موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

في من ادّعى أنّ الله تعالى «نصّ» عليه ثمّ هو يدعو إلى غير دين الله ويُضل عن سبيله بغير علم. وكان زيد ـ والله ـ ممن خوطب بهذه الآية : (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ (١)).

وأسند عن إبراهيم بن هاشم القمي عن ياسر خادم المأمون قال : قال المأمون : اذهبوا به إلى أبي الحسن. فلمّا أُدخل إليه قال له أبو الحسن :

يا زيد! أغرّك قول نَقلَة أهل الكوفة : «إنّ فاطمة عليها‌السلام أحصنت فرجها ، فحرّم الله ذريتها على النار» إن ذلك للحسن والحسين خاصة ، إن كنت ترى أنّك تعصي الله عزوجل وتدخل الجنة ، وموسى بن جعفر عليه‌السلام أطاع الله ودخل الجنة ، فأنت إذن أكرم على الله عزوجل من موسى بن جعفر عليه‌السلام! والله ما ينال أحد ما عند الله عزوجل إلّابطاعته ، وزعمت أنك تناله بمعصيته؟! فبئس ما زعمت!

فقال له زيد : أنا أخوك وابن أبيك!

فقال له أبو الحسن : أنت أخي ما أطعت الله! إنّ نوحاً عليه‌السلام قال : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) فقال الله عزوجل : (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ (٢)) فأخرجه الله عزوجل من أن يكون من أهله بمعصيته (٣)!

يا زيد اتّق الله ، فإنه بلغْنا ما بلغْنا بالتقوى! فمن لم يتّقِ الله ولم يراقبه فليس منّا ولسنا منه! يا زيد ، إياك أن تهين من به تصول من «شيعتنا» فيذهب نورك ؛

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤٨ ، ٢٤٩. والآية في الحج : ٧٨ ولعلّ المأمون التقط لقب «الرضا» للرضا عليه‌السلام من هنا!

(٢) هود : ٤٥ و ٤٦.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٤ ، الباب ٥٨ ، الحديث ٤.

٤١

يا زيد ، إن «شيعتنا» إنّما أبغضهم الناس وعادوهم واستحلوا دماءهم وأموالهم لمحبتهم لنا واعتقادهم لولايتنا ، فإن أنت أسأت إليهم ظلمت نفسك وأبطلت حقك.

وكان الحسن بن الجهم حاضراً قال : فالتفت الرضا إليّ وقال لي : يابن الجهم! من خالف دين الله فابرأ منه كائناً من كان ومن أي قبيلة كان! ولا توال من عادى الله كائناً من كان ومن أي قبيلة كان!

قال ابن الجهم : فقلت له : يابن رسول الله ، ومَن يعادي الله؟ قال : من يعصيه (١).

فشوّ الفساد في بغداد :

قال الطبري : في هذه السنة (٢٠١ ه‍) جعل المأمون علي بن موسى بن جعفر بن محمّد ولّي عهد المسلمين والخليفة من بعده ، وسمّاه الرضا من آل محمّد ، وأمر جنده بطرح السواد ولُبس ثياب الخضرة. وكتب بذلك إلى الآفاق ، وذلك يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان.

وورد به كتاب إلى الحسن بن سهل ومنه إلى قائده عيسى بن محمّد بن أبي خالد يُعلمه أنّ أمير المؤمنين المأمون قد جعل علي بن موسى بن جعفر بن محمّد وليّ عهده من بعده ، وأنّه سمّاه الرضا من آل محمّد ، وأمره بطرح لُبس الثياب السود ولُبس ثياب الخُضرة ، ويأمره أن يأمر من قِبله من أصحابه والجند والقواد وبني هاشم (العباسيين) بالبيعة له ، وأن يأخذهم بلُبس الخضرة في أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم بل كل أهل بغداد.

فدعا عيسى بن محمّد أهل بغداد إلى ذلك على أن يعجّل لهم رزق شهر

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٥ ، الباب ٥٨ ، الحديث ٦.

٤٢

والباقي إذا أدركت الغلّات. فاختلفوا ، وغضب ولد العباس من ذلك واجتمع بعضهم إلى بعض وتكلموا فيه ، وكان المختلف والمتقلّد والمتكلم في ذلك ابنا المهدي العباسي إبراهيم ومنصور وقالوا : إنّما هذا دسيسة الفضل بن سهل ، فلا نلبس الخضرة ولا نبايع فلا نُخرج هذا الأمر من ولد العباس ؛ فنخلع المأمون ونولّي بعضنا (١)!

وقبل هذا منذ أواخر شعبان كان فسّاق الحربية ببغداد أظهروا الفسق ، فكانوا يجتمعون فيذهبون إلى القرى فيكاثرون أهلها ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغير ذلك ، ومنها أنهم خرجوا إلى قرية قُطرَبُل فانتهبوها علانية وأخذوا المتاع والذهب والفضة والغنم والبقر والحمير وغير ذلك إلى بغداد فباعوها علانية ؛ وجاء أهلها فاستعدَوا السلطان عليهم فلم يُمكِنه إعداؤهم عليهم لأنهم كانوا بطانته وهو يعتزّ بهم فلا يقدر على ذلك منهم! ولا يقدر أن يمنعهم من فسق يرتكبونه ، فكانوا يجبون المارّة في الطرق وفي السفن وعلى ظهر الدواب ويقطعون الطرق علانية ولا أحد يعدو عليهم ، فكان الناس منهم في بلاء عظيم! حتّى أنهم كانوا يجتمعون فيأتون الرجل فيأخذون ابنه فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع منهم! وكانوا يسألون الرجل أن يصلهم أو يُقرضهم فلا يقدر أن يمتنع عليهم!

هذا وقد أحصى القائد العباسي عيسى بن محمّد مَن في عسكره فكانوا مئة وخمسة وعشرين ألفاً من فارس وراجل!.

وكان بعضهم يَخفرون البساتين ، والخفارة أنّه كان يأتي الرجل بعض أصحاب البساتين فيقول له : بستانك في خفارتي أدفع عنه السوء كل شهر كذا درهماً ، فيضطر أن يعطيه شاء أو أبى!.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ٥٥٤ ، ٥٥٥.

٤٣

فقام رجل من ناحية طريق الأنبار يقال له خالد الدَري وَش (في أوائل شهر رمضان) فدعا جيرانه وأهل بيته وأهل محلته إلى أن يعينوه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأجابوه إلى ذلك. فشدّ على من يليه من الفسّاق والشُطّار فمنعهم ممّا كانوا يصنعون ، فقاتلوه فقاتلهم وأخذ بعضهم فضربهم وحبسهم وهزم سائرهم.

فقام بعده رجل من عسكر خراسان يقال له : أبو حاتِم سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان ، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنة نبيّه ، ثمّ بدأ بجيرانه وأهل محلته فأمرهم ونهاهم فقبلوا منه! ثمّ دعا الناس جميعاً إلى ذلك الشريف والوضيع بني هاشم (العباسيين) ومَن دونهم ، وجعل له ديواناً يثبت فيه اسم من أتاه منهم يبايعه على ذلك وقتال من خالفه وخالف ما دعا إليه كائناً من كان ، فأتاه خلق كثير فبايعوه ، فطاف بغداد وأسواقها وأرباضها وطرقها ، فمنع كل من يخفر ويجبى المارّة والمختلفة. قام في ذلك يوم الخميس لأربع خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومئتين ، في مسجد بناه طاهر بن الحسين في العسكرية الحربية (١).

إلّا أنّ القوّاد وبني هاشم (العباسيين) لما جدّوا فيما كانوا فيه وأرادوا منصور بن المهدي العباسي للخلافة أبى ، فلم يزالوا به حتّى صيّروه خليفة للمأمون بالعراق (بدل الحسن بن سهل) وقالوا : لا نرضى بالمجوسي ابن المجوسي الحسن بن سهل نطرده حتّى يعود إلى خراسان (٢)!

واختلف اليعقوبي فقال : وثب القائد محمّد بن أبي خالد والحربية بزهير بن المسيّب الضبّي (عامل الحسن بن سهل) فأسروه ، وأتوا : محمّد بن صالح بن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ٥٥١ و ٥٥٢.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ٥٤٩.

٤٤

المنصور الدوانيقي فقالوا له : قد أخذ المأمون البيعة لعلي بن موسى الرضا ، فخشينا أن تذهب هذه الدولة بما حدث فيها من تدبير المجوس! ونحن أنصار دولتكم ، فهلمّ نبايعك فإنا نخاف أن يخرج هذا الأمر عنكم!

وكان محمّد بن صالح بن المنصور الدوانيقي أول هاشمي (عباسي) بايع للمأمون ببغداد ، فقال لهم : قد بايعت للمأمون .. فلست لكم بصاحب!

وصار الحسن بن سهل إلى واسط ، فاتبعه محمّد بن أبي خالد والحربية والأبناء ، فالتقوا في قرية أبي قريش قبل واسط فكانت بينهم وقعة منكرة ، وأصاب سهم محمّد بن أبي خالد فأثخنه ، فحمل إلى جبُّل وتوفى بعد أيام فادخل إلى بغداد ميتاً ، وقام أخوه عيسى بن أبي خالد بالعسكر. فلمّا مات محمّد بن أبي خالد وثب الأبناء على زهير بن المسيّب الضبّي في الحبس فقتلوه ثمّ شدوا في رجله حبلاً وجرّوه في طرق بغداد ومثّلوا به (١)!

الوشّاء يختبر علم الرضا عليه‌السلام :

وكأنّ كتاب المأمون إلى الآفاق بأنه «لم يجد أفضل ولا أورع ولا أعلم» من الرضا عليه‌السلام ، جعل بعض الواقفين عن القطع بموت الكاظم وإمامة الرضا عليه‌السلام يفكّرون في إمامته ، منهم الحسن بن علي بن زياد الوشاء الخزّاز الكوفي البغدادي البجلي نموذجاً ، حيث قال : جمعت في كتاب مسائل كثيرة فيما روي عن آبائه عليهم‌السلام وغير ذلك لأختبره ، وحملت الكتاب معي إلى مرو (٢) وقالت لي ابنتي : يا أبة ، خذ هذه الحُلّة فبِعها وخذ لي بثمنها فيروزجاً!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٠.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٢٩ ، الباب ٥٥.

٤٥

فلمّا نزلت مرو فإذا غلمان الرضا عليه‌السلام جاؤوا وقالوا : نريد حُلّة نكفّن بها بعض غلماننا. فقلت لهم : ما عندي. فمضوا ثمّ عادوا وقالوا : مولانا يقرأ عليك السلام ويقول لك : معك حلة في السفط (١) الفلاني ، دفعْتها إليك ابنتك وقالت لك : اشتر لي بثمنها فيروزجاً! وهذا ثمنها (٢).

قال : وحملت الكتاب معي في كُمّي وصرت إلى منزل الرضا ، اريد منه خلوة أُناوله الكتاب وأسأله ، وكان بالباب جماعة جلوس يتحدثون ، وأنا افكر في الاحتيال للدخول عليه ، وإذا أنا بغلام قد خرج من الدار وبيده كتاب ونادى : أيكم الحسن بن علي الوشاء ابن بنت إلياس البغدادي؟ فقمت إليه وقلت له : أنا الحسن بن علي ، فقال : امرت بدفع هذا الكتاب إليك فهاك خذه! فأخذته وتنحّيت ناحية وقرأته ، فإذا فيه ـ والله ـ جواب مسائلي مسألة فمسألة. فعند ذلك تركت الوقف وقطعت بإمامته (٣).

وكأنّ الطوسي جمع الخبرين واختصرهما قال : خرجت إلى خراسان في تجارة لي ، فلمّا وردته (كذا) بعث إليّ أبو الحسن الرضا عليه‌السلام يطلب مني حِبرة ، وكانت بين ثيابي وقد خفي عليَّ أمرها ، فقلت : ما معي منها شيء! فردّ الرسول وذكر علامتها وأنها في سفط كذا ، فطلبتها فكان كما قال ، فبعثت بها إليه. ثمّ كتبت مسائل أسأله عنها ، فلمّا وردتُ بابه خرج إليّ جواب تلك المسائل التي أردت أن أسأله عنها من غير أن أظهرها عليه (٤).

__________________

(١) سفط معرّب سبد بالفارسية.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٧٠ ، وفي عيون أخبار الرضا ٢ : ٢٩٩ الباب ٥٥ ، الحديث ٢ : أبضع معي رجل ثوباً وكنت قد نسيته.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٢٩ ، الباب ٥٥.

(٤) الغيبة للطوسي : ٧٢ ، الحديث ٧٧.

٤٦

وكأنّه بعد ذلك أخذ يحضر محضر الرضا عليه‌السلام قال : كنت في مجلسه بخراسان وهو مقبل على قوم يحدّثهم ، وفي المجلس أخوه زيد بن موسى وقد أقبل زيد على جماعة يفخر عليهم ويقول : نحن ونحن! وسمع أبو الحسن مقالة زيد فالتفت إليه وقال له :

يا زيد! أغّرك قول ناقلي الكوفة : أن فاطمة عليها‌السلام أحصنت فرجها فحرّم الله ذرّيتها على النار! فوالله ما ذاك إلّاللحسن والحسين وولد بطنها خاصة! فأما أن يكون موسى بن جعفر عليه‌السلام يطيع الله ويصوم نهاره ويقوم ليله ، وأنت تعصيه ثمّ تجيئان يوم القيامة سواء! إذن لأنت أعزّ على الله منه!

إنّ علي بن الحسين عليهما‌السلام كان يقول : «لمحسننا كِفلان من الأجر ، ولمسيئنا ضعفان من العذاب» ثمّ التفت إليّ وقال لي :

«يا حسن ، كيف تقرؤون هذه الآية (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ (١)) قال حسن : فقلت : من الناس من يقرأ : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) ومنهم من يقرأ : (إِنَّهُ عَمَلُ غَيْرِ صَالِحٍ) فمن قرأ : (إِنَّهُ عَمَلُ غَيْرِ صَالِحٍ) فقد نفاه عن أبيه!

فقال عليه‌السلام : كلّا ، لقد كان ابنه ، ولكن لما عصى الله نفاه عن أبيه ، وكذا من كان منا لم يطع الله عزوجل فليس منا! وأنت إذا أطعت الله عزوجل فأنت منا أهل البيت» (٢)!

وكان مع الوشّاء حيث ينزل في مرو رجل من الواقفة يسمى إبراهيم فقال له : إني قد كنت مثلك (واقفياً) ثمّ نوّر الله قلبي! فسل الله أن يريك في منامك! ما تستدل به لهذا الأمر. وكان يوم الثلاثاء فاقترح عليه أن يصوم الأربعاء والخميس

__________________

(١) هود : ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٢ ، الباب ٥٨ ، الحديث ١.

٤٧

والجمعة ثمّ يغتسل ويصلي ركعتين ثمّ يسأل الله حاجته. قال : فأتاني يوم السبت وقال لي : أتاني البارحة في النوم أبو الحسن عليه‌السلام وقال لي : يا إبراهيم ، والله لترجعنّ إلى الحق! فأشهد أنّه الإمام المفترض الطاعة (١)!

وقد مرّ الخبر بعد موسى بن جعفر عليه‌السلام عن وقف علي بن أبي حمزة سالم البطائني مولى الأنصار بالكوفة وقائد أبي بصير أنّه كان قد اجتمع عنده من أموال الكاظم عليه‌السلام أكثر من ثلاثين ألفاً ، فقال بالوقف أي توقّف عن القول بوفاة الكاظم وإمامة الرضا عليهما‌السلام ، وعاش عشرين عاماً ومات اليوم أي في سنة (٢٠١ ه‍) ودخل الوشاء على الرضا عليه‌السلام فقال له : يا حسن! مات علي بن أبي حمزة البطائني في هذا اليوم وادخل في قبره الساعة ودخل عليه ملكا القبر فسألاه : مَن ربك؟ فقال : الله ، ثمّ قالا : مَن نبيّك؟ فقال : محمّد ، فقالا : مَن وليّك؟ فقال : علي بن أبي طالب. قالا : ثمّ مَن : قال : الحسن ، قالا : ثمّ مَن؟ قال : الحسين ، قالا : ثمّ مَن؟ قال : علي بن الحسين. قالا : ثمّ مَن؟ قال : محمّد بن علي. قالا : ثمّ مَن؟ قال : جعفر بن محمّد. قالا : ثمّ مَن؟ قال : موسى بن جعفر. قالا : ثمّ مَن؟ فتلجلج (تردّد) فقالا : ثمّ مَن؟ فسكت! فقالا له : أفموسى بن جعفر أمرك بهذا؟ ثمّ ضرباه بمقمعة من نار فألهبا عليه قبره إلى يوم القيامة.

قال الوشاء : فخرجت من عند سيدي (الرضا) فأرّخت ذلك اليوم ، فما مضت الأيام حتّى وردت كتب الكوفيين بموت البطائني في ذلك اليوم (٢).

كما رحل إليه من بغداد يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين ودخل عليه وقال : دخلت على الرضا عليه‌السلام فقال لي : مات علي بن أبي حمزة؟ قال : قلت : نعم ، قال : قد دخل النار! قال : ففزعت من ذلك فقال : أما إنّه سُئل عن الإمام

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٣٦٦ ، الحديث ٢٣.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٦٦.

٤٨

بعد موسى أبي فقال : لا أعرف بعده إماماً! فضُرب ضربة اشتعل قبره ناراً (١).

ولعلّ هنا كان خيران خادم الرضا عليه‌السلام حاضراً فقال : كنت في خراسان واقفاً بين يدي أبي الحسن عليه‌السلام ، فقال له قائل : يا سيدي ، إن كان كون فإلى مَن؟ فقال : إلى أبي جعفر ابني. فكأنه استصغر سنّه فقال أبوالحسن : إنّ الله تبارك وتعالى بعث عيسى ابن مريم رسولاً نبياً صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السنّ الذي فيه أبو جعفر (٢)!

صلاة الرضا عليه‌السلام للاستسقاء :

روى الحلبي قال : لما بويع الرضا عليه‌السلام قلّ المطر! فقالوا : هذا من نكَده (قلّة خيره)! فسأله المأمون أن يستسقى ، فقال : رأيت في منامي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي : يا بُني انتظر يوم الاثنين فابرز إلى الصحراء واستسق فإنّ الله يسقيهم.

فلمّا كان يوم الاثنين برز وصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : «اللهم يا ربّ ، أنت عظّمت حقنا «أهل البيت ، فتوسَّلوا بنا كما أمرت» وأمّلوا فضلك ورحمتك ، وتوقعوا إحسانك ونعمتك ، فاسقهم سقياً نافعاً عاماً ، غير ضائر ولا رايث (متأخر) وليكن ابتداء مطرهم بعد انصرافهم من مشهدهم هذا إلى منازلهم ومقارّهم» فأرعدت السماء وأبرقت ، وهاجت الرياح ، فتحرك الناس ، فأخبرهم أنّ هذا السحاب العارض لبلدة كذا إلى عشرة مرات ، ثمّ قال : هذا لكم وأمرهم بالانصراف وقال : لا تمطرُ عليكم حتّى تبلغوا منازلكم ونزل من المنبر ، وكان كما قال (٣).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤٤٤ ، الحديث ٨٣٣.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٣٢٢ ، الحديث ١٣. وانظر ترجمة خيران في قاموس الرجال ٤ : ٢٢٢ برقم ٢٧٠١.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٧ ، الباب ٤١ ، الحديث ١ عن التفسير المنسوب للعسكري عليه‌السلام.

٤٩

وصلاته عليه‌السلام لعيد الفطر عام (٢٠١ ه‍):

اختصر طريق الخبر الكليني عن علي بن إبراهيم (عن أبيه) عن ياسر الخادم والريان بن الصلت (الأشعري القمي) جميعاً (١) وفصّله الصدوق بوصف الريّان بن الصلت بأنّه كان من رجال الحسن بن سهل (؟) وتوقيت تلقّى الخبر عن ياسر الخادم أنّه حدّثه بعد وفاة الرضا عليه‌السلام لما رجع المأمون من خراسان بأخباره كلها ، وزاد طريقاً آخر عن القمي عن أبيه عن محمّد بن عرفة وصالح بن سعيد الكاتب.

قالوا : فلمّا حضر العيد بعث المأمون إلى الرضا عليه‌السلام يسأله أن يركب ويحضر العيد ويخطب ، وليعرف الناس فضله وتَقرّ قلوبهم بهذه الدولة المباركة. فبعث إليه الرضا قال : قد علمتَ ما كان بيني وبينك من الشروط لدخولي في هذا الأمر! فردّ المأمون : إنّما اريد بهذا أن يرسخ هذا الأمر في قلوب الجند والشاكرية والعامة وتطمئن قلوبهم ويَقرّوا بما فضّلك الله به! فلمّا ألحّ عليه قال له : يا أمير المؤمنين! إن أعفيتني من ذلك فهو أحبّ إليّ ، وإن لم تُعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما‌السلام. فقال المأمون : اخرج كما تحب.

وأمر المأمون قوّاده والناس أن يبكّروا إلى باب أبي الحسن الرضا عليه‌السلام.

فاجتمع القوّاد على باب الرضا عليه‌السلام وقعد الناس من الرجال والنساء والصبيان في الطرقات والسطوح.

فلمّا طلعت الشمس (يوم العيد) قام الرضا عليه‌السلام فاغتسل ، ثمّ تعمّم بعِمامة بيضاء (لا خضراء) وألقى طرفيها على صدره وكتفه وشمّر (ثوبه عن رجليه) وأخذ بيده عُكازة (عصا) وقال لمواليه : افعلوا مثل ما فعلت. ففعلوا. ثمّ خرج حافياً ماشياً ونحن بين يديه.

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٤٨٨ ، الحديث ٧.

٥٠

وكان القوّاد والناس على الباب قد تزينوا وتهيّؤوا بأحسن هيئة بأسلحتهم ، فلمّا طلعنا عليهم بهذه الصورة حفاة قد تشمّرنا ، وطلع الرضا عليه‌السلام ، وقف عند الباب وقفة ورفع رأسه إلى السماء ونادى : «الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر على ما هدانا ، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام ، والحمد لله على ما أبلانا» رفع بذلك صوته ، ورفعنا معه أصواتنا بذلك ، فتساقط القواد عن دوابّهم ورموا بخفافهم وتجاوبوا معنا حتّى خُيّل إلينا أن الحيطان والهواء تجاوبه ، وتزعزعت مرو من الصياح وصارت ضجة واحدة ، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجيج!

فكان أبو الحسن عليه‌السلام كل عشر خطوات يقف وقفة ويكبّر أربعاً!

فقال الفضل بن سهل للمأمون : يا أمير المؤمنين ، إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس (١) وخفنا كلّنا على دمائنا!

فبعث إليه المأمون : قد كلّفناك شططاً ، ولسنا نريد أن يلحقك أذى! فارجع ، وليصلّ بالناس من كان يصلي بهم على رسمه! وكان قد بلغ الرضا عليه‌السلام إلى مسجد «خركاه تراشان» (؟) فدخل إليه وصلّى فيه ، وكان مواليه قد حملوا خُفّه فلبسه ، وأحضروا له فرسه فركبه وانصرف. فاختلف أمر الناس ولم ينتظم في صلاتهم (٢).

فهو عليه‌السلام لم يحضر صلاة العيد مأموماً ، نعم كان يحضرها مأموماً يوم الجمعة في المسجد الجامع في مرو ، فإذا رجع وقد أصابه العرق والغبار رفع يديه ودعا : «اللهم إن كان فرجي مما أنا فيه بالموت فعجّل لي الساعة» (٣).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤٩ ـ ١٥١ ، الحديث ٢١.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٤١ بالإسناد نفسه.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥ ، الباب ٣٠.

٥١

لم يكن الرضا عليه‌السلام راضياً بالعهد :

أسند الصدوق عن الريان بن الصلت الأشعري القمي : أنّه سمع بعض الناس يقولون في الرضا عليه‌السلام : أنّه مع إظهاره الزهد في الدنيا قبِل بولاية العهد! أي قد تحقق ما قاله عليه‌السلام عن نية المأمون. فدخل عليه الأشعري القمي وحكى له ما يقول الناس ، فقال عليه‌السلام :

«قد علم الله كراهتي لذلك ، فلمّا خُيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل ؛ ويحهم ؛ أما علموا أنّ يوسف عليه‌السلام كان نبياً رسولاً ، فلمّا دفعْته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز قال له : (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (١)) وأنا دفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك! على أني ما دخلت في هذا لأمر إلّادخول خارج منه! فإلى الله المشتكى وهو المستعان» (٢).

ودخل عليه رجل وقال له : أصلحك الله ، كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟!

فقال له : يا هذا ، أيهما أفضل : النبيّ أو الوصي؟ فقال : لا ، بل النبيّ. قال : فأيهما أفضل : مسلم أو مشرك؟ قال : لا ، بل مسلم. قال : فإنّ عزيز مصر كان مشركاً ، وكان يوسف نبياً ، وإنّ المأمون مسلم وأنا وصي! ويوسف سأل العزيز أن يولّيه حين قال : (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) وأنا اجبرت على ذلك (٣).

__________________

(١) يوسف : ٥٥.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٣٩ الباب ٤٠ ، الحديث ٢ ، وعلل الشرائع ١ : ٢٧٩ ، الباب ١٧٣ ، الحديث ٣ ، وفي الأمالي : ١٣٠ ، الحديث ١١٨ ، المجلس ١٧ ، الحديث ٣.

(٣) المصادر السابقة ، وتفسير العياشي ٢ : ١٨٠.

٥٢

فذلك استناد قرآني ، وأحياناً كان عليه‌السلام يكتفي في ذلك بتشبيه نفسه بجده علي عليه‌السلام :

أسند الصدوق عن محمّد بن معرفة قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يابن رسول الله ، ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟! فقال : ما حمل جدي أمير المؤمنين عليه‌السلام على الدخول في الشورى (١).

أما أبو الصلت الهروي فكان هو يقول : والله ما دخل الرضا عليه‌السلام في هذا الأمر طائعاً ، ولقد حُمل مكرهاً إلى مرو (٢).

هذا وقد مرّ الخبر عن اعتراف الفضل بن سهل بإباء الإمام عليه‌السلام من ذلك (٣).

بل أسند الطوسي عن محمّد بن عبد الله الأفطس الحسيني قال : دخلت على المأمون فقال لي : لقد جهدت الجَهد كلّه وأطمعت (الرضا) بالخلافة! فما أطمعني في نفسه (٤).

وأسند الصدوق عن غياث بن أُسيد عن جمع من أهل المدينة : أنّ المأمون ألحّ عليه مرّة بعد أُخرى حتّى تهدّده بالقتل وأشرف من ذلك على الهلاك ، فقال عليه‌السلام : «اللهم إنك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة ، وقد أشرفت من قِبل عبد الله المأمون على القتل إن لم أقبل ولاية عهده ، فقد اكرهت واضطررت كما اضطرّ يوسف ودانيال عليهما‌السلام إذ قبل كل واحد منهما الولاية من طاغية زمانه! اللهم

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤١ ، الباب ٤٠ ، الحديث ٤ ، وعلل الشرائع ١ : ٢٧٩ ، الباب ١٧٣ ، الحديث ٢.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤١ ، الباب ٤٠ ، الحديث ٥.

(٣) المصدر السابق ، الحديث ٦.

(٤) كتاب الغيبة للطوسي : ٧٣ ـ ٧٤ ، الحديث ٨٠.

٥٣

لا عهد إلّاعهدك ، ولا ولاية لي إلّامن قِبلك ، فوّفقني لإقامة دينك وإحياء سنة نبيك ، فإنك أنت المولى وأنت النصير ونعم المولى ونعم النصير» (١).

وعليه فإباؤه بدعائه هذا كان قد فشا في جماعة من أهل المدينة! ومن التصريح باسم المأمون وتشبيهه بالطواغيت يُعلم أنّ ذلك لم يكن بمحضر المأمون.

تحليلات المأمون لتوليته العهد :

مرّت الأخبار عن إصرار المأمون على إشخاص الرضا عليه‌السلام من المدينة إلى مرو عن طريق البصرة والأهواز وفارس ، وليس الكوفة وقم ، ممّا يكشف عن معرفته بمعرفة أهلهما بالرضا عليه‌السلام. وأسند الصدوق عن الريان بن الصلت الأشعري القمي أنّ المأمون قال له : لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري! ثمّ أمره أن يقعد بين قوّاده ويحدّثهم بفضل علي عليه‌السلام (٢) فهو يعرفه بأنه من أهل قم بما هم عليه من التشيع لأهل البيت عليهم‌السلام ، هذا من ناحية.

وأُخرى : ما جاء في الخبر نفسه : أنّ من كان لا يحب عهد المأمون إلى الرضا عليه‌السلام من القوّاد أكثروا : أنّ هذا من تدبير الفضل بن سهل ذي الرياستين ، وأكثر بتبعهم عامة الناس في ذلك ، حتّى بلغ ذلك إلى المأمون (٣) فأراد أن يدفع ذلك عن نفسه ويُلقي إلى هؤلاء القميين وأشياعهم مدّعياً إخلاصه في الأمر!

قال ابن الصلت : فبعث إليّ في جوف الليل! فصرت إليه ، فقال لي : يا ريّان ، بلغني أنّ الناس يقولون : إنّ بيعة الرضا كانت من تدبير الفضل بن سهل؟!

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٨ ، ١٩ ، الباب ٣ ، الحديث ١ ، وفي ط : ١٠٠ ـ ١٠١ ، الباب ٣ ، الحديث ١١.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٢ ، الحديث ٢٢.

(٣) المصدر : ١٥١.

٥٤

فقلت : يا أمير المؤمنين! يقولون ذلك. قال : ويحك يا ريّان! أيجسر أحد أن يجيء إلى خليفة قد استقامت له الرعية والقوّاد ، واستوت له الخلافة فيقول له : ادفع الخلافة من يدك إلى غيرك؟! أيجوز هذا في العقل؟! قلت له : لا والله يا أمير المؤمنين ما يجسر على هذا أحد! فقال : والله ما كان كما يقولون ، ولكن سأُخبرك بسبب ذلك :

إنّه لما كتب إليّ أخي محمّد (الأمين) يأمرني بالقدوم عليه فأبيت عليه ؛ عقد لعلي بن عيسى بن ماهان وأمره أن يقيّدني ويجعل الجامعة في عنقي! وورد الخبر بذلك عليَّ ، وكنت قد بعثت هرثمة بن أعين إلى صاحب السرير في حوالي سيستان ، فهزمه صاحب السرير وغلب على ناحيته من كور سيستان وكرمان ، فلمّا ورد ذلك عليَّ ما كان لي مال أتقوّى به فلم يكن لي قوة بذلك ، ورأيت من رجالي وقوّادي الجبن والفشل! حتّى أردت أن الحق بملك كابل! ثمّ قلت في نفسي : إنّ ملك كابل رجل كافر ، وإن محمّداً (الأمين) يبذل له الأموال فيدفعني إليه!

فلم أجد وجهاً أفضل من أن أتوب إلى الله عزوجل من ذنوبي واستجير بالله واستعين به على هذه الأُمور! فصببت عليَّ الماء (واغتسلت) ولبست ثوبين أبيضين ، وصليت أربع ركعات قرأت فيها ما حضرني من القرآن ، ودعوت الله واستجرت به وعاهدته عهداً وثيقاً بنية صادقة : أنّه إن أفضى الله بهذا الأمر إليّ وكفاني هذه الأُمور الغليظة ، أن أضع هذا الأمر في موضعه الذي وضعه الله فيه!

ثمّ بعثت (طاهر بن الحسين الخزاعي) إلى علي بن ماهان فكان من أمره ما كان ، وبعثت إلى صاحب السرير فبذلت له شيئاً حتّى رجع ، وبعثت هرثمة إلى رافع (بن أعين) فظفر به وقتله ، فلم يزل أمري يقوى حتّى كان من أمر أخي محمّد (الأمين) ما كان ، وأفضى الله! إليّ بهذا الأمر واستوى لي.

٥٥

فلمّا وفى الله عزوجل لي بما عاهدته عليه أحببت أن أفي لله تعالى بما عاهدته! فلم أر أحداً أحق بهذا الأمر من أبي الحسن الرضا فوضعتها إليه فلم يقبلها إلّاعلى ما قد علمت. فهذا كان سببها (١).

هذا ما كان منه إلى الريان القمي الأشعري بالسرّي من التعليل والتحليل ، أما علناً فقد أسند عنه الصولي أنّه قال : إنّما فعلت ما فعلت لأنّ أبا بكر لما ولي لم يولّ أحداً من بني هاشم شيئاً! ثمّ عمر ، ثمّ عثمان كذلك ، ثمّ ولي علي عليه‌السلام فولّى عبد الله بن عباس البصرة ، وعبيد الله اليمن ، ومعبداً مكة ، وقُثم البحرين ، فما ترك أحداً منهم حتّى ولّاه شيئاً ، فكانت هذه في أعناقنا حتّى كافأته في ولده بما فعلت (٢) فهذا التعليل العام للعامة ، والتحليل السابق للمتشيّعين خاصة!

وقد صدّق الصدوق به فقال : والصحيح عندي أنّ المأمون إنّما ولّاه العهد وبايع ، للنذر الذي تقدم ذكره (٣)!

وزوّجه بجاريتين قبل ابنته :

حدّث الصولي عن جدّته أُم أبيه عذار أنها كانت من مولّدات الكوفة فاشتُريت مع عدّة جوار منها معها للمأمون ، وحُملن إليه ، قالت : فلمّا كنّا في داره كنّا في جنة من الطيب والأكل والشرب وكثرة الدنانير!

ثمّ وهبني المأمون للرضا عليه‌السلام فلمّا صرت إلى داره فقدت كل ما كنت فيه من النعيم ، بل كانت علينا قيّمة تأخذنا بصلاة الليل فكان ذلك أشد شيء علينا!

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥١ ، ١٥٢ ، الحديث ٢٢.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٦٦.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٦ ، ذيل الحديث ٢٨.

٥٦

وكانت تُسأل كثيراً عن أمر الرضا عليه‌السلام فتقول : ما أذكر منه شيئاً إلّاأني كنت أراه إذا صلّى الغداة (الفجر) في أول الوقت سجد فلا يرفع رأسه إلى أن ترتفع الشمس ، ثمّ يقوم ، ثمّ يركب (فيخرج) أو يجلس للناس. وكان يتبخّر بالعود الهندي السنيّ (الطيب) ويستعمل هو مسكاً أو ماء ورد. ولم يكن أحد يقدر أن يرفع صوته في داره كائناً من كان وإنّما يتكلم الناس همساً أو قليلاً.

قالت : ثمّ وهبني لجدك عبد الله بن العباس الصولي. قال محمّد بن يحيى الصولي : كان جدي عبد الله يوم وهُبت له دبّرها ، وكان يتبرك بها. وكانت جدتي هذه أتم امرأة عقلاً وسخاءً ، حتّى توفيت ولها مئة سنة ، عام (٢٧٠ ه‍) (١).

ولعلّه عليه‌السلام حين وهبها للصولي بعث المأمون إليه جارية أُخرى ، فلمّا ادخلت إليه وكان الرضا عليه‌السلام في ما بعد الخمسين من عمره وقد شاب شعره ، فلمّا رأت ذلك اشمأزّت من شيبه ، ورأى كراهيتها ، فردّها إلى المأمون ، وكتب إليه بالأبيات التالية :

نعى نفسي إلى نفسي المشيب

وعند الشيب يتّعظ اللبيب

فقد ولّى الشباب إلى مداه

فلست أرى مواضعه تؤوب

سأبكيه وأندبه طويلاً

وادعوه إليّ ، عسى يجيب

وهيهات الذي قد فات مني

تمنّيني به النفس الكذوب

وراعَ الغانياتِ بياضُ رأسي

ومن مُدّ البقاء له يشيب

أرى البيض الحِسان يحِدن عنّي

وفي هجرانهن لنا نصيب

فإن يكن الشباب مضى حبيباً

فإنّ الشيب لي أيضاً حبيب

سأصحبه بتقوى الله حتّى

يفرّق بيننا الأجل القريب (٢)!

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٧٩ ، الحديث ٣.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٧٨ ، الباب ٤٣ ، الحديث ٨.

٥٧

ومع عدم بقاء الجاريتين عند الرضا عليه‌السلام لم يفكر المأمون في إحضار عائلة الرضا من المدينة ، ذلك أنّه كان يريد من الجاريتين أن تكونا عينيه على الرضا عليه‌السلام ، فلمّا لم يُبقهنّ عنده عرض عليه ابنته أُم حبيب ، كما سيأتي (١).

حوادث بغداد والكوفة :

يؤرّخ الطبري لبيعة ولاية العهد يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة (٢٠١ ه‍) (٢) ثمّ يؤرّخ وصول الكتاب بذلك من الحسن بن سهل إلى قائده في بغداد عيسى بن محمّد بن أبي خالد ، يأمره بأخذ البيعة ولُبس الخضرة ، يؤرّخه بيوم الثلاثاء (٢٥ ذي الحجة ٢٠١ ه‍) قال : وفيه أظهر العباسيون ببغداد : أنهم قد خلعوا المأمون وقد بايعوا بالخلافة إبراهيم بن المهدي العباسي ، وأنهم يعطون كل من يبايع له عشرة دنانير لأول يوم من المحرم أول يوم من السنة المقبلة (٣).

وفي اليعقوبي : لخمس ليال خلون من المحرم سنة (٢٠٢ ه‍) اجتمع قوّاد الحربية فبايعوا لإبراهيم بن المهدي المعروف بأُمه شِكلة ، ودعوا له بالخلافة ، وسمّوه بالمرضيّ (في مقابل الرضا عليه‌السلام) وصلّى بهم في المسجد الجامع ببغداد ، وصار معه قائد الحسن بن سهل : عيسى بن محمّد بن أبي خالد ، والفضل بن الربيع وسعيد بن الساجور وأبو البط ، وعسكروا في كلواذى. وكتب بالولايات ، وعقد الألوية ، واستقامت له الأُمور ، وأطاعه الأبناء وأهل الحربية وما والاها إلّامن بقي في طاعة المأمون. وكان إبراهيم أسود شديد السواد وبنصف وجهه شامة فهو سمج المنظر! ولذا كانوا يدعونه بالعنقود!

__________________

(١) في الصفحة : ٧٥.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ٥٥٤.

(٣) تاريخ الطبري ٧ : ٥٥٥.

٥٨

وكان الوافون للمأمون مع حُميد بن عبد الحميد نازلاً بموضع يقال له : خان الحكَم على نهر صرصر ، فراسل عيسى بن أبي خالد حتّى توافقا فصار حُميد إلى بغداد ثمّ انصرف إلى معسكره!

وكان أسد الحربي مع عسكره من الحربية مع إبراهيم ثمّ توافق معهم فوثبوا على إبراهيم العباسي وعادوا إلى طاعة المأمون ، فحاربه عيسى بن أبي خالد حتّى أخذه وابناً له فقتلهما وصلبهما (١).

وقال المسعودي : اضطرب الهاشميون (العباسيون) بمدينة السلام (بغداد) وعظم عليهم زوال الملك عنهم ومصيره إلى ولد أبي طالب! فأخرجوا الحسن بن سهل أخا ذي الرياستين من بغداد ، وكان خليفة المأمون على العراق ، وبايعوا المنصور بن المهدي وكان مضعَّفاً فلم يتم أمره فبايعوا أخاه إبراهيم لخمس خلون من المحرم سنة (٢٠٢ ه‍) ودعوا له بالخلافة على منابر بغداد وغيرها ، فوجّه جيوشه لحرب الحسن بن سهل بالمدائن في حروب سجال (٢).

وقال ابن العبري : فغضب بنو العباس وشق ذلك عليهم وقالوا : لا تخرج الخلافة منّا إلى أعدائنا! فخلعوا المأمون وبايعوا إبراهيم بن المهدي وسمّوه (المبارك) (٣).

وفي عاشر ربيع الآخر توجّه القائد حُميد بن عبد الحميد من قوّاد الحسن بن سهل إلى الكوفة ، وولّى عليها العباس بن موسى بن جعفر العلوي في الخضرة على أن يدعو للمأمون وبعده لأخيه علي بن موسى (الرضا)

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٠ ـ ٤٥١.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ونحوه في مروج الذهب ٣ : ٤٤١.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٣٤ ، ونحوه في تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٣ ، والخلفاء للسيوطي : ٣٦٥.

٥٩

وأعانه بمئة ألف درهم وقال له : قاتل عن أخيك فإنّ أهل الكوفة يجيبُونك إلى ذلك ، وأنا معك.

وأجابه كثير منهم ، وقال آخرون : إن كنت تدعو إلى أخيك أو نفسك أو بعض أهل بيتك أجبناك ، أما إن كنت تدعو للمأمون وبعده لأخيك فلا حاجة لنا في دعوتك! فقال لهم : أنا أدعو إلى المأمون ثمّ بعده لأخي ، فقعد عنه أكثر «الشيعة».

وانضمّ إليه علي بن محمّد بن جعفر العلوي المبايَع له بمكة ، وأبو عبد الله أخو أبي السرايا ومعهم جماعة كثيرة. وكان عيسى بن محمّد قائد إبراهيم العباسي في قصر ابن هبيرة ، فلمّا بلغه خبر الكوفة تهيّأ هو وأصحابه وخرجوا إلى قرية شاهي في الثاني من جمادى الأُولى.

فوجّه العباس بن موسى بن جعفر إليهم بابن عمّه علي بن محمّد بن جعفر العلوي مع أخي أبي السرايا ، فلمّا صار عسكر عيسى قرب القنطرة خرج عليهم علي بن محمّد بن جعفر العلوي ، فقاتلوهم ساعة ثمّ انهزم علي وأصحابه حتّى دخلوا الكوفة ، وجاء جند إبراهيم العباسي حتّى نزلوا الحيرة وخرج إليهم العباسيون من الكوفة.

فلمّا رأى ذلك رؤساء أهل الكوفة أتو إلى جند إبراهيم العباسي وسألوهم الأمان للعباس بن موسى وأصحابه ليخرجوا من الكوفة ، فأجابوهم إلى ذلك.

فأتوا العباس وقالوا له : إنك ترى ما يلقى الناس من القتل والحرق والنهب ، وإن عامة من معك الغوغاء! فاخرج من بين أظهرنا فلا حاجة لنا فيك! وخاف أن يُسلموه فقبل منهم.

فلمّا كان الخامس من جمادى الأُولى جاء سعيد وأبو البط من جند إبراهيم العباسي حتّى دخلوا الكوفة ونادى مناديهم : بأمن الأبيض والأسود!

٦٠