موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

وهنا أشار المسعودي إلى ما سبق في سنة (٢٣٦ ه‍) من أمر المتوكل لقائده الديزج بهدم قبر الحسين عليه‌السلام فقال : كان آل أبي طالب وغيرهم من شيعتهم منذ سنة (٢٣٦ ه‍) في محنة عظيمة وخوف على دمائهم ، وقد مُنعوا من زيارة الغريّ من أرض الكوفة وقبر الحسين ومن حضور هذه المشاهد .. ولم تزل الأُمور على ما ذكرنا إلى أن استخلف المنتصر فأمن الناس. وتقدم بالكفّ عن آل أبي طالب وترك البحث (المباحث) عن أخبارهم ، وأن لا يمنع أحد من زيارة حاير قبر الحسين «رضي الله تعالى عنه» ولا سائر قبور آل أبي طالب.

وأمر بردّ «فدك» إلى ولد الحسن والحسين ، وأطلق أوقاف آل أبي طالب! وترك التعرض لشيعتهم ودفع الأذى عنهم.

وكان يزيد بن محمد المهلّبي الشاعر من شيعة آل أبي طالب ، فقال في ما امتحن به الشيعة في ذلك الوقت وما اغريت العامة بهم ؛ يخاطب المنتصر :

ولقد بررت الطالبية بعد ما

ذُمّوا زماناً بعدها وزمانا

ورددت أُلفة هاشم ، فرأيتهم

بعد العداوة بينهم : إخوانا

ءانستَ ليلهمُ وجُدت عليهمُ

حتى نسوا الأحقاد والأضغانا

لو يعلم الأسلاف كيف بررتهم

لرأوك أثقل من بها ميزانا!

وفي سنة (٢٣٨ ه‍) خلع المنتصر بالله أخويه المعتز والمؤيد من ولاية العهد بعده (١).

وقال الأُموي الزيدي : كان المنتصر يظهر الميل إلى «أهل البيت» ويخالف أباه في أفعاله ، فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه (٢) بل عطف

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٤١ ، ٥٢.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤١٩.

٤٠١

المنتصر عليهم وأحسن إليهم ، ووجّه بمال فرَّقه فيهم. وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادَّة مذهبه طعناً عليه ونصرة لفعله (١).

وكان قد خرج بناحية الموصل من ربيعة وغيرهم من الأكراد أبو العمود الشاري الخارجي. فسرّح إليه المنتصر جيشاً مع سيما التركي ، فكانت له معه حروب حتى أسر سيما الشاري وأتى به إلى المنتصر فأخذ عليه العهد وخلّى سبيله.

وأظهر الانصاف في الرعية فمالت إليه قلوب الخاصة والعامة ، مع الهيبة له (٢).

وقال ابن العبري : في سنة (٢٤٨ ه‍) جدّ وصيف وبُغا وسائر الأتراك في خلع المعتزّ والمؤيد وألحّوا به على المنتصر وقالوا : نخلعهما ونبايع لابنك عبدالوهاب! فلم يزالوا به حتّى أجابهم وخلعهما. ثمّ دعاهما بمحضر الموالي والأتراك وقال لهما : أترياني أني خلعتكما طمعاً في أن أعيش حتى يكبر وَلدي وأُبايع له؟! والله ما طمعت في ذلك ساعة قط! ولكن هؤلاء ألحّوا عليَّ بخلعكما (٣).

وقال ابن الوردي : أمر بزيارة قبر الحسين وآمن العلويين ، وكان عاقلاً منصفاً قصيراً عظيم اللحم مهيباً أعيَن أقنى الأنف (٤).

وقال السيوطي : كان مليح الوجه أسمر ربعة جسيماً بطيناً ، وافر العقل راغباً في الخير قليل الظلم ، محسناً إلى العلويين وصولاً لهم ، أزال عنهم ما كانوافيه من المحنة والخوف والمنع من زيارة قبر الحسين ، وردّ عليهم «فدك» (٥).

__________________

(١) المصدر السابق : ٣٩٦.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٥٣ و ٥٤.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٤٦ فلعلّه لذا حّوه فقتلوه.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢١.

(٥) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤١٧ ، ٤١٨.

٤٠٢

وفي علّة وفاته أجمل فقال : لمّا علم الموالي أنّه على التدبير عليهم بادروه فسمّوه فيما قيل (١).

وفصّل فقال : أخرج وصيف الحاجب في جند كثير في غزاة الصائفة إلى طرسوس في ثغر الروم.

وكان يوماً عنده الفضل بن المأمون إذ دخل عليه بُغا الصغير وحوله جمع من الأتراك ، فأقبل المنتصر على الفضل وقال له : قتلني الله إن لم أقتلهم وافرّق جمعهم بقتلهم المتوكل على الله! فلمّا فهموا ما عزم عليه تحيّنوا منه الفرصة. وشكا ذات يوم حرارة فأراد الحجامة فسمّه الطبيب ابن طيفور أو الطيفوري في مِشراط الحجامة أو مبضع الفصد ، أو شربة دواء بعده فحلّت قواه فحُمّ حتى مات.

وقيل (ستراً) : أنه كان يلعب بالصولجان (چوگان) فانصرف من الميدان وهو عرق ، فاستحمّ ونام في مهبّ الريح فضربه الهواء فحمّ في (٢٥ ربيع الأول) وطال عشراً حتى مات في (٥ ربيع الثاني) ، وصلّى عليه ابن عمّه أحمد بن محمد المستعين ، وكان خلفاء بني العباس يُخفون قبورهم فأصرّت أُمه على إظهاره فكان أوّلهم في ظهور قبره (٢)!

أمّا ابن العبري النصراني فعبَر اتهام الطبيب الطيفوري النصراني بشيء في أمر المنتصر بل قال : مات بالذبحة خلال ثلاثة أيام (٣) وكذا أورده ابن الوردي (٤) وعبّر عنها السيوطي بالخوانيق! قال : وقيل : بل سُمّ في كُمّثراة ، وقيل : اتّهم

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣١٤.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٥٠.

(٣) مختصر تاريخ الدول : ١٤٦.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢١.

٤٠٣

الأتراك بقتل أبيه فدسّوا إلى الطبيب ابن طيفور ثلاثين ألف دينار لذلك ، ففصده أو غلامُه بريشة مسمومة فمات (١).

خلافة أحمد المستعين :

قال اليعقوبي : لما توفي المنتصر استوحش الأتراك وخشوا من ولد المتوكل (أُخوة المنتصر) فأشار عليهم أحمد بن الخصيب (الجرجاني) أن يبايعوا أحمد بن محمد ابن المعتصم فبايعوه (وقدّموه للصلاة على المنتصر) ولذا غلب على أمره اوتامش التركي وكاتبه شجاع بن القاسم ، واستوزروا أحمد بن الخصيب. وذلك يوم وفاة المنتصر (٥ ربيع الآخر) سنة (٢٤٨ ه‍) (٢).

وأُمه أُم ولد صقلبية (من زاگرب) تدعى مخارق (٣) فكان ألثغ وأبيض وبوجهه أثر جدري (٤).

وفي هذه السنة (٢٤٨ ه‍) استضعف بنو ربيعة بديارهم الخلافة فخرجوا مع أبي العمود الشاري. فوجّه المستعين إليه بجيش مع بلكاجور الفرغاني ، فقاتله فقتله وفرّق جمعه بديار ربيعة.

ومات بخراسان في هذه السنة (٢٤٨ ه‍) في رجب طاهر بن عبد الله الخزاعي (مولاهم) وكان قد أوصى إلى ابنه محمد فكتب المستعين إليه بولايته على خراسان وهو حدث السن ، فتحرك خوارج خراسان وكثروا حتى كادوا أن يغلبوا على سجستان ، فتقدم يعقوب بن الليث الصفار من أهل البأس والنجدة إلى

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤١٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٣ : ٤٩٤.

(٣) مروج الذهب ٤ : ٦٠.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤١٩ وقال : أحمد بن المعتصم.

٤٠٤

محمد بن طاهر أن يأذن له بجمع المطوّعة لقتال الخوارج ، فأذن له ، فسار إلى سجستان حتى نفاهم منها ، ثمّ زحف خلفهم إلى كرمان حتّى نقّى البلاد منهم ، فكتب المستعين إلى محمد أن يوليه كرمان ، فأقام بها وحسن أثره في البلاد (١) ثمّ تحرك من سجستان نحو هراة (٢).

وبالأُردن قام القطامي وكثف جمعه فجبى الخراج ، فأنفذ إليه صاحب فلسطين (؟) جيشاً بعد جيش فكسرهم ، حتّى توجّه إليه الأتراك مع مزاحم بن خاقان ففرّق جمعهم ونفاهم من الأُردن.

وكان على حمص كيدر بن عبد الله الأشروسني فاستقبح أهل حمص معاملته إياهم فخرجوا عليه وقتلوا من جنده جماعة وصلبوهم ، فولّى المستعين عليهم الفضل بن قارن الطبري فتلقوه بالقبول فدخل المدينة وسكن البلد وأقام أياماً ثمّ بلغه عن جمع منهم عزم الوثوب عليه فأخذهم وقتلهم.

وبعد أربعة أشهر من ولاية المستعين تحامل الأتراك على أحمد بن الخصيب (الجرجاني) وسخط عليه المستعين فنفاه إلى المغرب! فحُمل على الماء إلى البحر إلى أقريطش (؟) ثمّ حُمل في البرّ إلى القيروان (٣).

أحمد بن الخصيب والهادي عليه‌السلام :

وهنا لنا لدى الكليني خبر يظهر منه كأنه بعد قتل المتوكل ووزارة ابن الخصيب كان يرى أنّ الذي استقدم الهادي عليه‌السلام إلى سامراء وأسكنه في محلة

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٥.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٤ و ٤٩٥ كان ذلك في جمادى الآخرة سنة (٢٤٨ ه‍) ومات بها سنة (٢٦٥ ه‍).

٤٠٥

العسكر بها ، إنما هو المتوكل وقد قُتل ، فكان يطلب منه عليه‌السلام الدار ويلحّ عليه فيها ، فبعث إليه العسكري عليه‌السلام : لأقعدنّ بك من الله عزوجل مقعداً لا يُبقي لك باقية! فاخذ في تلك الأيام (١)!

أخرجه الكليني عن أحمد بن محمد (؟) عن أبي يعقوب (؟) وعنه قبله خبراً آخر يظهر منه أنّ ابن الخصيب كان يتظاهر باحترام الإمام وإكرامه ، قال أبو يعقوب : رأيت ابن الخصيب مع أبي الحسن الهادي عليه‌السلام قال له ابن الخصيب : سِر جعلت فداك! يريد تقديمه أمامه ، فقال له أبو الحسن : بل أنت المقدّم! فما لبث إلّا أربعة أيام حتى وُضعت سيقان ابن الخصيب في خشبة الدهق (للتعذيب) ثمّ نُفى (٢) في جمادى الآخرة سنة (٢٤٨ ه‍).

وجواب الهادي عليه‌السلام على مطالبة ابن الخصيب بداره للدولة وإباء الإمام عليه ، يذكّرنا بما أرسله الحلبي عن الفحام عن المنصوري عن عمه عن أبيه أبي موسى : أنّ الإمام عليه‌السلام قال له يوماً : يا أبا موسى : إني اخرجت إلى سرّ من رأى كُرهاً ، (ولكني) لو اخرجت عنها (اليوم) اخرجت كُرهاً! قال : قلت : ولِمَ يا سيدي؟ فقال : لطيب هوائها وعذوبة مائها وقلة دائها (٣) ولعلّه عليه‌السلام قالها بعد قتل المتوكل لا سيّما في عهد المنتصر وانتصاره للعلويين فأعلمهم بهذا أنه وإن كان

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٠١ ، ذيل الحديث ٦ وكأن الخبر كان : اخذ ، ووهم الراوي فقال : أخذه الله.

(٢) المصدر السابق ، صدر الحديث. وكان لفظ الخبر : نُفي فصحّف إلى نُعي فنقله المفيد بالمعنى فقال : قتل! الإرشاد ٢ : ٣٠٦ وانظر تعليق المحقق ، ولا يصح قتل ولا نُعي حينئذ فإنه مات سنة (٢٦٥ ه‍).

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٤٩ وتمامه : ثمّ قال : تخرب سامراء حتى يكون فيها خان وقفاً للمارة ، وعلامة خرابها تدارك العمارة لمشهدي من بعدي!

٤٠٦

اخرج من مدينة جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى سامراء كرهاً ، ولكنه إلّاأن يُخرج منها اليوم كرهاً وإلّا فهو لا يكره إدامة إقامته بها ، ولعلّه عليه‌السلام كان يكره الكرّة إلى المدينة لما سيأتي قريباً من الحوادث بها ، فتركوه ويتأكّد هذا لما نجد في خبر آخر أنّ أبا موسى هذا من زملاء الخلفاء وإن كان من ملازمي الإمام عليه‌السلام (١).

حوادث سنة (٢٤٩ ه‍):

قال اليعقوبي : في أول سنة (٢٤٩ ه‍) نفى المستعين عُبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى مكة ، ثمّ نفاه منها إلى برقة.

وفي شهر ربيع الآخر تأخرت أرزاق عصبة من الجند الأتراك والموالي فخرجوا إلى الكرخ واتهموا اوتامش التركي قالوا : أخذ أرزاقنا وأزال مراتبنا ، فخرج إليهم اوتامش مع كاتبه شجاع بن القاسم ليسكّنهم ، وكان المستعين موافقاً لإزالته ، فقتلوهما ، فأعلن المستعين موافقته بذلك وكتب إلى الآفاق بلعنه!

وفي صيف هذه السنة (٢٤٩ ه‍) في شهر رجب وجّه المستعين جعفر الخياط بجيش لغزو الصائفة إلى الروم ، فمرّ بملطية وعليها عمر بن عبد الله الأقطع وكان في ثمانية آلاف ، وتوغّل عمر في الروم فأحاطوا به فما عاد أحمد منهم! بل أغارت الروم حتّى توسطت بلاد المسلمين.

وكان على حمص الفضل بن قارن الطبري وكان قد جدّد قصر خالد بن يزيد بن معاوية ، فوثب أهل حمص عليه في هذه السنة (٢٤٩ ه‍) بقيادة غطيف الكلبي ومعه أحياء كلب فتحصّن الفضل في قصر خالد فحاصروه ، فأسلمه من كان معه حتى أخذوه وذبحوه وصلبوه! فوجّه المستعين إليهم موسى بن بغا الكبير في

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٤٢.

٤٠٧

ستة آلاف من الموالي ، فحاربه أهل حمص بقيادة دابر العفّار حتى هُزموا ودخل موسى حمص فأباحها ثلاثة أيام ، فانتهبوا أموال التجار وانتُهبت حمص واحرقت المنازل!

وكانت فارس مضمومة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) بخراسان ، وكان عامله على فارس الحسين بن خالد ، وتأخرت أرزاق جندها ، وحمل العامل مالاً ، فوثب الجند على المال فأخذوا أرزاقهم منه بقيادة علي بن الحسين البخاري. فلمّا بلغ الخبر إلى ابن طاهر بخراسان ولّى عبد الله بن إسحاق الخزاعي عليهم من بغداد ، فشخص إليها في عُدّة وعدد ، فلمّا قدمها أطاعه الجند ، ثمّ ساءت سيرته فيهم ومنعهم أرزاقهم ، فكاتبهم علي بن الحسين البخاري فوافقوه فرجع إليهم البخاري فأخرجوا ابن إسحاق الخزاعي من منزله وانتهبوا أمواله ومتاعه ، وانصرف هو إلى بغداد ، فولّوا عليهم علي بن الحسين البخاري. فوجّه إليهم محمد بن عبد الله : نصر بن حمزة الخزاعي (مولاهم) فانحاز البخاري إلى ناحية من كور فارس (١).

قيام يحيى الطالبي بالكوفة :

قال اليعقوبي : إنّ يحيى بن عمر بن أبي الحسين بن زيد بن علي عليه‌السلام كان قد أتى إلى سامراء وتقدم إلى بعض الولاة في حاجته فلم يقضها له ، فعاد إلى الكوفة ، وجمع الناس ووثب بهم إلى الحبس فاطلق من كان فيه ، ثمّ أخرج بهم عامل الكوفة ، فكثر أتباعه وقوي أمره.

فوجّه محمد بن عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) بقرابته الحسين بن

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٥ ـ ٤٩٨.

٤٠٨

إسماعيل الخزاعي (مولاهم) ووجّه المستعين بقائد تركي يدعى كلكاتكين. وخرج يحيى بن عمر بجمع كثير وخلق عظيم إلى قرية شاهي بين الكوفة وبغداد ، في منتصف شهر رجب سنة (٢٤٩ ه‍) فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى انهزم أصحاب يحيى وقتل هو في المعركة ، وحمل رأسه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر الخزاعي في ترس بين يديه ، ودخل عليه الناس يهنئونه (١).

واختلف المسعودي في نسبه فقال : هو يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر الطيار (فهو طالبي جعفري لا زيدي) وقال : كان ظهوره لذلّ وجفوة ومحنة لحقته من المتوكل أو مواليه الأتراك بعده ، واستفتح أمره بإظهار العدل والانصاف والورع عن أموال الناس والكفّ عن الدماء! فكانت في نفوس الناس محبة له ، وقاتله محمد بن عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) فقُتل وحُمل رأسه إليه إلى بغداد ، فضجّ الناس من ذلك لحبّهم له.

وكان يحيى ديّناً كثير التعطّف والمعروف على عموم الناس ، وبارّاً بخواصهم واصلاً لأهل بيته مؤثراً لهم على نفسه ، مثقل الظهر بالطالبيّات لبرّهن والتحنّن عليهن ، لا عُرفت له خزية ولا ظهرت منه زلة ، ولذا لما قُتل جزعت عليه النفوس كثيراً الدني والمليّ ، وحزن عليه الصغير والكبير ورثاه البعيد والقريب ومن قرباه علي بن محمد بن جعفر العلوي الشاعر الشهير بالحِمّاني لنزوله فيهم وكان نقيبهم بالكوفة وشاعرهم ومدرّسهم ولسانهم ، ولم يكن أحد بالكوفة من آل علي عليه‌السلام يتقدمه في ذلك الوقت.

كان على الجيش الذي أرسله محمد بن عبد الله بن طاهر لحرب يحيى بن عمر الجعفري : الحسين بن إسماعيل الخزاعي (مولاهم) فلمّا قتل يحيى ودخل

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٧.

٤٠٩

الكوفة لم يتخلّف عن سلامه وتهنئته أحد حتى من الهاشميين آل علي عليه‌السلام إلّا علي بن محمد العلوي الحِمّاني فإنه قعد عن سلامه ولم يمضِ إليه! فتفقّده الحسين بن إسماعيل وسأل عنه وبعث جماعة فأحضروه ، فأنكر الحسين عليه تخلّفه عن سلامه! فقال له : أردت أن آتيك مهنئاً بالفتح وداعياً بالظفر؟! ثمّ أنشد شعراً :

قتلت أعزّ من ركب المطايا

وجئتك استلينُك في الكلام؟!

وعزّ عليَّ أن ألقاك إلّا

وفيما بيننا حدّ الحسام!

فقال له الحسين بن إسماعيل : أنت موتور ، فلست أنكر عليك ما كان منك! بل خلع عليه وحمله إلى منزله!

وفي بغداد دخل الناس إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يهنئونه بالفتح ، وكان في بغداد من الجعفريين الطالبيين أبو هاشم الجعفري داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر الطيار ، وكان ذا علم وزهد ونسك وورع ، صحيح العقل سليم الحواس ، فدخل أبو هاشم مع الناس على ابن طاهر فقال له : أيها الأمير! إنك لتُهنّأ بقتل رجل لو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيّاً لعُزّي به! فتحمّله محمد بن طاهر ولم يجبه ، فخرج أبو هاشم وهو يقول شعراً :

يا بني طاهرٍ كلوه وبيّاً

إنّ لحم النبيّ غير مريٍ

إن وتراً يكون طالبه الل

ه لوتر بالفوت غير حريّ

فلمّا رأى طاهر ذلك وما عليه الناس أمر بإنزال الرأس (١).

لكن الأُموي الزيدي مع زيدية يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي عليه‌السلام كما مرّ عن اليعقوبي ، ويؤيّده ما مرّ آنفاً في شعر أبي هاشم الجعفري «إنّ لحم النبيّ غير مريٍّ» فإنّ لحم الطالبي الجعفري ليس من «لحم النبيّ» ولعلّ

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٦٣ ـ ٦٦.

٤١٠

المسعودي قاسه على جعفرية أبي هاشم الجعفري ولم يتنبّه لدلالة شعره ، نعم أُمه هي أُم الحسن بنت عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر الطيار ، والمسعودي جعله من جعفريَّين!

وقال : حبسه المتوكل في دار الفتح بن خاقان مدة ثمّ أطلق ، فعاد إلى بغداد فلم يزل بها مدة ، ثمّ خرج إلى الكوفة فدعا إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا أراد الخروج خرج إلى قبر الحسين عليه‌السلام وأظهر دعوته لمن حضر من زوّاره ، فاجتمع إليه جمع من الأعراب ، فدخل بهم ليلاً إلى الكوفة وهم ينادون : أيها الناس! أجيبوا داعي الله! حتى اجتمع إليه خلق كثير ، فلمّا أصبح وجّه إلى الصرّافين الذين عندهم أموال السلطان فأخذها منهم ثمّ استولى على بيت مال الكوفة.

وكان على الكوفة عبد الله بن محمود وقد ذهب بجنده إلى بعض قرى الكوفة ، وكان يحيى بن عمر الزيدي صار بأصحابه إلى بني حِمّان بالكوفة واجتمع إليه أهلها إذ أقبل إليه عبد الله بن محمود بجنوده المرتّبين فوثب إليه يحيى وحمل على عبد الله فضربه على وجهه فانهزم وانهزم أصحابه.

ثمّ خرج إلى قرية الوازار (البازار) ثمّ إلى جنبلا ، وبلغ خبره إلى بغداد ، فندب له محمدُ بن عبد الله بن طاهر الخزاعي ابنَ عمه الحسينَ بن إسماعيل الخزاعي (مولاهم) وضمّ إليه عدداً من قوّاده. وكان هوى أهلِ بغداد مع يحيى بن عمر الزيدي البغدادي! فهؤلاء نفذوا إليه على كراهة!

وارتحل يحيى حتى نزل قرية البحرية ، ثمّ مضى يعود إلى الكوفة ، ونزل الحسين الخزاعي قرية شاهي وشربوا الماء العذب وأراحوا وقويت عساكرهم وخيلهم. أما أصحاب يحيى فقد تعبت خيلهم ورجالهم ، وكان يحيى نزقاً في الحرب فلمّا بدأ الحرب كان يحمل وحده فيرجع ، وحمل مرة كما كان يفعل فصُرع في وسطهم فلمّا رآه زعيم بني عجل الهيضم العجلي مصروعاً انصرف بأصحابه

٤١١

فكان أول من انهزم منهم ثمّ انهزم سائرهم. ولم يزل يحيى يقاتل مكانه حتّى قتل ، فنزل إليه سعد الضبابي وأخذ رأسه إلى الحسين الخزاعي (مولاهم).

وانفكأ الخزاعي إلى بغداد ومعه رأس يحيى بن عمر ، فلمّا دخل به إلى بغداد جعل أهلها يصيحون عليه إنكاراً حتى كان الغوغاء والصبيان يصيحون في الطرقات : ما قُتل وما فرّ! ولكن دخل البر! فلمّا أدخل رأس يحيى إلى دار ابن طاهر اجتمع جمع من أهل بغداد يهنئونه بالفتح.

فكان في من دخل عليه أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري ، وكان ذا عارضة ولسان لا يبالي بمن استقبل من الكبراء وأصحاب السلطان ، فقال لابن طاهر : أيها الأمير قد جئتك مهنئاً بما لو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيّاً لعُزّي به! فتحمّله ابن طاهر ولم يجبه بشيء.

وأُدخل الأُسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد في أسوأ حال وكانوا يساقون حفاة سوقاً عنيفاً فمن تأخر منهم ضُربت عنقه! منهم إسحاق بن جناح صاحب شرطة يحيى الزيدي. فورد كتاب المستعين بتخلية سبيلهم فخلّوهم إلّا إسحاق بن جناح فإنه لم يزل محبوساً حتى الموت.

وقال ابن طاهر لنسائه وأخواته وحرمه : إنّ هذه الرؤوس من قتلى أهل هذا البيت لم تدخل بيت قوم إلّاخرجت منهم النعمة وزالت عنهم الدولة ، فتجهّزن للخروج وأمر بإشخاصهن إلى خراسان فتجهّزن للخروج (١).

وذكر الزيدي الأُموي ليحيى الزيدي عدّة مراثي ، ثلاثة منها لعلي بن محمد بن جعفر العلوي الحِمّاني الكوفي منها ما مرّ خبره عن المسعودي ، بدون قصته (٢).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٢٠ ـ ٤٢٣.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤٢٩ و ٤٣٠.

٤١٢

ومن شعره ما ذكره الحلبي قال :

لقد فاخرتنا من قريش عصابة

بمدّ خدود وامتداد أصابع!

فلمّا تنازعنا المقال قضى لنا

عليهم بما نهوى نداءُ الصوامع

ترانا سكوتاً والشهيد بفضلنا

عليهم جهير الصوت في كل جامع

فإن رسول الله أحمد جدّنا

ونحن بنوه كالنجوم الطوالع!

وأرسل عن الفحّام قال : كان أبو الحسن علي بن محمد بن الرضا عليه‌السلام وعلي بن الجهم الشاعر حاضرَين عند المتوكل ، فسأل المتوكل ابن الجهم عن أشعر الشعراء فذكر له شعراء من الجاهلية والإسلام ، ثمّ سأل ذلك أبا الحسن عليه‌السلام فقال : الحِمّاني حيث يقول .. وقرأ الأبيات.

فقال المتوكل : وما «نداء الصوامع» قال أبو الحسن : أشهد أن لا إله إلّاالله وأشهد أنّ محمداً رسول الله ، فهل هو جدّي أم جدّك؟! فتضاحك المتوكل ثمّ قال :

هو جدّك لا ندفعك عنه (١).

قيام إسماعيل الطالبي عام (٢٤٩ ه‍):

قال اليعقوبي (في سنة ٢٤٩ ه‍) كان بين إسماعيل بن يوسف (الحسني) الطالبي وبين والي المدينة نزاع على وقف كان لإسماعيل ، ما سبّب أن تحامل عليه الوالي ، فجمع لفيفاً من الأعراب ونفذ إلى الرَّوحاء ، فوجد مالاً يُحمل من بعض المواضع إلى السلطان فأخذه ، ثمّ صار إلى مكة (في موسم الحج).

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٣٧ ، ٤٣٨ واكتفى الطوسي ببيتين منها : ٢٨٧ ، الحديث ٥٥٧ ، واكتفى الحلبي بكنية أبي الحسن ، فوهم المامقاني أنّه الرضا عليه‌السلام مع تصريحه بالمتوكل! انظر قاموس الرجال ٩ : ٤٣٨ برقم ٧٠٤٢. ووهم المحقق البهبودي في هامش بحار الأنوار ٥٠ : ١٩٠ حيث توهم الحِمّاني من بني تميم! وأطال المقال.

٤١٣

وكان العامل بمكة جعفر بن الفضل بن يعقوب المعروف ببشاشات ، فواقعه فهزمه ودخل مكة وأقام ثلاثاً ثمّ اندفع إلى المواقف ، فلمّا أقبل إسماعيل مفيضاً إلى مكة مانعه أهلها فقاتلهم أصحابه حتّى دخل وطاف وسعى وطاف أيضاً ثمّ عاد إلى منى فأقام إسماعيل بمنى أيام منى ثمّ انصرف.

وكان على النفقات بمكة رجل يقال له محمد بن حاتم ، فقال لابن يعقوب : اقلع ما على دربند (باب) البيت وعتَبته من الذهب والفضة وأعطه الناس وحارب إسماعيل ، فقلع ذلك الذهب (١). وهنا ينبتر خبر اليعقوبي عن إسماعيل الحسني ، ويظهر من المسعودي في أخبار (٢٥٢ ه‍) أنّه غلب على مكة ثمّ خلفه أخوه ، وسيأتي خبره.

حوادث بغداد عام (٢٤٩ ه‍):

في سنة (٢٤٩ ه‍) شغب الشاكرية والجنود ببغداد لمّا رأوا من استيلاء الأتراك على الأملاك والدولة يقتلون من كرهوا من الخلفاء ثمّ يستخلفون من أحبوا بلا نظر للمسلمين والدين!

فاجتمعت العامة ببغداد بالنداء بالنفير ، ففتحوا السجون وأخرجوا من فيها ، وأحرقوا أحد الجسرين وقطعوا الآخر ، وانتهبوا دور أهل اليسار وأخرجوا منها أموالاً كثيرة ففرقوها (٢) ولعلهّا كانت انتقاماً لقتل يحيى بن عمر الزيدي ، ولعلّ ابن طاهر تفادياً لمثل أعمال الشغب هذه أشخص أهله ونساءه إلى خراسان ، كما مرّ خبره.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٨.

(٢) مختصر تاريخ الدول : ١٤٦.

٤١٤

حوادث منتصف القرن الثالث :

في سنة (٢٥٠ ه‍) ظهر في طبرستان في شمال إيران الحسن بن زيد الحسني (الزيدي) وبعد حروب كثيرة وقتال طويل غلب عليها وعلى جرجان بجوارها ودام عشرين عاماً (١) وكثر جمعه (٢) وكان ذلك في ولاية محمد بن عبد الله بن طاهر بمركزية نيشابور من خراسان ، وكان يتبعها الريّ أيضاً.

فظهر بالريّ محمد بن جعفر بن الحسن الحسني (الزيدي) داعياً للحسن بن زيد صاحب طبرستان ، فحاربته المسوّدة التابعة لولاية ابن طاهر في خراسان فأسرته وحملته إلى نيشابور.

فظهر بعده بالري أيضاً أحمد بن عيسى العلوي الحسيني (الزيدي) ، وكان محمد بن طاهر حاضراً بالريّ من بغداد فحاربه فانهزم عنه إلى بغداد ، فدخل العلوي الحسيني الريّ منتصراً ودعا إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وظهر بقزوين الحسن بن إسماعيل الحسيني الكركي (الزيدي) ، وانتدب لحربه موسى بن بُغا التركي فحاربه فانهزم الكركي إلى الحسن بن زيد العلوي الحسني في الديلم.

ودخلت سنة (٢٥١ ه‍) فظهر بالكوفة الحسين بن محمد الحسني (الزيدي) ، وكان ابن طاهر في بغداد فسرّح إليه جيشاً بقيادة ابن خاقان (؟) وتخلّف لفيف الحسين الحسني عنه وتركوه فانهزم واختفى (٣).

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٦٨.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢١.

(٣) مروج الذهب ٤ : ٦٩.

٤١٥

المستعين إلى بلد الأمين :

لم يزل المستعين مقيماً بسامراء إلى أن اتّفق مع بُغا ووصيف على حذف أو حتف باغر التركي أحد المتقدمين في قتل المتوكل ، فقتلوه ، فتحزّب له الموالي وشغبوا (١) واعتقل المستعين ابني المتوكل الزبير المعتز والمؤيد في الموضع المعروف بلؤلؤة الجوسق (الكوشك) وحذر من محمد بن هارون الواثق فأخذه معه (٢). وكان الجنود قد أخذوا الحدود على القصر لحصر المستعين إلّاأن بُغا ووصيف هربا به معهم إلى الشطّ بسامراء وركبوا في حرّاقة إلى بغداد (٣) لأوائل المحرم من عام (٢٥١ ه‍) وقام بأمرهم ببغداد محمد بن طاهر الخزاعي (مولاهم) (٤).

ولمّا انحدر بُغا ووصيف بالمستعين إلى ابن طاهر الخراساني ببغداد اضطربت الأتراك والفراغنة وغيرهم من الموالي في سامراء ، وأجمعوا على بعث جماعة إلى المستعين يسألونه الرجوع إلى دار ملكه وحملوا معهم البُرد والقضيب ومئتي ألف دينار ، واعترفوا له بذنوبهم وأقرّوا له بخطئهم وضمنوا أن لا يعودوا إلى ما كان ، وتذلّلوا وخضعوا ، فاجيبوا بما كرهوا! فعادوا وأخبروا أصحابهم بما نالهم ويأسهم من عودة الخليفة. فأجمعوا على إخراج الزبير المعتز والبيعة لخلافته ومحاربة المستعين! فأنزلوه والمؤيد من لؤلؤة الجوسق في القصر (٥) وكان قد كثر شَعره فأخذوا من شَعره ، وخلعوا المستعين وبايعوا له بالخلافة (٦).

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣١٥.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٧٧.

(٣) ابن الوردي ١ : ٢٢٢.

(٤) التنبيه والإشراف : ٣١٥.

(٥) مروج الذهب ٤ : ٧٧.

(٦) مختصر تاريخ الدول : ١٤٦.

٤١٦

مساء عاشوراء سنة (٢٥١ ه‍) وفي صباح الحادي عشر من المحرم ركب وأخوه المؤيد إلى دار العامة ، فأخذ البيعة على الناس ، وعقد لأخيه المؤيد عقدين أسود لولاية عهده ، وأبيض لولاية الحرمين ، وخلع عليه. وانبثّت الكتب من سامراء إلى سائر الأمصار بخلافة المعتزّ بالله بخطّ جعفر بن محمد الكاتب.

ثمّ أحدر أخاه أبا أحمد مع الموالي (خمسين ألفاً) إلى بغداد لحرب المستعين ، فنزل عليها ونشبت الحرب بينهم للنصف من صفر ، وهرب إليهم محمد بن الواثق ، واعتزّ المعتزّ يوماً بعد آخر وضعف المستعين كذلك (١).

ودامت الحرب فانقطعت الميرة عن بغداد وقلّت الأموال وغلت الأسعار ببغداد وسامرّاء حتى صار قفيز الحنطة بمئة درهم (٢)!

فجرت السفراء بينهم بالصلح على أن يخلع المستعين نفسه ويسلّم الأمر إلى المعتزّ ، أمناً على نفسه وولده ويصير بهم إلى بلد يقيم فيه ، على أن تُدفع إليه ضياع وأموال تقيمه. فاجيب إلى ذلك فخلع نفسه وبايع للمعتز وكتب كتاب الخلع على نفسه وأشهد عليه (٣).

وكان محمد بن طاهر لمّا رأى ضعف المستعين وعزّة المعتزّ جنح إليه وكاتبه لخلع المستعين ، وأحسّ الناس بذلك فتحيّزوا للمستعين وانتصروا له حتى اضطر ابن طاهر أن يصعد بالمستعين إلى أعلى القصر وعليه البردة وبيده القضيب! فيخاطب العامة وينكر ما بلغهم من ذلك بل وشكر ابن طاهر!

وانتهت مكاتبة ابن طاهر إلى ابن المتوكل أبي أحمد الموفق قائد الحرب لأخيه المعتز على المستعين ، فتوافق على الاجتماع بالشمّاسية من نواحي بغداد ،

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٧٧ ، ٧٨ ، وعدد العسكر من ابن الوردي ١ : ٢٢٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٩.

٤١٧

فاتفقا على خلع المستعين على الأمان له ولأهله وولده وما حوته أيديهم من أملاكهم ، وعلى أن يقيم بواسط العراق ثمّ يرحل فينزل مكة هو ومن شاء من أهله ، فكتب المعتزّ له الشروط على نفسه بعهد يطول ذكره. فخلع المستعين نفسه لأوائل المحرم عام (٢٥٢ ه‍) وكان أهله وولده في دار الحسن بن وهب ببغداد فحُمل إليهم وجُمع بينه وبينهم (١) ثمّ نُقل من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل ، وأُخذت منه البردة والقضيب والخاتم إلى ابن طاهر (٢) وسعى في الصلح من القضاة القاضي إسماعيل وأشهد عليه القضاة وغيرهم ، ثمّ احدر إلى واسط فأقام بها تسعة أشهر محبوساً موكلاً به (٣) ووُكّل به أحمد بن طولون التركي قبل ولايته مصر.

وانصرف أبو أحمد الموفّق من بغداد إلى سامرّاء ومعه أخو محمد بن عبدالله بن طاهر : عبيد الله يحمل إليه البرد والقضيب والسيف وجوهر الخلافة (؟) وكانت هذه المواريث على يد شاهك الخادم ، فكتب ابن طاهر معه إليه : إنّ من أتاك بإرث رسول الله لجدير أن لا تُخفر ذمته!

فخلع المعتزّ على أخيه الموفّق وتوّجه ووشّحه بوشاحين ، وخلع على قوّاده (٤).

أيام عهد المعتزّ العباسي :

قال اليعقوبي : لمّا علم عمّال البلاد سقوط بغداد وبيعة المستعين ومحمد بن الطاهر الخزاعي (مولاهم) للمعتزّ بايعوا له ، إلّاعمران بن مهران بإصفهان ،

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٧٨.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٢.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢٠.

(٤) مروج الذهب ٤ : ٧٩.

٤١٨

وعيسى بن الشيخ الشيباني في فلسطين ويزيد بن عبد الله في مصر وابن مجاهد صاحب شمشاط (؟).

فوجّه المعتزّ بحاتم بن زريك التركي إلى شمشاط فأوقع بها وبأهلها حتى أخذ ابن مجاهد وجماعة من وجوهها إلى بلد آمد فقتلهم هناك.

وزحف نوشري بن تاجيك التركي صاحب دمشق إلى عيسى بن الشيخ الشيباني بفلسطين فلمّا علم به عيسى توجّه للقاء نوشري فالتقيا بالأُردن ، وجرت حروب حتى انهزم جمع عيسى فانهزم إلى فلسطين ثمّ إلى مصر. فتبعه نوشري إلى الرملة من فلسطين.

فلمّا انتهى خبر عيسى بن الشيخ وما كان بينه وبين نوشري إلى المعتز ، وجّه برجل من الأتراك يقال له محمد بن مولّد إلى فلسطين فلمّا قدمها انصرف النوشري عنها إلى عمله بدمشق.

وكان قد تغلّب على حمص غطيف الكلبي فصار إليه محمد بن مولّد ودعاه إلى الأمان والطاعة فأجابه الكلبي بقومه بني كلب ، فغدر به ابن مولّد فقتله ، فوثب عليه قومه بنو كلب حتى هزموه عنهم.

ومنذ أيام المستعين كان قد وثب بالرافقة من ديار مضر صفوان العقيلي ، وتحرك في حرّان رجل اموي وآخر من بني أبي لهب ، وابن عبدوس. فوجّه المعتز إليهم سيما الصعلوك ، فبدأ سيما بالرجلين الأُموي واللهبي حتى أخذهما ، ثمّ صار إلى الرافقة فقتل العقيلي ، ثمّ لقى ابن عبدوس في وقعات ثمّ دعاه للصلح على أن يدفع إليه تسعمئة ألف درهم ويولّيه بلده ، فصالحه ووجّه المعتز بموسى بن بُغا فزحف إلى عمران بن مهران بإصفهان فحاربه ، ثمّ استخلف على البلد ، وعاد إلى همدان (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٠ ، ٥٠١.

٤١٩

شغب الحسني بالحجاز :

كان على مكة جعفر بن الفضل العباسي ، ففي شهر ربيع الأول عام (٢٥١ ه‍) بمكة إسماعيل بن يوسف الحسني فهرب عاملها فأنهب الحسني داره ودور أصحابه وقتل جمعاً من الجند وغيرهم ، ثمّ أخذ ما في الكعبة وخزائنها من الذهب والفضة والطيب وحتى الكسوة! وأخذ من الناس نحواً من مئتي ألف دينار! وأنهب بعض دورها وأحرق بعضها الآخر.

وبعد خمسين يوماً لأواخر ربيع الآخر سنة (٢٥١ ه‍) خرج منها إلى المدينة. وكان عليها علي بن الحسين بن إسماعيل فتوارى عنه ، ولم يذكر عنه شغب ببلدته المدينة في شهري الجماديين. ولعمرة رجب عاد إلى مكة فحاصرهم شهري رجب وشعبان حتى تماوت أهلها جوعاً وعطشاً فبلغت شربة الماء درهماً وثلاثة أواقي الخبز بثلاثة دراهم ، ورطل اللحم بأربعة دراهم! وأقام ولشهر رمضان تركهم إلى جدة فأخذ أموال تجارها ومراكبها وحبس الطعام عن مكة فحُمل إليها من اليمن ثمّ بالمراكب في البحر الأحمر من مصر. ثمّ عاد لموسم الحج ، وكان المعتز وجه إليه عيسى المخزومي وكعب البقر بجيش معهم فتقاتلوا وقتل أكثر من ألف من الحجاج ثمّ رجع عنهم (١).

وفاة محمد بن علي الهادي عليه‌السلام :

مرّ خبر مولد الحسن العسكري في (٢٣٢ ه‍) وفي العشرين من سنّه يكون في سنة (٢٥٢ ه‍) ، فأسند الكليني عن الحسن بن الحسن الأفطس أنه وجمعاً من بني هاشم اخبروا بوفاة محمد بن علي بن محمد فحضروا دار أبي الحسن الهادي

__________________

(١) تاريخ الطبري ٩ : ٣٤٦.

٤٢٠