موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

قال : هذا ابن أبي عُمير! قلت : الرجل الصالح العابد؟ قال : نعم (١).

ثمّ أخذه المأمون! بعد موت الرضا عليه‌السلام وحبسه فأصابه من الضرب والضيق والجُهد أمر عظيم! وذهبت كتب ابن أبي عمير فلم تخلص له كتب أحاديثه ، إلّاأنّه كان يحفظ منها أربعين مجلداً! ولذا فإن أحاديثه منقطعة الأسناد! وسمّاها نوادر (٢) فأين تشيّع المأمون؟!

وذكره النجاشي وقال : قيل : إنّ اخته تركت كتبه في غرفة فسال عليها المطر فهلكت ، أو دفنته حال استتاره وكونه في الحبس أربع سنين ، فهلكت الكتب ، فحدّث من حفظه ومما سلف له في أيدي الناس ، ولذا فإن أصحابنا يسكنون إلى مراسيله. وكان قد صنّف (٩٤) كتاباً (٣).

ولم يُذكر له حبس سوى أربع سنين ، وراوي الحبس على عهد المأمون هو نصر بن صباح وهو ضعيف ، فأرى أنّه حُبس على عهد الرشيد والسندي متزامناً مع الأربع سنين لسجن الكاظم عليه‌السلام فقط ، ثمّ بقي يروي مرسلاته الشهيرة في عهد الرضا والجواد عليهما‌السلام ، ولو كان حبْسه الأربع سنين بعد الرضا عليه‌السلام لكانت الفرصة عامين لا تتناسب وشهرة مرسلاته.

ردّ المأمون فدكاً :

لا نجد فيما بأيدينا خبراً عن فدك فيما بين المأمون وصهريه الرضا والجواد عليهما‌السلام مع مصاهرتهما إياه ، ولا عنهما فيه معه ولا حتى مع شيعتهم! ممّا يدلّ

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٩٢ ، الحديث ١١٠٦.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٥٩٠ ، الحديث ١١٠٣.

(٣) رجال النجاشي : ٣٢٦ ـ ٣٢٧ برقم ٨٨٧.

٢٦١

على أنّ مطالبتهم بها لم يكن لماليتها بل كان رمزيّاً عن مقام الإمامة. وكأنهم كانوا يقولون كما قال جدّهما : «بلى كانت في أيدينا فدك ، من كل ما أظلّته السماء وأقلّته الأرض ، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين! وما أصنع بفدك وغير فدك ...» (١) «فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون» (٢).

إلّا أنّ توالي ما ظهر من المأمون من ظواهر الخير للرضا والجواد عليهما‌السلام ولجدهما علي عليه‌السلام ولخصمه اللدود معاوية ، جعل من المسلّم به لدى ابني عمّ من أحفاد السجاد عليه‌السلام هما : محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، ومحمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، أنهما إذا طالبا المأمون بفدك ردّه عليهما ، وكذلك كان بلا مراجعة للجواد عليه‌السلام.

فهذان ومعهما جمع من بني الحسين والحسن عليهما‌السلام ، رفعوا إلى المأمون يذكرون : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد وهب فدك لفاطمة ، وأنّ أبا بكر بعد وفاة رسول الله استولى عليها فسألْته أن يدفعها إليها. فسألها أن تُحضر شهوداً على ما ادّعت! فأَحضرت علياً والحسن والحسين وأُم أيمن.

فأحضر المأمون الفقهاء وسألهم عن ذلك ، فهم رووا أنّ فاطمة قالت هذا وشهد لها هؤلاء! وأنّ أبا بكر لم يُجز شهادتهم!

قال لهم المأمون : ما تقولون في ام أيمن؟ قالوا : امرأة شهد لها رسول الله بالجنة! فنصّهم المأمون إلى أن قالوا : إنّ علياً والحسن والحسين لم يشهدوا

__________________

(١) كتاب أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في أوائل عهده لواليه على البصرة عثمان بن حُنيف الأنصاري.

(٢) من خطبة فاطمة عليها‌السلام في المسجد النبوي الشريف ، راجع المجلد الرابع من هذا الكتاب.

٢٦٢

إلّا بالحق! فلمّا أجمعوا على ذلك ، أمر بردّ فدك على ولد فاطمة وكتب بذلك ، فسُلّمت لهم إليهما (١) لسنة (٢١٨ ه‍) ، بلا مراجعة الجواد عليه‌السلام كما مرّ ، فلعلّهما كانا من الزيدية.

تلك كانت رواية اليعقوبي مرسلة ، وأسند المعتزلي عن الجوهري البصري بسنده قال : جلس المأمون للمظالم ، فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها فبكى! وكان كاتبها قد وقّع فيها : وكيل فاطمة عليها‌السلام! فقال المأمون للذي على رأسه : نادِ : أين وكيل فاطمة؟ فنادى. فقام شيخ في خفّ تَعزيّ ودُرّاعة وعِمامة فتقدم إليه وأخذ يحتجّ على المأمون والمأمون يناظره في فدك ، ثمّ أمر أن يسجّل لهم بها ، فكُتب السجلّ وقرئ عليه فوقّع فيه وأنفذه ، فصارت في أيديهم (؟).

وكان دعبل حاضراً فقام إلى المأمون وأنشده أبياتاً أوّلها :

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمونِ هاشمٍ فدكا (٢)!

المأمون وخلق القرآن :

قال اليعقوبي : في سنة (٢١٨ ه‍) صار المأمون إلى دمشق .. ونزع المقاصير من المساجد الجامعة وقال : هذه سنّة! أحدثها معاوية!

وكتب في إشخاص الفقهاء من العراق وغيرها فامتحنهم في خلق القرآن ، وكفّر من يمتنع أن يقول : القرآن غير مخلوق ، وكتب أن لا تُقبل شهادته! فقال الكل بذلك إلّانفراً يسيراً (٣)!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٩ ضمن حوادث عام (٢١٨ ه‍).

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢١٧ عن الجوهري البصري (م ٣٣٣ ه‍) ولم نعثر على سائرها.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٧ ـ ٤٦٨.

٢٦٣

وقال ابن الوردي : في سنة (٢١٨ ه‍) كتب المأمون إلى عامله ببغداد : إسحاق بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) أنّ من أقرّ من القضاة والعلماء أنّ القرآن مخلوق خلِّ سبيله ، ومن أبى فيعلمه به.

فجمعهم ومنهم : قاضي القضاة بشر بن الوليد الكندي ، وأحمد بن حنبل الشيباني ، وعلي بن الجعد ومقاتل وقتيبة وغيرهم ، وقال لبشر وكاتبه يكتب ذلك : ما تقول في القرآن؟ قال : هو كلام الله ، قال : أمخلوق هو؟ قال : الله خالق كل شيء. قال : والقرآن شيء؟ قال : نعم. قال : فهو مخلوق؟ قال : ليس بخالق! قال : فهو مخلوق؟ قال : لا احسن غير ما قلت لك!

ثمّ قال لأحمد بن حنبل : ما تقول في القرآن؟ قال : كلام الله ، قال : أمخلوق هو؟ قال : كلام الله ، ما أزيد عليها! فقال له : فما معنى قوله : «سميع بصير»؟ قال : كما وصف نفسه! قال : فما معناه؟ قال : لا أدري! هو كما وصف نفسه!

ثمّ سأل قتيبة وعبيد الله بن محمد ، وعبد المنعم بن إدريس ، وجماعة ، فأجابوا : إنّ القرآن مجعول ؛ لقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً (١)) والقرآن محدَث ؛ لقوله : (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢)) فقال الوالي : المجعول مخلوق؟ قالوا : لا نقول مخلوق! لكن مجعول! فكتب مقالتهم ومقالة غيرهم إلى المأمون.

فورد جواب المأمون إلى الوالي إسحاق بن إبراهيم الخزاعي : أن يحضر قاضي القضاة بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي (؟) فإن قالا بخلق القرآن وإلّا تُضرب أعناقهما! ومن لم يقل سواهما بخلق القرآن يوثّقه بالحديد ويحمله إلى المأمون!

__________________

(١) الزخرف : ٣.

(٢) الأنبياء : ٢.

٢٦٤

فجمعهم إسحاق الخزاعي وعرض عليهم ما أمر به المأمون ، فقال الجميع بخلق القرآن إلّاأربعة هم : أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح والقواريري وسجّادة! فشدّهم بالحديد ثمّ سألهم فأجاب القواريري وأجابت سجّادة بخلق القرآن فأطلقهما ، وأصرّ أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح فوجّههما إلى طرطوس.

ثمّ ورد كتاب المأمون يقول : بلغني أنّ بشر بن الوليد وجماعة معه إنما أجابوا بتأويل الآية الكريمة : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ (١)) وقد أخطؤوا التأويل ، فإنّ الله تعالى عنى بهذه من كان معتقداً للإيمان مظهراً للشرك ، فأما من كان معتقداً للشرك! مظهراً للإيمان فليس هذا له ، فأشخصهم إلى طرطوس ليقيموا بها إلى أن يخرج أمير المؤمنين من بلاد الروم. فأرسلهم (٢).

غزو المأمون الروم رابعة :

قال اليعقوبي : استعد المأمون لحصار عمورية وقال : آتي بالعرب من البوادي فانزلهم كلّ بلد ، افتتحه حتى أضرب إلى القسطنطينية! لسنة (٢١٨ ه‍).

وبلغ ذلك إلى ملك الروم توفيل بن ميخائيل ، فأتاه رسوله يدعوه إلى أن يدفع إليه الأسرى المسلمين الذين عنده (سبعة آلاف) فيصالحه أو يهادنه ، فلم يقبل (٣).

وقال المسعودي : عمد إلى سائر حصون الروم فخيّرهم بين الإسلام أو الجزية أو السيف ، فأجابه خلق منهم إلى الجزية ، وذلّل بذلك النصرانية.

فلما نزل البدندون جاءه رسول ملك الروم فقال له : إنّ الملك يخيّرك بين أن يردّ عليك نفقتك التي أنفقتها من بلدك إلى هذا الموضع ، وبين أن يُخرج لك كل

__________________

(١) النحل : ١٠٦.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٠ ، ٢١١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٩.

٢٦٥

أسير من المسلمين في بلد الروم بغير دينار ولا درهم! وبين أن يعمّر لك كل ما خرّبته النصرانية من بلد للمسلمين فيردّه كما كان ، وترجع عن غزاتك هذه.

فقام المأمون ودخل خيمته فصلّى ركعتين ثمّ خرج فقال للرسول : قل له : أما قولك : تردّ عليَّ نفقتي فإني سمعت الله تعالى يقول في كتابنا حاكياً عن بلقيس : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ* فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (١)).

وأما قولك : إنك تُخرج كل أسير من المسلمين في بلد الروم ، فما في يدك إلّا أحد رجلين : إما رجل طلب الدنيا فلا فكّ الله أسره ، وإما هو رجل طلب الله عزوجل والدار الآخرة فقد صار إلى ما أراد!

وأما قولك : إنك تعمِّر كل بلد للمسلمين خرّبته الروم. فلو أني قلعت أقصى حجر في بلاد الروم ما ساوى ذلك بامرأة عثرت عثرة في أسرها فقالت : وا محمداه! عُد إلى صاحبك ، فليس بيني وبينه إلّاالسيف!

ثمّ أمر بضرب الطبول والرحيل فرحل فلم ينثن عن غزاته هذه حتى فتح خمسة عشر حصناً ثمّ انصرف ، فنزل على عين البدندون المعروفة بالقُشيرة. فأقام هنالك حتى ترجع رسله من الحصون (٢).

علة المأمون وموته :

في قرية بدندون من بلاد ثغر الروم بينها وبين طرسوس يوم واحد ، وقف المأمون على منبع ماء العين وكان ماءً بارداً فأعجبه برده وصفاؤه ، وطيب حسن

__________________

(١) النمل : ٣٥ و ٣٦.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٥٥ ـ ٤٥٦.

٢٦٦

الموضع وكثرة خُضرته ، فأمر بقطع شجر طوال لتوضع على العين كالجسر ، وتُعقد له مظلة فوقها من أغصان الشجر ، فجلس فيها ، وطُرح في الماء درهم فقرأ كتابته. ولاحت سمكة نحو الذراع بيضاء كأنها سبيكة فضة ، فجعل لمن يُخرجها جائزة ، فبدر بعض الفرّاشين فأخذها وصعد ، فلمّا وضعها بين يدي المأمون اضطربت وأفلتت إلى الماء ، فنضح من الماء على صدر المأمون ونحره وترقوته وابتلّ ثوبه ، وانحدر الفرّاش فأخذها ثانية ووضعها في منديل بين يدي المأمون ، فأمر المأمون بقليها. ثمّ أخذته الرعدة فغطّي باللحف وهو يصيح البرد البرد ويرتعد كالسعفة ، فحوّلوه إلى خيمته ودُثر واوقدت حوله النيران وهو يصيح البرد البرد! وأُتي بالسمكة المقلية فلم يطعم منها.

وكان مع المأمون ابن ماسويه وبختيشوع الطبيب فسألهما المعتصم عن حال المأمون ، فتقدما إليه وأخذ كل منهما بيديه ، وكان يعرق فالتزقت أيديهما ببشرته لعرقه كأنه زيت! وجهلا حاله. فأحضر المأمون سائر الأطبّاء حوله يؤمّل خلاصه (١).

ولما اشتدّ مرضه طلب ابنه العباس فأتاه مجهوداً وقد نفذت الكتب إلى البلدان وفيها : من عبد الله المأمون وأخيه أبي إسحاق (المعتصم) الخليفة من بعده. فقيل : إنّ ذلك كان بأمر المأمون وقيل : بل كتبوا ذلك عنه في غشيته (٢).

وقيل : لم يوصِ إلّابعد حضور ابنه العباس مع الفقهاء والقضاة والقوّاد والكتّاب ، ثمّ ذكر الطبري له وصيّة مفصّلة قال فيها : ليصلّ عليَّ أكبركم سنّاً من أقربكم إليّ نسباً! وليكبّر خمساً ـ كما على مذهب أهل البيت ولكن بأدعية

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٧١ ، وأصلها في تاريخ الطبري ٨ : ٦٤٧.

٢٦٧

وأذكار أُخرى! ـ ونهى عن الإعوال عليه وقال : فإنّ المعوّل عليه يعذّب! وبعدها ذكر الطبري : وحين اشتدّ به الوجع وأحسّ بمجيء أمر الله دعا أخاه المعتصم وأوصاه بوصايا خاصة ومفصّلة ومنها : «وهؤلاء بنو عمّك من ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه ، فأحسن صحبتهم ، وتجاوز عن مسيئهم ، واقبل من محسنهم ، ولا تغفل عن صِلاتهم في محلها كل سنة ، فإنّ حقوقهم تجب من وجوه شتّى» (١).

ولمّا أمسى وثقل قال : أخرجوني أُشرف على عسكري وانظر إلى رجالي وأتبيّن ملكي! فأُخرج وأُشرف به على الخيم والجيش وانتشاره وكثرته وما قد أوقدوا من نيران ، فقال : يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه ؛ ثمّ رُد إلى مرقده.

وأجلس المعتصم عنده من يلقّنه الشهادتين إذا ثقل حاله ، وعنده ابن ماسويه الطبيب ، فلمّا ثقل حاله رفع الرجل صوته ليلقّنه ، فتجرّأ ابن ماسويه وقال له : لا تصح ، فوالله إنه ما يفرّق الآن بين ربّه وبين ماني! ففتح المأمون عينيه وقد احمرّتا وأراد أن يبطش بابن ماسويه فعجز ، فجرت عبراته وانطلق لسانه فقال : يا من لا يموت ؛ ارحم من يموت! ثمّ قضى (٢).

وطرسوس كانت أقرب إلى ثغور المسلمين وكان بها دار لخاقان خادم الرشيد ، فحملوه إليها وصلّى عليه المعتصم ، ودفنوه بها ، ووكّلوا به حُرّاساً من طرسوس وغيرها مئة رجل لكل منهم تسعون درهماً في كل شهر (والدار على يسار المسجد ودُفن بسلاحه!).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٦٤٧ ـ ٦٥٠.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٥٨.

٢٦٨

وكان متوسطاً طويل اللحية قد خالطه الشيب بل أشيب ، أسمر تعلوه صفرة ، واسع العين أحنى الظهر ، ضيق الجبهة وبخده خال أسود. مات في (١٨) رجب من عام (٢١٨ ه‍) (١) وهو دون الخمسين.

وبلغ خبر مصرعه إلى الرَّقة ، فعاد المحضَرون من بغداد إليها (٢).

ابن ماسويه وبختيشوع والأطبّاء :

مرّ عن المسعودي ذكر أطبّاء المأمون ومنهم ابن ماسويه وبَخْتْيَشُوع ، والأول هو يوحنّا ابن ماسويه ، والثاني جيورجيس بن بختيشوع ، وسائر أطبائه : زكريا الطيفوري وعيسى بن الحكم وجبريل الكحّال ، كان كحّال المأمون يدخل إليه أول من يدخل كل يوم ليكحّله! فخرج يوماً من عنده فسأله بعض موالي المأمون عنه فأخبره أنّه قد أغفى! فبلغه ذلك فأحضره وقال له : يا جبرئيل! اتّخذتك كحّالاً أو عاملاً للإخبار عنّي! اخرج من داري! وكان راتبه لكل شهر ألف درهم! فقال المأمون : ليُقتصر به على إجراء مئة وخمسين درهماً في الشهر ولا يؤذن له بالدخول عليه!

وكان المأمون داخل ملوك الروم أولاً وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة ، فبعثوا إليه منها ما حضرهم ، فاستجاد لها مَهرة التراجمة وكلّفهم إحكام ترجمتها ، فتُرجمت له على غاية ما أمكن. ثمّ حرّض الناس على قراءتها ورغّبهم في تعلّمها وتعليمها. وكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظراتهم ويلتذ بمذاكراتهم!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٦٥٠.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١١ وفيه : ٢١٢ عن تاريخ المعرّي : أن قبر المأمون كان في باطن محراب جامع طرسوس فوقع المحراب على عهد الملك الرومي بسييل وكان بالبيضة والدرع والسيف فأخذ الملك سيفه وأمر بردّه إلى موضعه. وطرسوس طبعت خطأً طرطوس.

٢٦٩

ولما عزم المأمون على رصد الكواكب تقدّم إلى يحيى بن أبي منصور المنجّم وإلى جماعة منهم معه بالرصد. وإصلاح آلاته ، ففعلوا ذلك في بغداد بالشماسية وفي دمشق بجبل قاسيون!

ومن الحكماء : يوحنّا بن البطريق الترجمان مولى المأمون ، كان أمينه لترجمة الكتب الحِكمية ، حسن التأدية للمعاني الكتابية ألكن اللسان في العربية! وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطبّ.

ومن الأطبّاء : سهل بن شاپور الكوسج الأهوازي الخَوزي وفي لسانه لكنة بالخَوزية ، تقدّم في الطب في أيام المأمون قاصر العبادة وغير قاصر العلاج (١).

وبذكر الفلسفة قال السيوطي : لما كبر المأمون عُني بالفلسفة وعلوم الأوائل ومَهر فيها ، فجرّه ذلك إلى القول بخلق القرآن! وله محاسن لولا ما أتاه من محنة الناس في القول بخلق القرآن! وكان معروفاً بالتشيّع! بل إفراطه في التشيّع حمله على أن يهمّ بخلع نفسه ليفوّض الأمر إلى علي الرضا ، ويزوّجه ابنته (٢).

بداية عهد المعتصم :

تصدّى المعتصم لأخذ البيعة بعد المأمون ، وكان العباس بن المأمون حاضراً فنازع عمّه في المجلس (٣) وامتنع بعض القوّاد من البيعة لمكان العباس بن المأمون ، فأخرجه المعتصم من الخباء لهم ليكلّمهم ، فكلّمهم بكلام استحمقوه فيه فشتموه ، وبايعوا للمعتصم محمد بن الرشيد ، وأُمه أُم ولد يقال لها : ماردة (بنت شبيب) وبايعه العباس بن المأمون يوم الجمعة.

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول لابن العبري : ١٣٦ و ١٣٨.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٦٤ و ٣٦٥.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٤٥٩.

٢٧٠

وعاد المعتصم من الثغر ، فلما وصل إلى الرَّقة ولّى غسّان بن عبّاد الجزيرة وقنّسرين والعواصم ، ونفذ إلى بغداد فقدِمها لأول رمضان (٢١٨ ه‍) واستوزر الفضل بن مروان (١).

وقال المسعودي : كان قاضي المأمون أحمد بن أبي دؤاد الإيادي فأبقاه المعتصم ، ثمّ استوزر محمد بن عبد الملك بن الزيات (٢).

موسى بن شاكر وبنوه :

قال ابن العبري : كان موسى بن شاكر في حداثته حرامياً يقطع الطريق ، ثمّ تاب وعلا حتى كان يصحب المأمون وليس هو من أهل العلم. ومات وخلّف ثلاثة صغارهم محمد وأحمد والحسن ، فوصّى بهم المأمون إسحاق بن إبراهيم المصعبي ، ولما بنى المأمون في بغداد مكتبة «بيت الحكمة» وجعل عليها يحيى بن أبي منصور أثبت أبناء موسى معه في بيت الحكمة ، فخرج بنو موسى بن شاكر نهاية في علومهم :

أصبح أكبرهم وأجلّهم أبو جعفر محمد وافر الحظّ من الهندسة والنجوم ، ثمّ خدم في الدولة وصار من وجوه القوّاد ، قبل أن يتغلب الأتراك على أريكة الملك.

وكان أحمد دونه في العلم إلّا «صناعة الحيل / الميكانيكا» فإنه فُتح له فيها ما لم يُفتح مثله لأحد!

وكان الحسن منفرداً بالهندسة ، وقد علم كل ما علم بطبعه ولم يقرأ شيئاً فيها إلّا ست مقالات من «كتاب اوقليدس في أُصول الهندسة» فقط ؛ وهي أقل من نصف الكتاب! إلّاأن ذكره كان عجيباً وتخيّله قوياً.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧١.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٥٩.

٢٧١

وقد أفشى هذا عليه يوماً المروزيُّ للمأمون : أنه لم يقرأ من كتاب اوقليدس إلّاست مقالات!

فقال الحسن له : يا أمير المؤمنين ، لم يكن يضرّني أنني لم أقرأها ، ولا تنفعه هو قراءته لها ؛ إذ هو من الضعف فيها بحيث لم تغنه قراءته في أصغر مسألة من الهندسة! فإنه لا يُحسن أن يستخرجها وهو لم يكن يسألني عن شكل من أشكال المقالات التي لم أقرأها إلّااستخرجته بفكري وأتيته به!

فقال المأمون : ما أدفع قولك! ولكن كتاب أُوقليدس للهندسة كحرف أب ت ث للكلام والكتابة! فلا أُعذرك ـ ومحلّك في الهندسة محلّك ـ أن يبلغ بك الكسل أن لا تقرأه كلّه!

وفي دار محمد بن موسى تعلم ثابت بن قرّة الحرّاني الصابئي نزيل بغداد ، فوصله محمد بالمعتضد وأدخله في جملة منجّميه (١)! فسنعود إليه بعد المعتضد.

المعتصم وخلق القرآن :

كان للرشيد : عبد الله المأمون ، ومحمد الأمين ، والقاسم المؤتمن ، ومحمد المعتصم ، ولهم غلمان يلتزمونهم إلى المكتب ذهاباً وإياباً ، واتفق أن مات غلام المعتصم ، فقال له أبوه : يا محمد مات غلامك؟ قال : نعم يا سيدي واستراح من الكَتّاب! فعرف الرشيد أنه لا يستريح إلى المكتب فقال لهم : دعوه! فلم يتعلم القراءة والكتابة إلّاضعيفاً (٢).

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٥٢ ، ١٥٣.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٩٣.

٢٧٢

ومع ذلك ذكر الطبري في وصية المأمون إليه قال له : «وخذ بسيرة أخيك في القرآن! فالله عزوجل وحده لا شريك له في ملكه ، وهو خالق وما سواه مخلوق ، والقرآن لا يخلو أن يكون شيئاً له مثل ولا شيء مثله تبارك وتعالى» (١).

ولهذا فقد أحضر المعتصم أحمد بن حنبل وامتحنه في القول بخلق القرآن ، فقال أحمد : أنا رجل عُلّمت علماً ولم أعلم فيه بهذا! فأحضر له الفقهاء ومنهم عبد الرحمن بن إسحاق ، وناظره هذا فامتنع أن يقول بخلقه! فتقدم إسحاق بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) والي بغداد إلى المعتصم وقال له : يا أمير المؤمنين ولّني مناظرته! فقال له : شأنك به. فقال له إسحاق : هذا العلم الذي عُلّمته نزل به عليك ملَك ، أو عُلّمته من الرجال؟ قال : بل علمته من الرجال. قال : شيئاً فشيئاً أو جملة؟! قال : علمته شيئاً بعد شيء. قال : فبقي عليك شيء لم تعلمه؟ قال : نعم. قال : فهذا مما لم تعلمه وقد علّمكه أمير المؤمنين! قال : فإني أقول بقول أمير المؤمنين! قال : في خلق القرآن؟ قال : نعم حتى في خلق القرآن! فأشهد عليه ثمّ أطلقه إلى منزله بعد أن ضُرب أسواطاً ثمّ خُلع عليه. ذلك ما قاله اليعقوبي (٢). وقال المسعودي : ضربه نحو أربعين سوطاً ليقول بخلق القرآن.

وبالغ ابن الوردي فقال : فجلده المعتصم حتى غاب عقله وتقطّع جلده ، ثمّ قيده وحبسه (٣)!

__________________

(١) تارو الطقي ٨ : ٦٤٧ و ٦٤٨.

(٢) تارو اليعقوض ٢ : ٤٧٢.

(٣) تارو ابن الوردي ١ : ٢١٢.

٢٧٣

وقاله ابن العبري وزاد : كان أبو هارون ابن البكّاء من العلماء يقرّ بكون القرآن مجعولاً لقول الله : (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً (١)) ويسلّم أن كل مجعول مخلوق ويقول : لا أقول مخلوق ولكنّه مجعول! وهذا عجب عجاب (٢).

وقال السيوطي : سلك المعتصم ما ختم المأمون به عمره من امتحان الناس بخلق القرآن ، فضرب عليه أحمد بن حنبل ، بل قتل عليه خلقاً من العلماء! وقاسى الناس منه مشقة في ذلك ، وكتب إلى البلاد بذلك وأمر المعلمين أن يعلّموه الصبيان (٣).

رسالته عليه‌السلام إلى والي سيستان :

أسند الكليني عن رجل تميمي حنفي من أهل بُست في سجستان : أن واليهم كان الحسين بن عبد الله النيسابوري وكان رجلاً يتولّى أهل البيت ويحبّهم ، وله عليّ في ديوانه خَراج ، فحججت ، وحجّ أبو جعفر عليه‌السلام فرافقته ، وجلست يوماً على مائدته وهناك جماعة من أولياء السلطان ، فقلت لأبي جعفر : إنّ والينا ـ جعلت فداك ـ رجل يتولّاكم أهل البيت ويحبّكم ، وله علي في ديوانه خراج ، فإن رأيت ـ جعلني الله فداك ـ أن تكتب إليه بالإحسان إليّ! فقال لي : لا أعرفه. فقلت : جعلت فداك ، إنه على ما قلت من محبّيكم أهل البيت ، وكتابك ينفعني عنده.

فأخذ القرطاس وكتب : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، أما بعد ، فإنّ موصل كتابي هذا ذكر عنك مذهباً جميلاً ، وإن مالك من عملك ما أحسنت فيه ، فأحسن الى اخوانك واعلم ان الله عزوجل سائلك عن مثاقيل الذر والردخل

__________________

(١) الزخرف : ٣.

(٢) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٣٩.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٩٥.

٢٧٤

وعلم بذلك رفقتي فسبقني الخبر إلى الوالي فاستقبلني على فرسخين من المدينة ، فدفعت إليه الكتاب فقبّله ووضعه على عينيه وقال لي : ما حاجتك؟ فقلت : خراج عليّ في ديوانك! قال : فأمر بطرحه عنّي وقال لي : لا تؤدّ خراجاً مادام لي عمل! ثمّ سألني عن عيالي فأخبرته بمبلغهم فأمر لي ولهم بما يقوتنا وفضلاً. فما أديت في عمله خراجاً ما دام حياً ولا قطع عني صلته حتى مات (١).

ثورة محمد بن القاسم العلوي الزيدي :

أبو جعفر محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي عليهم‌السلام ، العلوي الزيدي الجارودي (٢) وكان متديناً متفقّهاً. أسند الأُموي الزيدي عن إبراهيم بن عبد الله العطار الكوفي الزيدي قال :

كان محمد بن القاسم قد خرج إلى ناحية الرَّقة وناحية الروز ومعه جماعة من وجوه الزيدية منهم عبّاد بن يعقوب الرواجني ويحيى بن الحسن بن الفرات ، فسمعوه يتكلّم بشيء من مذهب المعتزلة فتفرقوا عنه جميعاً.

وبقينا نحن معه من الكوفيين بضعة عشر رجلاً ، فخرجنا إلى مرو ، وأنزلناه في رستاق من رساتيق مرو وأهله شيعة كلهم ، فأَحلّوه في قلعة في جبلٍ حريز ، وتفرّقنا في الناس ندعوهم إليه ، فلم نلبث إلّايسيراً حتى استجاب له أربعون ألفاً! أخذنا عليهم البيعة.

__________________

(١) فروع الكافي ٥ : ١١١ ، الحديث ٦.

(٢) نسبة إلى أبي الجارود زياد بن المنذر العبدي من أتباع زيد ، ولكنه كان يقول بكفر الصحابة بتركهم بيعة علي عليه‌السلام مع أنه كان يقول بإمامته بالوصف من الرسول دون الاسم. انظر فرق الشيعة ، والمقالات والفرق.

٢٧٥

فلما اجتمع أمره وعدهم لليلة بعينها فاجتمعوا إليه ونزل من القلعة إليهم .. وسمع أحدهم يقول : إنما خرجنا معكم لنكتسب وننتفع ونأخذ ما نحتاج إليه! فقال : يا إبراهيم أبمثل هذا ينتصر دين الله؟! ثمّ قال لنا : فرّقوا الناس عنّي حتى أرى رأيي! فخرجنا إلى الناس وقلنا لهم ذلك ، فتفرقوا.

ورحل محمد بن القاسم من وقته إلى الطالقان أربعين فرسخاً! فنزلها وتفرقنا ندعو الناس إليه ، فاجتمع عليه عالم منهم ، على أنه إذا ظفر بهم اختار من يرضاه من جنده ، فأتم عزمه وخرج في الناس.

وبلغ خبره إلى عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) والي خراسان ، فوجّه إليه صاحب شرطته الحسين بن نوح ، فلقيناه وقاتلناه فهزمناه. فجرّد عبد الله قائداً آخر يقال له نوح بن جان ، فلقيناه فهزمناه ، فأمده عبد الله بجيش ضخم ، فأكمن لنا كمناء في عدة مواضع ، فلما التقينا قاتلنا ساعة ثمّ انهزم فرّاً ليكر ، فاتبعه أصحابنا وخرجت الكمناء عليهم من كل وجه فانهزمنا.

وأفلت محمد بن القاسم إلى بلدة نسأ من خراسان متستّراً. وبلغ خبره إلى عبد الله بن طاهر فأعدّ ألف فارس من نخبة عسكره مع مئة ألف درهم ، ودعا إبراهيم بن غسّان العودي وأمّره عليهم وجعل معه دليلاً يدلّه ، وأعدّ له كتاباً لا يقرأه حتى يصير على فرسخ من نسأ ، وجعل عليه عيناً. فلما قرأ الكتاب إذا فيه : عبّئ أصحابك ، ثمّ أنفذ قائداً من قوّادك في خمسمئة فارس إلى باب عاملها تحرّزاً من وقوع حيلة ، وأنفذ قائداً في ثلاثمئة يحدق هو وأصحابه بدار صاحب البريد كذلك تحرّزاً ، وسر في باقي أصحابك (ثلاثمئة) إلى محلّة كذا ودرب كذا ودار فلان وغرفة فلان وفيها محمد بن القاسم ومعه رجل من أصحابه يقال له أبو تراب فأوثِقهما بالحديد وأنفِذهما مع رُسلك يصيرون إليَّ في اليوم الثالث!

٢٧٦

قال إبراهيم العودي فصرت إليه وهو قد أعدّ بغلاً يريد الرحيل إلى خوارزم فقبضت عليه وأرسلته ، وسرت إلى نيسابور في ستة أيام ، فأقامه في نيسابور ثلاثة أشهر يعمّي خبره على الناس كي لا يُغلب عليه لكثرة من بايعه من كور خراسان ، وكان عبد الله يخرج من اصطبله بغالاً عليها القباب ليوهم الناس أنه قد أخرجه ، ثمّ يردها. حتى أخرجه في جوف الليل مع إبراهيم بن غسّان إلى الريّ ، وأمره أن يخرج في كل ثلاث ليال ومعه بغل عليه قبة ومعه جيش حتى يجوز الريّ بفراسخ ثمّ يعود ، إلى أن يمكنه سلّه في ليلة مظلمة ، خوفاً من أن يُغلب عليه لكثرة من أجابه حتى أخرجه من الريّ ولم يعلم به أحد.

حتى إذا وردنا النهروان فكتبنا إلى المعتصم بالخبر واستأذناه للدخول ، فورد علينا كتابه يأمرنا أن نأخذ جلال القبة ونسير به مكشوفاً! فإذا وردنا النهرين أن نأخذ عمامته وندخله بغداد حاسراً! ودخلنا الشماسية في يوم النيروز من سنة (٢١٩ ه‍) وقد أعدّوا له أصحاب السماجة والفرغانيين يلعبون بين يديه ويرقصون ، ومحمد العلوي يبكي ويقول : اللهمّ إنك تعلم أني لم أزل حريصاً على تغيير هذا وإنكاره! ويسبّح ويستغفر الله ويدعو عليهم ، والمعتصم في جوسق له بالشماسية ينظر إلى ذلك.

ثمّ أمر بدفعه إلى مسرور الخادم فحبسه في سرداب شبيه بالبئر كاد أن يموت فيه! ثمّ أخرجوه إلى قبة في بستان موسى مع المعتصم في قصره وعليه عدّة من الغلمان.

وصارت ليلة الفطر من تلك السنة (٢١٩ ه‍) وقد أُدخلت الرياحين والفواكه ووسائل العيد على رؤوس الحمّالين إلى البستان ، وطاف الحمالون إلى قبة محمد بن القاسم العلوي فباتوا حولها ، وكان للقبة روزن فرمى بنفسه من القبة إلى أسفل ونام بين الحمالين ، فلما طلع الفجر خرج معهم وأفلت فلم يجدوه!

٢٧٧

وهرب هو إلى قطيعة الربيع بن يونس الحاجب ، إلى منزل منير بن موسى ثمّ إبراهيم بن قيس ، فأشاروا عليه أن يهرب إلى واسط ، فلما صار إليها عبر دجلة إلى الجانب الغربي إلى دار عمّه الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين عليهم‌السلام فأقام عندهم (١).

وكانت العامة تلقّبه بالصوفي لإدمانه لبس الصوف الأبيض (٢) وكان رَبعة أسمر في جبهته أثر السجود وفي وجهه أثر الجُدَري (٣).

والطبري برّأه من الدعوة إلى نفسه بل قال : يدعو إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فاجتمع له بها ناس كثير! وأنهم قدموا به على المعتصم في منتصف ربيع الثاني إلى ليلة عيد الفطر عام (٢١٩ ه‍) ، وجعلوا لمن دلّ عليه مئة ألف درهم ونادوا بذلك فلم يعرف له خبر (٤).

والمسعودي قال : كان من الزهد والعبادة والورع في نهاية الوصف وإنما أخافه المعتصم فخرج!

وانقاد إلى إمامته خلق كثير من الناس! وقد انقاد إلى إمامته خلق كثير من الزيدية ، وكثير منهم يزعمون أنّه لم يمت بل هو حي يرزق ، وأنه هو الذي يخرج فيملأُها عدلاً كما ملئت جوراً فهو مهدي هذه الأُمة! وأكثرهم بالكوفة والديلم وخراسان (٥).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٨٢ ـ ٣٩٢ وتمامه : حتى مات ، وقيل : بل بقي حتى أُخذ في عهد المتوكل فمات في حبسه مسموماً.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٨٢.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٣٩١.

(٤) تاريخ الطبري ٩ : ٧.

(٥) مروج الذهب ٣ : ٤٦٤ ـ ٤٦٥.

٢٧٨

خروج المحمّرة أو الخرّمية :

قال اليعقوبي : وخرجت «المحمّرة» بالجبال (همدان ـ إصفهان) وعرضوا لحُجّاج خراسان وقطعوا الطريق وقتلوا منهم جماعة وأخافوا السبيل. فوجّه المعتصم إليهم القائد هاشم بن باتيجور فواقعهم وانهزم! فوجّه المعتصم إليهم إسحاق بن إبراهيم الخزاعي (مولاهم) والي بغداد وأمير الشرطة بها ، فاستخلف على الشرطة أخاه طاهراً ، ونفذ فواقعهم فقتل منهم مقتلة عظيمة حتى أصلح البلاد (١).

وعبّر الطبري قال : في سنة (٢١٩ ه‍) ذُكر أن جماعة كثيرة من أهالي الجبال من ماسبدان (إيلام) وهمدان وإصفهان قد دخلوا في دين «الخرّمية» وتجمّعوا فعسكروا في همدان. فوجّه المعتصم إليهم عساكر ، وكان آخر عسكر مع إسحاق بن إبراهيم بن مصعب الخزاعي (مولاهم) فشخص إليهم في ذي القعدة وجاء كتابه بالفتح في يوم التروية بأنّه قتل منهم ستين ألفاً وهرب الباقون إلى الروم! وكان يوم الجمعة في بغداد يوم عرفة والسبت الأضحى ، وضحّى أهل مكة يوم الجمعة (٢).

ثورة الزُطّ بالبطائح :

كان الزُطّ قوماً من الهنود العاملين في السفن الهندية التي كانت ترسو في البصرة ، حتى كانت البصرة لذلك تسمى : ثغر الهند! وقد مرّ خبر عن جمع منهم غالوا في علي عليه‌السلام بعد فتحه البصرة في حرب الجمل ، فخنقهم الإمام بالدخان ولم

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٧١.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٦٦٨. وفي ٩ : ٨ : قتل منهم نحو مئة ألف! وأسر نساءهم وسبى صبيانهم وحملهم إلى بغداد. ومختصره في مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٣٨ ـ ١٣٩.

٢٧٩

يتوبوا! واليوم قد تكاثروا حتى عُدّوا نحواً من ثلاثين ألفاً في بطائح البصرة ، منهم اثنا عشر ألفاً لما بلغهم موت المأمون ـ ولعلّه بعد إدخال محمد بن القاسم العلوي الزيدي أسيراً مُهاناً إلى بغداد ـ حملوا السلاح واحتملوا الغلّات من البيادر في كَسكر وما يليها من البصرة وقطعوا الطريق وأخافوا السبيل. ورئيسهم محمد بن عثمان وصاحب حربه يُدعى سملق!

فوجّه المعتصم لحربه قائده عُجيف بن عنبسة في عشرة آلاف ، فوجّه عُجيف هارون بن نعيم الخراساني في خمسة آلاف إلى الصافية ، ومضى هو في خمسة آلاف إلى بُرودا فأقام عليه حتى سد نهره إلى الزُطّ وسدّ أنهاراً أُخرى إليهم فحصرهم من كل وجه. ثمّ حاربهم فقتل منهم ثلاثمئة وأسر خمسمئة ، وقتل أسراهم فكانوا ثمانمئة ، وقاتلهم تسعة أشهر ، حتى طلبوا منه الأمان ، فآمنهم فخرجوا إليه في ذي الحجة (٢١٩ ه‍) وعدتهم سبعة وعشرين ألفاً ، فجعلهم في السفن! إلى الزعفرانية ببغداد في ثلاثة أيام.

ثمّ دفعوهم إلى بشر بن السميدع فذهب بهم إلى خانقين! ثمّ نقلوا إلى عين زربة بثغر الروم ، فأغار الروم عليهم فاجتاحوهم ولم يفلت أحد منهم (١)!

وفاة ابن دُكين :

قال المسعودي : في سنة (٢١٩ ه‍) مات أبو نُعيم الفضل بن دُكين التيمي مولى آل طلحة بن عبيد الله ، بالكوفة (٢) في شعبان (٣) من مشايخ إسماعيل البخاري ومسلم النيشابوري ، وكان شيعياً (٤)!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٩ : ٨ ـ ١٠ ، وفي اليعقوبي ٢ : ٤٧٢.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٦٤.

(٣) تاريخ خليفة : ٣١٦.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٢ كتشيع المأمون لا أكثر!

٢٨٠