موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

باسمه تعالى

وصلني كتاب كريم من أخ كريم بشأن الكتاب ، فآثرت نشره هنا ، شاكراً :

الشيخ اليوسفي الغروري وكتابه موسوعة التاريخ الإسلامي

أ. د. صلاح مهدي الفرطوسي

إذا كان الله سبحانه وتعالى قد امتحنني بغربة لا يعرف إلّا هو مدى ثقلها ، فإنه أنعم عليَّ فيها أيضاً بنعم لا أُحصيها ، تدفعني إلى شكره وحمده ، ومن بينها أخذه بيدي منذ سنة ونصف إلى رحاب أمير المؤمنين المرتضى عليه السلام ، وما زلت حتى الساعة مشغولاً به في كلّ ساعات يقظتي ما بين تأمل وقراءة وكتابة ، ولا شكَّ أنك على بيّنة بأن تاريخ الإمام شائك متشابك يعصب على من يريد الدخول إلى بهائه حلُّ جميع معضلاته ، ولا سيَما في بلاد يصعب أن تعثر فيها على مكتبة تُعنى بالتاريخ الإسلامي ، وإن وُجدت ، فيصعب عليك الوصول إليها لأسباب لا تستطيع تقديرها إلّا إذا عانيت الأمرّين منها في هذه البلاد.

ومن بين تلك المشكلات بعثه عليه السلام إلى اليمن ، إذ تشابكت أخباره واختلطت فيما تحت يدي من مصادر حتى بات من الصَّعب فصلها أو تحديد مسار دقيق لمجرياتها ، أو ربط مشاهدها في تسلسل زماني أو مكاني يبدو مقبولاً.

وكان الأُستاذ صفاء وديس من الشخصيّات العلميّة الفاضلة التي عرفتها بهذه البلاد ، ولقد وضعني بمكانة في نفسه لا أستحقها ، ووجدت في برّه وشفقته ما لم أجده بالخاصّة من طلبتي ، ويوم استغلق عليَّ أمر بعث الإمام ذلك استنجدت به كي

١

يأخذ بيدي إلى كتاب أستعين به ، فنصحني أن أعود إلى موسوعة التاريخ الإسلامي للشيخ اليوسفي الغروي ، ومن نكد الغربة أني ما سمعت بالشيخ من قبل ، ولا أعرف له عنواناً كي أراسله ، ولم تصل نسخة من الموسوعة إلى هذه الديار كي أطّلع عليها ، وكان أخي الشيخ حسين الفرطوسي قد ترك لي يوم غادر هولندا مجموعة من الكتب التي لم يستطع اصطحابها معه ، وتثاقلت من الذهاب إلى بيته لأخذها من أُسرته ، وشاء حسن الطالع أن أذهب لجلبها ، وما أسعدني بها يوم وقع بصري على الجزء الأوّل من الموسوعة بينها ، فهالني ما وجدت فيه من معلومات تسدُّ خللاً وتوضح صورة وتغيّر مساراً في غير جانب مما كتبته حول سيرة الإسلام باباً لا أظنه يستطيع فتحه في غيره.

وبسبب من شديد إعجابي بذلك الجزء راودني هاجس السَّفر إلى مقرّ إقامة الشيخ ، إذا شعرت بحاجة ماسّة إلى التداول معه في أُمور كثيرة كان الوسواس قد ركبني فيها أيضاً ، ورأيته _ كما حدّثني عنه غير واحد ممن لا اتّهم موضوعيته _ من خيرة من يمكن استشارته ، فهو من المتبحرين في ميادين الفقه والعقيدة والتفسير ، ومن كبار علمائنا المجتهدين ، وهو في ميدان التاريخ بين يديّ بعد أن نظرت في كتابه ، ولكنّ أُموراً لم أستطع دفعها في كتابه ، ولكنّ أُموراً لم أستطع دفعها في حينما حالت دون سفري.

ويوم وفقني الله لحجّ بيته الحرام ، سألته أن يسعدني بلقائه في الديار المقدّسة ، وما أن وطأت قدماي أرض مدينة الرسول المصطفى صلوات الله عليه وآله ، وتحلّلت من زيارته وزيارة أهل بيته عليهم السلام حتي بدأت البحث والتقصّي.

وبعد لأي وصلت إليه ، ولا أُحدثك عن فرحتي بلقائه ، ولا عن حسن استقباله وهو لا يعرفني ، وكأن الرجل أحسّ بحاجتي لوقت يخصّني به على الرغم من ازدحام وقته ، فاندفع إليّ بكلّه هاشّاً باشّاً بخُلق العلماء وسماحتهم.

٢

إنها ذكرى لا تُنسى عددتها في حينها من مكافآت الحج التي شكرت الله عليها وعلى غير ها. وهالني يوم قرأت ما قرأت ، إذا وجدتني أمام سِفر يحتاج في هذا الزمن الصعب إلى عقود لكتابته ، تسبقها عقود من الدرس الجاد والمثابرة والفطنة والذكاء الحادّ وبُعد النَّظر وسعة الأُفق ، ويحتاج أيضاً إلى مكتبات عدّة متخصّصة في علوم شتّى.

انماز منهج المؤلف بطريقة بحث تختلف عن الطرائق المألوفة التي اتّبعها مؤرخو السيرة منذ ابن إسحاق وحتى العصر الحديث ، إذ حاول ربط كثير من أحداثها بتواريخ نزول الآيات وتسلسلها ، في الأجزاء الخاصّة بعصر القرآن ، وهي ميزة ما عرفتها عند غيره من الكتّاب ، وإن كان الواقدي في مغازيه قد ذكر ما نزل من قرآن في غزوات الرسول صلوات الله عليه وآله بل إنها طريقة في البحث يصعب أن يلتزم بها أي مختصّ بأحداث تلك المرحلة مهما أُوتي من العلم إلّا إذا كان متفقّهاً عميقاً بعلوم القرآن وتفسيره ، أسباب نزوله وتاريخه ، وكان الباحث منهم لذا استطاع رؤية الأحداث بعين بصيرة جنّبته الوقوع في متاهات رواة السيرة وأخبارها ، وفي ذات الوقت بصرّته بالغثّ والسمين منها.

والكتاب فيما أحسب أيضاً جديد من باب آخر ، فهو أول دراسة جادّة للسيرة النبوية ، وعهد الخلفاء الأوّلين من وجهة نظر علماء أهل البيت ، إذ استند في كثير من مباحثه على أخبار مرويّة عن أئمتهم عليهم السلام ، أما غالبيّة من تعرّض للسيرة أو لبعض أحدثما سواء أكانوا من الشيعة أم السنّة كتبوها اعتمداً على روايات كتّاب السيرة القدماء كابن إسحاق وابن هشام والواقدي وابن سعد والبلاذري ، ومن خلال ما كتبه المؤرخون القدماء كالطبري والمسعودي وغيرهما ، وأضافوا إليها مناقشاتهم لأحداثها من خلال المصادر الأُخرى ، وكان التركيز في غالبيّتها على كتب أهل الحديث ، وما جاء فيها من أخبار ومرويّات ، وجميعها لم تأخذ

٣

بتاریخ النزول أساساً في ربط الأحداث ، وإن كانت قد أشارت إليه بين حين وآخر ، وكان جلّ اعتمادها أخبار الرواة.

وليس بخاف عليك أن أخبار السيرة تدخّلت رؤى كثيرة في صياغتها حتى أصبح من الصعب على المؤرخ الموصول إلى الحقيقة مجرّدة من الشوائب ، فقد انفرط عِقد الصحابة ، وكاد ذلك السراج ينطفئ بعد رحيل المصطفى صلوات الله عليه واله ، وانفراطه أدّى إلى صياغة الأحداث بصور تتماشي إلى حدّ كبير مع وجهات نظرهم ، ومدى تأثرهم بأحداث عصرهم ، وبميولهم واتجاهاتهم ، وهكذا انطمسك حقائق كبرى بات العسير الوصول إليها ، ثمّ تدخّلت عوامل أُخرى شوّهت وجه كثير من الروايات من بعد ، يضاف إلى ذلك أنها يوم انتقلت من جيل إلى آخر دخلها بحسن نيّة أو بسوء نيّة كثير من التغيير والتصحيف والتحريف والخلط ، بسبب بُعد عصر التدوين عن عصر السيرة ، وكثر الوضع كثرة تجاوزت الأصل ، واختلقت أحداث لا أساس لها من الصحّة ، ونفخ في أحداث أُخرى حتى كادت تتفجر بسبب ما اعتراها من تزوير وتدليس وكذب وبهتان ، وهي بمجملها لا تخصُّ فرقة من الفرق ، ولا حزباً من الأحزاب ، ولا عصراً من العصور ، بل إن رواية ملفقة أحياناً تصبح روايات في حقب التاريخ المتعاقبة ، وأنت تقرأ كلّ هذه الرؤى في روايات من عصر الصحابة والتابعين ومن تلاهم في كتب التاريخ والسيرة والحديث.

أما تاريخ أميرالمؤمنين عليه السلام وسيرته فقد تآمرت أُمم من الفئة الباغية على تشويهه منذ رحيل المصطفى صلوات الله عليه وآله إلى قرون متعاقبة من الحكم العباسي الذي كان أشد نكداً وضلماً لأهل البيت من الأمويين ومن تابعهم.

وكنت مذ وعيت الدَّرس على بيّنة من هذا الأمر ، وكان مادّة درسي على طلبة الدراسات العليا لمحاضرات عدّة وأزعم أنها تركت أثراً محموداً في نفوسهم وعلى رسائلهم من بعد.

٤

وإذا كنت قد وقفت بإنعام نظر على مشاهد كثيرة من أجزاء الموسوعة الأربعة التي تؤرخ الأحداث الأسلامية لحين دخول أميرالمؤمنين عليه السلام الكوفة بعد حرب الجمل ، فإني بانتظار صدور جزئها الخامس ، وأتمنى أن يستمر الشيخ بإصدار أجزاء أُخرى يعرض فيها الأحداث لغاية عصر الأمام الصادق عليه السلام في الأقل.

وأزعم أني رافقت ما صدر من الموسوعة مرافقة دقيقة في غير مشهد ، أختلف مع الشيخ في رؤيته أحياناًحتى الخصومة ، أتّفق معه في أحايين كثيرة لحدّ الانبهار ، وآخذ عليه في حين كأني أتصيّد له بالماء العكر ، وأعجب به في حين آخر حتى لا أجد مناسبة إلا أجد مناسبة إلاتحدّثت عنه حديث تجلّة وإكبار.

ولكي لا أظلم نفسي لابد من الإشاراة إلى أن قراءتي لم تكن عادلة ولا موضوعية لأنها قامت بين رؤيتين رؤية المؤلف تبحّرت بقراءتي المصادر التاريخية ، وبين رؤيتي التي ابتعدت عن كلّ ذلك بسبب ظروف نشأتها العلمية واختصاصها ، فقد تركّز اهتمامي منذ عقود على قراءة كتب الأدب واللغة والمعجمات والكتابة عنها وتحقيق بعضها ، وعلى الدراسات الصرفيّة والكتابة عنها ، أما الدراسة التاريخيّة فأنا ضيف عليها وعلى مصادرها ، لذا فإن ما أراه يبتعد عن الواقع أحياناً يراه الشيخ من صميمه ، يضاف إلى هذا أنه في موسوعته حاول تقديم وجهة نظر علماء أهل البيت التي حدّثتك عن مدى الحاجة إليها ، وهي في أحيان ليست قليلة لا تلتقي مع رؤية كتّاب السيرة من القدماء والمحدثين وخاصّة الذين اعتمدوا على مدرسة أهل الحديث في كتابتهم أو تثقّفوا عليها.

على أن منهجه لم يُعبده كثيراً عن كتّاب أهل الحديث ، وإنما التقاهم في غالبيّة الروايات التي ليس فيها من خلاف ، كما التقاهم في الروايات التي لا يودّون النظر فيها على الرغم من واقعيّتها وصدقيّتها سنداً ومتناً ، فنظر فيها ، وأزاح عنها القذي

٥

بما لا يقبل الشكّ لصاحب العين البصيرة ، وكان من همومه إزاحة الكدر الذي خيّم على حقوق كثيرة هُدرت لأسباب أشرنا إليها ، أو لأسباب اُخرى تتعلّق باُفق الفقيه المتبحّر في التاريخ إذا أراد دراسته.

وهو في درسه لا يرى مبرّراً للنظر إلى نصوص السيرة بتقديس إلّا إذا قومت تقويماً سليماً ووُزنت بميزان الاعتبار فصحّت بما لا يقبل الشك ، وميزان الاعتبار عنده أن تُعرض على القرآن الكريم ، فما وافق كتاب الله منها قُبل ، وما خالفه رُفض ، وبالاعتماد على القرآن تتحدّد معالم شخصيّة الرسول ، فإذا انسجم النصُّ مع صفاته القرآنية أخذنا به ، وإن كانت الاُخرى رفضناه دون تردّد ، «وإلّا فكيف ننسب إلى هذه الشخصيّة أنه حمل حليلته عائشة على متنه لتشاهد أغاني السودان؟! أو أنّه شرب النبيذ؟! أو أنّه بال قائماً؟! أو أنّه شكّ في نبوّته؟! أو أنّه أثنى على الاوثان تقريباً للمشركين إلى نفسه». وبالاقتداء بالقرآن الكريم «الذي إنما يخاطب أولي الالباب والعقول» يكون الموقف من جميع القضايا التاريخية.

والشيخ في موسوعته يشاكس كتّاب السيرة في مواقف كثيرة ، فهو حينما يقف على رواية يراها تصطدم مع روايات علماء أهل البيت الموثوقة ، أو التسلسل الزماني والمكاني لنزول القرآن لا يغضّ النظر عنها ، وإنما يشبعها بحثاً ومناقشة كي يأخذ بيد قارئه إلى الحقيقة أو يقرّبه منها. وهو أيضاً لا يتعصّب لرواية مهما كان مصدرها إذا شكّ في صحتها ، سواء أكانت من روايات علماء أهل البيت أم من روايات مدرسة أهل الحديث.

إنّه كتاب على الرغم من صفحاته التي تجاوزت في كلِّ جزء الثمانمائة لا يترك لك فرصة كبيرة لتركه ، فكلّما حاولت أخذ بيدك إلى موضوعاته الجديرة بالمراجعة ، بل أنت كلما نظرت في فصل من فصوله معتقداً أنك مطّلع على ما ورد فيه يفاجئك بأشياء كثيرة جديرة بالنظر والمراجعة ، وإذا كنت سأقف معك في هذه العجالة على

٦

الجزء الأول منه فهذا لا يعني إهمال بقيّة الاجزاء ، ولكنّ أمر عرضها يحتاج إلى أناة تستحقّها ، فليس كلّ يوم نقف على كتاب بهذا العمق ، وعلى كاتب بهذه الموسوعية.

وأنت حينما تقرأ ذلك الجزء تخرج بتسلسل تاريخي في كثير من أحداثها يختلف إلى حدّ كبير مع تسلسلها عند أصحاب السير ، وإذا كانت مصادره الاساس هي كتب علماء أهل البيت ، فإنه لم يهمل مصدراً من مصادر أهل الحديث ، بل إنها تتماشى جنباً إلى جنب مع مصادره ، بل إنك تشعر حينما تنظر في هوامش بحثه أنه لم يترك مصدراً قديماً أو حديثاً يمكن الافادة منه الّا وقد اطّلع عليه وأفاد منه.

فمصادر الجزء الاول تجاوزت المائتين بكثير ، كما أن صفحاته تجاوزت الثمانمائة وستين ، قسمها تقسيماً يدعوك إلى قراءته إذا نظرت في التقديم الذي وضعه بين يديه ، إذ شوّقك إلى ما ينبغي على كاتب التاريخ اتباعه في دراسته ، وحشد لك فيه موضوعات كلها جديرة بالنظر حول التاريخ قبل الاسلام وبعده ، وحول تدوين السيرة وكتّابها والأثر الباقي منها ، وحول ما قام به ابن هشام في سيرة ابن اسحاق ، وحول مغاي الواقدي ، وحول كتب السيرة والخلاف فيها بينها ، ثمّ قدم تصوّراً لشرائط دراسة التاريخ ، وكيفيّة تقويم النصوص ، واستدراك ما فاتها ، ثمّ كيفيّة رفع الركام عن معالم الحقّ التي طمست ، ثمّ منهجه في الدراسة ، وقد أفاد الباحث في تقديمه من مصادر كثيرة في مقدّمتها دراسة المستشرق الدكتور مارسدن جونس الرائعة التي قدّم بها كتاب مغازي الواقدي.

وقسم الباقي من صفحات الجزء الاول التي قاربت الثمانمئة على عشرة فصول ، وتناول في الفصل الاول البيئة العربية قبل الاسلام ، وقد قاربت صفحات هذا الفصل المئة والسبعين ، أغناها بالمباحث المهمّة التي من بينها مبحث الجاهلية في القرآن الكريم ، ومبحث الجاهلية في نهج البلاغة الذي لم أقف على ما يقاربه عند غيره ، بالاضافة الى مباحث اُخرى كثيرة تتعلّق بدول العصر ودياناته وأحداثه

٧

الاجتماعية والسياسيّة والاقتصاديّة ، وعلاقات الجزيرة بما جاورها ، ودرس كلّ ذلك من خلال كتابات المؤرخين والاخباريين القدماء منهم والمحدثين ، ولكنّه أهمل كتابات المستشرقين والآثاريين ، ولا سيما كتاب ولفنسن حول تاريخ اللغات السامية ، وكاد يهمل كتاب مؤرخ العصر لاُستاذنا البحر جواد علي ، فلم يلتفت إليه إلّا في موقف عابر حول تفشّي المجوسية بين بعض القبائل العربيّة ، في الوقت الذي وقف فيه وقفات كثيرة مع كتاب العصر الجاهلي لاُستاذنا طيّب الذكر الدكتور شوقي ضيف.

وسلّط الضوء في الفصل الثاني على نشأة النبي الكريم صلوات الله عليه وآله منذ ولادته إلى انتقال المرتضى لبيته وكفالته وما دار حولها من أخبار.

ودراسة أخبار هذه الحقبة من الزمن والحقبة التي سبقتها يكتنفها الغموض في أغلب جوانبها على الرغم من كثرة ما كتب عنها ، وتحيط بها حكايات كثيرة تراوح بين الاسطورة والواقع ، ومن الصَّعب التوثق من صحّتها لا في كتب مدرسة أهل الحديث ولا في كتب مدرسة أهل البيت ، ولا في كتب الآثاريين والمؤرخين ، لأسباب لسنا بصدد بحثها ، ولكنّ الأحداث تبدو أكثر وضوحاً واقتراباً إلى الواقع على الرغم من شديد اختلاطها حينما تصل إلى حكاية حفر بئر زمزم.

وكان من مباحث الفصل الثاني المهمة مبحث عمر خديجة رضوان الله عليها يوم تزوجها الرسول.

ومبحث تاريخ ميلاد الزهراء عليها السلام ، وما ورد فيه من اختلاف يصل إلى عشر سنوات بين مدرسة أهل الحديث وبين مدرسة أهل البيت ، فذكر ما ورد من أخبار أهل البيت حول ولادتها عليها السلام ، وما ورد عن غيرهم ، ومن بين الروايات التي ذكرها رواية عن الشيخ المفيد التي ذهب فيها إلى أن ولادتها كانت (سنة اثنتين من المبعث) ، وقال : «وتبعه تلميذه الشيخ الطوسي فقال في المصباح : في اليوم العشرين

٨

من جمادي الآخرة سنة اثنتين من المبعث كان مولد فاطمة في بعض الروايات». ويبدو أن الشيخ يقترب إلى ما ذكره الشيخ المفيد ، إذ قال : «كل ذلك مما يؤيّد أو يدلّ على كون ولادتها بعد البعثة». ويبدو أن رواية الشيخ المفيد تقترب إلى الواقع أكثر من غيرها من خلال مقارنة عمرها الشريف بما روي من مواقفها عليها السلام مع الجوار القرشي الدّنس وما فعله بالمصطفى بعد رحيل أبي طالب رضوان الله عليه.

ومن المباحث المهمّة أيضاً مبحث انتقال المرتضى إلى بيت أخيه المصطفى عليه السلام ، وعلى الرغم من اتفاق الروايات على أن السبب يعود إلى ضائقة ألّمت بأبي طالب ، وبسبب كثرة عياله اقترح المصطفى على عمّه العباس التخفيف عن عمّه فاختار المصطفى علياً واختار العباس جعفر بن أبي طالب ، وقد استغرق الفصلان مع التقديم ثلث الجزء الاوّل تقريباً.

وتناول في الفصل الثالث البعثة النبوية المباركة ، وكانت مباحثة كلّها مهمّة بسبب معالجتها التي قدّمت الروايات المعتبرة عن اهل البيت على غيرها ، دون إهمال للمصادر التاريخيّة الاُخرى ، وكان من بين مباحثها المهمة مبحث ما نزل من القرآن في دور كتمان الدعوة ، ومبحث الإسراء والمعراج ، وحديث الانذار الذي ما زال محل شدٍّ وجذب بين المدرستين وغيرها.

أما الفصل الرابع ، وهو في غاية الأهمية أيضاً فقد تناول فيه مرحلة الدعوة العلنيّة ثمّ انتقل إلى دراسة تاريخ نزول كثير من السور مع ربط الاحداث بها ، وذكر ما نزل منها في مرحلة الدعوة السريّة ، وما نزل منها في المرحلة العلنيّة ، ولا أشكُّ في أن البحث بتاريخ النزول قد استغرق منه جهداً هائلاً إذ اضطره فيما أحسب إلى إنعام النظر بجميع كتب التفاسير ، وبجميع الدراسات التي تناولت تاريخ القرآن ، بالاضافة إلى كتب التاريخ والسيرة التي أرّخت للاحداث ، وكان الباحث فيها حاضراً واعياً مجتهداً لا يستقرُّ على رأي دون أدلّة قويّة يركن إليها.

٩

أما الفصول الثلاثة التي تليه فقد خصّها للإسراء والمعراج وما ندرج بعده من أحداث ، والهجرة إلى الحبشة ، وأخبار المقاطعة وصحيفتها ، ووفاة أبي طالب وخديجة رضوان الله عليهما ، وما رافق كلّ ذلك من أحداث ، وهجرته صلوات الله عليه وآله إلى الطائف ، مع دراسات لبعض السور القرآنية ومناسبات نزولها.

وتناول في الصول الثلاثة الباقية بيعة العقبة ، فذكر أخبارها ومن شارك فيها ، وأنت تقف في هذا المبحث على رؤى جديدة لا تراها في كتب السيرة المتداولة ، ثمّ تحدّث أيضاً عن مؤامرة قريش على قتل النبي ، ومبيت المرتضى في فراشه ، وكيفيّة هجرة المصطفى صلوات الله عليه وآله إلى المدينة ، وخروج علي من بعد بالفواطم ، وتقف في هذا المبحث على رؤى لا تقف عليها بهذا الوضوح والتوثيق عند كتّاب السيرة من مدرسة أهل الحديث.

لقد أعادني المؤلف في كتابه هذا إلى جيل الرواد من الكتّاب العظام الذين حينما تنظر إلى مؤلفاتهم الموسوعية تأخذنا الحيرة والدهشة من طول أناتهم وصبرهم على كتابتها ، ولا أشك في أن كتابه هذا سيحتسب ثوابه في ميان حسناته ، وسيبقى مصدراً مهماً من بعد لأجيال من الكتّاب والمؤرخين ، وإني في الوقت الذي أشدُّ على يده القويّة مهنئاً أسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنّ عليه بالعمر المديد كي يتحف المكتبة الاسلامية بكتب اُخرى تزيل قذىً ، وتجلو حقيقة ، وتُظهر حقّاً.

أد. صلاح مهدي الفرطوسي

عضو مجمع دمشق ـ هولندا

١٠

تقديم

كيف ينبغي أن ندرس تأريخ الإسلام

١١
١٢

التأريخ قبل الإسلام :

لم يكن للناس قبل الإسلام مادّة للتأريخ ، اللهمّ إلّا ما توارثوه بالرواية ، ممّا كان شائعا بينهم من أخبار آبائهم وأجدادهم وأنسابهم وشعوبهم وقبائلهم وملوكهم ، وما في حياة اولئك من قصص فيها البطولة والكرم والوفاء ، وما كان من خبر الأسر الّتي تناوبت الإمرة على الناس وما قاموا به من تجهيز الجيوش وإقامة الحروف وبناء المدن والقصور ، إلى أمثال ذلك ، ممّا قامت فيه الذاكرة مقام الكتاب واللسان مقام القلم ، يعي الناس منه ويحفظون ثم يؤدّونها كما هي أو بإضافة أو نقيصة ، وكثيرا ما كان بإضافات وتحريفات.

كان هذا عند الفرس المجوس ، واليهود الإسرائيليين ، والعرب الجاهليين المشركين ، واختص هؤلاء بأخبار الجاهلية الاولى وأنسابها ، وما فيها من قصص عن البيت وزمزم وجرهم ، وما كان من أمرها ، ثم ما كان من خبر الاسر الّتي تناوبت الزعامة والإمرة على قريش ، وما جرى قبل ذلك لسدّ مأرب في اليمن ، وما تبعه من تفرّق الناس في البلاد.

١٣

التأريخ بعد الإسلام :

ثمّ ظهرت الرسالة المحمّدية بصفتها أعظم حادث في حياة البشر عامّة والعرب خاصّة ، فكان محور تأريخ البشر عامّة والعرب خاصّة ، فما اجتمع ملأ منهم أو تفرّق إلّا وحديثهم عنه ، ولا تحرّكت جيوشهم وكتائبهم إلّا له أو عليه ، حتّى تتوّجت جهوده بمعنى قوله سبحانه (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) فنبذوا ما كانوا فيه من الجاهلية الجهلاء والضّلالة العمياء بهداية القرآن والإسلام.

ويومئذ وبظهور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وظهور دعوته ، ظهر مورد جديد للتأريخ ، وهي أحاديث الصحابة والتابعين وأهل بيته عليهم‌السلام عن ولادته وحياته ، وما قام به صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهاد وجهود في سبيل الله ، واصطدام في ذلك مع المشركين ، ودعوة إلى التوحيد ، وما كان فيها من أثر للسيف والسّنان واللسان والبيان ، وأصبحت هذه هي موادّ التأريخ الجديد بصورة عامّة وسيرة الرّسول بصورة خاصّة.

تدوين السيرة النبويّة وتأريخ الإسلام :

ولم يدوّن في تأريخ الإسلام أو في سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله شيء ، حتّى مضت أيام الخلفاء ، لم يدوّن في هذه المدّة شيء سوى القرآن الكريم وتقويم إعرابه بمبادئ وقواعد النّحو على يد أبي الأسود الدؤلي بإملاء أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه‌السلام ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحفّز المسلمين على كتابة القرآن حرصا على حفظه وصيانته ، كما إنّ تفشي العجمة على ألسنة أبناء العرب على أثر اختلاطهم بغيرهم عند اتساع الرّقعة الإسلامية دفعت أبا الأسود الدؤلي إلى عرض ذلك على علي عليه‌السلام فكان ذلك حافزا على تدوين النحو.

وبهذا الاختلاط أيضا تفشّت فيهم أخبار الماضين من ملوك الفرس وبني

١٤

إسرائيل ، فلمّا كانت أيام معاوية أحبّ أن يدوّن في التأريخ القديم كتاب فاستقدم عبيد بن شرية من صنعاء اليمن فكتب له كتاب أخبار الماضين من ملوك اليمن من العرب البائدة وغيرهم ومنهم الفرس والحبشة (١).

وقد كان المسلمون يحبّون أن يخلّدوا آثار ما يتعلق بسيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد كان هذا يحقّق ما في نفوسهم من تعلّق به ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، ولكنّهم ـ ببالغ الأسف ـ منعوا عن تدوين أحاديثه مخافة أن يختلط الحديث بالقرآن الكريم ـ كما زعموا ـ ، بل منعوا حتّى عن التحديث بحديثه ، حاشا أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام ، فإنّه لم يشارك في هذا المنع ولم يؤيّده ، بل كما أملى النحو على كاتبه أبي الأسود الدؤلي كتب هو أيضا بعض الكتب في الفقه والحديث ، وأمر كاتبه الراتب عبيد الله بن أبي رافع أن يكتب المهمّ من أقضيته ، وأحكامه في فنون الفقه من الوضوء والصلاة وسائر الأبواب (٢).

وبهذا الموقف من أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبفعل حاجة المسلمين إلى أحاديث نبيّهم ظهر فيهم غير واحد من حملة الأحاديث العلماء الفقهاء ، ولكن حيث استمر هذا المنع رسميّا من قبل الخلفاء بعد علي وابنه الحسن عليهما‌السلام إلى أيام عمر بن عبد العزيز ، قام رجال كلّهم محدّثون. لم يدوّنوا في الحديث والفقه شيئا ، ولكنّهم عوّضوا عن كتابة أحاديثه بكتابة شيء من سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أصول السيرة النبويّة وتطوّرها في القرنين الأول والثاني :

لا شكّ في الأهمية الكبرى الّتي كانت لأقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأعماله في حياته ، وأكثر منها بعد وفاته.

__________________

(١) اُنظر مروج الذهب ٢ : ٦٠ ـ ٦٢ و ٢٥١.

(٢) انظر رجال النجاشي : ٤ ـ ٧.

١٥

ومن الطبيعي أن تورث هذه الأهمية عناية بتدوين تفاصيل حياته وجمع الأخبار والأحاديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وطبيعي أيضا أن تكون القصص الشعبية عن سيرته موجودة في حياته معتنى بها ـ كحال الناس في العناية بقصص الأنبياء من قبل ـ.

وطبيعي أيضا أن يكون بعض الصحابة والتابعين قد تفوّق على أقرانه في علمه بسيرته ومغازيه.

كتّاب السيرة الأوائل :

إنّ أوّل من صنّف في السيرة هو عروة بن الزبير بن العوّام (ت ٩٢ ه‍).

وذكر ابن سعد في كتابه «الطبقات» ما يفيد : أنّ أوّل من تخصّص فيها هو أبان بن عثمان بن عفّان (ت ١٠٥ ه‍) ، روى بعضها عنه المغيرة بن عبد الرّحمن.

ثم تنبّه إلى جمع أخبارها والتحديث بها وهب بن منبّه اليمني (ت ١١٠ ه‍).

ثمّ عاصم بن عمر بن قتادة (ت ١٢٠ ه‍) الذي يروي عنه ابن إسحاق بعض أخبار سيرته كخبره عن دعاء النبي للاستسقاء في طريق تبوك ، وكثرة النّفاق.

ثمّ شرحبيل بن سعد الشامي (ت ١٢٣ ه‍).

ثمّ عبد الله بن أبي بكر بن حزم القاضي (ت ١٣٥ ه‍) الّذي طلب منه عمر بن عبد العزيز أن يكتب إليه ما عنده من الأحاديث فنشرها بين الناس.

ثمّ موسى بن عقبة (ت ١٤١ ه‍).

ثمّ معمر بن راشد (ت ١٥٠ ه‍).

ثمّ محمّد بن إسحاق بن يسار المدني وقيل بشار ـ بن خيار من سبي عين تمر بالعراق (ت ١٥٣ ه‍).

ثمّ راويته زياد بن عبد الملك البكّائي الكوفي العامري (ت ١٨٣ ه‍).

١٦

ثمّ محمّد بن عمر بن واقد المعروف بالواقدي صاحب كتاب المغازي (ت ٢٠٧ ه‍).

ثمّ راوية ابن زياد البكّائي عن ابن إسحاق : عبد الملك بن هشام الحميري اليمني البصري (ت ٢١٨ ه‍).

ولم يصلنا من كتب هؤلاء شيء سوى سيرة ابن إسحاق برواية ابن هشام عن البكّائي عن ابن إسحاق ، ومغازي الواقدي ، اللهمّ إلّا روايات في طيّات امّهات المصادر التأريخيّة فيما بعد.

المؤرخون الأوائل :

وإلى جانب هؤلاء ظهر من لم يقتصر على أخبار سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل جمع إليها أخبار الجاهلية قبل الإسلام ، ثمّ أخبار الخلفاء بعده ، أو جمع أخبار بعض الخلفاء ، أو الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام فقط ، فكانوا مؤرّخين بالمعنى العام.

منهم : محمّد بن السائب الكلبي الكوفي النّسابة (ت ١٤٦ ه‍).

وأبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي الكوفي (ت ١٥٧ ه‍).

وهشام بن محمّد الكلبي الكوفي (ت ٢٠٦ ه‍).

ونصر بن مزاحم المنقري الكوفي (ت ٢١٢ ه‍).

وعبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت ٢٧٤ ه‍).

وأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت ٢٧٩ ه‍).

وإبراهيم بن محمّد الثقفي الكوفي الأصبهاني (ت ٢٨٣ ه‍).

وأبو الفرج علي بن الحسين الأموي الأصبهاني (ت ٢٨٤ ه‍).

وأحمد بن واضح بن يعقوب البغدادي (ت ٢٩٢ ه‍).

ومحمّد بن جرير الطبري (ت ٣١٠ ه‍).

١٧

وعلي بن الحسين المسعودي البغدادي (ت ٣٤٦ ه‍).

ومحمّد بن محمّد بن النعمان التلعكبريّ المفيد (ت ٤١٣ ه‍).

الأثر الباقي في السيرة :

عرفنا أنّ الكتابة في سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت قد حصلت في التابعين وتابعي التابعين ، كما رأينا قائمة أسمائهم وتواريخ وفياتهم ، ولكنّها لم تكن كثيرة ، بل هي مهما أطلنا الحديث عنها كانت قليلة جدا ، لا تعدو أن تكون صحفا فيها بعض الأخبار عن سيرة المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أمّا الكتاب الّذي كتبت له الموفقية والنجاح وشهرة الاعتماد والوثوق فهو سيرة محمّد بن إسحاق ، الّتي ألّفها في أوائل أيام العباسيين.

ذكر الخطيب : أنّه دخل يوما على المنصور وبين يديه ابنه المهدي ، فقال له المنصور : أتعرف هذا يا ابن إسحاق؟ قال : نعم ، هذا ابن أمير المؤمنين : فقال : اذهب فصنّف له كتابا منذ خلق الله آدم عليه‌السلام إلى يومك هذا. فذهب ابن إسحاق فصنّف له الكتاب وأتاه به فلمّا رآه قال : لقد طوّلته يا ابن إسحاق فاذهب فاختصره. فاختصره ، والقي الكتاب الكبير في خزانة الخليفة.

وفي هذا المعنى روي عن ابن عدي الرّجالي المعروف أنّه كان يقول في ابن إسحاق : «لو لم يكن لابن إسحاق من الفضل إلّا أنّه صرف الملوك عن الاشتغال بكتب لا يحصل منها شيء للاشتغال بمغازي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومبعثه ومبتدأ الخلق لكانت هذه فضيلة سبق بها ابن إسحاق ، وقد فتّشت أحاديثه الكثيرة فلم أجد ما تهيّئ أن يقطع عليه بالضعف ، وربّما أخطأ واتّهم في الشيء كما يخطئ غيره.

__________________

(١) اُنظر تاريخ بغداد ١ : ٢٢١ و ٧ : ٢٤٥.

١٨

ولم يتخلّف في الرواية عنه الثقات والأئمة الاثبات ، أخرج له مسلم في المبايعات ، واستشهد به البخاري في مواضع ، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة» (١).

ثمّ أصبح ابن إسحاق في الحقيقة عمدة المؤلفين في السيرة ، فما من كتاب في السيرة إلّا وهو مستمدّ منه وراو عنه ، اللهمّ إلّا ما نأتي عليه من مغازي الواقدي ورواية كاتبه ابن سعد عنه ، وما روي عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وكذلك أصبح كتاب ابن إسحاق عمدة الكتب في السيرة لقرّائها منذ أن كتبه إلى يومنا هذا ولا سيّما بعد تهذيبها من قبل ابن هشام ـ بحيث أنّك لا تكاد تجد رجلا يدرس سيرة الرسول الكريم إلّا وكتاب ابن إسحاق كتابه الأوّل والام في ذلك.

عمل ابن هشام في سيرة ابن إسحاق :

وقد جاء بعده عبد الملك بن هشام الحميري البصري (ت ٢١٨ ه‍) بنصف قرن تقريبا ، فروى سيرة ابن إسحاق برواية زياد بن عبد الملك البكّائي العامري الكوفي (ت ١٨٣ ه‍) ولكنّه لم يروها كما هي بل تناولها بكثير من التمرير والاختصار والاضافة والنقد أحيانا ، والمعارضة بروايات أخر لغيره ، عبّر عن أعماله هذه بقوله في صدر سيرته : «وانا ـ إن شاء الله ـ مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم ، ومن ولد رسول الله من ولده ، أولادهم لأصلابهم الأوّل فالأوّل من إسماعيل إلى رسول الله ، وما يعرض من حديثهم ـ وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل للاختصار ـ إلى حديث سيرة رسول الله. وتارك بعض ما يذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب ممّا ليس لرسول الله فيه ذكر ولا نزل فيه من القرآن شيء ، وليس سببا لشيء

__________________

(١) الكامل في الضعفاء لابن عدي ٦ : ١٠٢ ـ ١١٢.

١٩

من هذا الكتاب ولا تفسيرا له ولا شاهدا عليه ، لما ذكرت من الاختصار ، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها ، وأشياء بعضها يشنع الحديث به (!) وبعض يسوء بعض الناس ذكره (!) وبعض لم يقرّ لنا البكّائي بروايته (؟) ومستقص ـ إن شاء الله تعالى ـ ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له والعلم به» (١).

إذن فقد أسقط ابن هشام من عمل ابن إسحاق : تأريخ الأنبياء من آدم إلى إبراهيم ، ومن ولد إسماعيل من ليس في عمود النسب النبوي الشريف ، كما حذف من الأخبار ما يسوء بعض الناس! ومن الشعر ما لم يثبت لديه. ولكنّه زاد فيه ممّا ثبتت لديه من رواية ، ولذلك نسبت السيرة إليه وعرفت به ، حتّى لا يكاد يذكر ابن إسحاق معه ، فقد عرفت سيرة ابن إسحاق بين العلماء منذ عهد بعيد باسم ابن اسحاق في السيرة، لما له فيها من رواية وتهذيب.

وبهذا الصدد قال ابن خلّكان في ترجمة ابن هشام : «وابن هشام هذا هو الّذي جمع سيرة رسول الله من المغازي والسّير لابن إسحاق وهذّبها ولخّصها ، وهي السيرة الموجودة بأيدي الناس المعروفة بابن اسحاق في السيرة».

ولم تنقطع العناية بالتأليف في السيرة إلى يومنا هذا ، إلّا أنّ الموضوع في ذاته ليس أمرا يقوم على التجارب ، أو فكرة يقيمها برهان وينقضها برهان ، شأن النظريات العلميّة الّتي نرى تجديدها وتغييرها على مرّ السنين ، وإنّما هو من العلوم النقليّة لا العقليّة ، فكان المشتغلون به أوّلا محدّثين ناقلين ، ثمّ جاء من بعدهم جامعين مبوّبين ثمّ ناقدين معلّقين. ولم يكن قابلا للتجديد في جوهره ، إلّا بمقدار قليل حسب النقد الدقيق ، وإنّما كان التجديد في أشكاله وصوره شرحا أو اختصارا ، أو شيئا من النقد قليلا مشيرا إلى ما فيه من أخطاء.

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة١ : ٤.

٢٠