين على أمير المؤمنين عليه‌السلام في النهروان ، وهو جدّ أحمد بن حنبل! وكان الطبري حافظاً عارفاً بأقاويل الصحابة والتابعين فقيهاً مجتهداً لم يقلّد أحداً ،

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٨ ونقل عن عبد القادر الجيلاني كلاماً في تأويل كلام الحجّاج ، ولكنه عذّر العلماء بظاهر الشرع! ونقل أنّ للغزالي في كتابه مشكاة الأنوار فصلاً طويلاً في تأويل كلامه من شدّة الوجد!

٥٨١

ثمّ صنّف كتاباً جمع فيه اختلاف الفقهاء ولم يذكر فيه شيئاً عن أحمد بن حنبل ، فقيل له في ذلك فقال : إنما كان أحمد بن حنبل محدّثاً ولم يكن فقيهاً مجتهداً (١)!

وقال الحموي : قصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل وعن روايته لحديث إجلاس الله لنبيّه معه على العرش! فقال : أما حديث الإجلاس على العرش فمُحال وقال :

سبحان من ليس له أنيس

ولا له في عرشه جليس

وأما ابن حنبل فإني ما رأيته روي عنه ولا له أصحاب يعوّل عليهم! فرموه بمحابرهم وقاموا! فقام ودخل داره ، فرموا داره بالأحجار حتى صار على بابه كالتل العظيم! وكانوا أُلوفاً ، فركب نازوك صاحب الشرطة في عشرة آلاف من الجند لمنعهم عنه! فوقفوا ببابه يوماً كاملاً ورفعوا عنه الحجارة (٢).

ونسبه الحنابلة إلى الإلحاد! حتى توفى في شوال عام (٣١٠ ه‍) فدفن في داره خوفاً منهم (٣) وكانت داره قد ابتناها لنفسه في رحبة يعقوب في بغداد (٤).

الشيخ الشلمغاني قبل شغبه :

بعد حدود خمس سنين من بدء عهد الشيخ النوبختي ، أي في سنة (٣١٠ ه‍) تقريباً ، قرّب النوبختي إليه أبا جعفر محمد بن علي المعروف بالشلمغاني (٥) ،

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٩.

(٢) معجم الأُدباء ١٨ : ٥٧ ، وانظر قاموس الرجال ٩ : ١٥١ ـ ١٥٤ برقم ٦٥١٧.

(٣) هدية الأحباب : ٦١ ، وانظر ترجمته في مقدمة تاريخه ١ : ٥ ـ ٣٢ بقلم محمد أبي الفضل إبراهيم.

(٤) تاريخ بغداد ٢ : ١٦٦.

(٥) شلمغان من قُرى واسط.

٥٨٢

وكان يومئذ مستقيماً لم يظهر منه خلافه ، فكان صاحب الشيخ أبي القاسم سفيراً بينه وبين الناس في حوائجهم ومهمّاتهم ، فكان الناس يقصدونه ويلقونه ، واستتر النوبختي عنهم ما أمكنه (١).

قال أبو غالب الزراري : فكنّا لا نلقى أبا القاسم وصرنا نلقى أبا جعفر بن الشلمغاني (٢).

وكان يكتب «كتاب التكليف» باباً باباً ، فيصلح الباب ويدخل به على الشيخ أبي القاسم فيعرضه عليه ويحكمه ، فإذا صحّ الباب خرج فنقله للناس وأذن لهم بنَسخه (٣).

أما لمّا كتب الشلمغاني «كتاب التأديب» أنفذه الشيخ النوبختي إلى قم وكتب إلى جماعة الفقهاء بها : انظروا في هذا الكتاب هل تنظرون فيه شيئاً يخالفكم؟

فكتبوا إليه : ما فيه شيء يخالفنا إلّافي زكاة الفطرة فإنها عندنا صاع وهذا فيه : نصف صاع (٤).

وكأنه عندئذ طلب النوبختي من أصحابه أن يطلبوا له «كتاب التكليف» لينظر فيه ، فجاؤوا به إليه فقرأه من أوّله إلى آخره ثمّ قال : ما فيه شيء إلّاوقد روي عن الأئمة عليهم‌السلام إلّاأنّه كذب عليهم في موضعين أو ثلاثة! منها في باب الشهادة : أنه روى عن العالم (الكاظم) أنه قال : إذا كان لأخيك المؤمن على

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٠٣ ، الحديث ٢٥٦ عن ابن عياش عن أبي غالب الزراري.

(٢) المصدر السابق : ٣٢٤ ، الحديث ٢٧٢.

(٣) المصدر السابق : ٣٨٩ ، الحديث ٣٥٤.

(٤) المصدر السابق : ٣٩٠ ، الحديث ٣٥٦.

٥٨٣

رجل حق فدفعه عنه ولم يكن له من البيّنة عليه إلّاشاهد واحد وكان الشاهد ثقة ، فارجع إلى الشاهد فاسأله عن شهادته ، فإذا أقامها عندك فاشهد معه عند الحاكم على مثل ما يشهد هو عنده ، لئلّا يبطل حق امرئ مسلم! وهذا من كذبه مع موضع آخر (١).

وكان من الشيعة ببغداد آل بسطام ، فلمّا جعل النوبختي للشلمغاني عند الناس منزلة وجاهاً ، أصبح أبو جعفر الشلمغاني وجيهاً عند بني بسطام ، فكان عند ارتداده وكفره يحكي كل كذب وبلاء لهم ويسنده لهم إلى الشيخ النوبختي فيقبلونه منه ويأخذونه عنه.

ومنه أنّه قال لهم : إنّ روح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انتقلت إلى أبي جعفر العَمري! وروح أمير المؤمنين عليه‌السلام انتقلت إلى بدن الشيخ أبي القاسم النوبختي! وروح مولاتنا فاطمة عليها‌السلام انتقلت إلى ابنته أُم كلثوم! وقد أخذ عليهم كتمانه ومن أذاعه يعاقب!

فأسند الطوسي عن ابن بنتها هبة الله بن محمد بن أحمد الكاتب عن جدته أُم كلثوم أنها أخبرت الشيخ النوبختي : أنها دخلت يوماً إلى أُم أبي جعفر بن بسطام تزورها قالت : فاستقبلتني وانكبّت على رجلي تقبّلهما! فانكرت ذلك وقلت لها : مهلاً يا ستّي فإنّ هذا أمر عظيم! فبكت وقالت : كيف لا أفعل بك هذا وأنت مولاتي فاطمة! فقلت لها : وكيف ذلك يا ستّي!

فقالت لي : إنّ الشيخ أبا جعفر محمد بن علي باح لنا بالسرّ! قلت لها : وما السرّ؟ قالت : قد أخذ علينا كتمانه وقال : إن أذعناه عوقبنا! فأعطيتها موثقاً أني لا أكشفه لأحد! فباحت بالسرّ! فقلت لها : إنّ هذا كذب يا ستّي! فقالت : بل هو سرّ

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٤٠٩ ، الحديث ٣٨٢ و ٣٨٣.

٥٨٤

عظيم وقد اخذ علينا أننا لا نكشف هذا لأحد! فالله الله فيَّ لا يحلّ بي العذاب! ويا ستّي لولا أنك حملتيني على كشفه ما كشفته لك ولا لأحد غيرك!

فقال لي الشيخ النوبختي : يا بنيّة إياك أن تذهبي إلى هذه المرأة بعد هذا وإن كاتبتك فلا تقبلي لها رقعة ، وإن أنفذت إليك رسولاً فلا تقبلي رسولها ، فهذا كفر بالله وإلحاد ، قد أحكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجلعه طريقاً إلى أن يقول لهم : بأن الله حلَّ فيه واتحدّ به! كما تقول النصارى في المسيح عليه‌السلام ، ويعدو إلى قول الحلّاج لعنه الله (وكان ذلك بعد هلاكه).

ثم كتب إلى بني بسطام بلعنه والبراءة منه فلمّا وصل كتابه إليهم أوصلوه إليه فبكى بكاءً عظيماً وقال لهم : إنّ لهذا القول «باطناً» عظيماً! وهو : أنّ اللعنة هي الإبعاد ، فمعنى قوله : لعنه الله : أي باعده الله عن عذاب النار! فالآن قد عرفتُ منزلتي! وعليكم بالكتمان لهذا الأمر ، وأخذ يمرّغ خديه في التراب!

فلم يبقَ أحد إلّاوتقدم الشيخ أبو القاسم إليه وكاتبه بلعن الشلمغاني والبراءة منه وممّن يتولّاه ويرضى بقوله أو يكلّمه أو يواليه. ونهى بني بسطام خاصّة عن كلامه ، وأمرهم بلعنه والبراءة منه ، فلم ينتهوا وأقاموا على تولّيهم له (١).

توقيع النوبختي بلعن الشلمغاني :

بدأ اقتدار المقتدر منذ عام (٢٩٥ ه‍) وبعد عشرة أعوام في (٣٠٥ ه‍) بدأت سفارة الحسين النوبختي ، واستمرّ اقتدار المقتدر إلى (٣١٧ ه‍). ولم نعلم متى رُفع أيّ تقرير على الشيخ النوبختي فأحضره وغيّبه عن الشيعة في داره ، إلّاأنه كان قبل (٣١٢ ه‍).

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٤٠٣ ـ ٤٠٥ ، الحديث ٣٧٨.

٥٨٥

وكأنّه في ذي الحجة من سنة (٣١٢ ه‍) اتّصل به ـ وهو محبوس في دار المقتدر ـ الشيخ أبو علي محمد بن همّام ، فنقل لمحمد بن الحسن الصيمري : عن الشيخ النوبختي أنه امر من الناحية المقدسة بإظهار البراءة عن محمد بن علي الشلمغاني وشغبه بالمذهب ، وأنّ النوبختي راجع الناحية المقدسة لترك إظهار هذه البراءة فإنه في يد القوم وحبسهم ، فامر بإظهارها فإنه يأمن منهم ولا يخشى ، فأنفذها إلى أبي علي محمد بن همّام ، فهو أخرجها لمحمد بن الحسن الصيمري وأحمد بن ذكا مولى علي بن محمد بن الفرات (الوزير) وهارون بن موسى ومحمد بن أحمد بن داود وعنهم جماعة منهم أحمد بن علي بن نوح السيرافي وعنهم الطوسي ، وفيها (ولعله بعد البسملة والحمدلة) قالوا : والمداد كان رطباً لم يجف!

«عَرِّف ـ أطال الله بقاءك وعرّفك الخير كله وختم به عملك ـ من تثق بدينه وتسكن إلى نيّته من إخواننا ـ أدام الله سعادتكم جميعاً ـ بأنّ محمد بن علي المعروف بالشلمغاني ـ وهو ممّن عجّل الله له النقمة ولا أمهله ـ قد ارتدّ عن الإسلام وفارقه ، وألحد في دين الله وادّعى ما كفر معه بالخالق جل وتعالى ، وافترى كذباً وزوراً وبهتاناً وإثماً مبيناً وأمراً عظيماً ، كذب العادلون بالله وضلّوا ضلالاً بعيداً وخسروا خسراناً مبيناً.

وإننا قد برئنا إلى الله تعالى وإلى رسوله وآله «صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليهم» منه ، ولعنّاه «عليه لعائن الله» في الظاهر منا والباطن وفي السرِّ والجهر ، وفي كل وقت وعلى كل حال ، وعلى من شايعه وتابعه ، أو بلغه هذا القول منّا وأقام على تولّيه بعده.

وأعلِمهم ـ تولّاكم الله وأعزّكم الله ـ أنّنا في التوقي والمحاذرة منه على مثل ما كان منّا لنظرائه من الشُريعي والنُميري والهلالي والبلالي وغيرهم ،

٥٨٦

وعادة الله «جل ثناؤه» مع ذلك قبله وبعده عندنا جميلة ، وبه نثق وإياه نستعين ، وهو حسبنا في كل أُمورنا ونعم الوكيل».

قال هارون بن موسى : أنّ أبا علي محمد بن همام حمل هذا التوقيع فلم يدع أحداً من الشيوخ إلّااقرأه إياه ، وكتبوا به إلى من بعُد منهم في ساير الأمصار! فاشتهر ذلك في الطائفة ، فاجتمعوا على لعنه والبراءة منه. وخرج الشيخ النوبختي من الحبس بعد ذلك بمدة يسيرة (١) في أواخر عام (٣١٢ ه‍).

فروى الطوسي بسنده عن خادم النوبختي : عبد الله الكوفي قال : بعد ما ذُم الشلمغاني وخرجت فيه اللعنة سئل الشيخ أبو القاسم قيل له : فكيف نعمل بكتبه وبيوتنا مليئة منها؟ فقال لهم : أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن علي عليه‌السلام وقد قيل له : كيف نعمل بكتب بني فضّال وبيوتنا مليئة منها؟ فقال عليه‌السلام : خذوا بما رووا وذروا ما رأوا (٢).

حركات القرامطة وما رافقها :

قال المسعودي : ومن الكوائن العظيمة والأنباء الجليلة التي كانت في أيام المقتدر ما لم يتقدّم مثلها في الإسلام (من حركات القرامطة) في عام (٣١١ ه‍) :

مسير سليمان بن الحسن الجنابي في أربعمئة فارس وخمسمئة راجل من الأحساء إلى البصرة في ست ليال ، وكان على حربها سبكا المفلحي ، وصلوا إليها ليلاً فدخلوها وقتلوا المفلحي ومن قدروا عليه من أصحابه ومن ظهر لهم من الرعية ، في أواخر ربيع الثاني وهرب الناس منهم إلى الأُبلّة والشطوط والأنهار والجزائر وغيرها ، وأقاموا بالبصرة (١٧) يوماً ثمّ رحلوا عنها بما احتملوا منها.

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٤٠٩ ـ ٤١٢.

(٢) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٨٩ ، ٣٩٠ ، الحديث ٣٥٥.

٥٨٧

وبعد عشرة أشهر تقريباً في أواخر محرم الحرام سنة (٣١٢ ه‍) خرج أيضاً في خمسمئة فارس وستمئة راجل رحل بهم إلى ناحية الهبير ممّا يلي الثعلبية من منازل الحجاج في منصرفهم إلى العراق ، فاعترض وقطع عليهم طريقهم ، وفيهم من القوّاد والأولياء أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون التغلبي وأحمد بن بدر وأحمد بن كشمرد وغيرهم من الوجوه ، فنهبوا منهم من صنوف الأموال ما لا يوقف على تحديد مبلغها (١) وتركوهم حتى هلك أكثرهم جوعاً وعطشاً!

فسخط المقتدر على وزيره ابن الفرات وكان له سبعون سنة وكان يلي أعماله ابنه الحسن فقتلهما ، واستوزر بعده القاسم حفيد الفتح بن خاقان التركي (٢) فجرّد هذا جمعاً من أولياء الحضرة وقوّادها للقاء القرمطي إلى الكوفة ، وهم : جعفر بن ورقاء الشيباني وجَني الصفواني مولى ابن صفوان العقيلي ، وثمل الدلفي وطريف السبكري وإسحاق السبكري وغيرهم من رؤساء الجيوش. ففي أواخر ذي القعدة من السنة (٣١٢ ه‍) اعترضهم القرمطي فواقفهم في الكوفة ، فأسر منهم القائد جَني الصفواني وقتل من قتل منهم وهزمهم.

ثمّ كان إلى ستة أيام يدخل الكوفة فينهبها نهاراً ويتركها ليلاً إلى معسكره ثمّ يعود غداً وهكذا ثمّ حمل ما أمكنه من الأموال والثياب (٣) وسلم البلد إلى إسماعيل بن يوسف الحسني وسار بالثقل والذرّية المسبيّة إلى الأحساء.

وكان القائد يوسف بن أبي الساج يلي أعمال بلاد أذربيجان وأرمينية وأران والبلقان وغيرها فأشخصه السلطان (المقتدر) إلى واسط يقيم بها يستمد ويستعد

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣٣٠.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣٣١.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٩ ، ٢٥٠.

٥٨٨

لينفذ لقتال القرمطي ، وأتاه الخبر بمسيره إلى الكوفة ، فخرج ابن أبي الساج مبادراً إلى الكوفة فسبقه أبو طاهر القرمطي حتى نزل الخورنق ، وفي غده نزل ابن أبي الساج بين النهرين ممّا يلي قرية حَروراء ، وأبو طاهر القرمطي بينه وبين الكوفة. ثمّ كانت الوقعة بينهما في (٩ شوال) سنة (٣١٥ ه‍) وتفرّق كثير من أنصار ابن أبي الساج عنه في طريقه وتأخّر كثير منهم عنه ، وكان في أكثر من ثلاثين ألف فارس وراجل ، والقرمطي في نحو من ألفين أكثرهم رجالة ؛ ومع ذلك اسر ابن أبي الساج واصطلم عسكره وأتى عليهم القرمطي والخوارج معه (١)!

وقال ابن الوردي : كانت القرامطة في ثمانمئة راجل وسبعمئة فارس فاحتقرهم ابن أبي الساج وقال لكُتّابه : صدّروا الكتب إلى الخليفة (المقتدر) بالنصر ، فهؤلاء في يدي! فلمّا اقتتلوا انهزم عسكره واسر هو وقتله أبو طاهر القرمطي واستولى على الكوفة ونهبها.

ثمّ جهّز المقتدر مؤنس الخادم في عساكر إلى القرامطة ، فانهزموا كذلك قبل اللقاء ، ثمّ التقوا فانهزموا أيضاً ، ونهبوا مدن الفرات فغنموا وعادوا إلى الأحساء!

وفي هذه الأحوال كان الوزير علي بن عيسى الجرّاح ، وكان لإدارة أُمور القصور قهرمانتان فاطمة وام موسى ، فقالتا للوزير : وقِّع بعشرة آلاف درهم للمجيبة ثياب أمير المؤمنين! ثمّ جاءتا فقالتا : وقِّع بعشرة آلاف درهم للمُعمِّمة! ثمّ قالتا : وقِّع بعشرة آلاف درهم للمزرِّرة! فقال لهما : أفأمير المؤمنين مقطوع اليد لا يقدر أن يتزرّر؟! ثمّ قالتا : وقِّع بعشرة آلاف للمبخِّرة! فقال : لو أخرج أمير المؤمنين يده من ثيابه وأخذ المجمَرة لوفَّر على بيت المال عشرة آلاف درهم! فبلغ ذلك إلى المقتدر فنفاه إلى مكة!

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣٣١.

٥٨٩

ثمّ استعاده للوزارة ثمّ عزله وقبض عليه وولّاه علي بن مُقلة (١).

وكان القرمطي قد كثر فساده وأخذه للبلاد وفتكه بالعباد ، واشتدّ به الخطب وتمكّنت هيبته في النفوس وكثر أتباعه ، حتى أخذ يبثّ السرايا ، وتزلزل له الخليفة! ونزح أهل مكة عنها ، وانقطع الحج في هذه السنين خوفاً من القرامطة .. وخالطت الروم ثغور الشام حتى دخلت ناحية خلاط ودخلوا بصليبهم إلى جامعها وأخرجوا منبره ونصبوا صليبهم بمكانه! وقبلها وصلوا بسُفنهم إلى دمياط مصر ونصبوا ناقوسهم على جامعها وأخذوا ما فيها ومن فيها وعادوا بهم (٢).

وكان آشكار بن شيرويه قد استولى بعسكره سنة (٣١٥ ه‍) على جرجان ، وكان معه من قوّاده مرداويج بن زياد الديلمي فبايع العسكر له سرّاً فخرج بهم على آشكار حتى قتله ، ثمّ ملك قزوين ثمّ الري ثمّ همدان ثمّ كيلور ودينور ، ثمّ قم وكاشان ثمّ جرفادقان وإصفهان ثمّ استولى على طبرستان كلها : وعُمل له سرير ذهب يجلس عليه (٣).

قال المسعودي : في ذي القعدة من سنة (٣١٥ ه‍) انحدرتُ من الشام إلى بغداد ، فكنت في طريقي في بلدة هيت ، إذ نزل عليها القرمطيّ وحاصرها ، وكان أصحابه في جانب الأنبار فعبر بهم على أطواف أسفل هيت في فم بقّة فاجتمعوا إليه ، وعبر إليها من الماء من الأولياء هارون بن غريب وسعيد بن حمدان ويونس مولى الأصمعي ، وبدأ القرمطي القتال في أوائل ذي الحجة حول سورها بالدبّابات فاحترقت له عدّة منها ، فعاد إلى معسكره ، ولم تكن له سفن ليقاتل في الماء.

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٠.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤٤.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥١.

٥٩٠

وعند السحر ارتفعت من معسكره نار عظيمة ظننا أنه يريد معاودة الحرب ، وإذا هو قد ضرب ثقله بالنار لكثرة ثقله وقلة مركوبه ، ثمّ ارتحل من معسكره صباحاً إلى ناحية رحبة مالك ، فصار إليها فافتتحها عنوة ثمّ افتتح قرقيسا ، ثمّ بثّ منهما السوارب إلى النواحي : منها سرية إلى كفرتوثا ورأس العين ونصيبين ، فأوقعوا بالأعراب من تغلب والنَمِر وأهل الحضر أيضاً. ووجه بسريّة في ألفين إلى الرَقّة على بُعد ثلاثين فرسخاً من الرحبة ، وذلك في أواخر جمادى الأُولى سنة (٣١٦ ه‍) وكان أمير الرقّة نجم غلام جني الصفواني ، فصافا القتال مع سرايا القرمطي ثلاثة أيام حتى أُصيب عدة من الفريقين ثمّ عادوا عنهم إلى الرقّة.

وأقام القرمطي بالرحبة سبعة أشهر ، فلمّا عاد إليه هؤلاء سار بهم من الرحبة إلى بلده الأحساء لآخر رجب أو أول شعبان سنة (٣١٦ ه‍) وقد حصل في هذه المدة على سفن فحملهم برّاً وفي الماء حتى نزل على هيت ثانية فقاتلهم في البرّ والماء قتالاً شديداً ، ثمّ انحدر عنهم إلى الكوفة والقادسية ، وامتارَ ثمّ مرّ من ظهر البصرة إلى بلاده الأحساء في آخر المحرم أو أول صفر سنة (٣١٧ ه‍) (١).

جرائم القرامطة في مكة :

كان على مكة في سنة (٣١٧ ه‍) محمد بن إسماعيل ابن مخلَّب ، وسار إليها القرمطي لموسم الحج في ستمئة فارس وتسعمئة راجل حتى دخلها بيوم قبل يوم التروية ، وكان على قتالها نظيف مولى ابن أبي الساج وغيره من الأولياء وغيرهم من عوام الناس من الحاج وغيرهم ، فصافّوه للقتال ولمّا قُتل نظيف انكشفوا عنه

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣٣٢ ـ ٣٣٤.

٥٩١

وعاذوا بالمسجد والبيت الحرام ، فأخذهم سيوفهم وعمّهم القتل! وهلك في بطون الأودية ورؤوس الجبال والبراري ضرّاً وعطشاً ما لا يدركه الإحصاء وقيل : بل ثلاثون ألفاً! وكان باب البيت الحرام مصفّحاً بالذهب فاقتلعوه ، وأخذوا كل ما كان في البيت من محاريب فضة وجزع ومعاليق ومناطق ذهب وفضة من زينة البيت ، وجرّدوا البيت ممّا كان عليه من الكسوة إلّاما أصابه دماء العائذين به ، واقتلعوا الحجر الأسود ، وأقاموا بمكة أُسبوعاً إلى منتصف ذي الحجة تقريباً يدخلونها غدوة ويخرجون منها عشية يقتلون وينهبون.

والمسعودي منسوب إلى الصحابي عبد الله بن مسعود الهُذلي من بني هُذيل من القبائل بين مكة والمدينة ، فهو يقول :

عرض لهم بنو هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر ، في مضايقهم وشعابهم وجبالهم ، وحاربوهم حرباً شديدة بالنبل والخناجر! ومنعوهم من المسير ، فاشتبهت عليهم سُبلهم ثلاثة أيام بين الجبال والأودية ، حتى تخلّص كثير من النساء والرجال المأسورين بأيديهم ، واقتطع بنو هُذيل ممّا كان معهم أُلوفاً من الإبل وأثقالها ، وهي نحو من مئة ألف بعير عليها أصناف المال والأمتعة. حتى أسروا من هذيل عبداً أسود فدلّهم على طريق سلكه فخرج بهم عن المضايق إلى بلدهم الإحساء (١)!

وقال ابن الوردي في توجيه أخذهم للحجر الأسود أنّ القرمطي قال : هذا مغناطيس بني آدم! فهو الذي يجرّهم إلى مكة. فنحوّل به الحجّ إلى الإحساء! وبذل لهم أمير بغداد خمسين ألف دينار لردّ الحجر فما قبلوا (٢).

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣٣٤ ، ٣٣٥.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٢.

٥٩٢

وكان القرمطي حين قلعه ضربه بدبّوس فكسره ثمّ اقتلعوه. ثمّ صعد على درج باب الكعبة وناداهم :

أنا بالله وبالله أنا

يخلق الخلق وأفنيهم أنا (١)!

وفي هذه الأحوال وقع ببغداد الاختلال والقيل والقال حول تفسير المقام المحمود في قوله سبحانه : (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً (٢)) فقال أبو بكر المروزي الحنبلي : إنّ معنى ذلك أنّ الله تعالى يُقعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معه على عرشه! وقال غير الحنابلة : بل إنّما هي الشفاعة ، فوقعت بها فتنة عظيمة تدخَّل فيها العسكر والعامة وقُتل بينهم خلق كثير (٣)!

وفاة ابن زكريا الرازي :

في سنة (٣٢٠ ه‍) توفي محمد بن زكريا الرازي ، أوحد دهره وفريد عصره ، أقبل على تعلّم الفلسفة فنال منها كثيراً ، جمع المعرفة بعلوم القدماء لا سيما الطبّ ، لم يكن يفارق النَسخ إما تسويداً أو تبييضاً ، فأ لّف كتباً كثيراً أكثرها في صناعة الطب وسائرها في المعارف الطبيعية ومنها اثنا عشرة رسالة في الكيمياء دبّر بالريّ بيمارستاناً (مستشفى) فبنت له امّ المقتدر بيمارستاناً ببغداد كانت تصرف عليه في العام سبعة آلاف ديناراً. وكان هو كريماً متفضلاً بارّاً بالناس حسن الرأفة بالفقراء والعلويين حتى أنه كان يجري عليهم أرزاقاً واسعة ويمرّضهم. وفي آخر عمره نزل ماء في عينيه ، فجيء إليه بكحّال ليقدحهما؟

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤٥.

(٢) الإسراء : ٧٩.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٢ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤٦.

٥٩٣

فسأله : هل يعرف كم هي طبقات العيون؟ قال : لا ، قال : فلا يقدح عينيَّ من لا يعلم ذلك! فقيل له : لو قدحت لأبصرت! قال : قد أبصرت في الدنيا حتى مللت منها (١)! ومن كتبه : كتاب من لا يحضره الطبيب.

ضعف المقتدر واقتدار القاهر :

استوزر المقتدر في أواخر اقتداره الحسين بن القاسم بن عبيد الله (٢) واستوحش منه أمير الأُمراء المظفّر مؤنس الخادم فخرج من بغداد إلى الموصل مغاضباً ووجه برسالة مع خادمه بشرى إلى المقتدر وأمره أن لا يذكرها إلّاله ، فسأله الوزير الحسين بن القاسم عن الرسالة فقال : أمرني صاحبي أن لا أذكرها إلّا للمقتدر ، فشتمه الوزير وصاحبَه وصادر منه ثلاثمئة ألف دينار! وضربه ، فلمّا بلغ ذلك إلى مؤنس صاحبَه كثير من القواد إلى الموصل فكان في ثمنمئة فارس (٣).

واستولى المقتدر على أقطاع مؤنس وأملاكه وأملاك أصحابه ، وكتب إلى أُمراء الموصل من بني حمدان بمقابلة مؤنس ومقاتلته (٤) فاجتمع بنو حمدان في ثلاثين ألفاً! فالتقوا واقتتلوا ، وانهزم بنو حمدان! واستولى مؤنس على أموالهم وديارهم ، وكان محسناً إلى كثير من العساكر فخرج إليه كثير منهم من بغداد والشام وحتى مصر! فأقام بالموصل تسعة أشهر ، ثمّ انحدر إلى بغداد حتى نزل بباب الشمّاسية. وخرج إليه المقتدر بأصحابه وبين يديه الفقهاء والقرّاء وعليه

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٥٨.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٢١٤.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٥٧.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٣.

٥٩٤

البُردة المنسوبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقرّاء قد نشروا مصاحفهم! ولكنهم انهزموا عنه قبل وصوله إلى أنصار مؤنس! ومع يونس قوم من المغاربة ، فلمّا بدأ المقتدر يتراجع لحقه قوم من المغاربة مع يونس وشهروا عليه سيوفهم حتى ضربه أحدهم على عاتقه فسقط وذبحوه ورفعوا رأسه وسلبوه حتى سراويله! وحملوا رأسه إلى مؤنس فبكى ولطم وجهه ورأسه! وأنفد جمعاً إلى دار الخلافة ليحافظوا عليها من النهب (١).

قال السيوطي : كان المقتدر جيّد العقل صحيح الرأي! ولكنه كان مؤثراً للشهوات والشراب! حتى غلبن عليه النساء ، فأخرج لهن جميع جواهر الخلافة ونفائسها ، وأعطى بعض حظاياه الدرّة اليتيمة ووزنها ثلاثة مثاقيل ، وأعطى قهرمانه زيدان سبحة جوهر لم يُر مثلها ، وأتلف أموالاً كثيرةً ، وكان في داره أحد عشر ألف غلام خصيان! غير الصقالبة والروم والسود ، وخلّف اثني عشر ولداً ذكراً (٢).

وكان مؤنس مربّياً لأبي العباس ابن المقتدر فأراد أن ينصبه خليفة ، فردّه إسحاق بن إسماعيل النوبختي وذكر له أخا المقتدر محمد بن المعتضد فوافقه مؤنس وأمر بإحضاره وبايعوه بالخلافة ولقّبوه بالقاهر ، في آخر شوال سنة (٣٢٠ ه‍) (٣).

بداية خلافة القاهر :

استمرت خلافته سنة ونصفاً إلى أوائل جمادى الأُولى سنة (٣٢٢ ه‍) وهو في الخامسة والثلاثين من عمره ، وكان أبيض تعلوه حمرة ، مربوعاً حسن الجسم ،

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٥٧.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤٦ ، ٤٤٧.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٥٨ و ١٥٩.

٥٩٥

أعين وافر اللحية ، ألثغ ، أهوج شديد الأقدام على سفك الدماء ، محبّاً لجمع المال على قلّته في أيامه ، سيّئ التدبير قبيح السياسة غير مفكر في عواقب أمره قليل الرغبة في اصطناع الرجال. واستوزر محمد بن علي بن مُقلة في أول أمره (١).

كان كثير التقلّب والتلوّن ، شديد البطش بأعدائه ، أباد جماعة من أهل الدولة .. واتّخذ حربة عظيمة كان يطرحها في حال جلوسه بين يديه ويباشر بالضرب بها لمن يريد قتله وإذا سعى يحملها في يده. وكان قليل التثبّت لأمره مخوف السطوة (٢).

وتشاغل أول أمره بالبحث عن من استتر من أولاد أخيه المقتدر وحُرمه. وكانت أُم أخيه المقتدر بدأ بها مرض الاستسقاء فاستحضرها واستفسرها عن أموالها ، فاعترفت له بما عندها من الثياب والمتاع دون الجواهر والأموال ، فضربها أشد الضرب وعلّقها برجلها وضرب المواضع الغامضة منها! فحلفت أنها لا تملك سوى ما قالته. فوكّل على بيع جميع أملاكها حتى ما أوقفته ، فبيع جميع ذلك! وصادر جميع حاشية المقتدر وأصحابه (٣).

انقلاب الأصحاب على القاهر :

في سنة (٣٢١ ه‍) استوحش مؤنس من المظفّر أمير الأُمراء ومولاه بليق الحاجب وابنه علي الوزير! وأبو علي بن مقلة الكاتب ، استوحشوا من قهر القاهر ، فتوافقوا أن يوكّلوا على دار الخليفة أحمد بن زيرك ، وأمروه بتفتيش كل من

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣٣٦.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٢٢١.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٥٩.

٥٩٦

يدخل الدار ويخرج منها حتى أن يكشف وجوه النساء المنقّبات! فعاتبهم القاهر على ذلك فما أفاد شيئاً ، فأرسل إلى أصحاب يوسف بن أبي الساج يأتلفهم إليه على أُولئك ويحلف لهم على الوفاء لهم ، فبلغ ذلك إلى ابن مقلة فذكر ذلك لمونس وبليق وابنه واتفقوا على خلع القاهر ، واتفقوا على أن يدخل علي بن بليق على القاهر بجماعة من عسكره راكبين إلى أبواب دار الخليفة فيقبض عليه. وعلم بذلك ظريف السكّري فعزم على إغراء القاهر بهم فحضر عنده في زيّ امرأة واجتمع به وذكر له ما قد عزموا عليه. فأنفذ إلى أُولئك الساجية وأحضرهم متفرقين وأكمنهم في الدهليز والممرات والرواقات.

وحضر الوزير علي بن بليق بعد العصر وفي رأسه نبيذ! ومعه عدد يسير من غلمانه بسلاح خفيف ، وطلب الإذن فلم يؤذن له وخرج إليه الجنود الساجيّون ففرّ منهم إلى دجلة وألقى نفسه في طرّادة اطّردت به إلى غربيّ دجلة واختفى فوراً. وبلغ ذلك إلى أبيه بليق الحاجب فحضر وأنكر ما جرى على ابنه وسبّ الجنود الساجيين ودخل إلى الخليفة ليعاتبه على ذلك فأمر بقبضه وقبض ابن زيرك ، وأرسل إلى أمير الأُمراء مونس المظفر ليحضر. فلمّا دخل الدار قبض عليه القاهر وحبسه! فلمّا قبض عليه ثار أصحابه وشغبوا وتبعهم الجيش كلّه! ودخل القاهر إلى علي بن بليق وأمر بذبحه فذُبح ووضع رأسه في طشت وحُمل بين يدي القاهر إلى أبي علي بليق الحاجب ووضع الطشت برأس ابنه بين يديه فبكى وأخذ يقبّله ويرشّفه فأمر القاهر بذبحه فذبح ووضع رأسه في الطشت وحُمل بين يدي القاهر ومضى حتى دخل على مونس فوضعا بين يديه وهما مولياه ، فلعن قاتلهما وتشهّد بالشهادتين فأمر القاهر بذبحه فذبحوه وأمر فحملوا الرؤوس وطافوا بها في جانبي بغداد ينادون عليها : هذا جزاء من يخون الإمام ويسعى في فساد دولته (١)!

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٥٩ ، ١٦٠.

٥٩٧

وكان ابن مقلة قد اختفى فعزله واستوزر محمد بن القاسم بن عبيد الله ، ثمّ جدّ في طلب أحمد بن المكتفي ، لأنه اتفق مع ابن مقلة على خلع القاهر وإقامته مقامه ، فلمّا ظفر به القاهر بنى عليه حائطاً حتى مات فيه ، في أوائل شعبان سنة (٣٢١ ه‍) وعلى عادتهم نُظّفت الرؤوس وجعلت في خزانة الرؤوس (١)!

واختصر الخبر السيوطي قال : اتفق مؤنس وابن مُقلة وآخرون على خلعه بابن المكتفي ، وبلغ القاهر ، فتحيّل حتى أمسكهم وذبحهم ، وطيّن على ابن المكتفي بين حائطين ، واختفى ابن مقلة فأُحرقت داره ودور المخالفين! وشغب عليه جنودهم فأطلق لهم أرزاقهم فأسكتهم ، وأمر فنقشوا على السكة : القاهر المنتقم من أعداء دين الله! وزاد على لقبه القاهر : المنتقم!

قال : وكان لا يفتر عن سماع الغناء بل لا يصحو من السكر! ومع ذلك أمر في هذه السنة (٣٢١ ه‍) ببيع الجواري المغنّيات وحرّم بيع القيان وكسر آلات اللهو! وقبض على المغنّين ونفى المخانيث وحرّم الخمور (٢)!

انتقام ابن مقلة من القاهر المنتقم :

كان ابن مقلة مستتراً والقاهر يتطلّبه ، وهو يراسل قواد الجنود الساجيين يخوّفهم من شر القاهر ويذكر لهم غدره ونكثه مكرراً كقتله مؤنس وبليق وابنه بعد الأيمان لهم ، بل كان هو يجتمع إلى سيما وهو زعيم الجنود الساجيين بزيّ امرأة أو متكدٍّ أعمى ويغريه بالقاهر! وكان لسيما هذا منجّم ومعبّر وعرفهما ابن مقلة فأعطى منجّمه مئتي دينار ليذكر لسيما أن طالعه يقتضي أن ينكبه القاهر!

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٥٤.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٤٩.

٥٩٨

وأعطى لمعبّره شيئاً أيضاً ليحذّره في تعبير له من القاهر! وفعلا ذلك ، حتى اتفق هو مع أصحابه على خلع القاهر. وبلغ ذلك إلى الوزير (؟) فأرسل إلى عيسى طبيب القاهر وإلى حاجبه سلام ليُعلماه بذلك ، وكان القاهر قد أكثر تلك الليلة من شرب المسكر فوجداه نائماً فلم يقدرا على إعلامه. وهجم الجنود الساجيّون على الدار في منتصف العشر الأوائل من جمادى الأُولى وسمع القاهر أصواتهم وأخبر أنّهم محاصروه ففرّ إلى سطح حمّام داره فأخذوه وسألوه عن محبس أحمد بن المقتدر فدلّهم عليه ، فأخرجوه وأجلسوه على السرير ولقّبوه الراضي بالله وسلموا عليه بالخلافة ، وبايعوه وبايعه القوّاد والناس ، ورأى أخلاق ابن مقلة أليق بهذا الوقت فاستحضره واستوزره ، فأحسن إلى كل من أساء إليه وأحسن السيرة ، وكان ذلك في (٦ جمادى الأُولى ٣٢٢ ه‍) (١).

وزاد المسعودي : أنهم سملوا عينيه (٢) وفصل السيوطي قال : أرسلوا إلى أبي الحسين بن القاضي أبي عمر ، وأبي طالب بن البهلول ، والحسن بن أبي الشوارب الأُموي والقضاة فجاؤوا ، وأحضروا القاهر ، فقال له القضاة : ما تقول؟ قال : أنا أبو منصور محمد بن المعتضد ولي في أعناق الناس وفي أعناقكم بيعة! ولست أُبرئكم ولا احلّلكم منها! فقال الوزير (ابن مقلة) إنّ أفعاله مشهورة فهو يُخلع ولا نفكّر فيه. وقاموا. ودخل القاضي أبو الحسين على الراضي وأخبره بما جرى وقال له : إني أرى إمامته فرضاً! فقال له الراضي : انصرف ودعني وإياه. ودخل سيماء زعيم الجنود الساجيين وأشار على الراضي بسَمل عيني القاهر ، فرضي به ، فكحله بمسمار محمى حتى سال عيناه على خدّيه (٣).

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٦١ و ١٦٢.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٢٢٢ ، والتنبيه والإشراف : ٣٣٦ ، وابن الوردي ١ : ٢٥٦.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٥٠.

٥٩٩

أمر القاهر باختبار الأطبّاء :

في غضون هذين العامين من حكم القاهر (٣٢٠ ـ ٣٢٢ ه‍) مات رجل ببغداد بغلط جرى عليه من أحد المتطبّبين ، وكان القاهر مغتبطاً بطبيبه الخاصّ به سنان بن ثابت بن قُرّة الصابئي الحرّاني ، ولكثرة اغتباطه به أراده على الإسلام ، فامتنع امتناعاً شديداً وكثيراً ، فتهدّده القاهر فخافه سنان من شدة سطوته فأسلم. فاليوم أمر الخليفة بمنع سائر الأطباء من الطبابة إلّامن امتحنه سنان بن ثابت ، فصاروا إليه وامتحنهم ، وأطلق لكل واحد منهم ما يصلح له أن يتصرّف فيه! حتى بلغ عددهم في جانبيّ بغداد إلى ثمنمئة وبضع وستين طبيباً سوى من كان في خدمة السلطان ومن كان غنياً عن ذلك بشهرة تقدّمه في ذلك.

وحضر لديه منهم رجل ذو هيبة ووقار مليح البشرة فأكرمه سنان بموجب منظره ، ثمّ التفت إليه وقال له : أشتهي أن يذكر الأُستاذ شيخه في الصناعة وأن أسمع منه شيئاً أحفظه عنه! فأخرج الشيخ من كُمّه إليه قرطاساً فيه شيء من الدنانير ووضعها بين يدي سنان وقال : والله ما أحسن أن أقرأ شيئاً في الجملة ولا أكتب ، ولكنّ لي عيالاً ومعاشي دائر ، فأسألك أن لا تقطعه عنّي!

فضحك سنان وقال : شريطة ١ ـ أن لا تهجم على مريض بما لا تعلم. ٢ ـ وأن لا تشير بفصد. ٣ ـ ولا بدواء مسهل. وإنما تعالج من الأمراض ما قرب. قال الشيخ : بل ما تعديت الجُلاب (ماء الورد) والسكنجبين (الخلّ المَغليّ بالسكّر). فرخّص له ، وانصرف.

وبعده جاءه شاب ذكيّ مليح الوجه حسن البزّة ، فقال له سنان : عَلى مَن قرأت الطبّ؟ قال : على أبي. قال : ومَن هو؟ قال : هو الشيخ الذي كان عندك بالأمس! قال : فأنت على مذهبه؟ قال : نعم. قال : فلا تتجاوزه

٦٠٠