موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

الهادي عليه‌السلام ، وإذ علم أنّ قوماً من أهل المعرفة يقولون بإمامته كتب إلى المتوكل : إنّ قوماً يقولون إنّه الإمام (١)!

قال المفيد : وبلغ أبا الحسن سعايته به ، فكتب إلى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمد عليه ، ويكذّبه فيما سعى به إليه. فتقدّم المتوكل بإجابته عن كتابه ، ودعاه فيه إلى حضوره إلى بلد العسكر على جميل من الفعل والقول (٢).

أخرجه الكليني عن بعض أصحابنا أنّه أخذ نسخة الكتاب من يحيى بن هرثمة بن أعين وهي :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، أما بعد ، فإنّ أمير المؤمنين (المتوكل) عارف بقدرك راع لقرابتك ، موجب لحقك ، يقدّر الأُمور فيك وفي أهل بيتك ما يصلح الله به حالك وحالهم ، ويثبّت به عزك وعزهم ، ويدخل الأمن واليمن عليك وعليهم! يبتغي بذلك رضا ربّه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم!

وقد رأى أمير المؤمنين (المتوكل) صرفَ «عبد الله بن محمد» عمّا كان يتولّاه من الحرب والصلاة بمدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقك واستخفافه بقدرك ، وعندما قرفك به ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين (المتوكل) براءتك منه! وصدق نيّتك في محاولته! وأ نّك لم تؤهّل نفسك له!

وقد ولّى أمير المؤمنين (المتوكل) ما كان يلي من ذلك «محمد بن الفضل» وأمره بإكرامك وتبجيلك! والانتهاء إلى أمرك ورأيك ، والتقرّب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٤.

(٢) الإرشاد ٢ : ٣٠٩.

٣٤١

وأمير المؤمنين (المتوكل) مشتاق إليك يحبّ إحداث العهد بك والنظر إليك! فإن نشطت لزيارته والمقام قِبله ما رأيت (من المُدّة) شخصت أنت ومن أحببت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة ، ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت ، وتسير كيف شئت.

وإن أحببت أن يكون «يحيى بن هرثمة» مولى أمير المؤمنين (المتوكل) ومن معه من الجند (!) مشايعين لك يرحلون برحيلك ويسيرون بسيرك ، فالأمر في ذلك إليك ، حتّى توافي أمير المؤمنين! فما أحد من إخوته (المتوكل) وولده وأهل بيته وخاصّته ألطف منه منزلة ، ولا أحمد منه أثرة ، ولا حولهم أنظر ، وعليهم أشفق وبهم أبرّ وإليهم أسكن منه إليك! إن شاء الله تعالى ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكتب إبراهيم بن العباس (١) والراوي إنما ذكر أنّه أخذ نسخة الكتاب من يحيى بن هرثمة في سنة ثلاث وأربعين ومئتين هجري أي قبل وفاة الهادي عليه‌السلام بعشرة أعوام وبعد تاريخها بمثلها تقريباً ، بلا ذكر تاريخ للكتاب نفسه (٢) ، ولا أنها كيف كانت بيد هرثمة ، اللهم إلّاأن تكون نسخة مكرّرة أو ردّها الإمام عليه.

وإنما وجدتُ تاريخ إشخاص الهادي عليه‌السلام إلى سامراء في «إثبات الوصية» قال : اشخص سنة (٢٣٦ ه‍) وسنّ الحسن يومئذ أربع سنين وشهوراً (٣)

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٠١ ، ٥٠٢ ، الحديث ٧ ، باب مولد الهادي عليه‌السلام.

(٢) والمفيد في الإرشاد غالباً يسند أخباره عن الكليني ، وهنا أرسل الخبر ، والتبس عليه الأمر فجعل تاريخ أخذ نسخة الكتاب من ابن هرثمة تاريخاً للكتاب ٢ : ٣١٠.

(٣) إثبات الوصية : ٢٣٦. ويظهر من خبر أنّ محمد بن علي كان أكبر من أخيه الحسن ، رواه الطوسي في كتاب الغيبة : ١٩٩ ، الحديث ١٦٥ عن أحمد بن عيسى بن علي بن جعفر بن محمد أنّه أراد أن يسلّم بالمدينة على محمد فقال له الهادي عليه‌السلام : ليس هذا صاحبكم ، صاحبكم أبو محمد وأشار إلى الحسن ابنه. وعن المُجدي في الأنساب : أنّ الهادي عليه‌السلام ترك ابنه محمداً طفلاً بالمدينة؟ ثمّ قدم عليه بسامراء رشيداً.

٣٤٢

فلعلّ للحسين بن علي الهادي سنتان ، فأما محمد بن علي الهادي فإمّا ولد لشهور بالمدينة ، وإما بعدها في سامرّاء ، وأما جعفر بن علي الهادي فإنّه مولود بسامرّاء.

قصص الطريق إلى سامرّاء :

مرّ في نص كتاب المتوكل إلى الهادي عليه‌السلام : «أن يكون يحيى بن هرثمة ومن معه من الجُند مشايعين لك» وليس فيه عددهم. ونجد يحيى بن هرثمة في خبر عنه يقول عن نفسه : كنت على مذهب الحشوية (ممّن يؤمنون بحشو الحديث كيفما كان كالمتوكل نفسه) وفي الخبر أنّ الجنود كانوا ثلاثمئة رجل ممن اختارهم ، ويقول : فيهم قائد من الشُراة (الخوارج) وكاتب «يتشيع» وهو تشيّع ونقل الخبر قال :

دعاني المتوكل في حرّ تموز فقال لي : اختر «ثلاثمئة رجل» ممّن تريد ، واخرجوا إلى الكوفة ، فخلّفوا أثقالكم فيها! واخرجوا على طريق البادية إلى المدينة ، فأحضروا عليّ بن محمد بن الرضا إليّ ، مكرّماً معظّماً مبجّلاً! (وأعطاه الكتاب السابق).

قال : ففعلت وخرجنا ، وكان في أصحابي قائد من الشُراة (الخوارج) وكان لي كاتب «يتشيّع» وأنا على مذهب «الحشوية» وكان ذلك الشاري (الخارجي) يناظر ذلك الكاتب ، وأنا كنت أستريح لمناظرتهما لقطع الطريق ، فكان من

٣٤٣

مناظرته له أن قال له : أليس من قول صاحبكم علي بن أبي طالب : أنّه ليس من الأرض بقعة إلّاوهي قبر أو ستكون قبراً؟! فانظر إلى هذه البريّة أين من يموت فيها حتّى يملأها الله قبوراً كما زعم؟! فانخذل الكاتب في أيدينا وتضاحكنا ساعة من كلامهم!

قال : وسرنا حتّى دخلنا المدينة في عشرة أيام فقصدت باب أبي الحسن علي بن محمد بن الرضا عليه‌السلام فدخلت إليه (وسلّمت إليه كتاب المتوكل) فقرأ كتاب المتوكل فقال : لا خلاف من جهتي.

وصرت إليه غداً فإذا قد أرسل إلى خياط وبين يديه ثياب غلاظ يقطّعها خفاتين له ولغلمانه ، ثمّ قال له : اجمع عليها جماعة من الخياطين لتفرغ منها في يومك هذا! وبكّر بها إليّ في هذا الوقت!

ثمّ نظر إليّ وقال لي : يا يحيى اقضوا وطركم من المدينة اليوم ، وغداً في هذا الوقت أعمل على الرحيل!

قال هرثمة : فقلت في نفسي : نحن في حرّ تموز وحرّ الحجاز ، وإنما بيننا وبين العراق مسيرة عشرة أيام! فما يصنع بهذه الثياب؟! ثمّ قلت في نفسي : هذا رجل لم يسافر فهو يقدّر أنّ كل سفر يحتاج فيه إلى هذه الثياب ، وتعجبت من «الرافضة» حيث يقولون بإمامة هذا مع فهمه هذا! فهل يخاف أن يلحقنا البرد والشتاء في الطريق حتّى يأخذ معه هذه اللبابيد والبرانس والخفاتين؟!

فعدت إليه في الغد فإذا الثياب حاضرة! وقال لغلمانه : احملوها وقال لي : ارحل يا يحيى (١).

وأسند المسعودي عن يحيى بن هرثمة قال : وجّهني المتوكل لإشخاص

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٣٩٣ ـ ٣٩٥.

٣٤٤

علي بن محمد بن الرضا لشيء بلغه عنه ؛ فلمّا صرت إليها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس مثله ، خوفاً على علي! وقامت الدنيا على ساق ؛ لأنّه كان ملازماً للمسجد بلا ميل إلى الدنيا ومحسناً إليهم! فجعلت اسكّنهم وأحلف لهم أني لم أُومر فيه بمكروه وأنّه لا بأس عليه. ثمّ فتّشت منزله فلم أجد فيه إلّامصاحف وأدعية وكتب العلم (١).

قال : فسرنا حتّى وصلنا إلى موضع المناظرة في القبور ، فارتفعت سحابة واسودّت وأبرقت وأرعدت وأرسلت علينا بَرَداً (حالوباً) مثل الصخور! وأمر أبو الحسن غلمانه فأخرجوا الخفاتين ولبسوا اللبابيد والبرانس ، وقال لهم : ادفعوا إلى يحيى لبّادة وإلى الكاتب بُرنساً! وتجمّعنا والبرد يأخذنا .. ثمّ زالت ورجع الحر كما كان وقد قُتل بها من أصحابي ثمانون رجلاً! (وبقي مئتان وعشرون شخصاً).

فقال لي أبو الحسن : يا يحيى ؛ مُر من بقي من أصحابك ليدفن من قد مات منهم! (فلمّا فرغنا منهم قال) : هكذا يملأ الله هذه البرية قبوراً! قال يحيى : فرميت بنفسي من دابّتي وعدوت إليه وقبّلت ركابه ورجله وقلت : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وأ نّكم خلفاء الله في أرضه! وقد كنت كافراً (بكم) وإنني الآن قد أسلمت على يديك يا مولاي (٢)! بلا تعيين للموضع.

توحيده وتحذيره عن الغلوّ :

لم يُعلم متى وأين كان ما كان من الحدث الخارق في موضع المناظرة في طريقهم إلى سامرّاء ، ويظهر من الخبر التالي أنّ محتواه كان بعد ذلك وقبل بغداد.

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٨٤ ، هذا ، والتفتيش لا يلائم نصّ الكتاب إليه ، وتوصيته في الخبر السابق ليحيى بإكرام الإمام عليه‌السلام.

(٢) الخرائج والجرائح ١ : ٣٩٥ ، ٣٩٦.

٣٤٥

نقل الإربلي عن «دلائل الإمامة» للحميري عن فتح بن يزيد الجرجاني : أنّه كان حاجّاً عام (٢٣٥ ه‍) وعائداً إلى بلاده جرجان وكانت يومئذ من خراسان الكبرى في أوائل عام (٢٣٦ ه‍) قال : في منصرفي من مكة إلى خراسان ضمّني الطريق إلى العراق إلى أبي الحسن علي بن محمد بن الرضا عليه‌السلام وهو يُصار به إلى العراق ، فتلطّفت للوصول إليه ، فتوصّلت فسلّمت عليه ، فردّ عليَّ السلام وأذن لي بالجلوس إليه ، ثمّ قال لي :

يا فتح ، من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوق ، ومن أسخط الخالق فأخلِق به أن يُحلّ الله عليه سخط المخلوق. وإنّ الخالق لا يوصف إلّابما وصف به نفسه ، وأنى يوصف الخالق ؛ الذي تعجز الحواسّ أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحدّه ، والأبصار عن الإحاطة به. جلّ عمّا يصفه الواصفون ، وتعالى عمّا ينعته الناعتون ، نأى في قربه وقرب في نأيه ، فهو في نأيه قريب وفي قربه بعيد. كيّف الكيف فلا يقال : كيف؟ وأيّن الأين فلا يقال : أين ، إذ هو منقطع الكيفية والأينية.

هو الواحد الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، فجلّ جلاله.

أم كيف يوصف بكهنه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد قرنه الجليل باسمه ، وشركه في عطائه ، وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته إذ يقول : (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ (١)) وقال يحكي قول من ترك طاعته فهو يعذّبه بين أطباق نيرانها وسرابيل قَطرانها : (يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٢)).

أم كيف يوصف بكنهه من قرن الجليل طاعتهم بطاعة رسوله حيث قال :

__________________

(١) التوبة : ٤٧.

(٢) الأحزاب : ٦٦.

٣٤٦

(أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (١)) وقال : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ (٢)) وقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (٣)) وقال : (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ (٤)).

يا فتح ، فكما لا يوصف الجليل جلّ جلاله ، والرسول والخليل ، وولد البتول ، كذلك لا يوصف المؤمن المسلّم لأمرنا. فنبيّنا أفضل الأنبياء ، وخليلنا أفضل الأخلّاء وأكرم الأوصياء ، واسمهما أفضل الأسماء ، وكنيتهما أفضل الكنى وأحلاها ، لو لم يجالسنا إلّاكفو لم يجالسنا أحد ، ولو لم يزوّجنا إلّاكفو لم يزوّجنا أحد. و (قد) ورث عنهما أوصياؤهما علمهما ، فأردد إليهم الأمر وسلّم إليهم ، أحياك الله حياتهم وأماتك مماتهم. ثمّ قال لي : إذا شئت رحمك الله.

وكان الفتح الجرجاني الراوي اختلج في ليلتها في صدره وقال في نفسه : متى أيقنت أنهم كذا فهم أرباب! قال : فلمّا كان الغد تلطّفت للوصول إليه فتوصّلت فسلّمت عليه فردّ السلام ، فقلت له :

يابن رسول الله ؛ أتأذن لي في مسألة اختلج أمرها في صدري في ليلتي هذه؟

فقال لي : أما الذي اختلج في صدرك في ليلتك فإن شاء العالم أخبرك : إنّ الله لم يُظهر على غيبه أحداً إلّامن ارتضى من رسول ، فكل ما كان عند الرسول كان عند العالم ، وكل ما اطّلع عليه الرسول فقد اطّلع أوصياؤه عليه ؛ لئلّا تخلو الأرض من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته!

__________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) النساء : ٨٣.

(٣) النساء : ٥٨.

(٤) الأنبياء : ٧.

٣٤٧

يا فتح ؛ عسى الشيطان أراد اللبس عليك فأوهمك في بعض ما أودعتُك! وشكّك في بعض ما أنبأتك ، حين أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم ، فقلتَ (في نفسك) : متى أيقنت أنهم كذا فهم أرباب! معاذ الله! إنّهم مخلوقون مربوبون ، مطيعون لله ، داخرون راغبون. فإذا جاءك الشيطان من قبيل ما جاءك به فاقمعه بما أنبأتك به.

قال فتح الجرجاني : جُعلت فداك (لقد) فرّجت عني وكشفت بشرحك ما لبّس الملعون عليَّ ، فقد كان أوقع في خَلَدي : أنكم أرباب! فسجد أبو الحسن وقال في سجوده : يا خالقي راغماً لك داخراً خاضعاً! ثمّ رفع رأسه وقال لي : يا فتح ؛ (لقد) كِدت أن تهلك وتُهلك! ثمّ استدرك فقال لي : وما ضرّ عيسى إذا هلك من هلك؟! ثمّ قال لي : إذا شئت رحمك الله. (يعني انصرف) ، فخرجت من عنده.

فلمّا كان في آخر منزل (بل بغداد حيث ينفصل الراوي الجرجاني إلى جرجان) دخلت عليه ، فإذا بين يديه حنطة مقلوّة وهو متكئ ويعبث بها (بأنامله) وكان ممّا أوقع الشيطان في خلدي : أنّ الأكل والشرب آفة ، والإمام غير مؤوف فلا ينبغي لهم أن يأكلوا ويشربوا!

فلمّا رآني قال لي : يا فتح ، اجلس ، إنّ لنا اسوة بالرسل ، وهم كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق ، وكل جسم مغذوّ بغذاء إلّاالخالق الرازق ، فهو جسّم الأجسام ، فهو لا يجُسّم ولا يجزّأ بتناهٍ ، ولا يتزايد ولا يتناقص ، مبرّأ من ذاته عمّا ركّب في ذوات الأجسام. الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. مُنشئ الأشياء ، مجسّم الأجسام ، وهو السميع العليم ، واللطيف الخبير ، والرؤوف الرحيم. تبارك وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً! ولو كان كما وصفوه لم يُعرف الربّ من المربوب. ولا الخالق من المخلوق ، ولا المنشئ من المُنشأ ، ولكنّه فرّق بينه وبين من جسّمه ، وشيّأ الأشياء ، فهو لا يشبهه شيء يُرى ، ولا يُشبه هو شيئاً.

٣٤٨

ثمّ انفصل هذا الراوي الجرجاني من بغداد إلى بلاد الجبال فجرجان ، والتقى به أحمد بن محمد بن خالد البرقي القمي فروى عنه وعنه الحميري في كتابه «دلائل الإمامة» وعنه الإربلي في كتابه (١).

الهادي عليه‌السلام إلى سامراء :

قال اليعقوبي : شخص علي بن محمد ابن الرضا مع يحيى بن هرثمة حتّى صار إلى موضع قبيل بغداد يقال له الياسرية ، فنزل يحيى هناك (وأرسل إلى إسحاق بن إبراهيم الخزاعي مولاهم والي بغداد بالخبر) فركب إسحاق بن إبراهيم يتلقاه ، ورأى اجتماع الناس لرؤيته وتشوقهم إليه! فأقام إلى الليل ثمّ دخل به في الليل إلى بغداد وأقام بها بعض تلك الليلة ثمّ نفذ إلى سامرّاء (٢).

وفي خبر المسعودي عن يحيى قال : قدمت به بغداد على إسحاق بن إبراهيم الطاهري (الخزاعي) وكان والياً على بغداد فقال لي : يا يحيى! إنّ هذا الرجل قد ولده رسول الله ، والمتوكل من تعلم! فإن حرّضته عليه قتله وكان خصمك رسول الله يوم القيامة! قلت له : والله ما وقع عيني منه إلّاعلى كل أمر جميل!

ثمّ سرت به إلى سامراء فبدأت بوصيف التركي (حاجب المتوكل) فأخبرته بوصوله ، فقال لي : والله لئن سقط منه شعرة لا يكون المطالَب بها غيري! ثمّ أدخلني على المتوكل.

__________________

(١) كشف الغمة ٤ : ٢٥ ـ ٢٨ عن دلائل الإمامة للحميري (ق ٣ ه‍) وعنه في إثبات الوصية : ٢٢٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٤.

٣٤٩

فلمّا دخلت على المتوكل سألني عنه فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقته وورعه وزهادته! وأني فتّشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم ، وأنّ أهل المدينة خافوا عليه (١).

خان الصعاليك :

لم أقف في أنباء بناء سامرّاء على بناء خان للصعاليك بها ، ويظهر من الخبر التالي ذلك :

قال المفيد : لمّا وصل يحيى بن هرثمة بأبي الحسن الهادي عليه‌السلام إلى سامرّاء تقدم المتوكل بأن يُحجب عنه ويُنزل في خان يُعرف بخان الصعاليك (٢).

فأسند الكليني عن صالح بن سعيد (الطالقاني) قال : دخلت على أبي الحسن عليه‌السلام (في خان الصعاليك) فقلت له : جُعلت فداك! في كل الأُمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع! خان الصعاليك!

فقال لي : يابن سعيد أنت هاهنا؟! ثمّ أومأ بيده وقال : انظر! فنظرت ، فإذا أنا بروضات آنقات وجنّات باسرات فيهنّ خيرات عطرات وولدان كأ نّهن اللؤلؤ المكنون ، وأطيار وظباء ، وأنهار تفور! فحار بصري وحسرت عيني! فقال لي : حيث كنا فهذا لنا عتيد لسنا في خان الصعاليك (٣).

قال المفيد : ثمّ تقدم المتوكل بإفراد دار له ، فافردت له فانتقل إليها وأقام

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٨٤ ، ٨٥ ، وتذكرة الخواص ٢ : ٤٩٤ ، ٤٩٥ عن علماء السير!

(٢) الإرشاد ٢ : ٣١١.

(٣) أُصول الكافي ١ : ٤٩٨ ، الحديث ٢ ، باب مولد الهادي عليه‌السلام.

٣٥٠

مدة مُقامه بسامرّاء مكرّماً في ظاهر حاله (١) ولكون الدار في محلة العسكر عُرف بالعسكري نسبةً إليها.

وكان الموضع مجاور الإمام عليه‌السلام صنوف من الناس من أهل الصنائع فالموضع كالقرية ، ومنهم نقّاش ينقش على الأحجار الكريمة والفصوص منهم يونس يجاور الإمام بأهله ، فكان يأتي إلى الإمام ويخدمه (٢).

أوّل نبأ له مع المتوكل :

جاء في خبر السبط عن يحيى بن هرثمة قال : فبعد ذلك بمدة اتفق أن مرض المتوكل ، فنذر إن عوفي ليتصدقنّ بمال كثير ، فعوفي ، فسأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم فرجاً ، فبعث إلى علي بن محمد بن الرضا عليه‌السلام فسأله فقال : يتصدّق بثلاثة وثمانين ديناراً! فقال المتوكل : من أين لك هذا؟ قال : «من قوله تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ (٣)) والمواطن الكثيرة هي هذه الجملة ، وذلك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غزا سبعاً وعشرين غزاة ، وبعث ستاً وخمسين سرية ، وآخر غزواته يوم حنين».

فعجب المتوكل والفقهاء من هذا الجواب ، وبعث إليه بمال كثير (٤).

ورواه القمي في تفسيره عن ابن أبي عمير قال : اعتل المتوكل علة شديدة ، فنذر إن عافاه الله أن يتصدق بدنانير كثيرة أو قال : بدراهم كثيرة. فعوفي ،

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٣١١.

(٢) أمالي الطوسي : ٢٨٨ ، الحديث ٦ ، المجلس ١١ عن كافور خادم الإمام الهادي عليه‌السلام.

(٣) التوبة : ٢٥.

(٤) تذكرة الخواص ٢ : ٤٩٥ وبهامشه مصادر كثيرة.

٣٥١

فجمع العلماء فسألهم عن ذلك فاختلفوا عليه بين عشرة آلاف إلى مئة ألف ، فقال له عُبادة (؟) : ابعث إلى ابن عمّك علي بن محمد بن الرضا فاسأله.

فبعث إليه فسأله فقال : الكثير ثمانون. فقالوا له : ردّ إليه الرسول فقل : من أين قلت ذلك؟

فقال : من قوله تعالى لرسوله : (لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ) وكانت المواطن ثمانين موطناً (١).

ورواه العياشي في تفسيره عن يوسف بن السخت قال : اشتكى المتوكل شكاة شديدة ، فنذر : إن شفاه الله يتصدق بمال كثير. فعوفي من علّته ، فسأل أصحابه عن ذلك ، فأعلموه أنّ أباه تصدق بثمانية ألف ألف .. فاستكثر ذلك ، فقال له منجّمه أبو يحيى بن أبي منصور : لو كتبت إلى ابن عمك (يعني أبا الحسن) فأمر أن يُكتب إليه ، فكُتب إليه.

فكتب أبو الحسن : تصدّق بثمانين درهم. فقالوا : سلوه من أين؟ فسألوه فقال : هذا من كتاب الله ، قال الله لرسوله : (لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ) والمواطن التي نصر الله فيها رسوله عليه وآله السلام ثمانون موطناً ، فثمانون درهماً من حلّه : مال كثير (٢).

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٨٤ ، ٢٨٥. والآية ٢٥ من سورة التوبة.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٨٤ ونحوه الكليني في فروع الكافي ٧ : ٤٦٣ ، الحديث ٢١ ، باب النوادر لكتاب الأيمان والنذور. والصدوق عن الصادق في كتاب من لا يحضره الفقيه ٣ : ٢٣٢ ، الحديث ١٠٩٥. وكذا عنه عليه‌السلام في معاني الأخبار : ٢١٨. والطوسي في التهذيب ٨ : ٣٠٩ ، الحديث ١١٤٧ و ٨ : ٣١٧ ، الحديث ١٨٠ ، وغير واحد من أهل السنة في كتبهم أقدمهم : السمعاني في الأنساب ٤ : ١٩٦.

٣٥٢

أبقار المتوكّل تحفر قبر الحسين عليه‌السلام :

مرّ الخبر أنّ الواثق قام بإكرام بني الأعمام من بني هاشم من آل أبي طالب والعلويين حتّى أنّه عُرف أو لُقّب من ذلك بالمأمون الثاني أو الأصغر ، فكأنّ هذا كان ضوءاً أخضر لمن حضر بحاير الحسين عليه‌السلام (١) للسلام عليه ولا سيّما في أيام محرم الحرام بل كل الأيام ، حتّى أنّ دوراً ومنازل كانت قد اقيمت حوله كما يأتي.

أسند الطوسي عن القاسم بن أحمد الأسدي الكوفي ، قال : وكان له علم بالسيرة وأيام الناس ، وقال : بلغ المتوكّل جعفر بن المعتصم : أنّ أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين عليه‌السلام فيصير إلى قبره خلق كثير منهم (٢).

فكأنّ هذه الأجواء هي التي حملت المتوكل على أن يكتب للإمام الهادي عليه‌السلام ذلك الكتاب اللطيف ، ونقل مثلها السبط عن ابن هرثمة عن أهل المدينة بالنسبة للإمام عليه‌السلام. وكأنّ المتوكل باستقدام الإمام عليه‌السلام إليه إلى سامراء وحصره في حصار عسكره أراد بذلك أن يأمن منه لما يريد.

جاء في خبر الطوسي : في سنة (٢٣٧ ه‍) أنفذ المتوكل قائداً من قوّاده (؟) وضمّ إليه كثيراً من جنوده ليهدم قبر الحسين عليه‌السلام ويمنع الناس من الاجتماع إلى قبره وزيارته!

قال : فخرج القائد (؟) إلى الطف وعمل بما أمر. وكان أهل السواد قد رأوا من الدلائل (من قبره) ما حملهم على أن ثاروا واجتمعوا عليه وقالوا له : (والله) لو قُتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته!

__________________

(١) كلمة الحاير من الحيرة بمعنى الحجرة في لفظ أهل الحيرة وعنها في الكوفة ، عَلماً لحجرة قبر الحسين عليه‌السلام ، وكانت مبنية عليه قبل أن تهدم ويحور الماء حول قبره ، فهذا متأخر عن إطلاق الحاير عليه!

(٢) أمالي الطوسي : ٣٢٨ ، الحديث ١٠٣ ، المجلس ١١.

٣٥٣

قال : فأمسك وكتب بالأمر إلى الحضرة! فورد كتاب المتوكل إلى القائد (؟) بالكفّ عنهم والمسير إلى الكوفة متظاهراً بأنّ مسيره إليها إنما هو لمصالح أهلها! ثمّ الانكفاء عنهم إلى سامراء (١).

ونقل قبله عن محمد بن جعفر بن محمد بن فرج الرُّخجي عن أبيه جعفر بن محمد عن عمه عمر بن فرج قال : أنفذني المتوكل في تخريب قبر الحسين عليه‌السلام فصرت إلى ناحيته ، فأمرت بحرث الأرض بالأبقار فمُرّ بها على القبور فمرت عليها ، فلمّا بلغت قبر الحسين عليه‌السلام لم تمرّ عليه! فباشرت الأمر وأخذت عصا غليظة بيدي فما زلت أضربها حتّى تكسّرت العصا في يدي! فوالله ما جازت إلى قبره ولا تخطّته! قال محمد بن جعفر : وكان عمي هذا شديد الانحراف عن آل محمد (٢).

وقال الطبري : في سنة (٢٣٦ ه‍) أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهدم ما حوله من المنازل والدور ، وأن يُحرث ويبذّر ويسقى موضع قبره ، وأن يُمنع الناس من إتيانه.

قال : فذُكر أنّ عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية : من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة أيام بعثنا به إلى السجن المطبق. وحُرث ذلك الموضع وزُرع ما حواليه ، وهرب الناس (٣).

وقال المسعودي : مُنع شيعة آل أبي طالب من زيارة الغريّ من الكوفة وقبر الحسين ومن حضورهم في هذه المشاهد ، كان الأمر بذلك من المتوكل سنة (٢٣٦ ه‍) وأمر قائده المعروف بالديزج بالسير إلى قبر الحسين بن علي «رضي الله عنهما» وهدمه وإزالة أثره ومحو أرضه! فلمّا خرج الديزج بذل الرغائب لمن يقدم بالهدم

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٣٢٨ ، الحديث ١٠٣ ، المجلس ١١.

(٢) المصدر السابق : ٣٢٥ ، الحديث ٩٩ ، المجلس ١١.

(٣) تاريخ الطبري ٩ : ١٨٥ ونحوه في تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٦ ومختصر تاريخ الدول : ١٤٢.

٣٥٤

للقبر فكل من جنوده خشي العقوبة وأحجم! فتناول الديزج مسحاة وهدم أعالي قبر الحسين (أو قبّة الحسين) فأقدم الفعلة عليه حتى انتهوا إلى الحفرة (١).

وأسند الأُموي الزيدي عن أحمد بن الجعد : أنّ المتوكل كان قبل خلافته إذا أراد أن يشرب (الخمر) طلب بعض الجواري تغنّي له ، فلمّا ولي الخلافة وكان شهر شعبان وأراد أن يشرب طلبها فلم يجدوها له. فلمّا عادت وبلغها خبره بعثت إليه بجارية من جواريها كان يألفها ، فسألها ، أين كنتم؟ فقالت : أخرجتنا مولاتنا معها إلى الحج! فقال : أحججتم في شعبان؟! فقالت : حججنا إلى قبر الحسين عليه‌السلام!

فأمر بها فحبسها وصادر أملامكها ، وكان له قائد كان يهودياً فأسلم يسمّى إبراهيم الديزج ، فبعث به وأمره بكرب قبر الحسين ومحوه وتخريب ما حوله! فاستحضر معه من قومه اليهود ومضى لذلك فخرّب ما حوله وهدم البناء على قبره ، وكرب ما حوله نحو مئتي جريب! فلمّا بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه مسلم ، فأحضر قومه اليهود فكربوه!

ثمّ جعل مسالح (مخافر) هناك بين كل مسلحتين ميل ، ووكل إليهم أن لا يزوره زائر إلّاأخذوه ووجّهوا به إليه ووضع على سائر الطرق مسالح له لا يجدون أحداً زاره إلّاأتوه به فقتله أو أنهكه عقوبة!

واتّفق للمتوكل أنّ وزيره عبيد الله بن يحيى بن خاقان كان يسيء الرأي في آل أبي طالب فحسّن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله ، كان شديد الوطأة عليهم وغليظاً على جماعتهم مهتمّاً بأُمورهم شديد الحقد والغيظ عليهم وسوء الظن والتهمة لهم (٢)!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٥١.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٩٥ ، ٣٩٦.

٣٥٥

فيظهر من الخبر أن الزيارة كانت للنصف من شعبان ، فلعلّه كان بادرة الأخبار إليه ثمّ توالت بغيره كما مرّ.

وأسند الطوسي عن الكاتب الثقفي عن الحسين بن محمد العمّاري حفيد عمّار بن ياسر : أنّ إبراهيم الديزج حدثه قال : بعثني المتوكل إلى كربلاء لتغيير قبر الحسين عليه‌السلام! وكتب معي إلى قاضي الكوفة جعفر بن محمد بن عمّار : أن أنبش قبر الحسين عليه‌السلام!

قال : فأخذت خاصة غلماني وأتيته فنبشته فوجدت رائحة المسك ثمّ بدن الحسين على بارية كأ نّها جديدة! فأمرتهم بتركه بحاله وطرح التراب عليه.

ثمّ أطلقت عليه الماء وأمرت بالبقر لتمخره وتحرثه ، فكانت إذا جاءت إلى الموضع رجعت عنه! فحلفت لغلماني بالله وبالأيمان المغلّظة لئن ذكر أحد هذا لأقتلنّه!

فلمّا سألني القاضي : ما صنعت؟ قلت : قد فعلت ما أُمرت به فلم أجد شيئاً! فكتب به إلى المتوكل (١).

فأمّا الاعلام العام فأنّه لم يجد شيئاً! وأما الخاص للخواص مثل حفيد عمّار بن ياسر فأنّه وجده طرياً!

ثمّ أسند الطوسي عن أبي برزة الفضل بن محمد قال : كنت جار إبراهيم الديزج ، ومرض فكنت أعوده ، وكان عنده الطبيب ثمّ قام فخرج وخلا الموضع فسألته عن حاله فقال : اخبرك وأستغفر الله! إنّ المتوكل أمرني بالخروج إلى «نينوى» إلى قبر الحسين عليه‌السلام لنكربه ونطمس أثر القبر!

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٣٢٦ ، الحديث ١٠٠ ، المجلس ١١.

٣٥٦

فوافيت الناحية مساءً ومعنا الفعَلة والروزكاريّون (١) معهم المرور والمساحي (٢)(٣) فأمرت أصحابي وغلماني أن يأخذوا الفعَلة بتخريب القبر وحرث أرضه ، وكان قد نالني من تعب السفر فطرحت نفسي ونمت وذهب بي النوم ، فإذا ضوضاء شديدة وأصوات عالية ونبّهوني فقمت ذعراً وسألتهم : ما شأنكم؟ وكان ذلك في أول ليل من الليالي البيض المقمرة فقالوا : إنّ بموضع القبر قوماً يرموننا بالنُشّاب ليحُولوا بيننا وبين القبر! فقمت معهم لأتبيّن الأمر فوجدته كما وصفوا. فأمرتهم برميهم فرموهم فعادت سهامنا إلينا وما أصابت إلّاأصحابها الذين رموا بها! فاستوحشت لذلك وجزعت وأخذتني القشعريرة ثمّ الحمّى! فوطّنت نفسي على أن يقتلني المتوكل لأني لم أبلغ في القبر ما تقدّم إليّ به (٤)!

فكأنّه أراد بهذا أن يبرّئ نفسه من جرأة التجاسر على قبر الحسين عليه‌السلام ولا سيما نبشه!

وقال السيوطي : سنة (٢٣٦ ه‍) أمر المتوكل بهدم قبر الحسين وهدم ما حوله من الدور ، وأن يُعمل مزارع! ومنع الناس من زيارته ، فخُرّب وبقي صحراء! فتألم الناس من ذلك ، وكتب أهل بغداد شتمه على المساجد والحيطان ، وهجاه الشعراء (٥).

كان هذا عام (٢٣٧ ه‍) وسيتكرر عام (٢٤٧ ه‍) أي بعد عشرة أعوام ، وخبره في : ٣٩٦.

__________________

(١) كلمة فارسية تعني العمال اليوميّين في أُجورهم.

(٢) المساحي : جمع المِسحاة. والمرور جمع المرّ : مِسحاة قصيرة.

(٣) أمالي الطوسي : ٣٢٧ ، الحديث ١٠٢ ، المجلس ١١.

(٤) أمالي الطوسي : ٣٢٧ ، الحديث ١٠٢ ، المجلس ١١.

(٥) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٧.

٣٥٧

غارة الروم على مصر :

لمّا فوّض المتوكل مصير مصر إلى وليّ عهده الأول ابنه محمد المنتصر ، صيّر أعمال مصر في سنة (٢٣٧ ه‍) إلى عنبسة بن إسحاق الضبّي ، وبعد شهور (دخلت سنة ٢٣٨ ه‍) فأغار الروم «بخمسة وثمانين» مركب حربيّ بحري على موانئ دِمياط بقيادة فيتوپاريس ، فقتلوا خلقاً من المسلمين وأحرقوا ألفاً وأربعمئة منزل وتهارب الناس فغرق في البحر نحو ألفين ، وسبوا نساءً من المسلمات ألفاً وثمانمئة ، ومن القبط ألفاً ومن اليهود مئة امرأة! وأقاموا يومين ينهبون ثمّ انصرفوا (١).

وقال ابن العبري : في سنة (٢٣٨ ه‍) جاءت من الروم «ثلاثمئة مركب» بثلاثة قوّاد (كل قائد لمئة مركب) وإنما أناخ منهم قائد بمئة مركب بدمياط (وحرسهم سائرهم) وكان بينها وبين الشطّ شبه البحيرة ماؤها إلى الصدور فمن جازها إلى الأرض أمن من مراكب البحر ، فجازه قوم من المسلمين فسلموا ، وغرق كثير من النساء والصبيان! فوصل الروم ودمياط فارغة من الجند فنهبوا وأحرقوا وسبوا من النساء المسلمات والذميات نحو ستمئة امرأة! وأحرقوا الجامع. ورجعوا ولم يعرض لهم أحد (٢) وأرى ابن العبري حاول التقليل من جرائم الروم!

واكتفى السيوطي بالقليل فقال : في سنة (٢٣٨ ه‍) كبس الروم دمياط فنهبوا وأحرقوا وسبوا منها ستمئة امرأة وولّوا مسرعين (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٨.

(٢) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٤٣.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٨.

٣٥٨

قضاة مصر والعاصمة :

كان على قضاء مصر من عصر المأمون أبو بكر محمد بن أبي الليث ، والحارث بن مسكين من أصحاب مالك ولم يقل بخلق القرآن فسُجن ، فبعث المتوكل إلى عامل مصر أن يطلقه ونصبه قاضياً وعزل ابن أبي الليث ، وأمر القاضي الجديد ابن مسكين المالكي أن يحلق لحية القاضي السابق ابن أبي الليث ويضربه ويطوف به على حمار! ثمّ أخذ كل يوم يضربه عشرين سوطاً ليهينه وبعنوان استرداد الظلامات إلى أهلها (١)!

ومرّ الخبر لأوائل عهد المتوكل في سنة (٢٣٣ ه‍) أنّ أحمد بن أبي دؤاد الإيادي القاضي اعتلّ بالفالج ، وبطل لسانه فلا يتكلم ، وكان ابنه محمد متفقّهاً يُعرف بأبي الوليد فولّاه مكانه ، واليوم في سنة (٢٣٨ ه‍) أي بعد خمس سنين سخط عليه وعلى أبيه فعزله وصادر أموالهما وضياع أبيه وردّهما إلى بغداد. ومع أنّ يحيى بن أكثم التميمي البصري كان قاضي المأمون ، استقدمه المتوكل وولّاه قضاء القُضاة. ثمّ تنبّه لذلك فعزله وولّى بدله جعفر بن عبد الواحد الهاشمي العباسي (٢).

ففي فترة قضاء ابن أكثم على عهد المتوكل ، أرسل سبط ابن الجوزي قال : قال يحيى بن (أكثم) تذاكر الفقهاء يوماً بحضرة المتوكل : مَن حلق رأس آدم (في حجّه)؟ فلم يعرفوا! فقال المتوكل : أرسلوا إلى عليّ بن محمد بن الرضا! فأحضِروه. فأحضروه وسألوه فقال : عن أبي عن أبيه عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٧ ، ٤٠٨ وهكذا انتشر مذهب مالك هناك وفيما والاها!

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٥ و ٤٨٩ ، وفي مصادرة أموالهما وهلاكهما عام (٢٤٠ ه‍) راجع مروج الذهب ٤ : ١٤.

٣٥٩

قال : إنّ الله تعالى أنزل جبرئيل بياقوتة من يواقيت الجنة لآدم ، فنزل بها إليه ومسح بها رأسه ، فتناثر شعره ، وأنارت فحيث بلغ نورها صار حرماً (١).

المتوكل وابن السكّيت والهادي عليه‌السلام :

ذاعت وشاعت الشهرة الأدبية بالعربية ليعقوب بن إسحاق الدورقي الأهوازي المعروف بابن السكّيت ، حتى بلغت المتوكل العباسي ، فاستقدمه إلى سامرّاء وتوكّل عليه لتأديب ابنيه وليّي عهده المؤيد والمعتز بالله.

وكما حاول عمّه المأمون إسكات الرضا عليه‌السلام بالمسائل التي كان يلقيها عليه بالمباشرة أو على لسان المخالفين من المسلمين أو غيرهم ، كذلك حاول ابن أخيه المتوكل مع ابن الرضا الهادي عليه‌السلام ، وكان ذلك في هذه الفترة التي أحدثها بعد أبي الوليد محمد بن أحمد بن أبي دؤاد الإيادي ، وقبل أن يجد لقضاء القضاة متفقّهاً من الهاشميين العباسيين جعفر بن عبد الواحد ، أي في عام (٢٣٨ ه‍).

وبعيد أن يكون المتوكل يجهل تقدّم ابن الأكثم على ابن السكّيت في أمل إسكات الهادي عليه‌السلام ولا يعلم بسوابقه مع أبيه الجواد عليه‌السلام في عهد عمّه المأمون ، ويُظنّ أنّه استشعر تشيع ابن السكّيت فأراد إحراجه بإيقافه بوجه إمامه! فيما يلي من الخبر :

أحضر المتوكل ابن السكّيت وقال له : اسأل ابن الرضا (علي بن محمد) مسألة عويصة بحضرتي. ثمّ أحضره ويحيى بن أكثم ، فسأله ابن السكيت قال :

__________________

(١) تذكرة الخواص : ٤٩٨ وفيه : يحيى بن هرثمة ، وانظر تعليق المحقق ، ونقل قريباً منه القمي في الأنوار البهية : ٢٨٣ عن الدر النظيم ، باب ١٢ عن يحيى بن أكثم ولكن في مجلس الواثق! وابن أكثم لم يكن يومئذ على القضاء بل معزولاً مغضوباً عليه ، والواثق ما حجّ في عهده. فالأولى ما ذكرناه. وانظر أخبار الياقوتة من الجنة في علل الشرائع ٢ ، الباب ١٥٩.

٣٦٠