موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

داراً فنزلتها ، فجاءني بعض الوكلاء بثياب ودنانير وخلّفها عندي ، فقلت له : ما هذا؟ قال : هو ما ترى! ثمّ جاءني آخر بمثلها ، وآخر ، حتى ملؤوا الدار! ثمّ جاءني أحمد بن إسحاق الأشعري القمي بجميع ما كان معه ، فتعجبت وبقيت متفكراً!

ثمّ وردت عليَّ رقعة من الرجل عليه‌السلام : إذا مضى من النهار كذا فاحمل ما معك (إلى العسكر / سامراء). فحملت ما معي ورحلت ، وصادفت في الطريق صعلوكاً يقطع الطريق في ستين رجلاً معه! فاجتزت عليه وسلّمني الله منه ، حتى وافيت العسكر (سامرّاء) ونزلت.

فوردت عليَّ رقعة : أن احمل ما معك (إلينا)؟ فناديت حمّالين حملوه في صِنانهم حتى بلغت دهليز (المنزل؟) فإذا فيه أسود قائم فقال لي : أنت الحسن بن النضر؟ قلت : نعم. قال : ادخل. فدخلت الدار ودلّني على بيت ففرغ فيه الحمالون صنانهم. وكان في زاوية البيت خبز كثير! فأَعطى الأسود كلّ واحد من الحمّالين رغيفين وخرجوا.

ثمّ نوديت : يا حسن بن النضر! وإذا بالصوت من بيت عليه ستر ، قال : أحمد الله على ما منّ به عليك ولا تشكّن ، وقد ودّ الشيطان أنّك شككت! (ثمّ دخل العبد) وأخرج إليّ ثوبين وقيل لي : خذهما فستحتاج إليهما! فأخذتهما وخرجت (١).

حدّث الحسن بن النضر بهذا لسعد بن عبد الله الأشعري القمي (بقم ظاهراً) قبل شهر رمضان ، قال سعد : فلمّا دخل شهر رمضان مات الحسن وكُفّن في الثوبين (٢) فإن كان في رمضان من عام (٢٦٠ ه‍) فذلك يعني أنه انصرف من العراق إلى قم ومات قبل الحج ، وخلا الخبر عن ذكر الحج ، ولعلّه كان ذلك في رمضان عام (٢٦١ ه‍) بعد عودته من الحج. وخلا الخبر كذلك عن ذكر عن العَمري

__________________

(١) و (٢) أُصول الكافي ١ : ٥١٧ ، الحديث ٤.

(٢)

٥٠١

الأسدي ببغداد أو سامرّاء ، وهل كانت داراً جديدة أم دارهم الأُولى؟ فكيف سلمت من مزاحمة جعفر الكذّاب؟

ولئن كان الكليني اكتفى في السفراء بالإشارة بلقب الأسدي إلى أكبرهم وأوّلهم عثمان بن سعيد الأسدي العَمري ، فتلميذه وكاتبه ابن أبي زينب محمد بن إبراهيم النعماني (ق ٣ ه‍) علّق عليه على خبر عن الصادق عليه‌السلام في الغيبتين قال : هذه الأحاديث التي يذكر فيها : أنّ للقائم عليه‌السلام غيبتين ، أحاديث قد صحّت عندنا بحمد الله ، وأوضح الله قول الأئمة عليهم‌السلام ، وأظهر برهان صدقهم فيها. فأمّا الغيبة الأُولى : فهي الغيبة التي كان فيها بين الإمام عليه‌السلام وبين الخلق سفراء قائمون منصوبون ظاهرون! موجودوا الأشخاص والأعيان ، يخرج على أيديهم الشفاء من العلم وعويص الحكم ، والأجوبة عن كل ما كانوا يسائلون عنه من المعضلات والمشكلات. وهي الغيبة القصيرة التي انقضت أيامها وتصرّمت مدّتها. والغيبة الثانية : هي التي ارتفع فيها أشخاص السفراء والوسائط (١) بالإجمال بلا تفصيل.

وعلّق على آخر الأحاديث المئة في الباب العاشر من كتابه قال : وهل هذه الأحاديث إلّادالة على غيبة صاحب الحق .. ثمّ على غيبة السبب الذي كان منصوباً عنه عليه‌السلام بينه وبين شيعته ، وهو اسناد الذي كانوا يُسندون إليه أُمورهم فيرفعها إلى إمامهم في حال غيبته عليه‌السلام ، فصاروا عند رفعه كموات المعز! وقد كان لهم في الوسائط بلاغ وهدى ومسكة عن الإرهاق ، حتى أجرى الله تدبيره وأمضى مقاديره برفع الأسباب (٢) بلا تفصيل أيضاً ، ولعلّ لأنهم كانوا يرون ذلك يومئذٍ توضيحاً للواضح لا طائل تحته.

__________________

(١) كتاب الغيبة للنعماني : ١١٥.

(٢) كتاب الغيبة للنعماني : ١٢٨.

٥٠٢

نعم يُعلم من الخبر التالي : أنّه حتى بعض الوكلاء لم يكونوا يعرفون السفارة :

كان إبراهيم بن مهزيار الأهوازي من وكلاء العسكري عليه‌السلام وتوفي بعده بقليل ، وأوصى بما لديه إلى ابنه محمد ، قال : فقدمت العسكر (سامرّاء) وقصدت الناحية ، فلقيتني امرأة سألتني : أنت محمد بن إبراهيم؟ قال : قلت : نعم ، قالت : انصرف هذا الوقت فإنك لا تصل فيه وارجع الليلة فإنّ الباب مفتوح ، فادخل الدار واقصد البيت الذي فيه السراج. قال : فانصرفت ورجعت ليلاً وقصدت الباب فإذا هو مفتوح ، فدخلت الدار فإذا بيت فيه سراج فقصدت البيت الذي وصفَته لي ، فإذا فيه القبران للعسكريَّين وفيه سراج على قبر العسكري عليه‌السلام ، فقعدت بين القبرين أبكي وانتحب إذ سمعت صوتاً يقول لي : يا محمد! اتّقِ الله وتُب من كل ما أنت عليه ، فقد قُلّدت أمراً عظيماً (١)! فلمّا عاد إلى الأهواز حدّث بهذا إلى إبراهيم ومحمد ابني الفرج ، فهو بهذا كأنه ادّعى تقليده الوكالة كأبيه ، بلا ذكر للسفارة ولا كيفية تحويله الأموال معه.

وكان نصر بن الصبّاح البلخي في مرو إنما كان يعلم بوكالة حاجز الوشّاء للعسكري عليه‌السلام بسامرّاء ثمّ ببغداد ، وكان كاتب خوزستاني في مرو اجتمع عنده مبلغ ألف دينار للناحية ، فاستشار نصر البلخي قال : فقلت له : ابعث بها إلى الحاجز ، فقال : إن سألني الله عنه يوم القيامة فهو في عنقك؟ قلت : نعم.

قال نصر : ثمّ لقيته بعد سنتين فسألته عن المال ؛ فذكر أنه بعث منه إلى الحاجز بمئتي دينار! فكتب إليه : كان المال ألف دينار فبعثت بمئتي دينار ، فإن أحببت أن تعامل (!) أحداً فعامل الأسدي بالريّ (محمد بن جعفر).

__________________

(١) كمال الدين : ٤٨٧ ، الحديث ٨.

٥٠٣

قال نصر : وورد عليَّ نعي الحاجز (في تلك الأيام ، فأخبرته) فجزع من ذلك جزعاً شديداً واغتمّ ، فقلت له : ولم تغتمّ وتجزع وقد منَّ الله عليك بدلالتين : قد أخبرك بمبلغ المال ، وقد نعى إليك الحاجز مبتدئاً (١)! محوّلاً له على محمد بن جعفر الأسدي بالريّ وليس الأسدي العَمريّ في بغداد!

ويظهر من الخبر التالي : أنّ الدار عادت إلى يد الجدّة أُم العسكري عليه‌السلام :

أسند الصدوق عن جعفر بن عمرو قال : خرجت ومعي جماعة إلى سامرّاء وأُم أبي محمد عليه‌السلام في الحياة ، فكتبوا أسماءهم يستأذنونهم لزيارة المرقدين ، وقلت لهم : أما أنا فلا أستأذن فلا تُثبتوا اسمي ، فتركوا اسمي. فخرج إلينا : ادخلوا ومن أبى أن يستأذن (٢)!

ويظهر من الخبر التالي : أنها بقيت في الحياة بعد ابنها العسكري عليه‌السلام بأكثر من عشرين عاماً ، وأنّ الشيعة كانوا يفزعون إليها بوصية حفيدها المهدي عليه‌السلام تستّراً عليه : ذلك ما قالته حليمة أو حكيمة أو خديجة بنت الجواد وأُخت الهادي عليهما‌السلام في سنة (٢٨٢ ه‍) بالمدينة لأحمد بن إبراهيم ، قال : فقلت لها : أقتدي بمن وصيته إلى امرأة! فقالت : كما أنّ الحسين بن علي عليهما‌السلام أوصى إلى أُخته زينب بنت علي في الظاهر ، فكان ما يخرج عن علي بن الحسين من علم يُنسب إلى زينب بنت علي تستّراً على علي بن الحسين (٣).

الأسدي العَمري الأب والابن :

الأب : الشيخ أبو عمرو عثمان بن سعيد الأسدي العَمري ، وابنه الشيخ

__________________

(١) كمال الدين : ٤٨٨ ، الحديث ٩.

(٢) كمال الدين : ٤٩٨ ، الحديث ٢١.

(٣) كمال الدين : ٥٠١ ، الحديث ٢٧ و ٥٠٧ ، الحديث ٣٦.

٥٠٤

أبو جعفر محمد ، السامرّائيان على عهد العسكريّين عليهما‌السلام ووكيلاهما ، كما جاء في غير واحد من الأخبار عنهما مرّ بعضها ، وبعد العسكري وفي أوائل عهد الغيبة الصغرى انتقلا إلى بغداد.

ويظهر من صدر الخبر التالي : أنّ من كان يُدعى بالمختار من المتكلمين من الشيعة المنحرفين كان قد صدّق جعفر بن علي الكذّاب في دعواه الإمامة ، وكان يناظر من يلقاه من الشيعة ويحتجّ له على أن لا خلَف غير جعفر!

فكتب الأسديان العَمريان الأب والابن معاً إلى صاحب الزمان عليه‌السلام بذلك! فخرج إليهما توقيع من صاحب الزمان كانت صورته عند سعد بن عبدالله الأشعري القمي وفيه : «وفّقكما الله لطاعته وثبّتكما على دينه وأسعدكما بمرضاته ...

أعوذ بالله من العمى بعد الجلاء ، ومن الضلالة بعد الهدى ، ومن موبقات الأعمال ومرديات الفتن ، فإنه عزوجل يقول : (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَايُفْتَنُونَ (١)) كيف يتساقطون في الفتنة ويترددون في الحيرة ، ويأخذون يميناً وشمالاً ، فارقوا دينهم أم ارتابوا أم عاندوا الحق؟! أم جهلوا ما جاءت به الروايات الصادقة والأخبار الصحيحة؟! أو علموا ذلك فتناسوا أما يعلمون أنّ الأرض لا تخلو من حجة إما ظاهراً أو مغموراً؟!

أوَ لم يعلموا انتظام أئمتهم بعد نبيّهم واحداً بعد واحد ، إلى أن أفضى الأمر ـ بأمر الله عزوجل ـ إلى الماضي (يعني أباه العسكري) فقام مقام آبائه عليهم‌السلام يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم. كانوا نوراً ساطعاً وشهاباً لامعاً وقمراً زاهراً. ثمّ اختار الله له ما عنده ، فمضى على منهاج آبائه عليهم‌السلام حذو النعل بالنعل ، على عهد عهده ووصية أوصى بها إلى وصيّ ستره الله عزوجل بأمره إلى غاية ، وأخفى

__________________

(١) العنكبوت : ١ و ٢.

٥٠٥

مكانه بمشيئة للقضاء السابق والقدر النافذ. وفينا موضعه ولنا فضله. ولو قد أذن الله عزوجل فيما قد منعه عنه وأزال عنه ما قد جرى به من حكمة ؛ لأراهم الحق ظاهراً بأحسن حلية وأبين دلالة وأوضح علامة ، ولأبان عن نفسه وقام بحجّته. ولكنّ أقدار الله لا تُغالَب وإرادته لا تُرد وتوفيقه لا يُسبق.

فليدَعوا عنهم اتّباع الهوى ، وليقيموا على أصلهم الذي كانوا عليه ، ولا يبحثوا عمّا سُتر عنهم فيأثموا! ولا يكشفوا ستر الله عزوجل فيندموا. وليعلموا أنّ الحق معنا وفينا ، لا يقول ذلك سوانا إلّاكذّاب مفتر ، ولا يدعيه غيرنا إلّاضال غوي ، فليقتصروا منّا على هذه الجملة دون التفسير ، ويقنعوا من ذلك بالتعريض دون التصريح إن شاء الله (١)!

وكان جعفر بن علي قد كتب إلى بعض الشيعة ببغداد كتاباً يعرّفه فيه بنفسه ويُعلمه أنّه القيّم بعد أخيه وأنّ عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه بل وغير ذلك من كل العلوم! فحمله الشخص المكتوب إليه إلى الشيخ أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري وأعلمه بالكتاب وأراه إياه ، فقرأه ، ثمّ كتب إلى صاحب الزمان كتاباً وأدرج معه كتاب جعفر ، فخرج الجواب إليه كما يلي :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، أتاني كتابك أبقاك الله والكتاب الذي أنفذته في درْجه ، وأحاطت معرفتي بجميع ما تضمّنه .. والحمد لله رب العالمين حمداً لا شريك له على إحسانه إلينا وفضله علينا. أبى الله عزوجل للحق إلّاإتماماً وللباطل إلّاإزهاقاً ، وهو شاهد عليَّ بما أذكره ووليّ عليكم بما أقوله ، إذا اجتمعنا ليوم لا ريب فيه وسُئلنا عمّا نحن فيه مختلفون.

إنه سبحانه لم يجعل لصاحب الكتاب (جعفر) على المكتوب إليه ولا عليك

__________________

(١) كمال الدين : ٥١٠ ، ٥١١ ، الحديث ٤٢.

٥٠٦

ولا على أحد من الخلق جميعاً إمامة مفترضة ولا طاعة ولا ذمة. وسأُبيّن لكم جملة تكتفون بها إن شاء الله تعالى.

يا هذا ، يرحمك الله ، إنّ الله تعالى لم يخلق الخلق عبثاً ولا أهملهم سدى ، بل خلقهم بقدرته ، وجعل لهم أسماعاً وأبصاراً وقلوباً وألبابا ، ثمّ بعث إليهم النبيين عليهم‌السلام مبشّرين ومنذرين يأمرونهم بطاعته وينهونهم عن معصيته ، ويعرّفونهم ما جهلوه من أمر خالقهم ودينهم ، وأنزل عليهم كتاباً ، وبعث إليهم ملائكة بينهم وبين من بعث إليهم ، بالفضل الذي جعله لهم عليهم ، وما آتاهم من الدلائل الظاهرة والبراهين الباهرة والآيات الغالبة.

فمنهم من جعل النار عليه برداً وسلاماً واتّخذه خليلاً ، ومنهم من كلّمه تكليماً وجعل عصاه ثعباناً مبيناً ، ومنهم من أحيى الموتى بإذن الله وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله ، ومنهم من علّمه منطق الطير واوتي من كل شيء.

ثمّ بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله للعالمين ، وتمّم به نعمته وختم به أنبياءه. وأرسله إلى الناس كافّة ، وأظهر من صدقه ما أظهره ، وبيّن من آياته وعلاماته ما بيّن. ثمّ قبضه صلى‌الله‌عليه‌وآله حميداً فقيداً سعيداً ، وجعل الأمر من بعده إلى أخيه وابن عمّه ووصيّه ووارثه علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ثمّ إلى الأوصياء من ولده واحداً واحداً. أحيى بهم دينه وأتمّ بهم نوره.

وجعل بينهم وبين إخوتهم وبني عمّهم والأدنين فالأدنين من ذوي أرحامهم فرقاناً بيّناً ، يُعرف به الحجة من المحجوج والإمام من المأموم ؛ بأن «عصمهم» من الذنوب وبرّأهم من العيوب وطهّرهم من الدّنس ونزّههم من اللبس ، وجعلهم خزّان علمه ومستودع حكمته وموضع سرّه ، وأيّدهم «بالدلائل». ولولا ذلك لكان الناس على سواء ولادّعى أمر الله عزوجل كل أحد ، ولما عُرف الحق من الباطل ولا العالم من الجاهل.

٥٠٧

وقد ادّعى هذا المبطل المفتري على الله الكذب بما ادّعاه ، فلا أدرى أية حالة هي له رجاء أن تتمّ دعواه! أبفقه في دين الله! فوالله ما يعرف حلالاً من حرام ولا يفرِّق بين خطأ وصواب. أم بعلم! فما يعلم حقّاً من باطل ولا محكماً من متشابه. ولا يعرف حدّ الصلاة ووقتها! أم بورع! فالله شهيد على تركه الصلاة الفرض أربعين يوماً يزعم ذلك لطلب الشعوذة (١)! ولعلّه قد تأدّى خبره إليكم ، وهاتيك ظروف مسكره منصوبة ، وآثار عصيانه لله عزوجل مشهورة قائمة. أم بآية! فليأتِ بها. أم بحجة! فليُقمها. أم بدلالة! فليذكرها.

فالتمِس ـ تولّى الله توفيقك ـ من هذا الظالم ما ذكرتُ لك وامتحنه ، وسله عن آية من كتاب الله يفسّرها ، أو صلاة فريضة يبيّن حدودها وما يجب فيها لتعلم حاله ومقداره ويظهر لك نقصانه وعَواره ، والله حسيبه.

حفظ الله الحق على أهله وأقره في مستقرّه ، وقد أبى الله عزوجل أن تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما‌السلام. وإذا أذن الله لنا في القول ظهر الحق واضمحلّ الباطل وانحسر عنكم. وإلى الله أرغب في الكفاية وجميل الصنع والولاية. وحسبنا ونعم الوكيل ، وصلّى الله على محمد وآل محمد (٢).

وكان ببغداد رجل من الشيعة يُدعى ابن أبي غانم القزويني لم يؤمن بوجود الخلف الحجة بعد العسكري عليه‌السلام ، وكان يشاجر الشيعة في ذلك فيُدخل عليهم الريب والشك والحيرة ، فكتب جماعة من الشيعة كتاباً في ذلك وأنفذوه إلى الناحية المقدسة ، فورد جواب كتابهم بخطه عليه‌السلام :

بسم الله الرحمنِ الرحيم .. إنه انهي إليّ ارتياب جماعة منكم في الدين

__________________

(١) هذا أقدم ما بأيدينا من أخبارهم عليهم‌السلام عن أربعين المشعوذين من الصوفية وغيرهم.

(٢) كتاب الغيبة للطوسي : ٢٨٧ ـ ٢٩٠ ، الحديث ٢٤٦.

٥٠٨

وما دخلهم من الشك والحيرة في ولاة أُمورهم ، فغمّنا ذلك لكم لا لنا ، وساءنا فيكم لا فينا ، لأنّ الله معنا ولا فاقة بنا إلى غيره ، والحق معنا فلن يوحشنا من قعد عنّا «ونحن صنائع ربنا والخلق بعد صنائعنا» (١).

يا هؤلاء! ما لكم في الريب تردّدون ، وفي الحيرة تنتكسون؟! أو ما سمعتم الله عزوجل يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (٢)) أو ما علمتم ما جاءت به الآثار ممّا يكون ويحدث في أئمتكم على الماضين والباقين منهم؟! أو ما رأيتم كيف جعل الله لكم معاقل تأوون إليها وأعلاماً تهتدون بها ، من لدن آدم عليه‌السلام إلى أن ظهر الماضي عليه‌السلام ، كلما غاب علَم بدا علَم ، وإذا أفِل نجم طلع نجم. فلمّا قبضه الله إليه ظننتم أنّ الله أبطل دينه وقطع السبب بينه وبين خلقه! كلّا ما كان ذلك ولا يكون حتى تقوم الساعة ويظهر أمر الله وهم كارهون.

وإنّ الماضي عليه‌السلام مضى سعيداً فقيداً ، على منهاج آبائه عليهم‌السلام حذو النعل بالنعل! وفينا وصيته وعلمه ، ومن هو خلفه ويسدّ مسدّه ، لا ينازعنا موضعه إلّا ظالم آثم ، ولا يدّعيه دوننا إلّاجاحد كافر! ولولا أنّ أمر الله تعالى لا يُغلب وسرّه لا يُعلن ولا يُظهر ، لظهر لكم من حقّنا ما تبهر منه عقولكم ويُزيل شكوككم ، لكنّه ما شاء الله كان ولكل أجل كتاب. فاتقوا الله وسلّموا لنا وردّوا الأمر إلينا ، فعلينا الإصدار كما كان منا الإيراد ، ولا تحاولوا كشف ما غُطّي عنكم ولا تميلوا عن

__________________

(١) الصنائع جمع الصنيعة : الاحسان ، وجاء في كتاب علي عليه‌السلام إلى معاوية ، نهج البلاغة ، كتاب ٢٨ عن الفتوح لابن أعثم ٢ : ٩٦١ كما في المعجم المفهرس لنهج البلاغة : ١٣٩٥ ولم نجده في أنساب الأشراف.

(٢) النساء : ٥٩.

٥٠٩

اليمين وتعدلوا إلى الشمال. واجعلوا قصدكم إلينا بالمودة على السنّة الواضحة. فقد نصحت لكم والله شاهد عليَّ وعليكم.

ولولا ما عندنا من محبة صلاحكم ورحمتكم والإشفاق عليكم ؛ لكنّا في شغل عن مخاطبتكم ممّا قد امتُحنّا به من منازعة الظالم العُتلّ الضال ، المتابَع في غيّه المضاد لربّه ، الداعي ما ليس له الجاحد حق من افترض الله طاعته ، الظالم الغاصب! ولي في ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اسوة حسنة! وسيُردي الجاهل رداءة عمله! وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار!

عصمنا الله وإياكم من المهالك والأسواء والآفات والعاهات كلّها برحمته ، فإنه وليّ ذلك والقادر على ما يشاء ، وكان لنا ولكم ولياً وحافظاً. والسلام على جميع الأوصياء والأولياء ، والمؤمنين ورحمة الله وبركاته ، وصلّى الله على محمد وآله وسلّم تسليماً (١).

وقد مات جعفر الكذّاب في سنة (٢٧١ ه‍) وعمره (٤٥) عاماً ، فكان كما جاء في أواخر هذه الرسالة : «وسيُردي الجاهلَ رداءة عمله» فهذه الكتب كانت في هذه الفترة العشر سنين بين (٢٦٠ ه‍) إلى (٢٧١ ه‍). بل يبدو أنّ الكتابين الآخِرين من هذه الكتب الثلاثة كانا كالكتاب الأول على عهد السفير الأول أيضاً.

وقال الطوسي : وكانت توقيعات صاحب الأمر عليه‌السلام تخرج على يدي عثمان بن سعيد .. إلى شيعته وخواص أبيه أبي محمد عليه‌السلام بالأمر والنهي والأجوبة عمّا يسأل الشيعة عنه ، إذا احتاجت إلى السؤال فيه ، بالخطّ الذي كان يخرج في حياة الحسن عليه‌السلام .. إلى أن توفي عثمان بن سعيد «رحمه‌الله ورضي عنه» وغسّله ابنه أبو جعفر وتولّى القيام به (٢).

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٢٨٥ ـ ٢٨٧ ، الحديث ٢٤٥.

(٢) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٥٦.

٥١٠

ودفنه في الجانب الغربيّ من بغداد في شارع الميدان في مسجد درب جَبَلة يمنة الداخل إليه في قبلة المسجد ، في بيت ضيق مُظلم عليه باب إلى جنب محراب المسجد (١) بلا تاريخ.

فروى الصدوق عن عبد الله بن جعفر الحميري قال : خرج التوقيع إلى الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري في التعزية بأبيه وفيه : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، تسليماً لأمره ورضاءً بقضائه. عاش أبوك سعيداً ومات حميداً ، فرحمه‌الله وألحقه بأوليائه ومواليه عليهم‌السلام ، فإنه لم يزل مجتهداً في أمرهم ، ساعياً فيما يقرّبه إلى الله عزوجل وإليهم. نضّر الله وجهه وأقاله عثرته».

وفي فصل آخر : «أجزل الله لك الثواب وأحسن لك العزاء ، رُزئت ورُزئنا ، وأوحشك فراقه وأوحشنا ، فسرّه الله في منقلبه. وكان من كمال سعادته : أن رزقه الله عزوجل ولداً مثلك يخلفه من بعد ويقوم مقامه بأمره ويترحّم عليه! وأقول : الحمد لله ، فإنّ الأنفس طيّبة بمكانك ، وما جعله الله عزوجل فيك وعندك. أعانك الله وقوّاك وعضدك ووفقك ، وكان الله لك ولياً وحافظاً ، وراعياً وكافياً ومعيناً» (٢).

الشيخ محمد الأسدي العَمري :

أسند الطوسي عن عبد الله بن جعفر الحميري : أنّه لمّا مضى الشيخ عثمان أتتنا الكتب بالخطّ الذي كنّا نكاتَب به بإقامة ابنه أبي جعفر محمد مقامه.

منها ما خرج إلى محمد بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي وفيه : والابن ـ وقاه الله ـ لم يزل ثقتنا في حياة الأب «رضي الله عنه وأرضاه ونضّر وجهه»

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٥٨.

(٢) كمال الدين : ٥١٠ ، الباب ٤٥ ، الحديث ٤١.

٥١١

يجري عندنا مجراه ويسدّ مسدّه ، وعن أمرنا يأمر الابن وبه يعمل «تولّاه الله» فانته إلى قوله وعرّف معاملينا ذلك» (١).

وكأنّه كان في الشيعة من كان بحاجة إلى أن يتبيّن أمر العمريّ الابن ، منهم إسحاق بن يعقوب ، وكأنه أخو الشيخ محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي ، روى الصدوق عنه عن (أخيه) إسحاق بن يعقوب : أنه كتب مسائل أشكلت عليه وسلّمها إلى الشيخ محمد العمري وسأله أن يوصلها ، وفيها السؤال عن العمريّ نفسه ، قال : فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الدار عليه‌السلام وفيه : «وأمّا محمد بن عثمان العمري» «رضي الله عنه وعن أبيه من قبل» فإنه ثقتي ، وكتابه كتابي» (٢).

أسند ذلك الصدوق عن الكليني في سوى «الكافي» أما فيه فقد أسند عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري القمي : أنه سأل العسكري عليه‌السلام : عن مَن آخذ وقولَ من أقبل؟ فقال : العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك فعنّي يؤديان وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنهما الثقتان المأمونان (٣).

ولذا روى الطوسي عن هبة الله بن محمد بن أحمد الكاتب قال : لمّا كان قد تقدّم النصّ على أبي جعفر محمد بن عثمان بالأمانة والعدالة والأمر بالرجوع إليه في حياة الحسن العسكري عليه‌السلام وبعده من أبيه الشيخ عثمان بن سعيد ، فلم تختلف

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٦٢ الحديث ٣٢٤ و ٣٢٥.

(٢) كمال الدين : ٤٨٣ الحديث ٤ ، الباب ٤٥ ، والغيبة للطوسي : ٢٩٠ ، الحديث ٢٤٧ كلاهما عن الكليني ، وليس في الكافي. وهو التوقيع الشريف الدال على المراجعة في الحوادث الواقعة إلى فقهاء رواة أخبارهم عليهم‌السلام. (التقليد وولاية الفقهاء).

(٣) أُصول الكافي ١ : ٣٣٠ الحديث ١ ، باب التسمية.

٥١٢

الشيعة في أمانته ولم يرتابوا في عدالته. كانت التوقيعات تخرج إلى الشيعة في المهمات على يده طول حياته ، بالخطّ الذي كانت تخرج في حياة أبيه ، لا يعرف الشيعة في هذا الأمر غيره ، ولا ترجع إلى أحد سواه.

وظهرت على يده معجزات الإمام ، ونُقلت عنه دلائل كثيرة ، وأُمور أخبرهم بها عنه ، زادتهم بصيرة في هذا الأمر هي مشهورة عند الشيعة (١).

ولوكالته مع أبيه منذ العسكري عليه‌السلام قال سبطه هبة الله بن محمد بن أحمد الكاتب : أنه كان يتولّى هذا الأمر نحواً من خمسين سنة! يحمل الناس إليه أموالهم ، وهو يُخرج إليهم التوقيعات بخط العسكري عليه‌السلام في المهمات من أمر الدنيا والدين ، وفي ما يسألونه من المسائل ، بالأجوبة العجيبة ، ثمّ بالخطّ الذي كان يخرج في حياة العسكري عليه‌السلام ، حتى توفي في سنة (٣٠٤ ه‍) وقال أبو غالب الزراري في آخر جمادى الأُولى سنة (٣٠٥ ه‍) (٢).

وستأتي أخبار وفاته واستخلافه حينها الحسين بن روح النوبختي في حوادث عام (٣٠٥ ه‍).

حوادث الخمسين عاماً :

بعد أن مرّ ذكر خبر موقف المعتمد العباسي في أحداث وفاة العسكري عليه‌السلام في (٢٦٠ ه‍) انصرفنا عن استعراض الأحداث السياسية إلى أخبار السفيرين الأولين في عهد الغيبة الصغرى ، فأرى هنا أن أعود إلى استعراض الأحداث السياسية :

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٦٢ ، الحديث ٣٢٧.

(٢) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٦٦ ، الحديث ٣٣٤.

٥١٣

سوابق الصفار ، وغلبته بطبرستان :

قال المسعودي : كان الليث بن يعقوب الصفّار ، في حال صغره صفّاراً ، ثمّ خرج في مطوّعة سجستان إلى حرب الشراة الخوارج إلى مدينتهم ممّا يلي بلاد سجستان المعروفة بأوق ، واتّصل بدرهم بن نصر ، وترقّى به الأمر إلى أن دخل بلاد فيروز بن كبك ملك زابلستان ، ثمّ دخل بلاد هراة ثمّ بلخ ، ثمّ عاد إلى بلاد نيسابور فقبض على محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي (مولاهم) ثمّ رحل إلى بلاد طبرستان والمتغّلب عليها الحسن بن زيد الحسني (الزيدي) (١) وذلك في سنة (٢٦٠ ه‍).

وكان السلطان المعتمد العباسي قد أرسل رسلاً يطلبون الحسن بن زيد الحسني ، فلمّا قصده الصفّار راسلوا السلطان وقصدوا الصفّار برسالة من المعتمد ، فانكشف الحسن بن زيد وأمعن يعقوب في تعقيبه ومعه رسل السلطان ، فلمّا رأى بعضهم طاعة رجال الصفّار له وما كان منهم في تلك الحرب ، قال له : أيها الأمير! ما رأيت كاليوم! فقال له الصفار : وأعجب منه ما اريك إياه! ثمّ قربوا من الموضع الذي كان فيه عسكر الحسن بن زيد فوجدوا الكُراع والسلاح والعُدد وبُدر الأموال وجميع ما خلّف في عسكره حين هزيمته ، وجدوه على حاله ، لم يلتبس أحد من أصحابه بشيء منه ولا دنوا إليه ، بل إنما عسكروا بقربه بحيث يرونه بالموضع الذي خلّفهم فيه الصفار. فقال رسول الخليفة : هذه سياسة ورياضة راضهم الأمير بها إلى أن تأتّى له منهم ما أراده.

وكان الصفار لا يجلس إلّاعلى قطعة مِسح بطول سبعة أشبار وعرض ذراعين ، وإلى جانبه تُرسه يتكئ عليه ، فإذا أراد النوم نزع راية فجعلها مخدّته واضطجع على تُرسه. وأكثر لباسه خفتان مصبوغ بلون فاختى!!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١١٢.

٥١٤

فقال له بعض من ورد عليه برسالة السلطان : أيها الأمير! أنت في رياستك ومجلسك ليس في خيمتك إلّاسلاحك ومسح أنت عليه! واقترح عليه ما ذكر من الأثاث.

فقال له : إنّ رئيس القوم يأتمّ به أصحابه فيما يظهر من أفعاله وسيرته ، فلو استعملت ما ذكرت من الأثاث ، ائتمّ بي في فعلي مَن في عسكري ، ونحن نقطع في كل يوم من المهامة والمفاوز والأودية والقيعان ، فلا يصلح لنا إلّا التخفيف.

وكان في عسكره خمسة آلاف جمل وعشرة آلاف حمير شهب عُرفت بالصفّارية! لحمل الأثقال (١).

وكان قد ضرب ألف عمود من ذهب وألف عمود من فضّة عُدة للنوائب (بدلاً عن بيوت الأموال والخزائن) وانتخب من أصحابه ألف رجل على اختباره لهم والأثر الظاهر منهم ونكايتهم في حروبهم ، فجعلهم أصحاب أعمدة الذهب ، كل عمود منها فيه ألف مثقال! ثمّ يليهم في البأس والأثر فوج ثان (ألف رجل) هم أصحاب أعمدة الفضة. فإذا كانت الأعياد ، أو الأيام التي يحتاج فيها إلى الاحتفال ومباهاة الأعداء دفع إليهم تلك الأعمدة (٢).

وبلغ من طاعة أتباعه وظهور طاعتهم له : أنه رئي رجل من ذوي المراتب من قوّاده والدرع الحديد على بدنه بلا ثوب عليه! فسُئل عن ذلك فقال : نادى منادي الأمير : البسوا السلاح ، وكنت عرياناً أغتسل من احتلام ، فلبست الدرع بلا تشاغل بالثياب!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١١٦ ـ ١١٨.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١١٥ ، ١١٦.

٥١٥

بل تلقّب بأمير المؤمنين ، وهو بأرض فارس ، وخيله يرعى ويرتع ، وأراد الرحيل فنادى مناديه بقطع الدواب عن الرعي ، فأسرع رجل منهم إلى دابته وأخرج الحشيش من فمها وقال بالفارسية يخاطبها : «أمير المؤمنين! دواب را ازتر بُريده است» وتعريبه : إنّ أمير المؤمنين قطع الدواب عن الرُطبة (١)!

هزيمة المعتمد لعسكر الصفّار :

تزامنت أوائل أمر الصفّار مع أوائل مقاتل الزنوج ، فاتّهم الصفّار الخليفة بإهماله أمر صاحب الزنج وخرج منكراً عليه وعلى الموالي معه إضاعتهم الدين ، وقال في مسيره إليه أبياتاً هي :

خراسان أحويها وأعمال فارس

وما أنا من ملك العراق بآيس

إذا ما امور الدين ضاعت واهملت

ورثّت فصارت كالرسوم الدوارس

خرجت بعون الله يمناً ونصرة

وصاحب رايات الهدى غيرحارس (٢)

وكان مسيره نحو العراق في (٢٦٢ ه‍) في جيوش عظيمة ، حتى نزل دير العاقول بين واسط وبغداد على شاطئ دجلة. وبلغ ذلك إلى المعتمد في سامرّاء.

وفي الثالث من جمادى الآخرة استخلف المعتمد ابنه المفوّض وخرج هو من سامراء فعسكر في الموضع المعروف بالقائم من سامرّاء ، ثمّ دخل منها إلى بغداد فجازها حتى وصل إلى سيب بني كوما إلى جهة دير العاقول في الخامس من شهر رجب ، وفي التاسع منه واقع الصفّار في الموضع المعروف باصطربد بين السيب ودير العاقول. وكان على ميمنته موسى بن بُغا ، وفي القلب الموفّق أخو

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١١٤ ، ١١٥.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١١٤.

٥١٦

المعتمد (وعلى ميسرته) إبراهيم بن سيما أو محمد بن اوتامش التركي. وحمل الصفار على أصحاب السلطان في ذلك اليوم بضع عشرة حملة وقتل بيده خلقاً كثيراً ، وطعن محمد بن اوتامش ، وقصد موسى بن بغا على الميمنة وقتل المغربي المعروف بالمبرقع وخلقاً كثيراً من الناس ثمّ هُزم.

وكان السبب في هزيمة الصفّار في ذلك اليوم : أنّ نصيراً الديلمي مولى الحاجب سعيد بن صالح كان على الشذوات في بطن دجلة ، فوافى موخرة عسكر الصفار وسواده ، وخرج من دجلة فطرح النار في الخيول والحمير والإبل وهي خمسة آلاف جمل بُخاتي ، فتفرقت الإبل في ذيل العسكر وشردت الخيول واضطرب الناس في مصاف الصفار لمّا سمعوه ورأوه في عسكره وسواده من ورائهم. وفجّر جيش المعتمد عليه نهر السيب فغشى الماء الصحراء ، وعلم الصفار أنّ الحيلة قد توجهت عليه فنجا بنفسه والخواص من أوليائه ، وأتبعه جيش المعتمد وأهل القرى والسواد ، فغنموا الأكثر من ماله وعدده وفيها عشرة آلاف رأس من الدواب. وكان معه محمد بن طاهر الخزاعي (مولاهم) مقيداً فأُطلق ، وأتاه الموفق ففك قيوده وخلع عليه وردّه إلى مرتبته على خراسان.

وعاد الصفّار إلى الأهواز فاستولى عليها (١).

وفي شعبان (٢٦٢ ه‍) عاد المعتمد إلى سامرّاء (٢).

وحرب الروم والصين عام (٢٦٤ ه‍):

في سنة (٢٦٤ ه‍) تجهّز لحرب ثغور الروم عبد الله بن رشيد في أربعة آلاف

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١١٣ و ١١٤.

(٢) أنساب الأشراف : ٣١٩.

٥١٧

فارس ، فمرّ على سلوقية وخرشنة ثمّ بدندون مدفن المأمون وقتل وغنم ، وتوافق لقتالهم بِطريقا سلوقية وخُرشنة فلمّا انصرف من بدندون خرجا عليه بعسكريهما ، فأُسر عبد الله بن رشيد وحُمل إلى ملك الروم ، فتوافق خمسمئة من المسلمين فحملوا حملة واحدة حتى نجوا على خيولهم ، ونزل الباقون فعرقبوا دوابّهم وقاتلوا حتى قتلوا أربعة آلاف وخمسمئة (١)!

وكثر المسلمون في الصين! فخرج فيهم رجل وعظم جمعه وحاصر مدينة خانقوه وهي مدينة حصينة ولها نهر عظيم ، وفيها ناس كثير مسلمون ونصارى ويهود ومجوس! وغيرهم ، ففتحها عنوة ، وقتل ما لا يحصى ، ثمّ استولى على كثير من بلاد الصين ، ثمّ حاربه ملك الصين فانهزم جمعه (٢).

ابن طولون في الشام :

في (٢٦٥ ه‍) تمرّد أحمد بن طولون التركي والي مصر ، على المعتمِد ، فسار بعسكره من مصر إلى سيما وإلى حلب والعواصم في أنطاكية فحاصرها حتى فتحها وقتل سيما ، وملك حلب ثمّ دمشق وحمص وحماة وقنّسرين إلى الرّقة ، فأمر المعتمد بلعن ابن طولون على المنابر ، وأمر ابن طولون بلعن المعتمد ، حتى مات في سنة (٢٧٠ ه‍) وخلفه ابنه خمارويه (٣).

عاقبة يعقوب ، وطاعة عمرو :

في شوال سنة (٢٦٥ ه‍) مات يعقوب الصفار في جُندي شاپور ، وخلّف

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول لابن العبري : ١٤٨.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٩.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٤٨.

٥١٨

في بيت ماله خمسين ألف ألف (مليون) درهم وثمانمئة ألف دينار ، وخلفه أخوه عمرو (١).

وكان قد جاء يعقوب رسول من الخليفة المعتمد ليستميله ، فأحضره وجعل عنده رغيف خبز يابس يسمّى بالفارسي خوشكار وبصلاً وسيفاً! فقال للرسول : قل للخليفة : إن متّ فقد استراح مني واسترحت منه ، وإن عوفيت فليس بيني وبينه إلّاهذا السيف! فإن كسرني وأفقرني عُدت إلى أكل هذا الخبز والبصل! ثمّ مات.

وقام بعده أخوه عمرو بن الليث فكتب إلى الخليفة بطاعته ، فولّاه الموفّق أخ الخليفة إصفهان إلى خراسان وسجستان وكرمان حتى السند (٢).

مصير صاحب الزنج :

قال المسعودي : غلب صاحب الزنج على البصرة وأكثر كور الأهواز وما يلي أرّجان من أرض فارس ، ومن العراق على واسط إلى النعمانية وشاطئ دجلة إلى جرجرايا من النهروان ، وإلى الطفوف من نواحي الكوفة (٣).

قال : وفي ربيع الآخر سنة (٢٦٧ ه‍) قدّم الموفّق العباسي ابنه أبا العباس إلى سوق الخميس لحرب صاحب الزنج ، وكان فيها من قبله صاحبه الشعراني في جمع كثير من الزنوج ، فتحصّن بها ، ففتحها أبو العباس وقتل من كان فيها من الزنوج وغنم كل ما فيها ، وفتح مواضع أُخرى كثيرة. وسار الموفق إلى الأهواز

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١١٤.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٣٠.

(٣) التنبيه والإشراف : ٣١٩.

٥١٩

فأصلح ما أفسده الزنوج وعاد إلى البصرة مُنازلاً لصاحب الزنج بها. وقد كان أتى بالبصرة في وقعة واحدة على قتل ثلاثمئة ألف منهم! واختفى كثير من الناس في الدور والآبار ، ويظهرون بالليل فيأخذون الكلاب فيذبحونها ويأكلونها ، والسنانير والفئران حتى أفنوها حتى لم يقدروا على شيء منها ، فكانوا إذا مات أحدهم أكلوه! ويراعى بعضهم موت بعض ، ومن قدر منهم على صاحبه قتله وأكله! وعدموا الماء العذب.

وذُكر عن امرأة منهم ، قال الراوي : كنا على مشرعة عيسى بن أبي حرب إذ رأينا امرأة تبكي ومعها رأس ، فقيل لها : ويحك ما لك تبكين؟ قالت : اجتمعوا على اختي فما تركوها تموت موتاً حسناً! حتى قطّعوها ثمّ لم يعطوني من لحمها شيئاً إلّارأسها هذا!

وبلغ من أمر عسكره : أنه كان ينادى فيه على المرأة من ولد الحسن والحسين عليهما‌السلام ومن ولد العباس وغيره من ولد هاشم وقريش والعرب ، يُنادى عليها بنسبها : هذه ابنة فلان الفلاني ، وتُباع بالدرهمين والثلاثة! فلكل زنجي منهم العشرة والعشرون والثلاثون! يخدمنهم ونساءَهم الزنجيات.

وقد تكلم الناس في مقدار ما قَتل في سنيّ قتاله وحكمه (١٤ عاماً) فمكثّر ومقلّل ، وكلا الفريقين يقول في ذلك حدساً وظنّاً إذ كان شيئاً لا يدرك ولا يُضبط ، فالمكثّر يقول : إنه أفنى من الناس ما لا يدركه العدد ولا يقع عليه الإحصاء فلا يعلمه إلّاالله! ممّا أباد من أهل الضياع والأمصار والبلدان ، والمقلّل يقول : أفنى منهم خمسمئة ألف نفر (١)! ومنهم من يقول : إنّ ذلك كان ألف ألف (مليوناً) وأكثرهم يرى أنّ ذلك لا يحيط به الإحصاء ولا يحصره العدد كثرة وعِظماً!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١١٩ ، ١٢٠.

٥٢٠