موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

قال الحسن بن الجهم : فلمّا انصرف الرضا عليه‌السلام إلى منزله تبعته فدخلت عليه وقلت له :

يابن رسول الله ، الحمد لله الذي وهب لك من جميل رأي أمير المؤمنين! (المأمون) ما حمله على ما أرى من إكرامه لك وقبوله لقولك!

فقال عليه‌السلام : يابن الجهم ، لا يغرك ما ألفيته عليه من إكرامي والاستماع مني! فإنه سيقتلني بالسمّ وهو ظالم لي! أنا أعرف ذلك بعهد معهود إليّ من آبائي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال : فاكتم هذا ما دمت حياً (١).

وكان أبو الصلت حاضراً فقال للرضا عليه‌السلام : يابن رسول الله ؛ إن في سواد الكوفة قوماً يزعمون أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقع عليه سهو في صلاته ، فما تقول؟

فقال عليه‌السلام : كذبوا لعنهم الله ، إنّ الذي لا يسهو هو الله الذي لا إله إلّاهو!

فقال : يابن رسول الله ، وفيهم قوم يزعمون أنّ الحسين بن علي أُلقي شبهه على حنظلة بن أسعد الشبامي (فقتل بدله) ورفع هو إلى السماء كما رُفع عيسى بن مريم ، ويحتجون بهذه الآية : (لَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (٢)) فما تقول؟

فقال عليه‌السلام : كذبوا وكفروا بتكذيبهم لنبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في إخباره بأنّ الحسين بن علي سيقتل ، والله لقد قُتل الحسين ، وقتل من كان خيراً من الحسين أمير المؤمنين والحسن بن علي عليهم‌السلام ، «وما منا إلّامقتول» وإني لمقتول بالسم باغتيال من يغتالني ، اعرف ذلك بعهد معهود إليّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أخبره به جبرئيل عن ربّ العالمين عزوجل.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٠ ـ ٢٠٢ ، الباب ٤٦ ، الحديث ١.

(٢) النساء : ١٤١.

١٤١

وأما قول الله عزوجل : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً») فإنه يقول : لن يجعل الله لكافر حجة على مؤمن ، ولقد أخبر الله عزوجل عن كفار قتلوا النبيين بغير الحق ، ومع قتلهم إياهم لن يجعل الله لهم سبيلاً من طريق الحجة على أنبيائه عليهم‌السلام (١).

وكان ياسر خادم المأمون للرضا عليه‌السلام حاضراً وكأنه قد بلغه عن غلاة الشيعة القول بتفويض الله الأُمور إلى الرسول والأئمة فسأله قال : ما تقول في التفويض؟

فقال عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى فوّض إلى نبيّه أمر دينه فقال : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (٢)) فأما الخلق والرزق فلا وإن الله عزوجل يقول : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) قل : (هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَىْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)).

ولعلّ من ذلك إشاعة بعض العباسيين عنهم عليهم‌السلام : أنهم يزعمون أنّ الناس عبيد لهم! منهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي ، وحضر محضر الرضا عليه‌السلام فخصّه بالخطاب عتاباً وقال : يا إسحاق! بلغني أنّ الناس يقولون : إنّا نزعم أنهم عبيد لنا! لا وقرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما قلته قط! ولا سمعت أحداً من آبائي قاله! ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله! ولكنّي أقول : الناس عبيد لنا في الطاعة ، ومَوالٍ لنا في الدين. فليبلّغ الشاهد الغائب (٤).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٣ ، الباب ٤٦ ، الحديث ٥.

(٢) الحشر : ٧.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ : ٢٠٢ ، الباب ٤٦ ، الحديث ٣. والآية ٤٠ من سورة الروم.

(٤) أُصول الكافي ١ : ١٨٧ ، الحديث ١٠.

١٤٢

المأمون والرضا والغلاة والإمامة :

أسند الصدوق عن الحسن بن الجهم الشيباني (مولاهم) قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليه‌السلام ، وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة.

فسأله بعضهم قال : يابن رسول الله ، بأي شيء تصحّ الإمامة لمدعيها؟ قال : بالنص والدلائل. قال : فما هي دلائل الإمامة؟ قال : في العلم واستجابة الدعوة! قال : فما وجه إخباركم بما يكون؟ قال : ذلك بعهد معهود الينا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : فما وجه اخباركم بما في قلوب الناس؟ قال عليه‌السلام : أما بلغك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»؟ قال : بلى. قال : «فما من مؤمن إلّاوله فراسة ينظر بنور الله (ولكن) على قدر إيمانه ومبلغ استبصاره وعلمه ، وقد جمع الله للأئمة منا ما فرّقه في جميع المؤمنين. وقال عزوجل في محكم كتابه : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (١)) فأول المتوسمين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ أمير المؤمنين عليه‌السلام من بعده ، ثمّ الحسن والحسين والأئمة من ولد الحسين عليهم‌السلام إلى يوم القيامة!

قال : فنظر إليه المأمون وقال له : يا أبا الحسن ، زدنا ممّا جعل الله لكم «أهل البيت»!

فقال الرضا عليه‌السلام : إنّ الله عزوجل قد أيدنا بروح منه مقدسة مطهرة ، ليست بملك ، ولم تكن مع أحد ممن مضى إلّامع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي مع الأئمة منا تسدّدهم وتوفّقهم ، وهو عمود من نور بيننا وبين الله عزوجل.

قال المأمون : يا أباالحسن ، بلغني أن قوماً «يغلون» ويتجاوزون فيكم الحدّ!

__________________

(١) الحجر : ٧٥.

١٤٣

فقال الرضا عليه‌السلام : حدثني أبي عن أبيه عن آبائه وسمّاهم ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا ترفعوني فوق حقي ، فإنّ الله تبارك وتعالى اتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبياً ، قال الله تبارك وتعالى : (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١)).

وقال علي عليه‌السلام : «يهلك فيّ اثنان ولا ذنب لي : محب مفرط ومبغض مفرّط» ثمّ قال : وأنا أبرأ إلى الله تبارك وتعالى ممن «يغلو» فينا ويرفعنا فوق حدّنا ، كبراءة عيسى بن مريم عليه‌السلام من النصارى قال الله تعالى : (وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٢)) وقال عزوجل : (لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً للهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ (٣)) وقال عزوجل : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ (٤)) ومعناه : أنهما كانا يتغوطان.

فمن ادعى للأنبياء والأئمة ربوبية أو نبوة ، أو ادعى لغير الأئمة إمامة! فنحن براء منه في الدنيا والآخرة.

__________________

(١) آل عمران : ٧٩ و ٨٠.

(٢) المائدة : ١١٦ و ١١٧.

(٣) النساء : ١٧٢.

(٤) المائدة : ٧٥.

١٤٤

فقال المأمون : يا أبا الحسن فما تقول في «الرجعة»؟!

فقال الرضا عليه‌السلام : إنها لحق ، قد كانت في الأُمم السالفة ونطق به القرآن. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يكون في هذه الأُمة كل ما كان في الأُمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذّة» (١) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا خرج المهدي من ولدي نزل عيسى بن مريم فصلّى خلفه» وقال : «إنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء ، قيل : يا رسول الله ثمّ يكون ماذا؟ قال : ثمّ يرجع الحق إلى أهله».

فقال المأمون : يا أبا الحسن ، فما تقول في القائلين بالتناسخ؟

فقال الرضا عليه‌السلام : من قال بالتناسخ فهو كافر بالله العظيم! مكذِّب بالجنة والنار!

قال المأمون : فما تقول في المسوخ؟ قال : أُولئك قوم غضب الله عليهم فمسخهم فعاشوا ثلاثة أيام ثمّ ماتوا ولم يتناسلوا ، يوجد في الدنيا من القردة والخنازير وغير ذلك مما يقع عليهم اسم المسوخية ، فإنما هي مثل (المسوخ) مما لا يحل أكلها والانتفاع بها.

فقال المأمون : لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن ، فوالله ما يوجد العلم الصحيح إلّاعند «أهل هذا البيت» وإليك انتهت علوم آبائك ؛ فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيراً!

عودة المأمون ، والمخالفون :

أسند الصدوق عن ياسر خادم المأمون لدى الرضا عليه‌السلام قال : كان الفضل بن سهل أصبح ذا الرياستين فغلب على أمر المأمون بحيث لم يكن يجسر المأمون

__________________

(١) القذّة : ريش السهم.

١٤٥

أن يكاشف الفضل بخلافه! فلم يكن للمأمون عند الفضل رأي! ثمّ قوي عليه بالرضا عليه‌السلام جداً!

قال ياسر الخادم : فبينا نحن عند الرضا عليه‌السلام يوماً إذ سمعنا وقع القفل الذي كان على باب المأمون إلى دار أبي الحسن عليه‌السلام. فقال لنا الرضا : قوموا تفرقوا. فقمنا عنه.

فجاء المأمون ، وأراد الرضا عليه‌السلام أن يقوم له فأقسم عليه المأمون بحق رسول الله أن لا يقوم إليه ، ثمّ جاء حتّى انكبّ على أبي الحسن عليه‌السلام وقبّل وجهه (أو جبهته) وكانت هناك وسادة فقعد عليها ، وكان بيده كتاب مطوي ففتحه وكان طويلاً فقرأه عليه فإذا هو فتح لبعض قرى كابل حتّى فرغ منه.

فلمّا فرغ منه قال له الرضا عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين ، اتق الله في أُمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وما ولّاك (كذا) من هذا الأمر وخصّك به ، فإنك قد ضيّعت أُمور المسلمين وفوضت ذلك إلى غيرك يحكم فيهم بغير حكم الله ، وقعدت في هذه البلاد .. فاتق الله ـ يا أمير المؤمنين ـ في أُمور المسلمين ...

قال المأمون : يا سيدي! فما ترى؟ قال : أرى أن تخرج من هذه البلاد وتتحول إلى موضع آبائك وأجدادك ، وتنظر في أُمور المسلمين ولا تكلهم إلى غيرك ؛ فإنّ الله سائلك عمّا ولّاك (؟!).

فقام المأمون وقال : نعم ما قلت يا سيدي! هذا هو الرأي ...

وبلغ هذا إلى ذي الرياستين وجاء إلى المأمون فقال المأمون له : أمرني سيدي أبو الحسن بكيت وكيت وهو الصواب! فقال الفضل : إنك بالأمس قتلت أخاك! فجميع أهل بيتك وبنو أبيك وأهل العراق والعرب معادون لك. ثمّ ولّيت ولاية العهد لأبي الحسن (الرضا) وأخرجت بها الخلافة من بني أبيك ، والعامة والفقهاء والعلماء وآل العباس لا يرضون بذلك وقلوبهم متنافرة عنك! فالرأي

١٤٦

أن تقيم بخراسان حتّى تسكن قلوب الناس ويتناسوا ما كان من أمر أخيك محمّد. ثمّ أراد أن يذكّره بقوّاده المخالفين له في ذلك فقال له :

يا أمير المؤمنين ، وهاهنا مشايخ قد خدموا الرشيد وعرفوا الأُمور ، فاستشرهم في ذلك ، فإن أشاروا بذلك فأمضه. فسأله المأمون : مثل مَن؟ فقال : مثل علي بن أبي عمران وأبي يونس (١)!

وهؤلاء ، هم الذين نقموا عليه بيعته لأبي الحسن الرضا بولاية عهده ولم يرضوا به فحبسهم المأمون. فقال : نعم.

فلمّا كان الغد ودخل الرضا على المأمون حكى له المأمون ما قاله ذوالرياستين ، ثمّ دعا بإخراج هؤلاء من الحبس ودعا بهم إليه. فأوّل من ادخل كان علي بن أبي عمران ، فلمّا نظر إلى الرضا بجنب المأمون قال له : يا أمير المؤمنين أُعيذك بالله أن تُخرج هذا الأمر الذي جعله الله لكم وخصكم به (!) وتجعله في أيدي أعداءكم ومن كان آباؤك يقتلونهم ويشرّدونهم في البلاد!

فقال له المأمون : يابن الزانية! وأنت بعد على هذا؟! ثمّ نادى على الحرسي : يا حرسي! قدِّمه فاضرب عنقه! فقُتل.

ثمّ ادخل أبو يونس (؟) فلمّا نظر إلى الرضا بجنب المأمون قال له : يا أمير المؤمنين ، هذا الذي بجنبك صنم يُعبد من دون الله! فقال له المأمون : وأنت ـ يابن الزانية ـ بعد على هذا؟! ثمّ نادى بالحرسيّ : يا حرسيّ قدمه فاقتله.

__________________

(١) عطف المبرد هنا عليهما لقب الجلودي ، وكرره نحو عشر مرات بلا اسم ، واسم الجلودي المشاهَد في تاريخ الرشيد والمأمون هو عيسى بن يزيد ، ويزيد ذكره بعد عودة المأمون إلى بغداد ، وهنا ينفرد الخبر بذكر هجوم له في عهد الرشيد على دار الرضا عليه‌السلام! ثمّ يذكر قتل المأمون له هنا! فلا عبرة بهذا المقطع من الخبر ، فأسقطناه.

١٤٧

فلمّا قتل المأمون هؤلاء المخالفين ، علم ذو الرياستين أنّ المأمون قد عزم على الخروج .. فرجع ذو الرياستين إلى أبيه سهل وقعد في منزله. فبعث إليه المأمون فأتاه فقال له : ما لك قعدت في بيتك؟ فقال له :

يا أمير المؤمنين ؛ إنّ الناس يلومونني بقتل أخيك المخلوع وبيعة الرضا (١) ، فذنبي عظيم عند أهل بيتك وعند عامة الناس! ولا آمن السُعاة والحسّاد وأهل البغي أن يسعوا بي عندك. فدعني أخلفك في خراسان!

فقال له المأمون : لا نستغني عنك! فأما ما قلت إنّه يُسعى بك وتُبغى لك الغوائل ؛ فلست أنت عندنا إلّاالثقة المأمون الناصح المشفق ، فاكتب لنفسك ما تثق به من الضمان والأمان ، ووكّد لنفسك ما تكون به مطمئناً!

فذهب الفضل وكتب لنفسه كتاباً ، وأتى به إلى المأمون وجمع له العلماء وقرأه عليهم ، فكتب المأمون بخطه فيه وأعطاه كل ما أحبّ. وكتب له بخطه (كتاب الحبوة) وبسط له من الدنيا أمله.

فقال ذو الرياستين : يا أمير المؤمنين ، نحب أن يكون خط أبي الحسن في هذا الأمان يعطينا ما أعطيت فإنه وليّ عهدك!

فقال المأمون : قد علمت أنّ أبا الحسن قد شرط علينا أن لا يعمل شيئاً ولا يحدث حدثاً ، فلا نسأله ما يكرهه ، فسله أنت ، فإنه لا يأبى عليك في هذا.

فجاء واستأذن على أبي الحسن عليه‌السلام وبيده الكتاب في أكبر جلد! قال ياسر : فقال لنا الرضا عليه‌السلام : قوموا وتنحّوا فتنحّينا. فدخل ووقف بين يديه ساعة ،

__________________

(١) قول الفضل هذا وتقرير المأمون له بسكوته بلا تعليق ، مؤكد لما مرّ مثله. وكأنه بتذكيره بالقوّاد المخالفين المعارضين أشار إلى أنّ المأمون لعلّه ادّخرهم ليوم مّا فلم يتخلّص منهم! فتخلص منهم المأمون ليستدرج الفضل!

١٤٨

ثمّ رفع أبو الحسن رأسه إليه وقال له : ما حاجتك يا فضل؟ قال : يا سيدي ؛ هذا أمان كتبه لي أمير المؤمنين ، وأنت أولى أن تعطينا مثل ما أعطى أمير المؤمنين إذ كنت وليّ عهد المسلمين.

فقال له الرضا عليه‌السلام : اقرأه. فقرأه قائماً حتّى فرغ منه. فلمّا فرغ منه قال له أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : يا فضل! لك علينا هذا ما اتّقيت الله عزوجل (١).

كتاب الرضا بالحِباء للفضل :

نقل الصدوق عن «الأوراق» لمحمد بن يحيى الصولي : أن الفضل بن سهل كان قد ضمّ أبا الحسن محمّد بن أبي عبّاد إلى الرضا عليه‌السلام ليكتب له (٢).

وقال الصدوق : وجد ـ بلا رواية ـ نسخة (كتاب الحبِاء والشرط) من الرضا علي بن موسى إلى العمال بشأن الفضل بن سهل وأخيه (الحسن! كذا) هكذا :

«أما بعد ، فالحمد لله البديء الرفيع ، القادر القاهر ، الرقيب على عباده ، المقيت على خلقه ، الذي خضع كل شيء لملكه ، وذلّ كل شيء لعزّته ، واستسلم كل شيء لقدرته ، وتواضع كل شيء لسلطانه وعظمته ، وأحاط بكل شيء علمه وأحصى عدده ، فلا هو يؤوده كبير ولا يعزب عنه صغير ، الذي لا تدركه أبصار الناظرين ، ولا تحيط به صفة الواصفين ، له الخلق والأمر ، والمثل الأعلى في السماوات والأرض ، وهو العزيز الحكيم.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٩ ـ ١٦٣.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٤٠ ، الباب ٦٠ والاسم فيه : أبا الحسين بن محمّد بن عباد ، ورجحنا ما كتبناه لمتابعة اسمه في سائر الموارد عن الصولي.

١٤٩

والحمد لله الذي شرع الإسلام ديناً ففضله وعظّمه وشرّفه وكرّمه ، وجعله الدين القيم الذي لا يُقبل غيره ، والصراط المستقيم الذي لا يضل من لزمه ولا يهتدي من صرف عنه ، وجعل فيه النور والبرهان والشفاء والبيان ، وبعث به من اصطفى من ملائكته إلى من اجتبى من رسله من الأُمم الخالية والقرون الماضية.

حتّى انتهت رسالته إلى محمّد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فختم به النبيين وقفّى به على آثار المرسلين وبعثه رحمة للعالمين ، بشيراً للمؤمنين المصدّقين ونذيراً للكافرين المكذّبين ، لتكون له الحجة البالغة ، وليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بيّنة ، وإن الله لسميع عليم.

والحمد الله الذي أورث «أهل بيته» مواريث النبوة ، واستودعهم العلم والحكمة ، وجعلهم معدن «الإمامة والخلافة» وأوجب «ولايتهم» وشرّف منزلتهم ، فأمر رسوله بمسألة أُمته «مودتهم» إذ يقول : (قُلْ لَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى (١)) وما وصفهم به من إذهابه الرجس عنهم وتطهيره إياهم في قوله : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٢)).

ثمّ إن المأمون برّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عترته ، ووصل أرحام «أهل بيته» فردّ الفتهم وجمع فُرقتهم ، ورأب صدعهم ورتق فتقهم ، وأذهب الله به الضغائن والإحن بينهم ، وأسكن التناصر والتواصل والمودة والمحبة قلوبهم ، فأصبحت ـ بيُمنه وبركته وبرّه وصلته ـ أيديهم واحدة ، وكلمتهم جامعة وأهواؤهم متفقة ، ورعى الحقوق لأهلها ، ووضع المواريث مواضعها ، وكافأ إحسان المحسنين ، وحفظ بلاء المبتلين ، وقرّب وباعد على الدين!

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) الأحزاب : ٣٣.

١٥٠

ثمّ اختصّ بالتفضيل والتقديم والتشريف من قدّمته مساعيه ، فكان ذلك ذا الرياستين الفضل بن سهل ، إذ رآه له موازراً ، وبحقّه قائماً ، وبحجته ناطقاً ، ولنقبائه نقيباً ، ولخيوله قائداً ولحروبه مدبّراً ، ولرعيّته سائساً ، وإليه داعياً ، ولمن أجاب إلى طاعته مكافياً ، ولمن عدل عنها منابذاً ، وبنصرته متقرراً ، ولمرض القلوب والنيات مداوياً. لم يثنه عن ذلك قلة مال ولا عوز رجال ، ولم يمل به طمع ولم يلفته عن نيّته وبصيرته وجل ، بل عندما يهوّل المهوّلون ، ويرعد ويبرق له المبرقون والمرعدون ، وعند كثرة المخالفين والمعاندين من المجاهرين والمخاتلين ، أثبت ما يكون عزيمة وأجرأ جناناً وأنفذ مكيدة وأحسن تدبيراً ، وأقوى في تثبيت حق المأمون والدعاء إليه.

حتّى قصم أنياب الضلالة وفلّ حدّهم وقلّم أظفارهم وحصد شوكتهم ، وصرعهم مصارع الملحدين في دينهم والناكثين لعهده ، الوانين في أمره المستخفين بحقه ، الآمنين لما حذّر من سطوته وبأسه.

مع آثار ذي الرياستين في صنوف الأُمم من المشركين ، وما زاد الله به في حدود ديار المسلمين ، ممّا قد وردت أنباؤه عليكم ، وقرئت به الكتب على منابركم ، وحمله أهل الآفاق إليكم وإلى غيركم.

فانتهى شكر ذي الرياستين ـ بلاء أمير المؤمنين عنده ، وقيامه بحقه ، وابتذاله مهجته ، ومهجة أخيه أبي محمّد الحسن بن سهل الميمون النقيبة والمحمود السياسة ـ إلى غاية تجاوز فيها الماضين وفاز بها على الفائزين.

وانتهت مكافأة أمير المؤمنين إياه إلى ما حصل له من الأموال والقطائع والجواهر ، وإن كان ذلك لا يفي بيوم من أيامه! ولا بمقام من مقاماته! فتركه زهداً فيه وارتفاعاً من همته عنه! وتوفيراً له على المسلمين ، وإطراحاً للدنيا واستصغاراً لها! وإيثاراً للآخرة ومنافسة فيها.

١٥١

وسأل أمير المؤمنين ما لم يزل له سائلاً وإليه فيه راغباً : من التخلّي والتزهد! فعظم ذلك عنده وعندنا ، لمعرفتنا بما جعل الله في مكانه الذي هو به من تصديق نيّته ، ويمن نقيبته ، وصحة تدبيره ، وقوة رأيه ، ونجح طلبته ، ومعاونته على الحق والهدى والبرّ والتقوى!

فلمّا وثق أمير المؤمنين وثقنا منه بالنظر للدين ، وإيثار ما فيه صلاحه ، وأعطيناه سؤله الذي يشبه قدره ، وكتبنا له (كتاب حِباء وشرط) قد نسخ في أسفل كتابي هذا.

وأشهدنا الله عليه ومن حضرنا من أهل بيتنا والقواد والصحابة والقضاة والفقهاء والخاصة والعامة.

ورأى أمير المؤمنين الكتاب به إلى الآفاق ، ليذيع ويشيع في أهلها ، ويقرأ على منابرها ، ويثبت عند ولاتها وقضاتها.

فسألني أن أكتب بذلك وأشرح (افصّل) معانيه ، وهي على ثلاثة أبواب :

ففي الباب الأول : البيان عن كل آثاره التي أوجب الله تعالى بها حقه علينا وعلى المسلمين.

والباب الثاني : البيان عن مرتبته في إزاحة علته في كل ما دبّر ودخل فيه : أن لا سبيل عليه في ما ترك وكره ؛ وذلك لما ليس لخَلق في عنقه بيعة إلّاله وحده ولأخيه! ومن إزاحة العلة تحكيمها في مَن يبغي عليهما وسعى بفساد علينا وعليهما وعلى أوليائنا ، لئلا يطمع طامع في خلاف عليهما ولا معصية لهما ، ولا احتيال في مدخل بيننا وبينهما.

والباب الثالث : البيان عن إعطائنا إياه ما أحب من ملك التخلي وحلية الزهد .. وما يلزمنا له من الكرامة والعزّ و «الحِباء» الذي بذلناه له ولأخيه! في منعهما ما نمنع منه أنفسنا ، وذلك محيط في كل ما يحتاط فيه محتاط في أمر دين ودنيا. وهذه نسخة الكتاب :

١٥٢

«بسم الله الرحمنِ الرحیم ، هذا (كتاب حِباء وشرط) ، من عبد الله المأمون أمير المؤمنين ؛ وولي عهده علي بن موسى الرضا ، لذي الرياستين الفضل بن سهل (١) إنا دعوناك إلى ما فيه بعض مكافأتك على ما قمت به من حق الله تبارك وتعالى وحق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحق أمير المؤمنين! وولي عهده علي بن موسى ، وحق (بني) هاشم التي بها يُرجى صلاح الدين وسلامة ذات البين بين المسلمين ، إلى أن ثبتت النعمة علينا وعلى العامة بذلك ، وبما عاونت عليه أمير المؤمنين! من إقامة الدين والسنة وإظهار الدعوة .. مع قمع المشركين وكسر أصنامهم ، وقتل العتاة ، وسائر آثارك الممثلة للأمصار في «المخلوع» وفي المكنّى «بأبي السرايا» المسمّى بالأصفر ، وفي المسمّى «بالمهدي» محمّد بن جعفر الطالبي ، وفي طبرستان وملوكها «البندار هرمز» و «شروين» وفي الديلم وملكها «مهورس» وفي كابل وملكها «هرموس» ثمّ ملكها «الاصبهبد» وفي «ابن البرم» وجبال بدار بنده ، والغور وغورجستان ، وفي خراسان «خاقان» و «ملون» صاحب جبل التبّت! وفي كيمان والغرغر وفي أرمينية والحجاز وصاحب السرير وصاحب الخزر ، وفي حروب المغرب.

فكان ما دعوناه معونة لك : مئة ألف ألف (مليون) درهم ، ونحلة عشرة آلاف ألف (مليون) دراهم وجوهراً! سوى ما أقطعك أمير المؤمنين! قبل ذلك ؛ وقيمة مئة ألف درهم جوهراً يسير عند ما أنت مستحق له ، فقد تركت مثل ذلك حين بذله لك المخلوع! وآثرت الله ودينه ، وأنك شكرت أمير المؤمنين ووليّ عهده ، وآثرت توفير ذلك كلّه على المسلمين وجدت به لهم!

__________________

(١) هنا في نسخة الكتاب : «في يوم الاثنين لسبع خلون من شهر رمضان من سنة إحدى ومئتين» وهو بخلاف التاريخ الآتي في آخر توقيع المأمون : في صفر سنة اثنتين ومئتين. وهو الصحيح الموافق لموقع الخبر.

١٥٣

وسألتنا أن نبلغك الخصلة التي لم تزل أنت تائقاً إليها من الزهد والتخلّي! ليصحّ عند من شك في سعيك للآخرة تركك الدنيا! وما عن مثلك يستغنى في حال ، ولا يرد مثلك عن طلبة ، ولو أخرجتنا طلبتُك عن شطر النعيم علينا! فكيف بأمر رفعت فيه المؤونة وأوجبت به الحجة على من كان يزعم أنّ دعاءك إلينا للدنيا لا للآخرة! وقد أجبناك إلى ما سألت ، وجعلنا ذلك مؤكداً لك بعهد الله وميثاقه الذي لا تبديل له ولا تغيير ، وفوّضنا الأمر في وقت ذلك إليك! فما أقمت فعزيز مُزاح العلة ، مدفوع عنك الدخول في ما تكرهه من الأعمال كائناً ما كان! نمنعك مما نمنع منه أنفسنا في كل الحالات! وإذا أردت التخلي فمكرّم مُراح البدن ، وحق لبدنك بالراحة والكرامة. ثمّ نعطيك ما تتناوله ممّا بذلناه لك في هذا الكتاب فتركته اليوم.

وجعلنا للحسن بن سهل مثل ما جعلناه لك ، فنصف ما بذلناه لك من العطية وأصل ذلك هو لك ، وبما بذل من نفسه في جهاد العُتاة ، وفتح العراق مرتين! وتفريق جموع الشيطان بيده ، حتّى قوى الدين وخاض نيران الحروب ، ووقانا عذاب السموم بنفسه وأهل بيته ، ومن ساس من أولياء الحق. وأشهدنا الله وملائكته وخيار خلقه وكل من أعطانا بيعته وصفقة يمينه في هذا اليوم وبعده على ما في هذا الكتاب ، وجعلنا الله علينا كفيلاً ، وأوجبنا على أنفسنا الوفاء بما اشترطنا ، من غير استثناء بشيء ينقضه في سر ولا علانية و «المؤمنون عند شروطهم» والعهد فرض مسؤول ، وأولى الناس بالوفاء من طلب من الناس الوفاء وكان موضعاً للقدرة ؛ قال الله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (١)).

__________________

(١) النحل : ٩١.

١٥٤

وتوقيع الرضا فيه : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، قد الزم علي بن موسى نفسه بجميع ما في هذا الكتاب على ما اكّد فيه ، في يومه وغده مادام حياً! وجعل الله تعالى عليه راعياً وكفيلاً (وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً») وكتب بخطه في هذا الشهر من هذه السنة (إشارة إلى التاريخ التالي) والحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل».

وتوقيع المأمون فيه : بسم الله الرحمنِ الرحيم ، قد أوجب أمير المؤمنين على نفسه جميع ما في هذا الكتاب ، وأشهد الله تعالى وجعله عليه راعياً وكفيلاً. وكتب بخطه في صفر سنة اثنتين ومئتين. تشريفاً للحِباء وتوكيداً للشروط (١).

وأشار اليعقوبي إلى هذا الكتاب قال : في سنة (٢٠٢ ه‍) كتب المأمون للفضل بن سهل وزيره الكتاب الذي سمّاه : «كتاب الشرط والحِباء» يصف فيه طاعته ونصيحته ، وعظته وعنايته ، وذهابه بنفسه عن الدنيا ، وارتفاعه عما بذل له من الأموال والقطائع والجواهر والعقد ، ويشرط له على نفسه كل ما يسأل ويطلب لا يدفعه ولا يمنعه. ووقّع فيه المأمون بخطه وأشهد على نفسه (٢).

كتب الرضا للجواد عليهما‌السلام :

مرّ الخبر عن الصولي : أنّ الفضل بن سهل كان قد ضمّ أبا الحسن محمّد بن أبي عبّاد إلى الرضا عليه‌السلام ليكتب له ، فروى عنه عون بن محمّد الكندي قال : كنت

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٤ ـ ١٥٩ ، الحديث ٢٣. وهذا التاريخ هو الصحيح الموافق لموقع الخبر ، والتاريخ السابق : «لسبع خلون من شهر رمضان من سنة ٢٠١ ه‍» هو تاريخ البيعة بولاية العهد ، ولم يكن لهذا الكتاب سبب يومئذ. ولم ينبّه عليه الصدوق والمجلسي.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥١.

١٥٥

اكتب له إلى ابنه محمّد وهو صبي بالمدينة ، فما كان يذكره إلّابكنيته يقول لي : اكتب إلى أبي جعفر ، فيخاطبه بالتعظيم ، وترد كتب أبي جعفر إليه في نهاية الحسن والبلاغة ، وسمعت الرضا يقول فيه : أبو جعفر وصيي وخليفتي في أهلي بعدي (١).

ومن كتب الرضا إلى ابنه الجواد : «يا أبا جعفر ، بلغني أنّ الموالي يخرجونك من الباب الصغير ، فإنما ذلك من بُخل بهم لئلّا ينال منك أحد خيراً! فأسألك ـ بحقي عليك ـ لا يكن مدخلك ومخرجك إلّامن الباب الكبير ، وإذا ركبت فليكن معك ذهب وفضة ، ثمّ لا يسألك أحد إلّاأعطيته. ومن سألك من عمومتك أن تبرّه فلا تعطه أقل من خمسين ديناراً والكثير إليك. ومن سألك من عماتك فلا تعطها أقل من خمسة وعشرين ديناراً والكثير إليك. إني أُريد أن يرفعك الله ، فأنفق ولا تخشَ من ذي العرش اقتاراً» (٢).

عامل عودة المأمون إلى بغداد :

قال الطبري في حوادث عام (٢٠٢ ه‍) بلا ذكر للشهر واليوم (إلّاأنّه قبل شعبان كما يأتي) قال : ذكر أنّ علي بن موسى بن جعفر بن محمّد العلوي (الرضا عليه‌السلام) أخبر المأمون بما فيه الناس منذ قتل أخيه الأمين من الفتنة والقتال ، وأنّ الفضل بن سهل يستر عنه الأخبار! وأنّ أهل بيته قد نقموا عليه حتّى رموه بالسحر والجنون (وخلعوه) وبايعوا لعمّه إبراهيم بن المهدي.

وكان الفضل قد قال له : إنّهم إنّما صيّروه عليهم أميراً يقوم بأمرهم! فأعلمه (الرضا) أنّه قد كذبه وغشّه! وأن الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن بن سهل ، والناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه ومكان بيعتك لي من بعدك!

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٤٠ ، الباب ٦٠.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٨ ، الحديث ٢٠.

١٥٦

وأنّ طاهر بن الحسين (الخزاعي مولاهم) كان قد افتتح ما افتتح وأبلى في طاعته ما أبلى وقاد إليه الخلافة مزمومة ، حتّى إذا وطّأ الأمر أُخرج من ذلك كلّه : حُضرت عليه الأموال حتّى ضعف أمره فشغب عليه جنده ، فصُيّر إلى زاوية من الأرض بالرّقة ، وتنوسي منذ قتل محمّد الأمين لا يستعان به في شيء من هذه الحروب ، وقد استعين بمن هو دونه أضعافاً ، وأنّه لو كان على خلافة المأمون ببغداد لضبط الملك ولم يُجترأ عليه بمثل ما اجتُرئ على الحسن بن سهل فتفتّقت عليه الدنيا من أقطارها! وأنّ هرثمة بن أعين القائد إنّما جاءه لينصحه وليبيّن له ما يعمل عليه وأنّه إن لم يتدارك أمره خرجت الخلافة منه ومن أهل بيته ، فموّه الفضل بن سهل على المأمون في أمر هرثمة ثمّ دسّ إليه من قتله.

وكان (الرضا) يعلم بمعرفة يحيى بن معاذ ، وعبد العزيز بن عمران البصري وموسى البصري ، وخلف المصري ، وابن أُخت الفضل بن سهل : علي بن أبي سعيد وهم من وجوه عسكر المأمون عنده! فلمّا سأله المأمون : مَن يعلم هذا من أهل عسكري؟ سمّاهم له! فطلب منه أن يجمعهم فيدخلهم عليه ليسألهم عما ذكره له!

فأرسل إليهم (الرضا) وأخبرهم وأدخلهم عليه ، فسألهم عما أخبره ، فأبوا أن يخبروه حتّى يجعل لهم الأمان من الفضل بن سهل أن لا يعرض لهم! فكتب لكل رجل منهم كتاباً بخطه وضمن ذلك لهم ودفعه إليهم! فأخبروه بغضب أهل بيته ومواليه وقواده عليه في أشياء كثيرة ، وبيّنوا له ما فيه الناس من الفتن ، وأنّ الفضل موّه عليه في كل ذلك. وقالوا له : إنّه إذا خرج إلى بغداد في بني هاشم والموالي والقوّاد والجند ورأوا عزته بخعوا له بالطاعة وسكنوا إليه.

وعلم الفضل بن سهل ببعض أمرهم ، فحبس بعضهم وضرب آخرين منهم سياطاً وحتّى نتف لحى بعضهم!

فعاود (الرضا) المأمون لهم وذكّره بما كان من ضمانه لهم ، فأعلمه أنّه يدارى ما هو فيه.

١٥٧

ولما تحقّق ذلك عند المأمون أمر بالرحيل إلى بغداد (١).

ونقل الصدوق عن الكتاب الذي صنّفه أبو علي الحسين بن أحمد السلامي في «أخبار خراسان» فذكر أنّه لما بلغ المأمون أخبار إبراهيم بن المهدي وأنهم بايعوه بالخلافة ، علم أنّ الفضل بن سهل غطّى عليه وأشار بغير صواب ، فخرج من مرو عائداً إلى العراق (٢).

وكان للمأمون عساكر قد أعدّها للنوائب فيقال لها : النوائب ، فخرج المأمون وأمر أن تتقدمه إلى بغداد ، وبلغ ذلك إلى ذي الرياستين فجاء إليه وسأله : يا أمير المؤمنين ما هذا الرأي الذي أمرت به؟ فقال : أمرني بذلك سيدي أبو الحسن ، وهو الصواب. فقال : يا أمير المؤمنين! ما هذا الصواب! وردّها ذو الرياستين!

فجاء الرضا عليه‌السلام إلى المأمون وقال له : يا أمير المؤمنين ما صنعت في تقديم النوائب؟ فقال له المأمون : يا سيدي! أنت مُرهم بذلك! فخرج أبو الحسن عليه‌السلام وصاح بهم : قدّموا النوائب! قال ياسر الخادم : فكأنما وقعت فيهم النيران ، فأقبلت النوائب تتقدم وتخرج! وخرج المأمون وخرجنا مع الرضا عليه‌السلام (٣).

مقتل الفضل في حمام بِسَرَخْس :

أسند الصدوق عن ياسر الخادم : أنهم لما كانوا في (سَرخس) ورد على ذي الرياستين كتاب من أخيه الحسن بن سهل : أني نظرت في تحويل هذه السنة (وكانت أيام تحويل السنة في أواخر شهر رجب ٢٠٢ ه‍ فلعلّه كان مع خروج المأمون من

__________________

(١) انظر تاريخ الطبري ٨ : ٥٦٤ و ٥٦٥ بتصرف.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٩ ، الحديث ٢٨.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٠ ـ ١٦٢ ، الحديث ٢٤.

١٥٨

مرو) في حساب النجوم (وكان منجّماً) فوجدت فيه : أنك في يوم الأربعاء من شهر (كذا؟) تذوق حرّ الحديد والنار! فأرى أن تدخل أنت والرضا وأمير المؤمنين في هذا اليوم الحمام فتحجم فيه وتصبّ الدم على بدنك ، ليزول عنك نحسه!

فكتب الفضل إلى المأمون بذلك وبعث به إليه يسأله أن يدخل هو وأبو الحسن الرضا معه الحمام! وكتب المأمون بذلك رقعة إلى الرضا عليه‌السلام يسأله ذلك! فكتب إليه أبو الحسن عليه‌السلام : إني لست أدخل الحمام غداً ، ولا أرى لك ذلك يا أمير المؤمنين! ولا أرى ذلك للفضل! فأعاد إليه الرقعة مرتين! فكتب إليه أبو الحسن عليه‌السلام : إني في هذه الليلة رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في النوم يقول لي : يا علي ، لا تدخل الحمام غداً! فلا أرى لك يا أمير المؤمنين! ولا للفضل أن تدخل الحمام غداً! فكتب إليه المأمون : صدقت يا سيدي وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنا لست بداخل الحمام غداً ، والفضل أعلم وما يفعله!

فلمّا غابت الشمس وأمسينا قال لنا الرضا عليه‌السلام : قولوا : نعوذ بالله من شر ما ينزل في هذه الليلة! فقلنا ذلك. ولما صلّى الرضا الصبح قال لنا : قولوا : نعوذ بالله من شرّ ما ينزل في هذا اليوم ، فما زلنا نقول ذلك. فلمّا كان قريباً من طلوع الشمس قال لي الرضا عليه‌السلام : اصعد السطح فاستمع هل تسمع شيئاً؟

فلمّا صعدت سمعت نحيباً وضجة وكثر ذلك ، وإذا بالمأمون قد دخل من الباب الذي كان من دار أبي الحسن إليه وهو ينادي : يا سيدي يا أبا الحسن! آجرك الله في الفضل! وكان دخل الحمام فدخل عليه قوم بالسيوف فقتلوه! وهم ثلاثة نفر أحدهم ذو العلمين ابن خالة الفضل! وقد اخذوا.

قال ياسر : ثمّ اجتمع القواد والجنود من رجال الفضل بن سهل على باب المأمون يقولون : هو اغتاله وقتله! وسمع المأمون بذلك فقال للرضا عليه‌السلام : يا سيدي! ترى أن تخرج إليهم وتفرقهم؟

١٥٩

قال ياسر : فأمرني الرضا عليه‌السلام بالركوب وطلب مركوبه فركب وركبت معه ، فلمّا خرجنا من الباب وإذا بهم قد جاءوا بالنيران ليحرقوا باب المأمون ، فأومى الرضا إليهم بيده وصاح بهم : تفرقوا! فأقبل الناس يقع بعضهم على بعض وتفرقوا حتّى لم يقف منهم أحد (١).

وعاد الرضا إلى المأمون وهو يبكي وقال له : يا أبا الحسن ؛ هذا وقت حاجتي إليك تنظر في الأمر وتعينني! فقال الرضا عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين ؛ عليك التدبير وعلينا الدعاء!

وكان كاتبه أبو الحسن محمّد بن أبي عباد الذي ضمّه إليه الفضل بن سهل حاضراً ، فلمّا خرج المأمون قال له : اعزّك الله لِمَ أبيت ما قاله لك أمير المؤمنين؟ فقال : ويحك يا أبا الحسن لست أنت في شيء من هذا الأمر! قال : فلمّا رآني اغتممت قال لي : لو آل الأمر إلى ما تقول وأنت مني كما أنت عليه الآن (كاتبي) ما كانت نفقتك إلّافي كمّك (من قلة) وكنت كواحد من الناس (٢).

وقال اليعقوبي (العباسي) : لما صار المأمون بقومس دخل الفضل بن سهل الحمام ، فدخل عليه غالب الرومي صاحب ركاب المأمون والخادم سراج بالسيوف ، فقال الفضل لغالب : لا تقتلني ولك مئة ألف دينار! فقال : ليس هذا بأوان عَلق ولا رشوة! وقتله. فقتلهما المأمون.

واتهم المأمون بقتله ذا العلَمين علي بن أبي سعيد ابن خالة الفضل بن سهل وقال : إنّه هو الذي دسّ في قتله! فقتله ووجّه برأسه إلى الحسن بن سهل بالعراق! وقتل معهم خلف بن عمر البصري وموسى البصري ، وعبد العزيز بن عمران

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٣ ـ ١٦٤ ، الحديث ٢٤.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٤ ، الحديث ٢٥.

١٦٠