موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

ألزمه حجته حتّى كأنّه القُم حجراً! وكأنّ أبا الصلت لم يحضر المجالس السابقة فلم يروِها ، وإنّما حضر أخيراً مناظرة علي بن محمّد بن الجهم الشيباني مع الرضا عليه‌السلام في عصمة الأنبياء فرواها قال :

قام إليه ابن الجهم فقال له : يابن رسول الله ، أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال : نعم.

قال : فما تعمل بقول الله عزوجل : (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١)) وفي قوله عزوجل : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ (٢)) وفي قوله عزوجل في يوسف عليه‌السلام : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا (٣)) وفي قوله عزوجل في داود : (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ (٤)) وقوله تعالى في نبيّه محمّد : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ (٥))؟!

فقال له الرضا عليه‌السلام : ويحك ـ يا علي ـ اتق الله ولا تنسب الفواحش إلى أنبياء الله ، ولا تتأوّل كتاب الله برأيك!

أما قوله عزوجل في آدم : (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) أما المعصية من آدم فقد كانت في الجنة ، وعصمته (إنّما) تجب أن تكون في الأرض ، لتتمّ مقادير أمر الله ، فلمّا أهبطه إلى الأرض وجعله حجته وخليفته عُصم (وذلك) بقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٦)(٧)).

__________________

(١) طه : ١٢١.

(٢) الأنبياء : ٨٧.

(٣) يوسف : ٢٤.

(٤) سورة ص : ٢٤.

(٥) الأحزاب : ٣٧.

(٦) آل عمران : ٣٣.

(٧) كذا هنا ، وفيه كلام لدى أهل الكلام ، فهم يقولون بالعصمة التامة ، ولكن العصمة إنّما هي في التكاليف ، والجنة لم تكن دار تكاليف : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) ، البقرة : ٣٨.

١٢١

وأمّا قوله عزوجل : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) فإنما ظنّ يعني استيقن أنّ الله لن يضيّق عليه رزقه! ولو ظنّ أنّ الله لا يقدر عليه لكان قد كفر!

وأمّا قوله عزوجل في يوسف : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) فإنها همّت بالمعصية ، ويوسف همّ بها إن أجبرته (بالمعصية) أن يقتلها ، لعظم ما تداخله! فصرف الله عنه قتلها والفاحشة وهو قوله عزوجل : (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) يعني القتل والزنا.

وأما داود ، فما يقول فيه مَن قبلكم؟ فقصّ ابن الجهم قصّة قطع داود صلاته ليأخذ الطير الجميل ، وأنّه رأى امرأة قائده أوريا في دارها تغتسل فهواها ، فقدّم اوريا في القتال فقُتل فتزوّجها داود!

فالرضا عليه‌السلام لمّا سمع ذلك ضرب بيده على جبهته واسترجع وقال له : لقد نسبتم نبيّاً من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته ثمّ القتل ثمّ الفاحشة! فقال ابن الجهم : يابن رسول الله فما كانت خطيئته؟ فقال : إنّما ظن داود أن الله ما خلق خلقاً أعلم منه! فبعث الله إليه الملكين تسوّرا عليه المحراب وقالا له : (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ* إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِىَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) فعجّل داود على المدّعى عليه فقال : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) ولم يسأل مِن المدّعى البيّنة على ذلك ، ولم يُقبل على المدّعى عليه ليراه ما يقول. فكانت هذه خطيئة في رسم الحكم ، ألا تسمع الله عزوجل يقول : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى (١)).

__________________

(١) ص : ٢٢ ـ ٢٦.

١٢٢

فقال ابن الجهم : يابن رسول الله ، فما قصته مع أوريا؟

قال الرضا عليه‌السلام : إنّ المرأة في أيام داود عليه‌السلام إذا مات بعلها أو قُتل كانت لا تتزوّج أبداً! وأول من أباح الله له أن يتزوّج بامرأة قُتل بعلها كان داود عليه‌السلام ، فلمّا قُتل اوريا وانقضت عدتها منه تزوج بامرأته.

وأما محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وقول الله له : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ).

فإنّ الله عزوجل (كان قد) عرّف نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أسماء أزواجه في الدنيا ، وفي الآخرة ، ومنهن زينب بنت جحش ، وهي يومئذٍ زوج زيد بن حارثة ، فأخفى (ذلك) في نفسه ولم يبده إذ خشي قول المنافقين .. فقال الله عزوجل : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ). وإن الله ما تولى تزويج أحد من خلقه إلّاتزويج حواء بآدم ، وتزويج فاطمة بعلي عليهما‌السلام ، وتزويج زينب لرسول الله بقوله : (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا (١)).

فقال ابن الجهم : يابن رسول الله ، أنا بعد يومي هذا تائب إلى الله عزوجل من أن أنطق في أنبياء الله عليهم‌السلام إلّابما ذكرته أنت (٢) وبعد هذا حضر المجلس التالي في العصمة أيضاً من المأمون نفسه ، وكأنّه لم يكن حاضراً في هذا المجلس فتكرّر بعض السؤال والإشكال ، واختلف المقال جواباً وتفصيلاً ، كما يلي :

المأمون والرضا عليه‌السلام والعصمة :

في الخبر السابق عن أبي الصلت الهروي لم يذكر حضور المأمون ، فكأنّه كان غائباً عن نقاش ابن الجهم للرضا عليه‌السلام في عصمة الأنبياء عليهم‌السلام وظواهر

__________________

(١) الأحزاب : ٣٧.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩١ ـ ١٩٥.

١٢٣

ألفاظ القرآن بخلافها فيهم ، فنرى هنا خبراً آخر رواه ابن الجهم الشيباني ، قال : حضرت مجلس المأمون ، وعنده الرضا علي بن موسى ، فقال له المأمون :

يابن رسول الله ، أليس من قولك : أنّ الأنبياء معصومون؟ قال : بلى. قال : فما معنى قول الله عزوجل : (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١)).

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى قال لآدم : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (٢)) ولم يقل لهما : لا تأكلا من هذه الشجرة ولا مما كان من جنسها! فلمّا وسوس الشيطان إليهما وقال لهما : (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ) وما نهاكما عن الأكل منها : (إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ* وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٣)) ولم يكن آدم وحواء رأيا قبل ذلك من يحلف بالله كاذباً فأكلا منها ثقة بيمينه بالله. وكان ذلك من آدم قبل النبوة. ولم يكن ذلك بذنب كبير يستحق به دخول النار! وإنّما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم (٤). فلمّا اجتباه الله تعالى وجعله نبياً كان معصوماً لا يُذنب كبيرة ولا صغيرة.

فقال المأمون : أشهد أنك ابن رسول الله حقاً! فأخبرني عن قول الله عزوجل في حق إبراهيم : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي).

__________________

(١) طه : ١٢١.

(٢) البقرة : ٣٥.

(٣) الأعراف : ٢٠ ـ ٢١.

(٤) كذا هنا ، وفيه كلام عند أهل الكلام ، فهم يقولون بالعصمة التامة عن الكبائر والصغائر قبل النبوة ومعها ، وهذا هنا يختلف عن الخبر السابق في التفصيل بين الجنة والأرض.

١٢٤

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ إبراهيم عليه‌السلام حين خرج من السرب الذي اخفي فيه وقع إلى ثلاثة أصناف : صنف يعبد الزهرة ، وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشمس ، فلمّا جنّ عليه الليل فرأى الزهرة قال : هذا ربي؟! على الاستخبار والإنكار! فلمّا أفل الكوكب قال : (لَاأُحِبُّ الْآفِلِينَ) ، لأنّ الأُفول من صفات المحدَث لا القدم! (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي) على الاستخبار والانكار! (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) أي : لو لم يهدني ربي لكنت من القوم الضالين. فلمّا أصبح و (رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ) من الزهرة والقمر ، على الاستخبار والانكار لا على الإقرار والاخبار فلمّا أفلت قال للأصناف الثلاثة : عبدة الزهرة والقمر والشمس : (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وإنّما أراد إبراهيم عليه‌السلام بما قال أن يبيّن لهم بطلان دينهم ويثبت عندهم أنّ العبادة لا تحق لما كان بصفة الزهرة والقمر والشمس ، وإنّما تحق العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض. وكان ما احتج به على قومه مما ألهمه الله تعالى وآتاه ، كما قال الله عزوجل : (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ (١)).

فقال المأمون : لله درّك يابن رسول الله! فأخبرني عن قول إبراهيم : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (٢)).

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى كان قد أوحى إلى إبراهيم عليه‌السلام : إني سأتّخذ واختار من عبادي خليلاً إن سألني إحياء الموتى أجبته! فوقع في نفسه أنّه هو ذلك الخليل فقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ

__________________

(١) الأنعام : ٧٦ ـ ٨٣.

(٢) البقرة : ٢٦٠ فما بعدها.

١٢٥

لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بالخلة! (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ...) فأخذ إبراهيم ديكاً وبطّاً وطاووساً ونسراً فقطعهن وخلطهن ثمّ جعل على كل جبل منهن جزءاً وهن عشرة جبال ، وأخذ بمناقيرهن بين أصابعه ثمّ دعاهن بأسمائهن ، فتطايرت تلك الأجزاء بعضها إلى بعض حتّى استوت الأبدان ، وجاء كل بدن حتّى انضمّ إلى رقبته ورأسه.

فقال المأمون : بارك الله فيك يا أبا الحسن. فأخبرني عن قول الله عزوجل : (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ).

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ موسى دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها وذلك بين المغرب والعشاء (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) فقضى موسى بحكم الله على العدو فمات ، فلمّا (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) كان يعني الاقتتال الذي كان بين الرجلين لا ما فعله هو!

فقال المأمون : فما معنى قول موسى : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي (١)) قال : يقول : ربّ إني وضعت نفسي في غير موضعها لما دخلت هذه المدينة فاسترني من أعدائي لئلّا يقتلوني.

فقال المأمون : يا أبا الحسن جزاك الله عن أنبيائه خيراً! فما معنى قول موسى لفرعون : (فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ).

قال الرضا عليه‌السلام : إنّ فرعون لما أتاه موسى قال له : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) بي! فقال موسى : بل (فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢)) عن الطريق لوقوعي في مدائنك.

__________________

(١) القصص : ١٥ ـ ١٦.

(٢) الشعراء : ١٩ ـ ٢٠.

١٢٦

فقال المأمون : بارك الله فيك يابن رسول الله! فما معنى قول الله عزوجل : (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي (١)) كيف يجوز أن يكون موسى بن عمران عليه‌السلام لا يعلم أنّ الله تبارك وتعالى ذكره لا تجوز عليه الرؤية حتّى يسأله هذا السؤال؟!

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ كليم الله موسى بن عمران عليه‌السلام أخبر قومه أنّ الله كلّمه وناجاه! فقالوا له : لن نؤمن لك حتّى نسمع كلامه كما تسمع! وكان القوم سبعمئة ألف رجل ، فاختار منهم سبعين ألفاً ، ثمّ اختار منهم سبعة آلاف ، ثمّ اختار منهم سبعمئة ، ثمّ اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّهم ، فخرج بهم إلى طور سيناء وأقامهم في سفح الجبل ، وصعد هو إلى الطور ، وسأل الله أن يكلّمه ويُسمعهم كلامه ، فكلّمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من كل الجهات! فقالوا : لن نؤمن بأن هذا الذي سمعناه كلام الله حتّى نرى الله جهرة! فلمّا قالوا هذا القول العظيم وعتوا واستكبروا بعث الله عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا.

فقال موسى : يا رب إذا رجعت إلى بني إسرائيل وقالوا لي : إنّك ذهبت بهم فقتلتهم! لأنك لم تكن صادقاً فيما ادعيت من مناجاة الله إياك! فماذا أقول لهم؟! فأحياهم الله وبعثهم معه ، فقالوا (مرة أُخرى) : إنك إن سألت الله أن يريك ننظر إليه لأجابك! فقال موسى : يا قوم إنّ الله تعالى إنّما يُعرف بآياته ويُعلم بأعلامه ولا كيفية له فلا يُرى بالأبصار! فقالوا : إذاً لا نؤمن لك حتّى تسأله! فقال موسى : يا رب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل ، وأنت أعلم بما يصلحهم. فأوحى الله إليه : يا موسى سلني ما سألوك فلن تؤخذ بجهلهم! فعند ذلك قال موسى : (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ).

__________________

(١) الأعراف : ١٤٣.

١٢٧

فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول الله عزوجل : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ (١)).

فقال الرضا عليه‌السلام : لولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها كما همّت به ، لكنه كان معصوماً والمعصوم لا يأتي بالذنب ولا يهتم به. ولقد حدّثني أبي عن أبيه الصادق عليه‌السلام قال : همّت بأن تفعل وهمّ بأن لا يفعل!

فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن ؛ فأخبرني عن قول الله عزوجل : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ (٢)).

فقال الرضا عليه‌السلام : ذاك يونس بن متّى عليه‌السلام ذهب مغاضباً لقومه ، فظن ـ أي استيقن ـ أن لن نقدر أي لن نضيّق عليه رزقه! فنادى في الظلمات ، أي : ظلمة بطن الحوت والبحر والليل : (أَنْ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) بتركي مثل هذه العبادة التي فرّغتني لها هنا في بطن الحوت! فاستجاب الله له ...

فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول الله عزوجل : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا (٣)).

فقال الرضا عليه‌السلام : يقول الله عزوجل : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ) من قومهم ، وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كُذبوا جاء نصرنا للرسل.

فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول الله عزوجل : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ (٤)).

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ مشركي أهل مكة كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمئة

__________________

(١) يوسف : ٢٤.

(٢) الأنبياء : ٨٧.

(٣) يوسف : ١١٠.

(٤) الفتح : ٢.

١٢٨

وستين صنماً ، فلمّا أن جاءهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم حتّى لم يكن أحد عندهم أعظم ذنباً منه! فلمّا فتح الله عزوجل على نبيّه مكة ـ تمهيداً بصلح الحديبية ـ قال له : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدم وتأخر .. فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم!

فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول الله عزوجل : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ (١)).

قال الرضا عليه‌السلام : هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارتي ، خاطب الله عزوجل بذلك نبيّه وأراد به امته. وكذلك قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢)) وقوله عزوجل : (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٣)).

قال المأمون : صدقت يابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فأخبرني عن قول الله عزوجل : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ (٤)).

قال الرضا عليه‌السلام : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قصد دار زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي في أمر أراده ، فوجد امرأته تغتسل فقال : سبحان الله الذي خلقك! وإنّما أراد بذلك : سبحان الله الذي خلقك أن يتّخذك ولداً يحتاج إلى الاغتسال والتطهير ، وأراد تنزيه الباري عزوجل عن زعْم من زعِم أنّ الملائكة بنات الله!

__________________

(١) التوبة : ٤٣.

(٢) الزمر : ٦٥.

(٣) الإسراء : ٧٤.

(٤) الأحزاب : ٣٧.

١٢٩

فلمّا عاد زيد إلى منزله أخبرَته امرأته بمجيء رسول الله وقوله لها : سبحان الله الذي خلقك! فظن أنّه قال ذلك لما أعجبه من حسنها! ولم يعلم ما أراد بذلك. فجاء إلى النبي وقال له : يا رسول الله ، إنّ في خلق امرأتي سوءاً فأُريد طلاقها! فقال له النبي : أمسك عليك زوجك واتق الله.

وقد كان الله عزوجل عرّفه أزواجه وأن تلك (زينب) منهن! فأخفى في نفسه ذلك ولم يبده لزيد ، وخشي أن يقول الناس في ذلك يعيبونه به ، فأنزل الله عزوجل ما قال. ثمّ إنّ زيد بن حارثة طلقها واعتدّت منه فزوّجها الله من نبيّه محمّد وأنزل بذلك قرآناً.

فقال المأمون : يابن رسول الله ، لقد شفيت صدري وأوضحت لي ما كان ملتبساً عليَّ ، فجزاك الله عن أنبيائه وعن الإسلام خيراً!

ثمّ قام المأمون إلى الصلاة وكان محمّد بن جعفر العلوي حاضر المجلس فأخذ المأمون بيده وخرج وتبعته فسمعته يقول له المأمون : كيف رأيت ابن أخيك؟ فقال له : إنّه عالم! ولم نره يختلف إلى أحد من أهل العلم!

فقال المأمون : إن ابن أخيك من «أهل البيت» الذين قال فيهم النبيّ : «ألا إنّ أبرار «عترتي» وأطائب أُرومتي أحلم الناس صغاراً وأعلم الناس كباراً ، فلاتعلّموهم فإنهم أعلم منكم ، لا يخرجونكم من باب هدى ولا يدخلونكم في باب ضلالة»!

قال ابن الجهم : فلمّا كان الغد غدوت إلى منزل الرضا عليه‌السلام فأعلمته بما كان من قول المأمون وجواب عمه محمّد بن جعفر له. فضحك ثمّ قال لي : يابن الجهم ؛ لا يغرنّك ما سمعته منه! فإنه سيغتالني! والله تعالى ينتقم لي منه!

نقل الصدوق هذا وعلّق عليه قال : هذا الحديث من طريق علي بن محمّد بن الجهم غريب مع نصبه وبغضه وعداوته لأهل البيت عليهم‌السلام (١).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٥ ـ ٢٠٤ ، الباب ١٥.

١٣٠

المأمون والرضا وشبهة الجبر :

أسند الصدوق عن أبي الصلت الهروي : أنّ المأمون قال للرضا عليه‌السلام : يابن رسول الله ، ما معنى قول الله عزوجل : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ* وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ (١)).

فقال الرضا عليه‌السلام : حدثني أبي عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم‌السلام قال : إنّ المسلمين قالوا لرسول الله : يا رسول الله ، لو أكرهت من قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا وقوينا على عدونا! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما كنت لألقى الله ببدعة لم يُحدث إليّ فيها شيئاً! فأنزل الله عليه : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) على سبيل الالجاء والاضطرار في الدنيا كما يؤمنون عند رؤية البأس وفي الآخرة ، ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا مني ثواباً ولا مدحاً ، لكنّي أُريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرين ليستحقوا مني الزلفى والكرامة ودوام الخلود في الجنة.

قال : وأما قوله تعالى : (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فليس ذلك على سبيل تحريم الايمان عليها ، ولكن على معنى أنها ما كانت لتؤمن إلّابأمره لها بالإيمان فما كانت متكلفة ومتعبّدة (كذا).

فقال المأمون : فرّجت عنّي يا أبا الحسن فرّج الله عنك! فأخبرني عن قول الله تعالى : (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَايَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (٢)).

__________________

(١) يونس ٩٩ و ١٠٠

(٢) الكهف ١٠١

١٣١

فقال عليه‌السلام : إنّ غطاء العين لا يمنع من الذكر ، فالذكر لا يرى بالعين ، ولكن الله شبّه الكافرين بولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام بالعميان ، لأنهم كانوا يستثقلون قول النبيّ فيه فلا يستطيعون سمعه! فقال المأمون : فرّجت عنّي فرج الله عنك!

وسأله عن قوله الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (١)).

فقال عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى قبل خلق السماوات والأرض خلق العرش والماء والملائكة ، فكانت الملائكة تستدل بأنفسها وبالعرش وبالماء على الله عزوجل. ثمّ جعل عرشه على الماء ليظهر بذلك قدرته للملائكة فيعلموا أنّه على كل شيء قدير. ثمّ رفع العرش بقدرته وجعله فوق السماوات السبع ، ثمّ خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، وكان قادراً على أن يخلقها في طرفة عين ولكنّه تعالى خلقها في ستة أيام ليظهر للملائكة ما يخلقه منها شيئاً بعد شيء فتستدل بحدوث ما يحدث على الله تعالى مرة بعد مرة ، ولم يخلق الله العرش لحاجة به إليه فهو غنيّ عن العرش وعن جميع ما خلق ، ولا يوصف بالكون على العرش فهو ليس بجسم ، تعالى الله عن صفة خلقه علواً كبيراً ، خلقهم ليبلوهم بتكليفهم بطاعته وعبادته لا على سبيل الامتحان والتجربة (٢).

مسائل في الأوصاف ، مع الرضا عليه‌السلام :

أسند الصدوق عن ابن أبي نصر البزنطي : أن سُمعة علم الرضا عليه‌السلام بلغت بلاد ماوراء النهر ، فجاء منهم قوم إليه وقالوا له : جئناك نسألك عن ثلاث مسائل ، فإن أجبتنا فيها علمنا أنك عالم! ثمّ قالوا :

__________________

(١) هود : ٧.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٣٤ و ١٣٥ ، الحديث ٣٣.

١٣٢

أخبرنا عن الله تعالى : أين كان؟ وكيف كان؟ وعلى أي شيء كان اعتماده؟

فقال عليه‌السلام : إن الله تعالى كيّف الكيف فهو بلا كيف ، وأيّن الأين فهو بلا أين ، وكان اعتماده على قدرته. فقالوا : نشهد أنك عالم (١)!

وكان عنده الجماعة إذ دخل زنديق فقال له : رحمك الله أوجدني كيف هو؟ وأين هو؟ وكأنّه لم يقنع.

فقال الرضا عليه‌السلام : ويلك! إنّ الذي ذهبت إليه غلط ، فهو أيّن الأين فكان ولا أين ، وهو كيّف الكيف فكان ولا كيف ، فلا يُعرف بكينونية ولا بأينونية! ولا يقاس بشيء ولا يدرك بحاسّة.

فقال الزنديق : فهو لا شيء إذ لم يدرك بحاسة من الحواس!

فقال أبو الحسن عليه‌السلام : ويلك لمّا عجزت حواسك عن إدراكه انكرت ربوبيّته! ونحن إذ عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا ، وأنّه شيء بخلاف الأشياء.

قال الرجل : فأخبرني متى كان؟ قال أبو الحسن : أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان! قال الرجل : فما الدليل عليه؟ قال : إني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكن زيادة ولا نقصان في العرض والطول ، ودفع المكاره عنه وجر المنفعة إليه ، علمت أنّ لهذا البنيان بانياً فأقررت به ، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته ، وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ، ومجرى الشمس والقمر والنجوم ، وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات ، علمت أنّ لهذا مقدِّراً ومنشئاً.

قال الرجل : فلِم احتجب؟ فقال أبو الحسن : إنّ الحجاب على الخلق لكثرة ذنوبهم! فأما هو فلا تخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار. قال : فلم لا تدركه حاسة الأبصار؟ قال : للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم الأبصار منهم

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١١٧ ، الحديث ٦.

١٣٣

ومن غيرهم. ثمّ هو أجل من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل! قال : فحدّه لي. قال : لا حدّ له. قال : ولمَ؟ قال : لأنّ كل محدود متناه إلى حد ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة ، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان ، وهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزّئ ولا متوهّم.

قال الرجل : فأخبرني عن قولكم : إنّه سميع حكيم وبصير عليم ، أيكون السمع إلّا بأُذن؟ والبصر إلّابالعين؟ واللطف إلّابالعمل باليدين؟ والحكمة إلّابالصنعة؟

فقال أبو الحسن : إنّ اللطيف فينا حدّ لاتخاذ الصنعة ، أو ما رأيت الرجل يتخذ شيئاً يلطف في اتخاذه فيقال : ما ألطف فلاناً! فكيف لا يقال للخالق الجليل :

لطيف؟ إذ خلق خلقاً لطيفاً وجليلاً ، وركّب في الحيوان منه روحه ، وخلق كل جنس متبايناً في جنسه في الصورة لا يشبه بعضه بعضاً ، فكل به لطف من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته.

ثمّ نظرنا إلى الأشجار وأطايب حملها المأكول فقلنا عند ذلك : إنّ خالقنا لطيف لا كلُطف خلقه في صنعتهم. وقلنا : إنّه سميع لا تخفى عليه أصوات خلقه ما بين العرش إلى الثرى من الذرة إلى أكبر منها في البر والبحر ، ولا تشتبه عليه لغاتها! فعند ذلك قلنا : إنّه سميع لا باذن.

وقلنا : إنّه بصير لا ببصر ، لأنه يرى أثر الذرة السحماء (السوداء) في الليلة الظلماء على الصخرة الصمّاء ، ويرى دبيب النملة في الليل الدجنة ، ويرى منافعها ومضارها ، وأثر سفادها وفراخها ونسلها ، فعند ذلك قلنا : إنّه بصير لا كبصر خلقه.

وقال له أبو الحسن : أرأيت إن كان القول قولكم ـ وليس كما تقولون ـ ألسنا وإياكم شرعاً سواء ولايضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا؟! وإن يكن القول قولنا ـ وهو قولنا كما نقول ـ ألستم قد هلكتم ونجونا؟! فما برح هذا الزنديق حتّى أسلم (١).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٣١ ـ ١٣٣ ، الحديث ٢٨.

١٣٤

الرضا ، والمأمون ودلالة المباهلة :

من الفصول المختارة للسيد المرتضى عن العيون والمحاسن لشيخه المفيد : أن المأمون قال للرضا عليه‌السلام يوماً : أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام يدل عليها القرآن.

فقال الرضا عليه‌السلام : قال الله جلّ جلاله : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ ...) الآية ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الحسن والحسين عليهما‌السلام فكانا ابنيه ، ودعا فاطمة عليها‌السلام فكانت في هذا الموضع نساءه ، ودعا أمير المؤمنين عليه‌السلام فكان نفسه بحكم الله عزوجل ؛ فثبت أنّه ليس أحد من خلق الله تعالى أجلّ من رسول الله وأفضل ، فواجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله بحكم الله عزوجل.

فقال له المأمون : أليس قد ذكر الله تعالى الأبناء بلفظ الجمع ، وإنّما دعا رسول الله ابنيه خاصة ؛ وذكر النساء بلفظ الجمع وإنّما دعا رسول الله ابنته وحدها؟ فألا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره؟! فلا يكون لأمير المؤمنين ما ذكرت من الفضل.

فقال له الرضا عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين! ليس يصحّ ما ذكرت ؛ وذلك أنّ الداعي إنّما يكون داعياً لغيره. كما أنّ الآمر آمر لغيره ، ولا يصحّ أن يكون داعياً لنفسه في الحقيقة ، كما لا يكون آمراً لها في الحقيقة. وإذ لم يدعُ رسول الله رجلاً في المباهلة إلّاأمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقد ثبت أنّه هو نفسه التي عناها الله سبحانه في كتابه ، وجعل له حكمه ذلك في تنزيله.

فقال المأمون : إذا ورد الجواب سقط السؤال (١).

__________________

(١) الفصول المختارة : ٣٨ وكنزل الفوائد للكراجكي. والآية ٦١ من سورة آل عمران.

١٣٥

حديث الرضا عليه‌السلام في الإمام والإمامة :

أسند الكليني عن عبد العزيز بن مسلم قال : كنا في بدء مقدمنا إلى مرو اجتمعنا يوم الجمعة في الجامع ، فأدار الناس أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها. فدخلت على سيدي الرضا عليه‌السلام فأعلمته خوض الناس فيها ، فتبسّم ثمّ قال :

يا عبد العزيز ، جَهل القوم وخُدعوا عن آرائهم ، إنّ الله عزوجل لم يقبض نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى أكمل له الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء ؛ بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج الناس إليه كُملاً ، فقال عزوجل : (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (١)) وفي حجة الوداع في آخر عمره أنزل عليه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً (٢)) وأمر الإمامة من تمام الدين. فلم يمض صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى بيّن لأُمته معالم دينهم ، وأوضح لهم سبيلهم ، وتركهم على قصد سبيل الحق ، وأقام لهم علياً عليه‌السلام علماً وإماماً ، وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأُمة إلّابيّنه. فمن زعم أنّ الله لم يكمّل دينه فقد ردّ كتاب الله ، ومن ردّ كتاب الله فهو كافر به.

وهل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأُمة حتّى يجوز اختيارهم فيها؟

إنّ الإمامة أجل قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم ، أو ينالوها بآرائهم ، أو يقيموا لهم إماماً باختيارهم.

إنّ الإمامة خصّ الله بها إبراهيم الخليل عليه‌السلام بعد النبوة والخُلة مرتبة ثالثة ، وفضيلة شرّفه بها وأشاد بها ذكره فقال له : (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) فقال الخليل : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي») قال الله تبارك وتعالى : (لَايَنَالُ عَهْدِي

__________________

(١) الأنعام : ٣٨.

(٢) المائدة : ٣.

١٣٦

الظَّالِمِينَ (١)) فهذه الآية أبطلت إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة. ثمّ أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال : (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ* وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (٢)) فلم تزل في ذريته يرثها بعضهم عن بعض قرناً فقرناً حتّى ورّثها الله تعالى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال جلّ وتعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٣)) فكانت له خاصة ، فقلدها علياً بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله ، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان ، فهي في ولد علي خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبيّ بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. فمن أين يختار هؤلاء الجهّال؟!

إنّ الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومقام أمير المؤمنين عليه‌السلام وميراث الحسن والحسين عليهما‌السلام.

إنّ الإمامة زمام الدين ، ونظام المسلمين ، وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين.

إن الإمامة أُسّ الإسلام النامي ، وفرعه السامي.

بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد ، وتوفير الفيء والصدقات ، وإمضاء الحدود والأحكام ، ومنع الثغور والأطراف.

الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم حدود الله ويذبّ عن دين الله ، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، والحجة البالغة ...

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) الأنبياء : ٧٢ ـ ٧٣.

(٣) آل عمران : ٦٨.

١٣٧

الإمام أمين الله في خلقه ، وحجته على عباده ، وخليفته في بلاده ، والداعي إلى الله ، والذابّ عن حرم الله.

الإمام المطهَّر من الذنوب ، والمبرّأ عن العيوب ، المخصوص بالعلم ، الموسوم بالحلم ، نظام الدين وعزّ المسلمين ، وغيظ المنافقين وبوار الكافرين.

الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد ، ولا يعادله عالم ، ولا يوجد له بدل ولا له مثل ولا نظير ، مخصوص بالفضل من غير طلب ولا اكتساب ، بل هو اختصاص من المفضّل الوهاب.

فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره؟! هيهات هيهات ضلت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب ، وخسئت العيون! .. فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟ أيظنون أن ذلك يوجد في غير آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! كذبتهم والله أنفسهم ومنّتهم الأباطيل! راموا إقامة الإمامة بعقول حائرة بائرة ناقصة وآراء مضلة ، فلم يزدادوا منه إلّابعداً! ولقد راموا صعباً وقالوا إفكاً! وضلوا ضلالاً بعيداً ووقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام عن بصيرة (وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (١)).

رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله وأهل بيته إلى اختيارهم ، والقرآن يناديهم : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢)) إلى عدة آيات أُخرى.

فكيف لهم باختيار الإمام؟! والإمام عالم لا يجهل وراع لا ينكل ، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة ، مخصوص بدعوة الرسول ونسل المطهّرة البتول ، لا مغمز فيه من نسب ولا يدانيه ذو حسب ، في البيت من

__________________

(١) العنكبوت : ٣٨.

(٢) القصص : ٦٨.

١٣٨

قريش والذروة من هاشم ، والعترة من الرسول والرضا من الله عزوجل. شرف الأشراف وفرع عبد مناف. نامي العلم كامل الحلم ، مضطلع بالامامة عالم «بالسياسة» مفروض الطاعة ، قائم بأمر الله ناصح لعباد الله حافظ لدين الله.

إنّ الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم ، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان ... وإن العبد إذا اختاره الله عزوجل لأُمور عباده شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاماً ، فلم يعي بجواب ولا يحير فيه عن الصواب ، فهو «معصوم» مؤيد وموثّق مسدّد ، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار ، يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده وشاهده على خلقه (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١)).

فهل هم يقدرون على مثل هذا فيختارونه؟ أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه؟! تعدّوا الحق وبيتِ الله (٢)!

المأمون والمتكلمون والرضا في الإمامة :

مرّ الخبر عن استخبار المأمون عن الرضا عليه‌السلام كل ما يجري منه وعنده ، فلعل خبر كلام الإمام عليه‌السلام في الإمامة والإمام بلغه ، وأراد أن يحرجه فيه أمام أهل الكلام.

نقل الصدوق عن كتاب الأوراق لمحمد بن يحيى الصولي نقله بمعناه قال : اجتمع عند المأمون الفقهاء والمتكلمون ، فدسّ إليهم : أن يناظروا الرضا عليه‌السلام

__________________

(١) الجمعة : ٣.

(٢) أُصول الكافي ١ : ١٦٨ ـ ٢٠٣ بتلخيص ، وعنه في الغيبة للنعماني : ١٤٥ ـ ١٤٨ وفي عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٦ ـ ٢٢٢ عن غيره.

١٣٩

في الإمامة. فلمّا حضر هو والرضا عليه‌السلام وعرضوا عليه ذلك قال لهم الرضا : اقتصروا على واحد منكم يلزمكم ما يلزمه. وكان فيهم رجل لا يُعرف في خراسان مثله في الكلام يعرف بيحيى بن الضحاك السمرقندي. فقال له الرضا عليه‌السلام : يا يحيى سل عمّا شئت ، فقال : نتكلم في الإمامة. ثمّ قال :

كيف ادعيت الإمامة لمن لم يؤم وتركت من أمّ؟

فقال الرضا عليه‌السلام : يا يحيى ، أخبرني عن مَن صدّق كاذباً على نفسه أيكون محقاً مصيباً؟ أو مبطلاً مخطئاً؟! فسكت يحيى. فقال له المأمون : أجبه! فقال : يعفيني أمير المؤمنين من جوابه! فالتفت المأمون إلى الرضا عليه‌السلام وقال له : يا أبا الحسن ؛ عرّفنا الغرض في هذه المسألة.

فقال عليه‌السلام : لابدّ ليحيى من أن يخبر عن أئمته أنهم كذبوا على أنفسهم أو صدقوا؟ فإن زعم أنهم كذبوا فلا أمانة لكذاب! وإن زعم أنهم صدقوا فقد قال أولهم : «وليتكم ولست بخيركم» وقال صاحبه : «كانت بيعته فلتة! فمن عاد لمثلها فاقتلوه» فوالله ما رضي لمن يفعل مثل فعلهم إلّاالقتل! والخيرية لا تقع إلّابنعوت! منها العلم ، ومنها الجهاد ، وسائر الفضائل ، فمن لم تكن فيه فليس بخير الناس ، ومن كانت بيعته فلتة يجب القتل على من فعل مثلها ، فكيف يُقبل عهده إلى غيره؟! وهو يقول على المنبر : «إن لي شيطاناً يعتريني ، فإذا مال بي فقوّموني ، وإذا أخطأت فأرشدوني» فهؤلاء ليسوا أئمة بقولهم إن صدقوا أو كذبوا! فما عند يحيى جواب لهذا؟!

فقال المأمون : يا أبا الحسن ؛ ما في الأرض من يحسن هذا سواك!

وقال الصولي : وكان المأمون يحبّ سقطات الرضا وأن يعلوه المحتج ، وإن أظهر غيره (١).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣١.

١٤٠