موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

ويتوثّقون له ممّن كانفه وعاضده ، ويبايعون له من سمح بنصرته ، ويتجسّسون له أخبار أعدائه ، ويكيدون له بظهر الغيب كما يكيدون له برأي العين حتى بلغ المدى ، وحان وقت الاهتداء ، فدخلوا في دين الله وطاعته وتصديق رسوله والإيمان به ، بأثبت بصيرة وأحسن هدى ورغبة ، فجعلهم الله أهل بيت الرحمة ، ومعدن الحكمة ، وورثة النبوة وموضع «الخلافة» وأوجب لهم الفضيلة ، وألزم العباد لهم الطاعة.

وكان ممّن عانده ونابذه وكذّبه وحاربه من عشيرته العدد الأكثر والسواد الأعظم ، يتلقّونه بالتكذيب والتثريب ، ويقصدونه بالأذية والتخويف ، ويبادونه بالعداوة وينصبون له المحاربة ، ويصدّون عنه من قصده ، وينالون بالتعذيب من اتّبعه.

وأشدّهم في ذلك عداوة وأعظمهم مخالفة ، وأوّلهم لكل حرب ومناصبةً في كل مواطن الحروب من بدر وأُحد والخندق والفتح ، لا يُرفع على الإسلام راية إلّا كان صاحبها وقائدها ورئيسها (هو) «أبو سفيان بن حرب» وأشياعه من بني أُمية الملعونين في كتاب الله ، ثمّ الملعونين على لسان رسول الله في عدة مواطن وعدّة مواضع ، لماضي علم الله فيهم وفي أمرهم ونفاقهم وكفر أحلامهم ، فحارب جاهداً ودافع مكايداً وأقام منابذاً حتى قهره السيف وعلا أمر الله وهم كارهون ، فتقوّل بالإسلام غير منطوٍ عليه وأسرّ الكفر غير مقلع عنه ، عرفه بذلك رسول الله والمسلمون فميّز له المؤلّفة قلوبهم فقبله وولده.

فمما لعنهم الله به على لسان نبيّه وأنزل به كتاباً قوله : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً (١)) ولا خلاف من أحد أنه أراد بها «بني أُمية».

__________________

(١) الإسراء : ٦٠.

٥٤١

ومنه : قول الرسول عليه‌السلام وقد رآه مقبلاً على حمار يقود به معاوية ويسوق به ابنه يزيد ، قال : «لعن الله الراكب والقائد والسائق»! ويروي الرواة عنه قوله : «يا بني عبد مناف تلقّفوها تلقّف الكرة ، فما هناك جنة ولا نار» وهذا كفر صراح يلحقه به اللعنة من الله كما لحقت (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (١)).

ومنه : ما يروون من وقوفه بعد ذهاب بصره على ثنيّة أُحد وقوله لقائده : هاهنا ذببنا محمداً وأصحابه!

ومنه : الرؤيا التي رآها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فوجم لها ، إذ ذكروا أنه رأى نفراً من «بني أُمية» ينزون على منبره ، فما رُئي ضاحكاً بعدها فأنزل الله عليه : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ (٢)).

ومنه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا بمعاوية ليكتب بأمره بين يديه فاعتلّ بطعامه! فقال النبي فيه : «لا أشبع الله بطنه» فبقي يقول : والله ما أترك الطعام شبعاً ولكن إعياءً!

ومنه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأصحابه : يطلع من هذا الفجّ رجل من أُمتي يُحشر على غير ملّتي! فطلع معاوية.

ومنه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»!

ومنه : الحديث المشهور المرفوع عنه قال : إنّ معاوية في تابوت من نار في أسفل درك منها ينادي ربّه فيجاب : (أَالْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٣)).

__________________

(١) المائدة : ٧٨.

(٢) الإسراء : ٦٠.

(٣) يونس : ٩١.

٥٤٢

ومنه : انتزاؤه بالمحاربة لأفضل المسلمين في الإسلام مكاناً ، وأقدمهم إليه سبقاً ، وأحسنهم فيه أثراً وذكراً : عليّ بن أبي طالب ، ينازعه حقّه بباطله ، ويجاهد أنصاره بضُلّاله وغُواته ، ويحاول ما لم يزل هو وأبوه يحاولانه من إطفاء نور الله وجحود دينه (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (١)) يستهوى أهل الغباوة ويموّه بمكره وبغيه على أهل الجهالة ، وقد قدّم النبيّ الخبر عنهما إذ قال لعمّار : «تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار». مؤثراً للعاجلة كافراً بالآجلة ، خارجاً من ربقة الإسلام مستحلاًّ للدم الحرام ، حتى سفك في فتنته وعلى سبيل ضلالته ما لا يحصى عدده من دماء خيار المسلمين ، الذابين عن دين الله والناصرين لحقه. مجتهداً في أن يعصى الله فلا يطاع ، وتبطل أحكامه فلا تقام ، ويخالف دينه فلا يدان ، وأن تعلو كلمة الضلالة وترتفع دعوة الباطل. و (كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا (٢)) ودينه المنصور وحكمه المتّبع النافذ وأمره الغالب ، وكيد من كادّه المغلوب الداحض ، حتى احتمل أوزار تلك الحروب وما تبعها ، وتطوّق تلك الدماء وما سفك بعدها ، وسنّ سنن الفساد التي عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة ، وأباح المحارم لمن انتهكها ، ومنع الحقوق عن أهلها ، واغترّه الإملاء واستدرجه الإمهال والله له بالمرصاد.

وممّا أوجب الله به له اللعنة : قتله من قتل صبراً من خيار الصحابة والتابعين وأهل الفضل والديانة : مثل : عمرو بن الحمق الخزاعي وحُجر بن عَدي في من قتل من أمثالهم ، في سبيل أن يكون له الملك والغلبة والعزة (بالاثم) (وَللهِ الْعِزَّةُ

__________________

(١) التوبة : ٣٢.

(٢) التوبة : ٤٠.

٥٤٣

وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (١)) والله عزوجل يقول : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (٢)).

وممّا استحقّ به اللعنة من الله ورسوله : إدّعاؤه «زياد بن سميّة» جرأة على الله ، والله يقول : (ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ (٣)) ورسول الله يقول : «ملعون من ادّعى إلى غير أبيه ، أو انتمى إلى غير مواليه» وقال : «الولد للفراش وللعاهر الحجر». فخالف (معاوية) حكم الله عزوجل وسنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله جهاراً إذ جعل الولد لغير الفراش والعاهر لا يضرّه عهره ، فأدخل بهذه الدعوى على أُم حبيبة زوجة النبي ومحرمه من سفر وجها له ما قد حرّمه الله وكذا في غيرها ، وأثبت بها قربى قد باعدها الله ، وأباح ما قد حضره الله ، ممّا لم يدخل على الإسلام مثله خلل قبله ، ولم ينل الدين تبديل مثله.

ومنه : دعاؤه عباد الله إلى ابنه «يزيد» المتكبّر الخمير ، صاحب الديوك والفهود والقرود ، وأخذه له البيعة من خيار المسلمين بالاخافة والتهديد والتوعيد والرهبة والسطوة! وهو يعلم سفهه ومطلع على خبثه ورهقه ، ويعاين كفره وفجوره وسكرانه.

فلمّا تمكّن يزيد فيما مكّنه أبوه فيه ووطّأه له وعصى الله ورسوله فيه ، طلب بثارات المشركين وطوائلهم عند المسلمين .. فظنّ أنه قد انتقم من أولياء الله وبلغ فيه الغاية لأعداء الله ، فقال مجاهراً لكفره ومظهراً لشركه :

ليت أشياخي ببدر ، شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلنا ميل بدر فاعتدل

فأهلّوا واستهلوا فرحاً

ثمّ قالوا : يا يزيد لا تُشل

__________________

(١) المنافقون : ٨.

(٢) النساء : ٩٣.

(٣) الأحزاب : ٥.

٥٤٤

لست من «خِندف» إن لم انتقم

من «بني أحمد» ما كان فعل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ، ولا وحي نزل

وهذا هو المروق من الدين ، وقول من لا يرجع إلى الله ولا إلى رسوله وكتابه ودينه ، ولا يؤمن بالله ولا بما جاء من عند الله.

وإنّ من أغلظ ما انتهك وأعظم ما اجترم : سفكه دم الحسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع موقعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومكانه منه ومنزلته من الدين والفضل ، وشهادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله له ولأخيه بسيادة أهل الجنة! اجتراء على الله وكفراً بدينه وعداوة لرسوله ومجاهدة لعترته واستهانة بحرمته ، فكأنما يقتل به وبأهل بيته قوماً من كفّار الترك والديلم ، لا يخاف من الله نقمة ولا يرقب منه سطوة! فبتر الله عمره واجتثّ أصله وفرعه وسلبه ما تحت يده ، وأعدّ له من عذابه وعقوبته ما استحقه من الله بمعصيته.

هذا إلى ما كان من «بني مروان» من تبديل كتاب الله وتعطيل أحكامه ، واتخاذ مال الله دولاً بينهم ، وهدم بيته واستحلال حرامه ونصبهم المجانيق عليه ورميهم إياه بالنيران ، لا يألونه إحراقاً وإخراباً ولما حرّم الله منه استباحة وانتهاكاً ، ولمن لجأ إليه قتلاً وتنكيلاً ، ولمن أمّنه الله به إخافة وتشريداً.

حتى إذا حقت عليهم كلمة العذاب واستحقوا من الله الانتقام وملؤوا الأرض بالجور والعدوان ، وعمّوا عباد الله بالظلم والاقتسار ، وحلّت عليهم السخطة ونزلت بهم من الله السطوة .. أتاح الله لهم من «عترة نبيّه وأهل وراثته»! من استخلصهم منهم بخلافته ، مثل ما أتاح الله من أسلافهم المؤمنين وآبائهم المجاهدين لأوائلهم الكافرين! فسفك الله بهم دماءهم مرتدّين ، كما سفك بآبائهم دماء آبائهم الكفرة المشركين ، وقطع الله دابر القوم الظالمين والحمد لله رب العالمين ، ومكّن الله المستضعفين ، وردّ الله الحقّ إلى أهله «المستحقين» ...

٥٤٥

معاشر الناس! فانتهوا عمّا يُسخط الله عليكم ، وارجعوا إلى ما يُرضى الله عنكم ، وارضوا من الله بما اختار لكم ، والزموا ما أمركم به وجانبوا ما نهاكم عنه ، واتبعوا الصراط المستقيم والمحجّة البيّنة والسبل الواضحة ، و «أهل بيت الرحمة»! الذين هداكم الله بهم بدءاً ، واستنقذكم بهم من الجور والعدوان أخيراً. وصيّركم إلى الأمن والخفض والعزّ بدولتهم! وشملكم الصلاح في أديانكم ومعايشكم في أيامهم!

وفارِقوا من لا تنالون القربة إلى الله إلّابمفارقته ، والعنوا من لعنه الله ورسوله (فقولوا) : اللهم العن أبا سفيان بن حرب ومعاوية ابنه ويزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم وولده. اللهم العن أئمة الكفر وقادة الضلالة وأعداء الدين ومجاهدي الرسول! ومغيّري الأحكام ومبدّلي الكتاب وسفّاكي الدم الحرام. اللهم إنّا نبرأ إليك من موالاة أعدائك ، ومن الإغماض لأهل معصيتك كما قلت : (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ (١)).

يا أيها الناس! تأمّلوا سبل الضلالة تعرفوا سابلها ، واعرفوا الحق تعرفوا أهله ، فإنه إنّما يبيّن عن الناس أعمالهم ، ويلحقهم بالصلاح أو الضلال آباؤهم ، فلا تأخذكم في الله لومة لائم ، ولا يميلنّ بكم عن دين الله استهواء من يستهويكم وكيد من يكيدكم وطاعة من تخرجه طاعته إلى معصيتكم لربكم!

وأمير المؤمنين على الله توكله وهو حسبه فيكم ، وبالله استعانته فيما قلّده من أُموركم! ولا حول ولا قوة إلّابالله ، والسلام عليكم.

فلمّا رأى وزيره عبيد الله بن سليمان بن وهب عزم المعتضد على إعلان هذا الكتاب وأنه لا يقدر على صرفه عن ذلك ، أحضر القاضي يوسف بن يعقوب ابن

__________________

(١) المجادلة : ٢٢.

٥٤٦

القاضي أبي يوسف (صاحب أبي حنيفة) وأمره أن يعمل الحيلة لذلك ، وأدخله على المعتضد ، فدخل عليه وكان من كلامه معه أن قال له :

يا أمير المؤمنين! إني أخاف من أن تضطرب العامة ويكون منها حركة عند سماعها هذا الكتاب!

قال : إن تحرّكت العامة أو نطقت سأضع فيها سيفي!

قال : يا أمير المؤمنين! إنّ في هذا الكتاب إطراءً على الطالبيين ، وها هم في كل ناحية يخرجون! فإذا سمعوا هذا كانوا أبسط ألسنة وأثبت حجةً منهم اليوم! وإذا سمع الناس هذا كانوا أميل إليهم لمآثرهم ولقرابتهم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ففتّ هذا المفتي في عضد المعتضد ، وقضى هذا القاضي على قناعته بصحة قضاء جدّه المأمون ، وخيّب أمله في إحياء كتابه وتجديد عمله ، فأمسك المعتضد عن جوابه ولم يأمر فيه بشيء (١)!

وكان قد شاع في الناس أنّ المعتضد أمر بإنشاء كتاب بلعن معاوية وأنه سيُقرأ على منبر الجمعة بعد صلاة الجمعة الحادي عشر من جمادى الآخرة ، فاجتمعوا لصلاة الجمعة وبعدها بادروا إلى صوب مقصورة الجامع ليسمعوا الكتاب ، فلم يُقرأ (٢)!

وحاولوا القبض على الوكلاء :

ورُفع تقرير إلى الوزير عبيد الله بن سليمان سمّوا له فيه جميع وكلاء الناحية المقدّسة وأنهم يجبون له الأموال ، فرفعه الوزير إلى المعتضد فقال له :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٤ ـ ٦٣.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٤.

٥٤٧

إنّ هذا أمر غليظ فاطلبوا هذا الرجل ، دسّوا إليهم قوماً لا يعرفون ، بأموال ، فمن قبض منهم شيئاً قُبض عليه!

فخرج إليهم من الناحية المقدّسة : بأن يتجاهلوا الأمر ويمتنعوا ولا يأخذوا من أحد شيئاً.

فبثّوا الجواسيس ، ولمكان ما كان تقدم إليهم امتنع الوكلاء كلّهم ، ومنهم محمد بن أحمد (؟) اندسّ إليه رجل وخلا به وقال له : معي مال أُريد أن أُوصله. قال له محمد : أنا لا أعرف من هذا شيئاً. فلم يزل الرجل يتلطّفه ومحمد يقول : إنك قد غلطت ، ويتجاهل عليه (١).

غارة بني طيِّئ على الحجّاج :

كان من تكاليف الأُمراء تأمين السُبل ولا سيما سُبل الحجّاج ذهاباً وإياباً ، وكان للمعتضد غلامان يسميّان بجيء ، فكان قد جعل الكبير لتأمين سُبل الحجاج. وفي سنة (٢٨٥ ه‍) اجتمع جمع عظيم من قبيلتي سَنبس ونبهان من عشائر طيِّئ وعليهم صالح بن مدرك الطائي ، في الموضع المعروف بقاع الأجفر ، وقطعوا السبل على الحجّاج وأخذتهم سيوفهم فقتلوا خلائق منهم ، وأخذوا منهم نحواً من ألفي ألف (مليونين) ديناراً ، ومات منهم خلائق بالعطش.

وبلغ ذلك جيء الكبير فخرج بعسكره لحرب صالح بن مدرك ، فكانت له مع صالح ومن معه من الطائيين حروب عظيمة (٢).

وفي سنة (٢٨٦ ه‍) كان صالح بن مدرك قد خرج ببني طيِّئ إلى ناحية فَيد إلى مكة ، وكان المعتضد قد أغار عليهم أبا الأغر السُلمي ، فظفر أبو الأغر بصالح

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٢٥ ، الحديث ٣٠ وانظر تاريخ الغيبة الصغرى للصدر : ٦٢٩.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٧٢.

٥٤٨

في موضع فَيد مكراً! فذهب الأعراب وجمعوا جمعهم ليستنقذوا صالحاً من يده ، فعادوا إليه ورئيسهم جحش بن ذيّال ، فقاتلهم أبو الأغر حتى قتل رئيسهم ابن ذيّال وأخذ رأسه ، وعلم صالح بذلك فلمّا جاءه غلام بطعامه استلب منه سكّينه وانتحر به ، فنصب رأسه أبو الأغر بالمدينة فتباشر به الحجّاج.

فلمّا عاد أبو الأغر مع سائر أُمراء قوافل الحجّاج ، كانت الأعراب من طيِّئ وأحلافها قد تحشدت واجتمعت في ثلاثة آلاف فارس ومثلهم راجلين ، وذلك بين منزل الحاجر ومعدن القرشي ، وطالت الحرب بينهم ثلاثة أيام ، ثمّ انهزم الأعراب وسلم الناس.

ودخل أبو الأغر بغداد وقدّامه رؤوس صالح وعبده الأسود وجحش بن ذيّال! وأربعة من أبناء عم صالح أُسراء! فطوق المعتضد أبا الأغر بطوق من ذهب وخلع عليه ، ونُصبت الرؤوس على الجسور (١).

ومصير ابن الشيخ بآمد :

كان أحمد بن عيسى بن الشيخ عبد الرزاق قد تمرّد بآمد ، وبعده تحصّن بها ابنه محمد بن أحمد ، فقصده المعتضد بعسكره حتى بثّ جيوشه حولها وحاصرها ، ووجّه إليه شعبة بن شهاب اليشكري ليتمّ عليه الحجة ، وهو غلام حدث معجب بنفسه أنصت لأقوال السفهاء واستمدّ بآرائهم.

وانتهى الأمر إلى أنه لمّا عظم القتال وجّه إليه المعتضد بالأمان فنزل عليه إلى المعتضد. وتقدّمت عمّته أُم شريف بالشفاعة إليه فشفّعها في كثير من أهلها ممن عظم جرمه واستحق عليه العقوبة. وذلك في أوائل عام (٢٨٦ ه‍) (٢).

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٧٥ ، ١٧٦.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٥٢ ـ ١٥٤.

٥٤٩

تعاظم أمر القرامطة :

مرّ الخبر عن نشوء القرامطة في عراق الكوفة ، ونجدهم اليوم أنهم تغلّبوا على البحرين! بقيادة أبي سعيد الجنابي ، وكان على حرب البصرة أحمد بن محمد الواثقي ، وقد استمرّ سور البصرة بعد صاحب الزنج غير حصين ، فخاف الواثقي أن يكبسها الجنابي! فكتب بذلك إلى المعتضد ، فأطلق لتحصينها أربعة عشر ألف دينار فبُنيت وحُصّنت عام (٢٨٦ ه‍) (١).

وقال ابن العبري : في سنة (٢٨٥ ه‍) ظهر بالبحرين أبو سعيد الجنابي ودعا بدعوة القرامطة ، فاجتمع إليه جمع من الأعراب حتى قوى أمره ؛ فقاتل ما حوله من القرى حتى صار إلى القطيف وتغلّب عليها ، ثمّ أظهر أنه يريد البصرة ، فلمّا وصل خبره إلى الواثقي كتب إلى المعتضد ، فأمر المعتضد ببناء سور البصرة بأربعة عشر ألف دينار (٢).

وقيل : بل في سنة (٢٨١ ه‍) ظهر رجل في القطيف وادّعى أنه يحيى بن المهدي (؟) وأنه رسول من المهدي عليه‌السلام إليهم ومعه كتاب منه يدعوهم فيه للتهيّؤ لظهوره فيدعوهم إلى نصرته! فاستجاب له جمع منهم رجل أصله من فارس يدعى أبا سعيد الحسن بن بهرام الجنابي (٣) تحالف مع يحيى بن المهدي وأخذا ينسّقان فيما بينهما لجمع الأنصار وتعبئة الجماهير ، فتبعهما جمع كثير من قبائل البادية وسائر الناس.

وبعد أن ازداد أنصاره وقوى أمره استولى بهم على حكم القطيف أولاً ،

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٧٥.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٥١.

(٣) لعلّه نسبة إلى جَنابة معرّبة گناوة من موانئ الخليج الفارسي.

٥٥٠

ثمّ قصد هجر بجيشه حتى ضمّها إليه ، ثمّ عاد إلى جزيرة أوال من جزر البحرين فألحقها بدولته. وخفي في هذه المعارك ذكر يحيى بن المهدي ، فلعلّه مات أو قتل أو أن أبا سعيد تخلّص منه (١).

وفي بادئ أمرهم زعموا أن دولتهم هي دولة المهدي المنتظر ، إلّاأ نّهم لمّا تمكنوا وبنوا عاصمتهم الأحساء لم يبنوا فيها مسجداً ، وقال لهم أبو سعيد : إني أعفيكم عن الصلاة والصيام! فهم يقرّون بالإسلام ديناً وبمحمد نبيّاً ولكنّهم لا يصلّون ولا يصومون ، ولما يُسألون عن مذهبهم يقولون : إنا أبو سعيديون! ولا يأخذون العشور ، ولا الربا ، ولهم عبيد كثيرون ثلاثون ألف ، فإذا احتاج أحدهم إلى بناء ولا يقدر عليه أمروا بعض العبيد فيبنون له ولا يأخذون منه شيئاً. ولا مسجد لهم ولا صلاة ولا جمعة ولا خطبة! ولا خمور ، ولكن بها دور البغاء علناً! ولحومهم من كل شيء حتى الحمير والكلاب برؤوسها! وعُملتهم من الخزف (٢)!

وقال المسعودي : في سنة (٢٨٧ ه‍) خرج أبو سعيد الجنابي إلى هجر فحاصرها ، وخرج إليه من البصرة العباس بن عمرو الغنوي (البحراني) في جيش عظيم ومعه خلق من المطوّعة إلى هجر فالتقى هو وأبو سعيد ، فكانت بينهم وقائع ، انهزم فيها أصحاب العباس واسر هو وسبعمئة من أنصاره ، فقتلوهم صبراً! سوى من هلك منهم عطشاً في الرمل فأحرقت الشمس أجسادهم ، ثمّ منّ أبو سعيد على العباس الغنوي فأطلقه ، وعاد إلى حصار هجر حتى افتتحها بعد حصار طويل (٣).

__________________

(١) أعلام هجر للسيد هاشم الشخص ١ : ٨٩ ، ٩٠.

(٢) أعلام هجر ١ : ٩٤ ـ ٩٧.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٧٦.

٥٥١

مقتل العلوي في جرجان :

كانت حكومة العباسيين في خراسان مع آل سامان ومنهم يومئذ إسماعيل بن أحمد الساماني ، وتمتدّ حكومته إلى جرجان. وكان قد تغلّب على طبرستان محمد بن زيد العلوي الحسني ، وفي سنة (٢٨٧ ه‍) سار في جيوش كثيرة من الديلم وغيرهم إلى جرجان ليتغلّب عليها ، وهم في بياض. وجهّز لهم الساماني جيشاً عليها محمد بن هارون وهم في سوادهم ، والتقى الفريقان قرب جرجان ، وكانت بينهم وقعة لم يُر مثلها في ذلك العصر ، وصبر الفريقان جميعاً. فلمّا رأى محمد بن هارون ثبوت الديلم على مصافّهم لا ينقضون صفوفهم ، فرّ للمكيدة ، فنقض الديالمة صفوفهم للغنائم ، فكرّ عليهم العباسيون السامانيون ، وثبت الداعي العلوي مع من وقف لنصره ، فأسفرت الحرب وقد اسر ابنه زيد وقد أُثخن الداعي بالجراح فلم يبقَ إلّا أياماً يسيرة حتى توفي بجراحاته ، فدفن قرب مدخل جرجان (١).

وحُمل ابنه زيد إلى إسماعيل بن أحمد الساماني فأكرمه ووسّع عليه ، وكان أبوه محمد بن زيد رجلاً ديّناً فاضلاً شاعراً حسن السيرة (٢).

ولمّا بلغ خبر قتل محمد بن زيد العلوي الحسني إلى المعتضد أظهر الحزن له وتأسّف لقتله وأظهر النكير على ذلك (٣).

وفي سنة (٢٨٨ ه‍) سار الروم إلى بلدة كيسوم فأسروا منهم من الرجال والنساء والصبيان نحو خمسمئة عشر ألف إنسان ونهبوا دورهم (٤)

__________________

(١) مروج الذهب ٤ ١٧٧

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ ٢٣٧

(٣) مروج الذهب ٤ ١٣٨

(٤) تاريخ مختصر الدول ١٥١

٥٥٢

آخر أمر المعتضد :

كانت له رغبة في البناء حتى أنه بنى قصراً بطول ثلاثة فراسخ (/ ١٥ كم) وسمّاه الثريا وأنفق عليه أربعمئة ألف دينار (١) وكانت له عمارة سمّاها البحيرة صرف عليها ستين ألف دينار ، يخلو فيها مع جواريه ومنهنّ خصّيصته دريرة (٢).

وكان له قصر آخر يعرف بالحسنى ، وفيه لأربع ساعات خلت من ليلة الثامن من ربيع الآخر سنة (٢٨٩ ه‍) اعترته غشية فوقع للموت ، وهو على ما به من الحال ضجّ غلمانه عند وزيره القاسم بن عبيد الله فأطلق لهم عطاءهم ، فلمّا فهم المعتضد ذلك همهم في سكرته ، وقدم الطبيب ليجسّ نبضه وهو على ما به من سكرات الموت ، فأنف من ذلك وركله برجله ، ومات هو من ساعته ، فدفن بدار الرخام في الجانب الغربي من بغداد ، وهي دار محمد بن عبد الله بن طاهر الخزاعي (مولاهم) وكان قد أوصى بذلك (٣).

وكان له (٤٧) سنة ، نحيفاً متوسطاً ، خفيف العارضين يخضب بالسواد (٤).

وأبناؤه هارون وجعفر وعليّ المكتفي وهو وليّ عهده (٥) وله أكثر من عشرة بنات.

وكان أبوه الموفّق قد اختار لتعليم المعتضد أحد فلاسفة الإسلام أحمد بن محمد السرَخسي ، وكانت له تآليف جليلة في علوم كثيرة من علوم القدماء

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٤٥.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٤.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٨٤ و ١٨٥.

(٤) التنبيه والإشراف : ٣٢٠.

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٣٧.

٥٥٣

والعرب ، وكان حسن المعرفة جيّد القريحة بليغ اللسان مليح التصنيف ، ولكن كان الغالب عليه علمه لا عقله ، فاتّفق أن نادمه المعتضد واختصّه وأفضى إليه بسره فأذاعه فقتله المعتضد!

وكان محمد بن موسى بن شاكر من أصحاب «بيت الحكمة» للمأمون ببغداد وصار وافر الحظّ من الهندسة والنجوم ، وكان قد نزل بغداد من صابئة حرّان الشام ثابت بن قُرّة فتعلّم النجوم على محمد بن موسى ، وصارت له مؤلّفات كثيرة في التعليمات الرياضية والمنطق والطبّ ، فوصله شيخه محمد بن موسى بالمعتضد ، فبلغ لديه أعلى المنازل وأجل المراتب ، يجلس لديه ويحادثه طويلاً ويضاحكه ويُقبل عليه دون وزرائه وخاصّته (١).

خلافة علي المكتفي بالله :

في سنة (٢٦٤ ه‍) من أُم ولد تركية اسمها جيجك (٢) ولد لأحمد المعتضد ولد سمّاه عليّاً ، ثمّ عهد إليه بأمره من بعده فلقّبه بالمكتفي بالله ، وحدّره إلى الرَّقة بالشام ، فكان بها لما بلغه موت أبيه وخلافته ، وله يومئذٍ نيف وعشرون سنة ، ورحل إلى بغداد فوصلها في أواخر جمادى الأُولى سنة (٢٨٩ ه‍) ونزل القصر الحسني على دجلة ، وأخذ له البيعة وزيره القاسم بن عبيد الله ، فخلع المكتفي عليه (٣).

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول لابن العبري ١ : ١٥٢ ، ١٥٣.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٧ ، وفي التنبيه والإشراف : ٣٢١ : اسمها خاضع! ولقبها جيجق ، وصحّف هذا في تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٠ إلى : حجج!

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٨٦.

٥٥٤

وقبل انتقاله إلى الرَّقة كان أبوه المعتضد اختار لتأديبه في بغداد من المحدّثين عبد الله بن محمد المعروف بابن أبي الدنيا من موالي بني أُمية! لكنّه صاحب «مقتل أمير المؤمنين علي» و «مقتل الحسين» (١) ففي «تاريخ نيشابور» عن ابن أبي الدنيا : أنه لما أفضت الخلافة إلى المكتفي كتب إليه :

إنّ حق التأديب حقّ الابوة

عند أهل الحجى وأهل المروّة

وأحقّ الرجال أن يحفظوا ذا

ك ويرعوه أهلُ بيت النبوة!

قال : فحمل إليّ عشرة آلاف درهم (٢)!

وكان أبوه المعتضد قد أخذ من اناس منازلهم فاتّخذ فيها المطامير للسجناء فأطلقهم المكتفي وهدم المطامير وردّ مواضعها لأصحابها وفرّق فيهم أموالاً ليعيدوا بناء منازلهم فيها (٣) ، وكان أبوه المعتضد قد أخذ من أُناس بساتينهم وحتى حوانيتهم ليبنى له فيها قصوره فأمر المكتفي بردّها إليهم (٤).

وكان المعتضد قد خلّف في بيوت الأموال تسعة آلاف ألف (ملايين) ديناراً ، ومن الفضة أربعين ألف ألف (مليون) درهماً ، واثني عشر ألف فرس وبغل وجمل وحمير (٥).

وكان المكتفي دقيقاً أسمر اللون أعين قصيراً كبير اللحية ، حسن الوجه

__________________

(١) انظر مقدمة المحقق المحمودي على مقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٩ ، ٤٤٠ وقال : وهذا يدل على حياته في أول خلافة المكتفي.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٨٧.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٨.

(٥) مروج الذهب ٤ : ١٤٤.

٥٥٥

والبدن. أفضى إليه الأمر بتوطئة أبيه ، فكان ماله جمّاً وجيوشه كثيفة ، ولكنه بُلي بكثرة الفتوق واضطراب الأطراف عليه (١).

وتزلزلت بغداد وتكرّرت أياماً ، وبالبصرة هبّت أرياح قلعت أكثر نخيلها وغزا المسلمون بلدة أناطوليا الرومية ففتحوها عنوة وغنموا ما لا يحصى (٢).

شؤم القرامطة بالشام :

كانت دمشق والشام ما زالت في حكم هارون بن خمّارويه بن طولون وعنه على دمشق طغج بن جفّ الفرغاني إلى حمص والأُردن. وفي قبائل بني كلاب مما يلي السماوة بالعراق قام أبو القاسم وانتمى إلى آل أبي طالب وإلى القرمطية بما فيها من تخفيف للتكاليف الشرعية ودعوى التناسخية ، فتبعه كثير منهم ، فسار بهم إلى رَقّة الشام ، وكان المكتفي قد خلّف عليها سبك الديلمي فخرج بجنوده والتقى بهم فهزموه وجنوده ، وساروا إلى دمشق ، وبلغ خبرهم إلى دمشق فخرج إليهم طغج بجنوده فلقيهم بوادي القردان والأفاعي في آخر رجب سنة (٢٨٩ ه‍) فهزمه القرمطي.

وفي شهر ربيع الأول سنة (٢٩٠ ه‍) خرج طُغُج لقتالهم فلقيهم ، فقتل القرامطةُ جمعاً من أصحابه وهزموهم أيضاً ، وتعقّبوهم حتى حاصروا دمشق قرابة أربعة أشهر إلى رجب سنة (٢٩٠ ه‍) حيث وصلت عساكر المصريين مدداً لطغُج ، فانسحب القرامطة إلى مسافة يوم من دمشق في الموضع المعروف بكوكبا وكناكر ،

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣٢١.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٨.

٥٥٦

فتعقّبهم طغج بعساكره وقاتل أبا القاسم القرمطي حتى قتله. فلمّا قُتل القرمطي انسحب المصريون ، فلمّا علم القرامطة بذلك بايعوا أبا الحسن أخا أبي القاسم وعاوَدوا حصار دمشق!

وفي أواسط رجب انسحب القرامطة من حصار دمشق إلى حمص فأقاموا عليها ، وتوجّه جمع منهم إلى بعلبك حتى أبادوا أهلها!

وتوجّه إليهم من بغداد خليفة السلمي بجنوده حتى نزل بظهر بلدة حلب ، فوجّه القرمطي إليه سريّة منهم فالتقوا في عاشر شهر رمضان سنة (٢٩٠ ه‍) فأتى القرامطة على أكثر من كان مع خليفة! ثمّ اجتاحت القرامطة ما بين حلب وحمص وأنطاكية.

وفي المحرم سنة (٢٩١ ه‍) نهض إليهم المكتفي من بغداد وأنهض معه الجيوش إلى نواحي البرّ من شيزر ، فالتقى بهم وقتل منهم خلقاً وأسر منهم جمعاً كثيراً واستقر بالرّقة. وتحزّب من بقي من القرامطة ، فاختفى عنهم أبو الحسن القرمطي بأربعة معه إلى العراق مارّاً بالدالية من نواحي الرحبة ، فقبض عليهم عاملها وحملهم إلى المكتفي بالرّقة في أواخر المحرّم سنة (٢٩١ ه‍) فرحل بهم المكتفي إلى بغداد فدخلها ظافراً لأول ربيع الأول عام (٢٩١ ه‍).

وقام بين الباقين من القرامطة من قبائل بني كلاب بالأُردن أبو غانم القرمطي لأوائل عام (٢٩٣ ه‍) وكثر أتباعه منهم وقوى أمره ، فصار بهم إلى أذرُعات فبُصرى فالثنيّة وقتل وسبى ، وصار إلى طبريّة فقاتل جندها وقتل كثيراً منهم حتى قتل أميرها جعفر بن ناعم وكثيراً من عوام الناس ثمّ صار إلى الموضع المعروف بخندق من أعمال دمشق ، وقد أمر المكتفي الحسين بن حمدان التغلبي بمقابلته ، فلقيه بها ، فانكشف القرمطي منهزماً في البريّة ، وذلك في شعبان من سنة (٢٩٣ ه‍).

٥٥٧

وسار أبو غانم القرمطي إلى هيت فقاتلهم وأحرقها وارتحل عنها إلى البرّ ، وانفذ المكتفي عدّة قوّاد لمقابلته ، فأحاطت العساكر بهم فاختلفت كلمتهم ، فلمّا أمسوا قتله بعضهم ليلاً وتفرّقوا عنه ، وتقرّب برأسه بعض زعمائهم إلى الخليفة في الخامس من شوال سنة (٢٩٣ ه‍).

وفي هذه السنة قام بالموضع المعروف بالصوأر على أربعة أميال من برّ القادسية ، في الكلبيين أيضاً رجل منهم يسمّى بالفارسية : ذكرويه بن مهرويه! وادّعى القرمطية بما فيها من تخفيف التكاليف والتناسخ ، فتبعه منهم جمع كثير! فصار بهم إلى الكوفة وعليها من أصحاب السلطان إسحاق بن عمران ، فكشفهم عن الكوفة واستمدّ السلطان ، فأرسل إليهم قائده رائق المعتضدي ومعه خادما المكتفي : بشر الأفشيني وجَني الصفواني ، وكان ذكرويه قد انسحب ببني كلاب إلى موضعهم من الصوأر في برّ القادسية فلقوهم بها فأتوا على أكثر جيش الخليفة ، وذلك في آخر ذي الحجة من سنة (٢٩٣ ه‍).

ثمّ توجّه ذكرويه بجمعه من بني كلاب إلى تلقّي قوافل الحجّاج في مرجعهم من الحج ، وكانت أولى القوافل قافلة خراسان العظيمة وقد نزلت بالمنزل المعروف بواقصة ، فأتوا عليها بما فيها!

ثمّ توجّهوا إلى المنزل المعروف بالعقبة وقد نزلت بها قافلة السلطان وعليها أحمد العقيلي ومبارك القمي فقتلهما ومن معهما من الأولياء والرعية!

ثمّ توجّهوا إلى الموضع المعروف بالطليح من الهبير بين الثعلبية وشقوق ، فلقى بها قافلة السلطان الثالثة وعليها أحمد بن سيما ونفيس المولّدي فأتى عليهما وعلى غيرهما من الأولياء والقواد وسائر الناس من مختلف المدن أكثر من خمسين ألفاً!

فتجهّز لهم أخو أحمد : القاسم بن سيما ومعه وصيف الخزري في جيش

٥٥٨

كثيف من بني شيبان وغيرهم من أولياء السلطان ، فانسحب ذكرويه ببني كلاب إلى ما بين الكوفة إلى البصرة ، وتبعهم الجيش حتى التقوا في أواخر ربيع الأول سنة (٢٩٤ ه‍) قرب قرية أوم ، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى أخذهم السيف وانهزموا ، وأُخذ ذكرويه جريحاً ثمّ مات ، فشدّوه على جمل وحملوه وأسراهم ورؤوس قتلاهم فأدخلوهم إلى بغداد في أوائل ربيع الثاني عام (٢٩٤ ه‍) (١).

هذا ما ذكره المسعودي ، واختلف عنه الشاميان أبو الفداء وابن الوردي فأورد : أن مقدّمهم كان معروفاً بالشيخ يحيى ، وبعده قام فيهم أخوه الحسين وتسمى بأحمد ، ولما غلب على حمص تسمّى بأمير المؤمنين المهدي فادّعى المهدوية! وخطبوا له على منابرها. ثمّ سار إلى حماه والمعرّة وسلمية فسلّموا له بالأمان ولكنه قتل أهلها حتى النساء والأطفال وحتى صبيان المكتب! وأقام بمعرة النعمان أُسبوعين يقتل وينهب ويحرق حتى قتل منهم بضعة عشر ألفاً (٢).

وفي بداية خلافة المكتفي :

فروى الطوسي بسنده عن خادم النوبختي : عبد الله الكوفي قال : بعد ما ذُمّ الشلمغاني وخرجت فيه اللعنة سُئل الشيخ أبوالقاسم قيل له : فكيف نعمل بكتبه وبيوتنا مليئة منها؟ فقا لهم : أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن علي عليه‌السلام وقد قيل له : كيف نعمل بكتب بني فضال وبيوتنا مليئة منها؟ فقال عليه‌السلام : خذوا بما رووا وذروا ما رأوا (٣).

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣٢٢ ـ ٣٢٦.

(٢) تاريخ أبي الفداء ١ : ٢٣٨ ، ونحوه في تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٨.

(٣) كتاب الغيبة للطوسي : ٣٨٩ ـ ٣٩٠ ، الحديث ٣٥٥.

٥٥٩

انتقام الروم ، وغدرهم ، والأتراك :

مرّ الخبر عن غزو المسلمين في الشام للروم ففتحهم بلدة أناطوليا في (٢٨٩ ه‍) فبعد عامين أي في سنة (٢٩١ ه‍) في أوائل غوائل القرامطة بالشام اغتنم الروم الفرصة فخرجوا في مئة ألف إلى ثغورهم نحو الشام ، فأغاروا عليها وأَحرقوا وسبوا ، وكانوا في عشرة صلبان مع كل صليب عشرة آلاف (١).

وفي آخر عام (٢٩٢ ه‍) تقدّم المسلمون بتفادى أسراهم ببلدة اللامس الحدودية ففدوا ألفاً ومئة وخمسين نفساً من ذكر وانثى ، ثمّ غدروا فلم يتمّوا (٢) لما رأوا من استمرار دمار القرامطة بالشامات.

وكذا فعل الأتراك في ماوراء النهر في سنة (٢٩١ ه‍) فخرجوا في خلق كثير لا يحصون كثرة ، بحيث كان في عساكرهم سبعمئة قبة ، ولا تكون إلّالرؤسائهم. فسار إليهم الخراسانيون (السامانيون) بجيوشهم فأغاروا عليهم مع الصباح حتى قتلوا منهم خلقاً عظيماً ، وانهزم الباقون منهم (٣).

موت المكتفي وخلافة المقتدر :

في أوائل ذي القعدة سنة (٢٩٥ ه‍) اشتدت علة المكتفي بالله بالذرَب (الإسهال) وله يومئذ إحدى وثلاثين سنة ، فأحضر القاضيَين : محمد بن يوسف وعبد الله بن علي بن أبي الشوارب الأُموي بالولاء وأشهدهما على وصيته بالعهد إلى أخيه جعفر بن الموفّق ولقّب بالمقتدر ، وله يومئذ ثلاث عشرة

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول لابن العبري : ١٥٤.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٩١ ، وسكت عنه ابن العبري.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٥٤.

٥٦٠