موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

المعتمِد يسأل الإمام الاستسقاء :

كان ذلك آخر الخبر عن كتاب ابن عياش مشتملاً على إطلاق العسكري عليه‌السلام من سجن الجوسق الأحمر عند صالح بن وصيف الأحمر ، وجرت الكتب على ذلك ، حتى أرسل ابن الصباغ المالكي (٨٥٥ ه‍) عن أبي هاشم الجعفري أنّ بعد خبر إفطاره صومه بالكعكة سرّاً وإخبار الإمام له جهراً قال :

ثمّ لم تطل مدة أبي محمد الحسن عليه‌السلام في الحبس إلّاأن قحط الناس بسامرّاء قحطاً شديداً (١) فأمر الخليفة المعتمد على الله ابن المتوكل (٢) بخروج الناس إلى الاستسقاء ، فخرجوا ثلاثة أيام يدعون ويستسقون فلا يُسقون (وأين دجلة؟!).

وفي اليوم الرابع خرج الجاثليق (الكاثوليك) إلى الصحراء بالنصارى والرهبان (ولا عهد لنا بهم يخرجون لذلك من كنائسهم!) وكان فيهم راهب مدّ يده إلى السماء فهطلت بالمطر (فوراً بلا سحاب ولا برق ولا رعد؟!) وكذلك في اليوم الثاني. فعجب الناس من ذلك وداخلهم الشك وصبا بعضهم إلى النصارى والنصرانية! وبلغ ذلك الخليفة فشق عليه.

فأنفذ إلى صالح بن وصيف : أن أَخرج أبا محمد الحسن بن علي من السجن وآتني به! (كذا هنا فقط) فلمّا أُحضر أبو محمد الحسن عند الخليفة (المعتمد) قال له : أدرك أُمة جدك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما لحق بعضهم من هذه النازلة بهم!

__________________

(١) فهل جفّت دجلة؟! ولم يُعلم ذكر ذلك في أي مصدر من مصادر تاريخ ذلك العهد.

(٢) كذا هنا ، وفي سائر المصادر : المتوكل ، وهو لا يعاصر العسكري عليه‌السلام فاكمل الخبر أخيراً بالمعتمِد بين حاصرتين!

٤٦١

(وأخبَره خبرهم) فقال عليه‌السلام : ادعهم (المسلمين والنصارى) يخرجون غداً. قال : قد استغنى الناس واستكفوا من المطر (فأين دجلة؟!) فما فائدة خروجهم؟ قال : لأُزيل عن الناس شكّهم وما وقعوا فيه من هذه الورطة التي أفسدت عقولاً ضعيفة.

فأمر الخليفة (المعتمِد) أن يخرج الناس والجاثليق والرهبان أيضاً يوماً ثالثاً! فخرج النصارى وخرج لهم أبو محمد الحسن ومعه المسلمون. فوقف النصارى وخرج ذلك الراهب ومدّ يديه إلى السماء للاستسقاء فغيّمت السماء في الوقت ونزل المطر!

فأمر أبو محمد الحسن بالقبض على يدي الراهب واكتشاف ما فيهما وأخذه! ففعلوا وإذا بين أصابعه عظم صغير ، فأخذه أبو محمد الحسن ولفّه وقال له : استسق مرّة أُخرى! فاستسقى فانكشف السحاب وانقشع الغيم وطلعت الشمس. فسأله الخليفة (المعتمِد) : ما هذا يا أبا محمد؟ قال : هذا عظم نبيّ ظفر به هؤلاء من قبر بعض الأنبياء! وما كشف عن عظم نبيّ تحت السماء إلّاهطلت بالمطر! فامتحنوه مرّة أُخرى فوجدوه كما قال عليه‌السلام (كذا هنا فقط).

ثمّ كلّم أبو محمد الحسن الخليفة لإخراج أصحابه الذين كانوا معه في السجن فأمر بإطلاقهم وإخراجهم!

وأقام أبو محمد الحسن بمنزله مبجَّلاً معظَّماً مكرَّماً! وعادت تصله صلات الخليفة وأنعامه إلى وفاته (١)!

__________________

(١) الفصول المهمة : ٤٤٣ ـ ٤٤٥ بتحقيق الحسيني ونشر المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام ، منفرداً بهذه الكيفية!

٤٦٢

مولود الموعود عليه‌السلام :

مرّ خبر الكليني عن أحمد بن محمد : أنّ المهتدي كان قد تهدّد العلويين عامة وأبا محمد العسكري عليه‌السلام خاصة يقول : والله لأُجلينّهم من جديد الأرض (١)!

ومرّ خبر أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري قال : كنت محبوساً مع أبي محمد العسكري عليه‌السلام في حبس المهتدي ابن الواثق (ففي آخر ليلة) قال لي : يا أبا هاشم ؛ إنّ هذا الطاغي (المهتدي) أراد أن يتعبّث (بأمر) الله في هذه الليلة (بقتله عليه‌السلام) وقد بتر الله عمره وجعله للقائم بعده (المعتمِد) وليس لي ولد وسأُرزق ولداً!

قال أبو هاشم : فلمّا أصبحنا شغب الأتراك على المهتدي فقتلوه (٢) في نصف رجب (٢٥٦ ه‍).

فهذا صريح في تأخر مولود الموعود المهدي عجّل الله فرجه عن مقتل المهتدي.

وفي كيفية ولادته عليه‌السلام سيأتي آنفاً طريقان من الصدوق نقلهما الطوسي عن غيره ، وزاد عليهما طريقين آخرين ، ثمّ جمع الأخبار الأربعة في خبر آخر كلها عن حكيمة بنت الجواد عليه‌السلام وكلها على أنَّ حمله كان كحمل أُم موسى عليه‌السلام بين عشية وصباحها بل وفجرها وليس ضحاها ، فلا مقتض لاحتساب مدة الحمل الطبيعي للعام القادم بعد مقتل المهتدي بل إنما بعد شهر منه في منتصف شعبان (٢٥٦ ه‍).

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥١٠ ، الحديث ١٦ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام.

(٢) إثبات الوصية : ٢١٥ ، وكتاب الغيبة للطوسي : ٢٠٥ ، الحديث ١٧٣ و ٢٢٣ و ١٨٧ مكرراً.

٤٦٣

وللشيخ التقي الشوشتري ملحقاً برجاله رسالة في تواريخ النبي والآل عليهم‌السلام ، ففي فصل مواليدهم يبحث في أخبار تاريخ مولود الموعود إلى أن يقول : وكيف كان فالأظهر هو القول الثاني (سنة ٢٥٦ ه‍) لكون رواياته خمسة ، بخلاف الأول (سنة ٢٥٥ ه‍) فليس فيه إلّاخبران. ثمّ يرد ترجيح النوري الأول بخبر الفضل بن شاذان عن محمد بن علي العباسي في رسالته في الغيبة ، بأنها بالوجادة وليست بالاسناد ، ثمّ يرد تأويل المجلسي لقول راوي الخبر الأول للكليني عن أحمد بن محمد بن عبد الله قال : وولد له ولد سماه محمداً سنة (٢٥٦ ه‍) (١) تركه المجلسي ونقله عن الصدوق والطوسي وفي بيانه قال : ربما يُجمع بينه وبين ما ورد من (٢٥٥) بكون السنة هنا ظرفاً لخروج التوقيع أو قتل الزبيري (٢) فقال الشيخ : لا وجه له لعدم حصر المعارض به (٣) فلانعارض الشيخ التقي ، وغفل كلهم عن مقتضى خبر أبي هاشم الجعفري ، فلم أعلم من نظر إليه في هذا الموضوع مع وضوحه.

خبر حكيمة بكيفية الولادة :

أسند الصدوق عن موسى بن محمد الموسوي عن حكيمة بنت محمد الجواد عليه‌السلام قالت : بعث إليّ أبو محمد الحسن العسكري عليه‌السلام قال : يا عمة اجعلي افطارك الليلة عندنا فإنها ليلة النصف من شعبان ، فإنّ الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة ، حجته في أرضه!

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥١٤ ، الحديث ١ ، باب مولد الصاحب وقبله في : ٣٢٩ ، الحديث ٥ ، باب النص عليه.

(٢) بحار الأنوار ٥١ : ٤ عن كمال الدين وغيبة الطوسي غفلةً عن الكافي في موردين.

(٣) قاموس الرجال : ١٢ ، رسالة التواريخ : ٢٤.

٤٦٤

قالت : فقلت له : ومَن أُمُّه؟ قال لي : هي نرجس. قلت له : جعلني الله فداك ما بها أثر! فقال : هو ما أقول لك.

قالت : فلمّا جلست جاءت (نرجس) تنزع خُفّي! وقالت لي : يا سيدتي كيف أمسيتِ؟ فقلت لها : بل أنت سيدتي وسيدة أهلي! فقالت : ما هذا يا عمة! قالت : فقلت لها : يا بنية ؛ إنّ الله تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة! قالت : فخجلتْ واستحيتْ!

فلمّا أن فرغتُ من صلاة العشاء الآخرة أفطرتُ ، وأخذتُ مضجعي فرقدتُ ، فلمّا أن كان في جوف الليل قمت إلى الصلاة ، ففرغت من صلاتي ، ثمّ جلست معقّبة ثمّ اضطجعتُ ثمّ انتبهتُ وهي راقدة. ثمّ قامت فصلّت ونامت. وخرجت أنا أتأمل الفجر ، فإذا أنا بالفجر الأول كذنب الذئب السحران! وهي نائمة ، فدخلتني الشكوك (كذا)!

فصاح بي أبو محمد من المجلس (محلّ المجلس العام) فقال : لا تعجلي يا عمة! فهاكِ الأمر قد اقترب!

قالت : فجلست وقرأت الم السجدة ويس ، فبينا أنا كذلك إذ انتبهتْ (نرجس) فزعةً ، فوثبت إليها فقلت لها : اسم الله عليك! ثمّ قلت لها : أَتُحسّين شيئاً؟ قالت : نعم يا عمّة. فقلتُ لها : اجمعي نفسك وقلبك فهو ما قلت لك! فأخذتها فترة وأخذتني وانتبهت بحسّ سيدي! فكشفت الثوب عنه فإذا أنا به ساجداً يتلقى الأرض بمساجده ، فضممتُه إليّ فإذا أنا به نظيف متنظّف!

فصاح بي أبو محمد عليه‌السلام : هلّمي إليّ ابني يا عمة.

فجئت به إليه فوضع يديه تحت ظهره ووضع قدميه على صدره وأمرّ يده على عينيه وسمعه ومفاصله ثمّ أدلى لسانه في فيه ثمّ قال له : تكلّم يا بني ...

٤٦٥

ثمّ أسند الصدوق عن محمد بن عبد الله الطهَوي عن حكيمة بنت محمد الجواد عليه‌السلام وفيه تفصيل القول عن خبر تزويج نرجس بالعسكري عليه‌السلام بإذن أبيه بل بأمره. وقالت : حتى مضى أبو الحسن الهادي وجلس أبو محمد مكان والده فكنت أزوره كما كنت أزور والده. فزرته يوماً .. وجلست عنده إلى وقت غروب الشمس فصحتُ بالجارية ، قلتُ لها : ناوليني ثيابي لأنصرف. فقال لي أبو محمد : لا يا عمتاه ، بِيتي الليلة عندنا ، فإنه سيولد الليلة المولود الكريم على الله عزوجل ، الذي يُحيي الله به الأرض بعد موتها! فقلت : ممّن يا سيدي ولست أرى بنرجس شيئاً من أثر الحبل! فقال : مِن نرجس لا من غيرها. قالت : فوثبت إليها فقلّبتها ظهراً لبطن فلم أرَ بها أثر حبل! فعدت إليه فأخبرته بما فعلتُ ، فتبسّم ثمّ قال لي : إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل ؛ لأنّ مثَلها مثَل أُم موسى عليه‌السلام لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها أحد إلى وقت ولادتها ؛ لأنّ فرعون كان يشق بطون الحبالى في طلب موسى عليه‌السلام ، وهذا نظير موسى عليه‌السلام.

قالت حكيمة : فعدتُ إليها فأخبرتها بما قال ، وسألتها عن حالها فقالت : يا مولاتي ما أرى بي شيئاً من هذا! قالت حكيمة : فلم أزل أرقبها إلى (قبيل) وقت طلوع الفجر ، وهي نائمة بين يديّ لا تقلّب جنباً إلى جنب.

حتّى إذا كان وقت طلوع الفجر وإذا بها وثبت فزعة ، فضممتها إلى صدري وسمّيت عليها : «اسم الله عليك» وقلت لها : ما حالك؟ قالت : ظهر الأمر الذي أخبركِ به مولاي. وصاح بي أبو محمد قال لي : اقرئي عليها : «إنّا أنزلناه في ليلة القدر» فأقبلتُ اقرأ عليها كما أمرني. وأجابني الجنين من بطنها يقرأ مثل ما اقرأ وسلّم عليَّ! ففزعت لِما سمعت ، فصاح بي أبو محمد : لا تعجبي من أمر الله عزوجل! إنّ الله تبارك وتعالى يُنطقنا بالحكمة صغاراً ، ويجعلنا حججاً في أرضه كباراً.

٤٦٦

فلم يستتم كلامه حتّى غُيّبتْ عني نرجس فلم أرها! كأنّه ضُرب بيني وبينها حجاب!

فغدوت إلى أبي محمد وأنا صارخة! فقال لي : ارجعي يا عمة فإنك ستجديها في مكانها! قالت : فرجعتُ فلم ألبث أن كُشف الغطاء الذي كان بيني وبينها ، وإذا أنا بها وعليها من أثر النور ما غشي بصري ، وإذا أنا بالصبي ساجداً لوجهه جاثياً على ركبتيه رافعاً سبّابته يقول ....

فصاح بي أبو محمد قال : يا عمّة تناوليه وهاتيه ، فتناولتُه وأتيت به نحوه ، فلمّا مَثُلت به بين يدي أبيه وهو على يدي ، سلّم على أبيه! فتناوله الحسن عليه‌السلام منّي .. ثمّ قال : امض به إلى أُمه لترضعه وردّيه إليّ. فتناولته امه فأرضعته ، ورددته إلى أبي محمد عليه‌السلام (١).

ورواهما الطوسي عن غير الصدوق ، بدأ بخبر الطهَوي باسم أبي عبد الله المطهري ، وباختلاف في أطراف الخبر منه في ذكر السنة : (٢٥٥ ه‍) ومنه في اسمها «سوسن». وثنّى الطوسي بخبر موسى بن محمد بن القاسم باسم موسى بن محمد بن جعفر (سهواً) وثلّت باسناده إلى محمد بن إبراهيم عن حكيمة بمثل معنى الخبر الأول (المطهري) مع ذكر التاريخ كذلك ، وفيه زيادة : فلمّا كان اليوم الثالث اشتد شوقي إليه فأتيته عائدة فبدأت بحجرتها فإذا أنا بها جالسة وعليها أثواب صُفر كالمرأة النُفساء معصبة الرأس ، فسلّمت عليها والتفتّ إلى جانب البيت ، وإذا بمهد عليه أثواب خضر ، فعدلت إليه ورفعت عنه الثوب فإذا أنا بولي الله نائم على قفاه بلا قماط ولا حزام ، وفتح عينيه وجعل يناجيني باصبعه ، فتناولته وأدنيته إلى فمي لأُقبّله فشممت منه رائحة ما شممت قط أطيب منها!

__________________

(١) كمال الدين : ٤٢٤ ـ ٤٢٨.

٤٦٧

ثمّ أسند الطوسي رابعاً عن محمد بن علي بن بلال (بن راشتة المتطبّب) عن حكيمة مثله.

ثمّ قال : وفي رواية عن جماعة الشيوخ عن حكيمة حدثت بالحديث (١) ويظهر لي من الخبر أن جماعة الشيوخ هم الرواة السابقون الأربعة ، فهو جمع لأخبارهم ، وليس طريقاً خامساً.

وأسند الصدوق عن أحمد بن محمد السياري البصري عن نسيم ومارية قالتا : لمّا خرج صاحب الزمان عليه‌السلام من بطن أُمه سقط جاثياً على ركبتيه رافعاً سبابته نحو السماء وعطس فقال : الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمد وآله ، عبداً داخراً لله ، غير مستنكف ولا مستكبر. زعمت الظلمة أنّ حجة الله داحضة (٢)! ممّا يدل على حضورهن ومباشرتهن لمولده عليه‌السلام وعدم حصره في حكيمة ونرجس.

وأسند عن محمد بن عثمان العمري قال : لمّا ولد السيّد عليه‌السلام بعث أبو محمد عليه‌السلام إلى أبي (أبي عمرو = عثمان بن سعيد) فصار إليه فأمره أن يشتري عشرة آلاف رطل خبزاً ومثله لحماً ، ويعق عنه بكذا وكذا شاةً ، ويفرّقها على بني هاشم (٣).

وأسند عن إبراهيم بن محمد الموسوي عن أحمد بن محمد السياري

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٢٣٤ ـ ٢٣٩ ، الحديث ٢٠٤ ـ ٢٠٧.

(٢) كمال الدين : ٤٣٠ ، الحديث ٥ ، وقبله في الهداية الكبرى : ٧٠ ، وإثبات الوصية : ٢٢١ وبعده في كتاب الغيبة للطوسي : ٢٤٤ ، الحديث ٢١١ عن كتاب أخبار القائم عليه‌السلام لعلي بن محمد الكليني الرازي المعروف بعلّان.

(٣) كمال الدين : ٤٣٠ ، ٤٣١ ، الحديث ٦.

٤٦٨

البصري عن نسيم خادمة أبي محمد عليه‌السلام قالت : دخلتُ على صاحب الزمان بعد مولده بليلة فعطستُ عنده ، فقال لي : يرحمكِ الله! ففرحت بذلك فقال لي : ألا أُبشّركِ في العطاس؟ قلت : بلى يا مولاي ، فقال : هو أمان من الموت ثلاثة أيام (١).

وأسند الصدوق عن أبي هارون قال : رأيت صاحب الزمان وكشفت ثوبه عنه فوجدته مختوناً! فسألت أبا محمد عليه‌السلام فقال : هكذا وُلد وهكذا وُلدنا ، ولكنّا نُمرّ عليه الموسى لإصابة السنّة وإصابة السنة على السابع من المولد ، فيظهر أنّ الخبر كان قبل تمام الأُسبوع الأول.

وقبله أسند عن الحسن بن الحسين العلوي (الحسني) : أنّه دخل عليه فهنّأه بولادة ابنه (٢).

ورواه الطوسي عن الكليني (وليس في الكافي) رفعه عن نسيم خادمة أبي محمد عليه‌السلام قالت : دخلتُ على صاحب الزمان عليه‌السلام بعد مولده بعشر ليال فعطست عنده .. (٣).

أحداث عام (٢٥٧ ه‍):

قال اليعقوبي : في شهر ربيع الآخر سنة (٢٥٧ ه‍) وجّه المعتمِد بالحسين الخادم المعروف بعِرق الموت إلى عيسى بن الشيخ الربعي الشيباني المتغلّب على

__________________

(١) كمال الدين : ٤٣٠ ذيل الحديث ٥ و ٤٤١ ، الحديث ١١ مكرراً.

(٢) كمال الدين : ٤٣٤ ، الحديث ١ والحديث ١ في بابين والأخير في الطوسي بسندين : ٢٢٩ ، الحديث ١٩٥ و ٢٥١ والحديث ٢٢١.

(٣) كتاب الغيبة للطوسي : ٢٣٢ ، الحديث ٢٠٠ ويبعد التكرار ، فالأَول أولى وله طريقان.

٤٦٩

فلسطين ، بأمان على نفسه وماله وولده والصفح عمّا كان منه وتوليته أرمينية ؛ وتسليم ما في يده إلى عامل دمشق أماجور التركي ، فسلّمها إليه من دون أن يردّ من الأموال شيئاً ، وشخص من البلد إلى أرمينية للولاية عليها في جمادى الآخرة عام (٢٥٧ ه‍).

وكانت أُمور مصر بيد بايكباك التركي وقد قُتل ، فصيّر المعتمد ما كان إليه من أعمال مصر وغيرها إلى يارجوج التركي ، فكتب يارجوج إلى أحمد بن طولون التركي عامل مصر بإقراره على ما كان يتولى منها. فحمل أحمد بن طولون ما كان حاصلاً في بيت المال بمصر وكان مبلغه ألفي ألف (مليون) ومئة ألف درهم ، وحمل الطراز والخيش والشمع وقاد الخيل حتى سلّمها إلى أماجور التركي بدمشق ، وأشهد به عليه وعاد إلى الفسطاط. وكان على الاسكندرية إسحاق بن دينار ، فكتب المعتمد إلى أحمد بن طولون بولاية الاسكندرية ، فشخص إليها في شهر رمضان سنة (٢٥٧ ه‍).

وكان على خراج مصر أحمد بن محمد بن المدبّر ، فصرفه المعتمد إلى خراج الشامات ، وولّى خراج مصر أحمد بن محمد الشجاع ابن اخت الوزير ، فقدِم الفسطاط في شهر رمضان عام (٢٥٧ ه‍).

وكان على بريد مصر أبو صحبة سفير الخادم ، فعزله المعتمد وولّى مكانه أحمد بن الحسين الأهوازي ، فقدمها في شوال عام (٢٥٧ ه‍).

وفي هذه السنة وجّه أحمد بن طولون مع حُجّاج مصر ألف فارس مع ماطعان التركي ، وأمره أن يدخل المدينة وحتى مكة بالسلاح والتعبئة ، فوافاهما وحتّى في عرفات بالأعلام والطبول والسلاح (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٨ ، ٥٠٩.

٤٧٠

وعن صاحب الزنج بالبصرة :

قال اليعقوبي : زحف الخارج بالبصرة علي بن محمد المدّعي إلى آل أبي طالب ، زحف إلى الأُبلّة فنهبها وأخربها وأحرقها بالنار. فتوجّه إليه سعيد بن صالح فواقعه بنهر أبي الخصيب (١).

وفي آخر سنة (٢٥٧ ه‍) دخل المدّعي العلوي البصرة وحرّق المسجد الجامع ونهب بها ، فتوجّه إليه محمد المولّد التركي ، فلمّا بلغه الخبر خرج منها.

وفي أوائل سنة (٢٥٨ ه‍) دخل محمد المولّد التركي البصرة ، ولم يبقَ من أصحاب المدّعي العلوي بها أحد ، وكان أهلها قد خرجوا منها خوفاً منهم فعادوا فلم يجدوا منزلاً يُسكن (٢)!

وفي أول ربيع الأول سنة (٢٥٨ ه‍) خلع المعتمد على أخيه أبي أحمد الموفّق وعلى مفلح التركي معه ، ليشخصا إلى البصرة لحرب صاحب الزنج ، ففي منتصف جمادى الأُولى أوقع مفلح التركي به ، ولكنه أصابه سهم في صُدعه فنزف الليل حتى مات صباحاً. فانصرف أبو أحمد الموفّق عن حربه وحمل مفلحاً معه إلى سامرّاء فدفنه بها (٣) فاستولى صاحب الزنج على عبّادان بالأمان ، ثمّ على الأهواز عنوة بالسيف (٤).

ونقل السيوطي عن الصولي قال : كان يصعد المنبر بالبصرة فيسبّ طلحة والزبير وعائشة ، ولا يسبّ الشيخين ، ويسبّ عثمان ومعاوية حتى علياً عليه‌السلام

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٠٩.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١١١.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٦.

٤٧١

وفي يوم واحد قَتل بالبصرة ثلاثمئة ألف آدمي ، ومنهم علويون ، ويسبون نساءهم وبناتهم حتّى أنّه كان عند الزنجي الواحد منهم عشرة من العلويات يستخدمهن ويطأهنّ ، ويُنادي عليهن في عسكره بثلاثة دراهم وحتّى بدرهمين!

قال : واستمر القتال معه منذ تولّى المعتمد سنة (٢٥٦ ه‍) دخلوا البصرة فبذلوا السيف وأحرقوا وخرّبوا وسبَوا ، وجرى بينهم وبين عساكر المعتمِد عدة وقعات وفي أكثرها أمير عسكر المعتمد أخوه الموفّق.

وأعقب ذلك الوباء الذي كان لا يتخلّف عن الملاحم الكبرى بالعراق ، فمات به خلق لا يُحصون كثرةً! ثمّ أعقبته زلازل وهدّات ، فمات تحت الردم أُلوف من الناس (١).

وفي اليعقوبي : في سنة (٢٥٨ ه‍) وقع بالعراق الوباء فمات منه خلق كثير : حتّى يقال إنه مات ببغداد في يوم واحد اثنا عشر ألف إنسان ، كان الرجل يخرج من منزله فيموت قبل عودته!

وفيها (٢٥٨ ه‍) توجّه أبو أحمد الموفّق إلى المدّعي العلوي بالبصرة في جيش كثيف ، وكان العسكر والزاد والسلاح في السفن ، فوقعت النار في السفن فاحترقت ، فعاد الموفّق أدراجه (٢).

العسكري عليه‌السلام في مشايعة الموفّق :

متزامناً مع ما مرّ من خروج المعتمد في أول ربيع الأول عام (٢٥٨ ه‍) لمشايعة أخيه الموفّق خارجاً بجيشه لمواجهة صاحب الزنج بالبصرة ، كانوا قد

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢٥ و ٤٢٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥١٠.

٤٧٢

أخرجوا معهم العسكري عليه‌السلام. وكان وفد من شيعته من أهل الأهواز قد وفدوا إليه إلى سامراء وصادف وصولهم خروج الإمام عليه‌السلام مع موكب المعتمد للموفّق.

فروى الحسن بن سهل النوبختي عن علي بن محمد بن الحسن قال : وافت جماعة من أصحابنا من الأهواز وخرج السلطان إلى صاحب البصرة (!) وخرج أبو محمد عليه‌السلام ماضياً معه ، وخرجنا نريد النظر إليه فنظرنا إليه ماضياً مع السلطان ، وقعدنا ننتظر رجوعه. وكان عليه قلنسوة ، فلما قرب منا وحاذانا مدّ يده إلى قلنسوته فأخذها عن رأسه وأمسكها بيده وأمرّ يده الأُخرى على رأسه والتفت إلى رجل منا وضحك في وجهه! فبادر الرجل يقول : أشهد أنك حجة الله وخيرته!

فقلنا له : ما شأنك؟ قال : كنت شاكاً فيه فقلت في نفسي : إن رجع وأخذ قلنسوته عن رأسه قلت بإمامته (١).

العسكري عليه‌السلام والطالبيون في سجن المعتمد :

نقل الطبرسي عن ابن عياش قال : كان المعتز حبس أبا محمد العسكري عليه‌السلام مع عدة من الطالبيين منهم أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري في سنة (٢٥٨ ه‍) (٢) والمعتز إنما كان إلى (٢٥٥ ه‍) ثمّ المهتدي إلى (٢٥٦ ه‍) ثمّ المعتمد. فالظاهر أنّ المعتز هنا مصحف عن المعتمد. قال ابن عياش ذلك معلّقاً به على خبر رواه وظاهره أنّ العسكري عليه‌السلام حينئذ كان خارج السجن وليس معه :

أسند الخبر عن أبي هاشم نفسه قال : شكوت إلى أبي محمد عليه‌السلام ضيق الحبس وثقل القيد! فكتب إليّ : «تصلّي الظهر اليوم في منزلك» فلمّا صار الظهر

__________________

(١) إثبات الوصية : ٢٤٦ وعيون المعجزات : ١٣٩ والخرائج والجرائح ١ : ٤٤٤ الحديث ٢٦ وكشف الغمة ٤ : ٩٨ عن دلائل الإمامة للحميري.

(٢) إعلام الورى ٢ : ١٤٠.

٤٧٣

اخرجتُ فصلّيت في منزلي. وكنت مضيّقاً (مالياً) فأردت أن أطلب منه في كتابي دنانير فاستحييت ، فلمّا صرت إلى منزلي وجّه إليّ بمئة دينار وكتب إليّ : «إذا كانت لك حاجة فلا تستح ولا تحتشم واطلبها ، فإنك ترى ما تحب» (١).

أحداث عامي (٢٥٨ ه‍) و (٢٥٩ ه‍):

وكان جمع من الطالبيين من المدينة توجهوا إلى مصر ، ففي جمادى الآخرة من هذه السنة (٢٥٨ ه‍) أمر أحمد بن طولون التركي المصري بجمعهم وإخراجهم إلى المدينة ، وأراد أحدهم من ولد العباس بن علي عليه‌السلام أن يتوجّه إلى المغرب ، فأخذه ابن طولون وضربه مئة وخمسين سوطاً وأطافه بالفُسطاط!

ثمّ أخذ ابن طولون الجند والشاكرية والموالي والناس بالبيعة له دون المعتمد.

وفي شهر رمضان (٢٥٨ ه‍) وجّه المعتمد شنيف الخادم مولى المتوكل إلى الروم لمفاداة الأسرى المسلمين لديهم ، فاجتمعوا بنهر اللامس ، وشرط الروم هدنة أربعة أشهر ، فتوافقوا وتفادَوا.

وكان الأعراب من حول المدينة من بني سليم وبني هلال وغيرهم من بطون قيس ، يقطعون الطرق على الحجّاج ويسلبونهم أمتعتهم ، ففي سنة (٢٥٩ ه‍) نال أهل البادية زلازل ورياح وظلمات ، فهربوا إلى مكة والمدينة يستجيرون بالكعبة وبقبر رسول الله ، وأحضروا معهم بعض أمتعة الحجاج ممّن قطعوا عليهم طريقهم ، وهلك منهم في البادية خلق عظيم (٢).

__________________

(١) إعلام الورى ٢ : ١٤٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥١٠ ، ٥١١. هذا وهيئة الناهين عن المنكر لم يستنكروا عليهم ذلك!

٤٧٤

الحُجة والجدّة إلى الحج :

روى محمد بن الحسن الصفّار القمي (٢٧٩ ه‍) أنّ أبا محمد العسكري عليه‌السلام ذات يوم من أيام سنة (٢٥٩ ه‍) أحضر والدته السيّدة سليل وقال لها : في سنة ستين ومئتين (٢٦٠ ه‍) تصيبني حزازة أخاف أن انكب منها نكبة!

فأخذها البكاء وأظهرت الجزع فقال لها : لابدّ من وقوع أمر الله ، فلا تجزعي (١) ثمّ أمرها بالحجّ في سنة (٢٥٩ ه‍) مع الصاحب عليه‌السلام. وأحضره وأوصى إليه وسلّم إليه الاسم الأعظم والسلاح والمواريث.

ثمّ أحضر أبا علي أحمدَ بن محمد بن مطهّر ووكّله وولّاه قافلتهم إلى الحج ، فخرجت أُم أبي محمد مع الصاحب عليه‌السلام جميعاً إلى مكة ، والوكيل عليهم والمتولي لأُمورهم أبو علي ابن المطهر.

فلمّا وصلوا إلى بعض المنازل لقيتهم قوافل من الأعراب ، فعرّفوهم بقلة الماء وشدة الخوف ، فانصرف أكثر الحجاج عن الحج لتلك السنة (٢).

ويظهر من الخبر اللاحق أنّ ذلك كان بالقادسية من العراق إلى صحراء الحجاز :

أسند الكليني عن ابن مطهّر أنّه في سنة القادسية كتب منها إلى أبي محمد العسكري عليه‌السلام يُعلمه انصراف الناس عن الحج وأنهم يخافون العطش! فكتب إليه بجوابه : «امضوا فلا خوف عليكم إن شاء الله» فمضوا سالمين ، والحمد لله رب العالمين (٣).

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٤٨٢ ، الحديث ٨.

(٢) إثبات الوصية للمسعودي : ٢٤٨ وعن عيون المعجزات في بحار الأنوار ٥٠ : ٣٣٦ ، الحديث ١٣ ، وانظر ترجمته في قاموس الرجال ١ : ٦٤٦ برقم ٥٨٢.

(٣) أُصول الكافي ١ : ٥٠٧ ، ٥٠٨ ، الحديث ٦ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام.

٤٧٥

الوزير ابن خاقان والعسكري عليه‌السلام :

قال المسعودي : لمّا أفضت الخلافة إلى المعتمِد على الله استوزر عبيدَ الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل سابقاً (١).

فروى الكليني عن ابنه أبي بكر أحمد بن عبيد الله وهو على الخراج والضياع بقم ، قال : إني كنت يوماً قائماً على رأس أبي وهو في يوم مجلسه للناس ، إذ دخل عليه حُجّابه فقالوا له : أبو محمد ابن الرضا بالباب. فرفع صوته وقال : ائذنوا له! ولم يكن يكنّى عند أبي إلّاخليفة أو وليّ عهد أو من أمر السلطان أن يكنّى ، فتعجّبت من أنهم جسروا على أن يكنّوا رجلاً عند أبي بحضرته!

فدخل رجل أسمر حسن القامة جميل الوجه جيّد البدن ، حدث السنّ ولكن له جلالة وهيبة! ولمّا نظر إليه أبي قام يمشي إليه خُطا ، وما رأيته يفعل ذلك بأحد من القواد وبني هاشم (بني العباس) فلمّا دنا منه عانقه وقبّل وجهه وصدره ، وأخذ بيده وأجلسه على مصلّاه الذي كان هو عليه ، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه ، وأخذ يكلّمه ويفدّيه بنفسه ، وأنا متعجب ممّا أرى منه!

إذ دخل عليه الحاجب فقال له : الموفّق قد جاء! فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد العسكري يحدثه ، حتى رأى الغلمان من خاصة قوّاد الموفّق دخلوا ووقفوا سِماطين بين باب الدار إلى مجلس أبي ، فحينئذٍ قال أبي لأبي محمد : إذا شئت جعلني الله فداك (أن تخرج) ثمّ قال لحجّابه : خذوا به خلف السِماطين حتى لا يراه هذا! يعني الموفّق. فقام وقام أبي وعانقه ومضى.

فسألت حجّاب أبي : ويلكم مَن هذا الذي كنّيتموه على أبي! وفعل به أبي هذا الفعل إكراماً!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١١١ ، والتنبيه والإشراف : ٣٢٠.

٤٧٦

فقالوا : هذا علوي يقال له : الحسن بن علي ، يُعرف بابن الرضا ، فازددت تعجباً.

ثمّ لم أزل يومي ذلك قلقاً متفكّراً في أمره وأمر أبي وما رأيت فيه! حتّى كان الليل ، فلمّا صلّى وجلس على عادته لينظر فيما يحتاج إليه من المشاورات وما يرفعه إلى السلطان ، جئت إليه وليس عنده أحد وجلست بين يديه ، فقال لي : يا أحمد ألك حاجة؟ قلت : نعم .. مَن الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والتبجيل والكرامة ، وفدّيته بنفسك وأبويك؟

فقال : يا بُني ؛ ذاك إمام «الرافضة» ذاك الحسن بن علي المعروف بابن الرضا .. ثمّ قال : يا بُني ، لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا! وإنّ هذا ليستحقها في فضله وعفافه ، وهَدْيه وصيانته ، وزهده وعبادته ، وجميل أخلاقه وصلاته! ولو رأيت أباه لرأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً! فاستزدته في قوله فيه ما قال! أي حسبته زائداً مبالغاً!

ثمّ ما سألت أحداً من بني هاشم (بني العباس) والقواد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلّاوجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل ، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخهم! فعظم قدره عندي ، إذ لم أر له ولياً ولا عدواً إلّاوهو يحسن القول فيه والثناء عليه (١).

ترحّم الإمام على ابن شاذان :

سيأتي ذكر وفاة العسكري عليه‌السلام في الثامن من شهر ربيع الأول سنة (٢٦٠ ه‍) ، وفيما يلي أخبار عنه عليه‌السلام بترحُّمه على الفضل بن شاذان بن خليل

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٠٣ ، ٥٠٤ ، الحديث ١ ، باب مولد العسكري عليه‌السلام.

٤٧٧

النيشابوري الخراساني ، ممّا يُعلم منه كما يأتي وفاته قبل إمامة العسكري عليه‌السلام في أوائل عام (٢٦٠ ه‍) ، فهنا نقف على طرف من أخباره وترجمته :

كان يروي عن أبيه شاذان بن خليل ، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على علوّ كعبه وعراقته في التشيع ، وعن إسماعيل بن سهل وأبي داود المسترق ، وإبراهيم بن عاصم أو هاشم وأبي هاشم داود بن القاسم الجعفري وابن أبي نجران. والحسن بن علي بن فضّال والحسن بن محبوب وصفوان بن يحيى وعثمان بن عيسى وعلي بن الحكم وعمارة بن المبارك وفضالة بن أيوب والقاسم بن عروة. ومحمد بن أبي عمير ومحمد بن الحسن الواسطي ومحمد بن سنان (١).

وهو في أواخر عهده كان يقول : مضى هشام بن الحكم رحمه‌الله وكان يونس بن عبد الرحمان خلفاً له يرد على المخالفين ، ثمّ مضى يونس بن عبد الرحمن ولم يخلّف خلفاً سوى السكّاك فردّ على المخالفين حتّى مضى رحمه‌الله ، وأنا أدركت صفوان بن يحيى ومحمد بن أبي عمير وغيرهما فأنا خلف لهم من بعدهم رحمهم‌الله (٢).

فدعا به عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) الخراساني والي خراسان العباسي وأمر أن يَكتب له ما يستعلم به كتبه ـ وهي أكثر من مئة وخمسين كتاباً ـ فكتب له بخطه : نخبة الإسلام الشهادتان ، ثمّ ما يتلوهما. فذكر ابن طاهر أنّه يحبّ أن يقف على قوله في السلف ، فقال أبو محمد الفضل : أتولّى أبا بكر ، ولكنّي أتبرّأ من عمر! قال : ولِمَ تتبرّأ من عمر؟! قال متخلّصاً به : لإخراجه العباس من الشورى! ومع ذلك نفاه من نيشابور (٣) فخرج إلى رستاق بيهق (٤).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٤٣ ، ٥٤٤ ، الحديث ١٠٢٩.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٥٣٩ ، الحديث ١٠٢٥.

(٣) المصدر السابق : ٥٣٩ ، الحديث ١٠٢٤.

(٤) المصدر السابق : ٥٤٣ ، الحديث ١٢٢٨.

٤٧٨

وكان أحد كتبه مع رجل من أهل البوزجان من نيشابور وجّهه أبو محمد الفضل عنه إلى أبي محمد العسكري عليه‌السلام ، فذكر أنه دخل عليه فلما قضى أمره وأراد الخروج وقد لفّ الكتاب في رداء له في حضنه فسقط منه الكتاب فتناوله أبو محمد عليه‌السلام ونظر فيه وقال : «إني أغبط أهل خراسان بمكان الفضل بن شاذان وكونه بين أظهرهم» ثمّ ترحّم عليه! (كذا) (١).

وكأنّ خبر استدعائه من قِبل عبد الله بن طاهر كان قد بلغ إلى عدة من المشايخ منهم محمد بن عيسى العُبيدي على أنّ أبا محمد الفضل قد حُبس فكانوا مغتمين محزونين! رآهم هكذا بُورق البوشخاني الهروي في طريقه إلى الحج. قال : فحججت ورجعت فوجدت محمد بن عيسى قد انجلى عنه ما كنت رأيته به ، فسألته عن الخبر قال : قد خُلّي عن أبي محمد الفضل.

قال بورق : وكان معي «كتاب يوم وليلة» من الفضل ، فخرجت به إلى سامرّاء فدخلت به على أبي محمد وأريته ذلك الكتاب وقلت له : جعلت فداك ، إن رأيت أن تنظر فيه! فتصفّحه ورقة ورقة ونظر فيه ثمّ قال : هذا صحيح ينبغي أن يُعمل به!

قال : وكان الفضل معتلاً شديد العلة من بطنه حتى أنه يختلف إلى الخلوة في الليلة مئة مرة إلى مئة وخمسين مرة! فقلت لأبي محمد عليه‌السلام : إنّ الفضل بن شاذان شديد العلة ويقولون إنها من دعوتك عليه لموجدتك عليه ، لما ذكروا عنه أنّه قال : إنّ وصيّ إبراهيم عليه‌السلام خير من وصيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يقل ذلك بل إنما كذبوا عليه هكذا!

فقال : نعم ، رحم الله الفضل!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٤٢ ، الحديث ١٠٢٧.

٤٧٩

قال بورق : فلمّا رجعت إلى نيشابور وبيهق وجدته قد توفي في الأيام التي قال أبو محمد العسكري : رحم الله الفضل (١).

وكان الفضل بن شاذان في روستاق بيهق ، فورد خبر توجّه الخوارج إليهم ، فهرب منهم ، فأصابته خشونة السفر فاعتل ومات منه ، وصلّى عليه أبو علي أحمد بن يعقوب البيهقي (٢).

وانتشر خبر كتاب كتبه عبد الله بن حمدويه البيهقي في الفضل بن شاذان إلى أبي محمد العسكري عليه‌السلام ، وأنّه أجابهم بما فيه تهديد بالدعاء عليه! وكتب نسختها أبو الحسن علي بن محمد بن قتيبة نحو صفحتين (٣).

فكتب أبو عمرو محمد بن عمر الكشي إلى أبي علي أحمد بن يعقوب البيهقي يسأله عن التوقيع الذي خرج في الفضل بن شاذان وأنّ المولى العسكري لعنه لقوله بالتجسيم!

فكتب إليه أبو علي البيهقي قال : أما ما سألت من ذكر التوقيع .. فإني أُخبرك أنّ ذلك باطل ، وإنّما كان مولانا عليه‌السلام قد أنفذ إلى نيشابور «وكيلاً» من العراق يُدعى أيوب بن الناب ليقبض حقوقه. وكان في نيشابور قوم من الشيعة ممّن يذهب مذهب الارتفاع والغلو والتفويض. فكأن هؤلاء شكوا إليه أنّ الفضل بن شاذان يزعم أنه ليس عن الإمام ويمنع الناس من إخراج حقوق الإمام إليه! وكتب هؤلاء بهذا إلى الإمام ، وكتب الوكيل بذلك كذلك ، وليس فيه الاتهام بالتجسيم.

وأنّ أبا علي البيهقي قرأ صورة توقيع الإمام عليه‌السلام الخارج على يد المعروف

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٣٧ ، ٥٣٨ ، الحديث ١٠٢٣.

(٢) المصدر السابق : ٥٤٣ ، ذيل الحديث ١٠٢٨.

(٣) المصدر السابق : ٥٣٩ ـ ٥٤١ ، الحديث ١٠٣٦.

٤٨٠