موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

لماذا بعث الله موسى بن عمران عليه‌السلام بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر؟ وبعث عيسى بإبراء الأكمه والبرص وإحياء الموتى وآلة الطبّ؟ وبعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكلام والخطب؟ أو قال : بالقرآن والسيف؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى بعث موسى بالعصا واليد البيضاء في زمان كان الغالب على أهله السحر ، فأتاهم من ذلك بما لم يكن في وسعهم وبما قهر سحرهم وبهرهم وأثبت به الحجة عليهم.

وإنّ الله بعث عيسى عليه‌السلام بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى في زمان كان الغالب على أهله الطب ، فأتاهم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله فقهرهم وبهرهم وأثبت به الحجة عليهم.

وإنّ الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن والسيف ، في زمان كان الغالب على أهله السيف والشعر ، فأتاهم من القرآن الزاهر والسيف القاهر ما بهر به شعرهم وقهر به سيفهم وأثبت الحجة بهما عليهم.

فقال ابن السكّيت : تالله ما رأيت مثلك اليوم قط! فما الحجة على الخلق اليوم؟

قال : العقل ، يُعرف به الصادق على الله فيصدَّق ، والكاذب على الله فيكذّب.

فقال ابن السكّيت : هذا هو والله الجواب (١)! وانفضّ المجلس بخلاف أهداف المتوكل.

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٢٤ ، ٢٥ ، الحديث ٢٠ ، باب العقل والجهل بدون طلب المتوكل ، وأطلق أبا الحسن. ولذا وبغفلة عن ابن السكيت الراوي عن الهادي عليه‌السلام طبّق الصدوق أبا الحسن على الرضا عليه‌السلام فرواه في عيون أخبار الرضا ٢ : ٧٩ ، ٨٠ ، الحديث ١٢ وكرّره كذلك في علل الشرائع ١ ، الحديث ٦ ، الباب ٩٩. وذكره الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٣٤ مع طلب المتوكل وبتعبير : ابن الرضا ، وهو الصحيح.

٣٦١

عويصات يحيى بن أكثم :

انفضّ المجلس السابق الذي عقده المتوكل بسابق طلب منه إلى ابن السكّيت مؤدّب ابنيه المعتزّ والمؤيد ، بخلاف أهدافه ، فاغتنمها ابن أكثم وقال للمتوكل : ما لابن السكّيت أن يسكّت بمناظرته ابن الرضا الهادي عليه‌السلام وإنما هو صاحب لغة ونحو وشعر! ثمّ اقترح عليه أن يسجّل مسائل عويصة في قرطاس يعرضها على المتوكل ثمّ يُحضر ابن الرضا الهادي عليه‌السلام فيطرحها عليه عسى ولعلّه يتوقّف فيها أو في بعضها فيغتنمونها ذريعة عليه عليه‌السلام ، ووافقه المتوكل.

فاتّخذ قرطاساً وسجّل فيه مسائله العويصة : ثلاث عشرة مسألة هي كما يلي مرتباً (١).

١ ـ ماذا كانت جنة آدم؟ وما كانت الشجرة المنهية؟

٢ ـ كيف سجد يعقوب لابنه يوسف؟ ولماذا؟

٣ ـ من كان (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ (٢)) وكيف عرف ما لم يعرفه سليمان؟ ولماذا؟

٤ ـ مَن المخاطب بقوله سبحانه : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ (٣)).

٥ ـ ما تفسير قوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ (٤)).

٦ ـ وما تفسير قوله سبحانه : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً (٥)).

٧ ـ ولماذا الجهر في صلاة الفجر؟

__________________

(١) لم يفصل الخبر بين الأسئلة والأجوبة ، فتفصيلها منّا وتنسيقها.

(٢) النمل : ٤٠.

(٣) يونس : ٩٤.

(٤) لقمان : ٢٧.

(٥) الشورى : ٥٠.

٣٦٢

٨ ـ متى تُقبل شهادة المرأة لوحدها؟

٩ ـ لِمَ بشّر أمير المؤمنين علي عليه‌السلام قاتل ابن صفية بالنار؟ ولِمَ لَم يقتله؟!

١٠ ـ لِمَ فرّق علي عليه‌السلام قتال المدبرين بين أهل الجمل وصفين؟!

١١ ـ لِمَ عفا علي عليه‌السلام عن حدّ اللائط المقرّ؟!

١٢ ـ كيف يُفعل بالشاة الموطوءة؟

١٣ ـ ما القول فيما يروى عن علي عليه‌السلام في إرث الخنثى؟

ثمّ رفع القرطاس إلى المتوكل فقبل بها! ولا يدرى لماذا أصرّ المتوكل هذه المرة أيضاً بأن يطرحها ابن السكّيت من القرطاس على الهادي عليه‌السلام ويستملي منه أجوبتها ، فرفع ابن السكّيت القرطاس إلى علي بن محمد عليه‌السلام فأمره الإمام أن يكتب جواباتها إملاءً منه كما يلي مرتّباً (١).

أجوبة الإمام الهادي عليه‌السلام :

أمر الهادي عليه‌السلام ابن السكّيت أن يكتب جوابات عويصات ابن أكثم بإملائه عليه ؛ قال عليه‌السلام :

سألت (عن جنة آدم) فأما الجنة ففيها من المأكل والمشرب والملاهي ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، وأباح الله ذلك لآدم ونهاه وزوجته عن الشجرة أن يأكلا منها ، وهي شجرة الحسد ، عهد الله إليهما أن لا ينظرا إلى من فضّله الله عليهما من خلائقه بعين الحسد ، فنسي ولم يجد له عزماً.

وأما سجود يعقوب لولده ؛ فإنّ السجود لم يكن ليوسف ، وإنما كان ذلك من يعقوب وولده طاعة لله تعالى تحية ليوسف ، كما أنّ السجود من الملائكة لم يكن

__________________

(١) بترتيب منّا راعينا فيه تواريخها وأهميّتها.

٣٦٣

لآدم. فيعقوب وولده ومعهم يوسف سجدوا شكراً لله تعالى على اجتماع شملهم وقال في شكره : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ... (١)).

وسألت عن قول الله تعالى : (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ (٢)) هو آصف بن برخيا ، وسليمان لم يعجز عن معرفة ما عرفه آصف ، ولكنه أحبّ أن يُعرّف أُمته من الإنس والجن أنّه الحجة من بعده. بل ذلك من علم سليمان أودعه بأمر الله إلى آصف ، فأحبّ أن لا يُختلف في إمامته وولايته من بعده ، ولتأكيد الحجة على الخلق!

وأما قوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ (٣)) فإنّ المخاطب بذلك رسول الله ، ولم يكن هو في شك ممّا أنزل الله إليه ، ولكن قالت الجَهلة : كيف لم يبعث الله نبياً من الملائكة؟! وكيف لم يفرّق الله بينه وبين الناس في الاستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق؟! فأوحى الله إلى نبيّه : أن اسأل الذين يقرؤون الكتاب بمحضر من الجهلة : هل بعث الله قبلك نبيّاً إلّاوهو يأكل الطعام؟ فلك يا محمد أُسوة بهم.

وإنّما قال : (فَإِنْ كُنْتَ) ولم يكن ، للنصَفة ، كما قال : (فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٤)) ولو قال : فنجعل عليكم لعنة الله لم يجيبوا إلى المباهلة ، فكذا عرف النبيّ أنّه صادق فيما يقول ولكن أحبّ أن يُنصف من نفسه.

وأما قوله : (وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ (٥)) فهو كذلك لو أنّ

__________________

(١) يوسف : ١٠١.

(٢) النمل : ٤٠.

(٣) يونس : ٩٤.

(٤) آل عمران : ٦١.

(٥) لقمان : ٢٧.

٣٦٤

أشجار الدنيا أقلام والبحر مداد يمده سبعة أبحر مدّاً ما نفدت كلمات الله! ونحن كلمات الله التي لا تُدرك فضائلنا ولا تستقصى.

وأما قوله : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً (١)) فمعاذ الله أن يكون الجليل العظيم عنى ما لبّست على نفسك تطلب الرخص لارتكاب الحرام (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (٢)) إن لم يتب! وإنّما يزاوج الله الذكران (من الأجنة في الأرحام).

وأما الجهر في صلاة الفجر ؛ فذلك لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يغلّس بها ، فقراءتها من الليل.

وأما ما جاز من شهادة امرأة وحدها ؛ فهي القابلة جازت شهادتها مع الرضا ، فإن لم تكن (موضع) رضا فلا أقلّ من امرأتين تقومان بدلاً عن الرجل ، للضرورة ؛ لأنّ الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها ، فإن كانت وحدها قُبل قولها مع يمينها.

وأما قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار» فلقول رسول الله به ، وكان ممّن سيخرج يوم النهروان وعلم أمير المؤمنين أنّه سيُقتل في فتنة النهروان فلم يقتله بالبصرة.

وأما قولك : إنّ علياً يوم الجمل لم يتّبع مولّياً ولم يجهز على جريح وآمن من ألقى سلاحه ، وقاتل أهل صفّين مقبلين ومدبرين وأجهز على جريحهم ؛ فإنّ أهل الجمل قُتل إمامهم فلم تكن لهم فئة يرجعون إليها ، وإنما رجعوا إلى منازلهم غير متحاربين ولا محتالين ولا متجسّسين ولا متبارزين ، بل رضوا بالكف عنهم ،

__________________

(١) الشورى : ٥٠.

(٢) الفرقان : ٦٨ ، ٦٩.

٣٦٥

فكان الحكم فيه : رفع السيف والكف عنهم. أمّا أهل صفين فهم كانوا يرجعون إلى فئة مستعدة وإمام منتصب يجمع لهم السلاح ويستعدلهم ويُسنى لهم العطاء ويهيّئ لهم الأموال ، ويعقب مريضهم ويجبر كسيرهم ويداوي جريحهم ويحمل راجلهم ويكسو حاسرهم ويردّهم يرجعون إلى محاربتهم وقتالهم. فالحكم في أهل صفين أن يُتّبع مدبرهم ويجهز على جريحهم ، فلا يساوي في الحكم بين الفريقين.

ولولا أمير المؤمنين وحكمه في أهل الجمل وصفّين لما عُرف الحكم في عُصاة أهل التوحيد!

وأمّا الرجل الذي أقرّ باللواط ، فإنّه أقرّ متبرعاً من نفسه بذلك ولم تقم عليه بيّنة ولا أخذه سلطان ، وإذ كان للإمام الذي من الله أن يعاقب في الله فله أن يعفو في الله ، أما سمعت الله يقول لسليمان (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ (١)) حتّى أنّه بدأ بالمنّ قبل المنع.

وأمّا الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاة ؛ فإن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسمها الإمام نصفين وساهم بينهما (بالقرعة) ثمّ يفرّق السهم الذي وقع عليه السهم نصفين ويقرع بينهما ، ولا يزال كذلك حتّى تبقى اثنتان فيقرع بينهما فأيتهما وقع السهم عليها ذُبحت واحرقت ، وقد نجا سائرهما.

وأمّا قول علي عليه‌السلام في الخُنثى فهو كما قال يرث من المبال ؛ ينظر إليه قوم عدول يأخذ كل واحد منهم مرآة ويقوم الخنثى عرياناً وراءهم وهم ينظرون إلى المرآة فيرون الشيء ويحكمون به.

فلمّا أتمّ الإمام عليه‌السلام كلامه في الإجابة عن عويصات ابن أكثم ، إملاءً على ابن السكّيت ، حمله ابن السكّيت إلى ابن الأكثم وقرأها ابن الأكثم على المتوكل ؛

__________________

(١) سورة ص : ٣٩.

٣٦٦

ويظهر من الخبر أنّهم أو المتوكل كان يهمّه بعد هذا أن يُحضر الإمام عليه‌السلام بمحضر عام أو شبه عام ، ولذا قال له ابن أكثم : ما نحب أن تسأل هذا الرجل عن شيء بعد المسائل هذه! فإنه لا يرد عليه شيء بعدها إلّاوهو دونها ، فيظهر به علمه! وفي ظهور علمه تقوية «للرافضة» (١).

ولعلّ في مثل هذه المواقف وقف المتوكل على تشيع ابن السكّيت ، فامتحنه بسؤاله عن نظره في النسبة بين ابنيه المعتز والمؤيد وبين السبطين الحسنين عليهما‌السلام ، فقرعه ابن السكّيت بما استتبع إسكات أنفاسه بأمر المتوكل ، كما سيأتي في محلّه.

وممّا وقع في هذه الفترة من قضاء ابن أكثم على عهد المتوكل ما أخرجه الكليني عن جعفر بن رزق الله قال : رُفع إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحدّ فأسلم. فقال ابن أكثم : الإيمان يجبّ ويمحو ما قبله. واختلفوا ، فأمر المتوكل أن يكتب إلى علي بن محمد النقي يسأله ، فلمّا قرأ الكتاب كتب إليه : «يضرب حتى يموت» فكتبوا يسألون العلة ، فكتب : بسم الله الرحمنِ الرحيم (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٢)) فاقتنع المتوكل وأمر به فضُرب حتّى مات (٣).

حوادث أرمينية وما والاها :

في سنة (٢٣٩ ه‍) اضطرب أمر أرمينية وتحرّك بها جماعة من البطارقة وغيرهم وتغلّبوا على نواحيهم. فولّى المتوكل أبا سعيد محمد بن يوسف

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٣٤ ـ ٤٣٧.

(٢) غافر : ٨٤.

(٣) فروع الكافي ٧ : ٢٣٨.

٣٦٧

(من مواليه) فعند خروجه سقط ميتاً ، فولّى المتوكل ابنه يوسف ، فخرج حتّى صار إلى البلاد وكاتب البطارقة وخرج إليه منهم بقراط بن أشوط على الأمان فحمله إلى المتوكل ، وأجابه آخرون منهم وحاربه بعضهم فقُتل.

فوجّه المتوكل إليهم بُغا التركي الكبير ، فلمّا وصل إلى أرزن الروم قرب بلدة بدليس كان المتغلّب عليها موسى بن زرارة فأتاه بالأمان فقيّده بُغا وحمله إلى المتوكل ، ثمّ صار إلى موضع يقال له الباق فيه أشوط بن حمزة فحاصره وآمنه وحمله إلى سامرّاء ، فقُتل وصلب. ثمّ توجّه إلى تفليس والمتغلب عليها إسحاق بن إسماعيل وكتب بُغا إليه أن يقدم عليه ، فكتب إليه إسحاق أنّه لم يخرج من طاعة السلطان فإن أراد مالاً أمدّه بها ، وإن أراد رجالاً أنفذهم إليه ولا يمكنه القدوم! فزحف إليه بُغا وحاربه فظفر به فقتله وأرسل رأسه إلى المتوكل. وهرب منهم جماعة وكاتبوا الروم وصاحب الخزر وصاحب الصقالبة واجتمعوا له في خلق عظيم. فزحف بُغا إلى الصنارية فحاربوه فانصرف عنهم منهزماً وكاتب المتوكل ، فندب إليه محمد بن خالد الشيباني ، فلمّا قدم جدّد لهم الأمان فسكن المتحركون (١).

وقال ابن العبري : توجّه يوسف بن محمد إلى أرمينية وآذربايجان فصار إلى أخلاط وأخذ البطريق بقراط بن أشوط فقيّده وحمله إلى المتوكل ، فاجتمع بطارقة أرمينية مع صهر بقراط على ابنته موسى بن زرارة وابن أخي بقراط وتحالفوا على قتال يوسف واجتمعوا عليه في شهر رمضان على قلعة موش! وكان ذلك في شدة من البرد وكلَب الشتاء ، فخرج إليهم يوسف وقاتلهم فقُتل ، وقتلوا من قاتل معه ، ومن لم يقاتل منهم نزعوهم ثيابهم وعرّوهم وأرسلوهم عراة مُشاة حفاة! فهلك أكثرهم من البرد!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٩ ، ٤٩٠.

٣٦٨

فلمّا بلغ الخبر إلى المتوكل وجّه إليهم بُغا التركي الكبير فقتل منهم زهاء ثلاثين ألفاً وسبى خلقاً كثيراً! ثمّ سار إلى تفليس فحاصرها وكان أكثرها من خشب الصنوبر فأحضر النفّاطين وأحرق البلد بالنفط والنيران فاحترق بها نحو خمسين ألف إنسان (١)!

يحيى بن خاقان وابنه عبيد الله :

كان يحيى بن خاقان من موالي الأزد ، وتولّى آل العباس والمتوكل فصيّره على ديوان المظالم. وكان على ديوان التوقيع محمد بن الفضل ووقف المتوكل منه على أمر سخط منه عليه فعزله ، وصيّر مكانه عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، ورفعه وأعلى مرتبته ومحلّه وولّاه ، وأمره أن يوقّع : مولى أمير المؤمنين ، فكان يولّى عمال الخراج والضياع والبريد والمعاون والقضاة في جميع النواحي ، فلم يكن لأحد دونه عمل (٢)! وذلك عام (٢٣٩ ه‍).

حوادث سنة (٢٤٠ و ٢٤١ ه‍):

كان على السند هارون بن أبي خالد فتوفى سنة (٢٤٠ ه‍) ، وهناك عمر بن عبد العزيز السامي فكتب إلى المتوكل أنّه إن وُلّي البلد قام به وضبطه ، فأجابه المتوكل إلى ذلك وأقامه والياً وطالت أيامه.

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٤٢ ، ١٤٣ وقال : كان ذلك سنة سبع وثلاثين. ولعلّه من تصحيف السبع بالتسع أو العكس. وقارن وصفه لفعل بُغا التركي هنا بالنصارى ، بوصفه السابق لفعل النصارى الروم بدمياط المسلمين في مصر! واعتبر بعكس وصفهما عن اليعقوبي في التهويل والتقليل! فهو من القضايا التي قياساتها معها.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٨ ، ٤٨٩.

٣٦٩

وكان على حِمص أبو المغيص موسى بن إبراهيم فوثب عليه أهلها سنة (٢٤٠) فخرج منها إلى حَماة ، فولّى المتوكل محمد بن عبدويه فسكّنهم عدة شهور ثمّ وثبوا عليه أيضاً فمكر بهم حتّى أخذ جماعة من وجوههم وأوثقهم في الأغلال إلى المتوكل فردّهم إليه فضربهم حتّى ماتوا فصلبهم على أبواب منازلهم وأفناهم.

واجتمع كتّاب دواوين الخراج وقالوا : إنّ البلاد بحاجة إلى التعديل ولا يقوم به إلّاوالي ديوان الخراج ، فولّى المتوكل أحمد بن محمد على خراج الشام دمشق والأُردن فتوجّه سنة (٢٤٠) إلى تعديل خراج دمشق والأُردن حتّى حمّل كل أرض ما تستحقه.

وبنى المتوكل بها قصوراً أنفق عليها أموالاً عظاماً : الشاة ، والعروس ، والشبداز! والبديع ، والغريب ، والبُرج ، وأنفق على البرج ألف ألف وسبعمئة ألف دينار! (الملويّة)؟

وكأنّ الروم تخوّفوا من انتقام المسلمين لأهل دمياط لذا وجّه ملك الروم بهدايا يسيرة مع رسل إلى المتوكل وباستعدادهم لمفاداة الأسرى ، فبعث المتوكل إليه بأضعاف هداياه. وكان من خدّامه شنيف قيّماً على أُمناء المتوكل ، فوجّه به للفداء ، فجمع أسرى الروم من كل بلاد الإسلام واشترى كثيراً من العبيد النصارى ليفادى بهم. وكان عامل الثغر الرومي يومئذ أحمد بن يحيى الأرمني! فخرج شنيف بالأسرى والعبيد إلى طرسوس سنة (٢٤١ ه‍) ثمّ إلى قنطرة نهر لامس ، ففادى الأسرى (١).

ومن تاريخ المذاهب : كان أبو ثور الكلبي البغدادي على مذهب أهل الرأي (الحنفي) حتّى قدم الشافعي إلى بغداد وصاحَبه فاتّبعه ونشر فتاواه القديمة (قبل

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٠ ، ٤٩١ ولم يذكر ابن العبري خبر مفاداة الأسرى النصارى!

٣٧٠

فتاواه بمصر) وكان الشافعي محمد بن إدريس وله محمّدان مات أحدهما بمصر سنة (٢٣١ ه‍) وولى الآخر قضاء جزيرة ابن عمر في شمال العراق فمات بها سنة (٢٤٠ ه‍) فهما عامل نشر مذهب الشافعي ببغداد والشمال.

وحينما خرج الشافعي من بغداد كان يقول عن أحمد بن حنبل : خرجت من بغداد وما خلّفت بها أحداً أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل! ومات أحمد بها في ربيع الأول ، وحضر تشييعه ستون ألف امرأة وستمئة ألف رجل! وأسلم ذلك اليوم عشرون ألفاً من المجوس واليهود والنصارى! كذا قال ابن الوردي الحنبلي (١).

وإنما قال المسعودي : حضر تشييعه ما لم يُر مثل ذلك الاجتماع في جنازة من سلف قبله ، وصلّى عليه الوالي محمد بن طاهر الخزاعي (مولاهم) ودُفن في الجانب الغربي بباب حرب.

وكان مقدّم عظيم فيهم يقف مراراً وينادي كراراً :

وأظلمت الدنيا لفقد محمد

وأظلمت الدنيا لفقد ابن حنبل

يريد بذلك أنها أظلمت لفقد أحمد كما أظلمت لفقد محمد عليه‌السلام! وكان أحدهم ينادي بهم : العنوا الواقف عند الشبهات (٢)! ولم يعرض له السيوطي الشافعي! وأحمد من أحفاد ذي الثُديّة رأس الخوارج!

وهو صاحب «المسند» الذي قال فيه : جمعت في المسند أحاديث انتخبتها من أكثر من سبعمئة وخمسين ألف حديث ، فما اختلفتم فيه فارجعوا إليه وما لم تجدوه فيه فلا حجة فيه (٣).

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٧.

(٢) مروج الذهب ٤ : ٢٠.

(٣) تتمة منتهى الآمال للمحدّث القمي : ٣١٨.

٣٧١

وفاة الإسكافي المعتزلي البغدادي :

قال المسعودي : وفي السنة التي مات فيها أحمد بن حنبل كانت وفاة أبي جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي ، وكان من أهل العدل والبحث والنظر (١).

وقال ابن حجر : توفي في (٢٤٠ ه‍) ونقل عن ابن النديم قال : كان عجيب الشأن في العلم والذكاء والصيانة والنزاهة ونُبل الهمة ، وله مناظرات مع الكرابي وغيره ، وكان المعتصم يعظّمه ، وبلغ في مقدار عمره ما لم يبلغه أحد ، وأصله من سمرقند (٢) والإسكاف بين بغداد وواسط.

وينقل عنه ابن أبي الحديد كثيراً ، وقال فيه : عدّه قاضي القضاة (عبد الجبار المعتزلي) في الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة .. وكان أبو جعفر عالماً فاضلاً ، وصنّف سبعين كتاباً في الكلام ، ونقض «كتاب العثمانية» للجاحظ البصري ، وبلغه فحمله إلى بغداد ودخل سوق الورّاقين بها يسألهم : من هذا الغلام السوادي (العراقي) الذي بلغني أنّه تعرّض لنقض كتابي؟! وكان الاسكافي في السوق فاختفى! وكان علوي الرأي منصفاً محققاً قليل العصبية ويقول بالتفضيل ويبالغ في ذلك كما عليه معتزلة بغداد.

وقال : «وكان من المتحققين بموالاة علي عليه‌السلام والمبالغين في تفضيله ، بل أشدهم قولاً في ذلك وأخلصهم فيه اعتقاداً ، وذكر : «أنّ معاوية وضع قوماً من «الصحابة» والتابعين لرواية أخبار في علي عليه‌السلام قبيحة تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم جَعلاً يُرغب في مثله! فاختلقوا ما أرضاه! منهم أبو هريرة

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٢٠ ، ٢١.

(٢) لسان الميزان ٥ : ٢٢١.

٣٧٢

وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير» ثمّ ذكر لكلٍ رواية ومنها ما عن الحسين بن علي الكرابي البغدادي صاحب الشافعي ومروّج مذهبه ببغداد ، وعنه في صحيحي البخاري ومسلم عن الزهري» (١).

ومن آثاره كتاب «المعيار والموازنة» في المفاضلة بين علي عليه‌السلام والصحابة ، أحياه ونشره المحقق المحمودي رحمه‌الله.

هلاك ابن أكثم عام (٢٤٢ ه‍):

قال ابن الوردي : فيها توفي القاضي يحيى بن أكثم التميمي ، وكان من أصحاب الشافعي ، بصيراً بالأحكام. جلس المأمون يوماً مغتاظاً وهو يتمثل قول عمر بن الخطاب : «متعتان كانتا على عهد رسول الله وعلى عهد أبي بكر وأنا أنهى عنهما» ثمّ يقول : ومَن أنت يا جُعَل! حتّى تنهى عمّا فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! وكأنّه عزم على النداء بتحليل المتعة. وبلغ ذلك إلى ابن أكثم فدخل عليه متغيراً فقال له المأمون : أراك متغيراً؟! قال : هو غمّ لما يحدث من النداء بتحليل الزنا! يا أمير المؤمنين!

قال : الزنا؟! قال : نعم ، المتعة زناً! قال : ومن أين قلت هذا؟! قال : من كتاب الله حيث قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٢)) ثمّ تساءل : يا أمير المؤمنين ؛ زوجة المتعة ملك يمين؟ قال : لا. قال : فهي الزوجة التي ترث وتورث؟ قال : لا. قال : فقد صار متجاوز هذين من العادين (٣)!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ٤ : ٦٣ ـ ٧٣.

(٢) المؤمنون : ٥ ـ ٧.

(٣) بل هي زوجة ولا ترث ، فالمتزوج بها ليس من العادين ، ولا دليل لحصر الزوجة في من ترث وتورث. بل هو من التفسير بالرأي الباطل الفاسد.

٣٧٣

ثمّ روى له عن الزهري عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما عن أبيه علي رضى الله عنه قال : أمرني رسول الله أن أُنادي بالنهي في المتعة وتحريمها بعد أن أمر بها (١)!

فبادر المأمون إلى النداء بتحريم المتعة! ومعنى الأكثم : الشبعان العظيم البطن! وكان يُتّهم بالصبيان (٢).

الزلازل عام (٢٤٢ ه‍):

قال اليعقوبي : في سنة (٢٤٢ ه‍) كانت الزلازل بقومس ونيشابور وما والاها من خراسان ، حتّى مات بقومس خلق كثير ، وفي رجفة شهر شعبان مات مئتا ألف. ونال أهل فارس وهج وشعاع احترقت به الأشجار ومات الناس والبهائم. ونالت الزلازل أهل مصر في ذي الحجة من السنة ، تهدمت بها البيوت والمساجد (٣).

وزاد السيوطي : إصفهان والريّ وطبرستان ونيشابور وخراسان ، فتقطعت الجبال وتشققت الأرض. وزلزلت الأرض زلزلة عظيمة بتونس وأعمالها.

__________________

(١) فهل نادى بها علي عليه‌السلام؟ متى وكيف؟ ومع ذلك كانت على عهد أبي بكر؟! أم هل نهى عمر عن المنهي المنفي؟! وهل أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالزنا ثمّ نهى؟! أم كانت زوجة المتعة ترث فلم تكن زنا؟! كلّا! ولكن كلّ ذلك من تبرير الأمر الواقع من الخليفة ، أليس كذلك؟!

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٨ وإنما أخرج له ابن أكثم عن علي عليه‌السلام محاولة لإقناعه بالفرية على علي عليه‌السلام. هذا ولعلّ ولعه باللواط كان مشمولاً لقوله : «أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ ...* وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ» نعوذ بالله!

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩١.

٣٧٤

وسار جبل باليمن بمزارعه على مزارع آخرين. ورُجمت مصر بالحجارة وكان أحدها يزن عشرة أرطال (١)!

أحداث المتوكل بين (٢٤٣ ـ ٢٤٦ ه‍):

استقرّت أوضاع الشام ، ولم تشملها الزلازل ، قال اليعقوبي : وكان المتوكل محروراً فوُصف له برد هواء داريّا من نواحي دمشق ، وكان عليها أحمد بن محمد بن مدبّر فكتب إليه يأمره بإصلاح طريق الشام إلى العراق وإقامة المنازل والمرافد ، وإعداد المنازل والقصور ومنها في داريّا. ثمّ سار من سامرّاء في أواخر ذي القعدة سنة (٢٤٣ ه‍) ووصل دمشق بعد ثلاثة أشهر في أواخر شهر صفر سنة (٢٤٤ ه‍) فنزل بها أربعين يوماً! ثمّ بلغه ما تخوّفه عن بعض الموالي الأتراك ، فترك أريكته بداريّا وعاد أدراجه إلى سامرّاء. فأصابت الزلازل الشام كلّه ولا سيما جبلة واللاذقية ومات بها عالم من الناس ، وأسلم الناس منازلهم وما فيها وخرجوا إلى الصحارى ، وتوالت شهوراً من سنة (٢٤٥ ه‍).

ثمّ استحسن منطقة الماحوزة على ثلاثة فراسخ (١٧ كم) من سامرّاء بينها وبين القاطول إلى بغداد ، فأمر بحفر نهر من نهر القاطول إلى الماحوزة ، وبنى بها قصراً لم يُسمع بمثله ، وبلدة سمّاها الجعفرية نسبة إلى نفسه ، وأمر بمصير الناس إليها ولا سيما الكتاب والدواوين ، وانتقل إليها في المحرم سنة (٢٤٦ ه‍) (٢).

قال السيوطي في سفره إلى الشام : بُني له قصر بداريّا وعزم على سكناها ثمّ بدا له ورجع (٣).

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩١ ، ٤٩٢.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٩.

٣٧٥

وقال المسعودي : بل نزل قصر المأمون بأعلى الأرض بين دمشق وداريّا ، فهو يشرف على المدينة وأكثر الغوطة ، ويُعرف بقصر المأمون حتّى اليوم سنة (٣٣٢ ه‍) ثمّ ذكر شغب الجند معه واجتماعهم وصياحهم بطلب أُعطياتهم حتّى تراموا بالنشّاب وارتفعت إلى رواقه ، فأمر بضرب الطبول للرحيل إلى العراق ، وكانوا يريدون الفتك به (١).

وفي (٢٤٣ ه‍) أو (٢٤٧ ه‍) توفي في سامراء إبراهيم بن العباس الصولي شاعر الرضا عليه‌السلام مع دعبل الخزاعي وله عطايا منه ، وجمع شعره في عهد المتوكل فأحرقه وبدل اسم ابنيه الحسن والحسين إلى إسحاق والعباس!

ومطلع شعره :

أزالت عزاء القلب بعد التجلد

مصارع أولاد النبي محمد

ومن رثائه لابنه :

كنت السواد لناظري

فعليك يبكي الناظر

من شاء بعدك فليمت

فعليك كنت أُحاذر (٢)

هلاك المعتزلي عمرو بن عُبيد :

الأحداث التي سبقت للمتوكل كانت متتالية متوالية ، وبينها حوادث :

قال المسعودي : كان عمرو بن عُبيد المعتزلي البصري شيخ المعتزلة والمقدم فيها ، وكانت وفاته سنة (٢٤٤ ه‍).

ثمّ نقل عن «كتاب المجالس» لأبي عيسى محمد بن هارون الورّاق ببغداد (م ٢٤٧ ه‍) أنّ هشام بن الحكم الكوفي الحرار (؟) من شيوخ «الرافضة» في وقته

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٣٢ ـ ٣٤.

(٢) تحفة الأحباب : ١٦ ، وهدية الأحباب : ٢١٠.

٣٧٦

اجتمع مع عمرو بن عبيد ، وهشام يذهب إلى القول بأنّ الإمامة نصّ من الله ورسوله على علي بن أبي طالب رضى الله عنه وعلى من يليه من طاهري ولده الحسن ثمّ الحسين ثمّ من يليه ... وعمرو بن عُبيد يذهب إلى أنّ الإمامة باختيار الأُمة.

فقال هشام لعمرو : لِمَ خلق الله لك عينين؟

قال : لأنظر بهما إلى ما خلق الله من السماوات والأرض وغيرهما دليلاً لي إليه.

قال هشام : فلِمَ خلق لك سمعاً؟ قال : لأسمع به الأمر والنهي والتحليل والتحريم.

قال هشام : فلِمَ خلق لك لساناً؟ قال : لأُخاطب به من افترض عليَّ أمره ونهيه واعبّر به عمّا في قلبي.

قال هشام : فلِمَ خلق الله لك قلباً؟ قال : لتؤدي هذه الحواس إليه فيميّز بين نافعها وضارها!

قال هشام : أفكان يجوز أن يخلق الله سائر حواسّك ولا يخلق قلباً تؤدي هذه الحواس إليه؟ لِمَ لا؟!

قال عمرو : لأنّ القلب باعث لهذه الحواس على ما يصلح له ، فلمّا لم يخلق الله فيها انبعاثاً من نفسها استحال أن لا يخلق لها باعثاً يبعثها على ما خلقت له إلّا بخلق القلب ، فيكون هو الباعث لها على ما تفعله ، والمميّز لها بين مضارها ومنافعها.

فقال هشام : والإمام يكون من الخلق بمنزلة القلب من سائر الحواس ، فإذا كانت الحواس راجعة إلى القلب لا غيره ، كذا يكون سائر الخلق راجعين إلى الإمام لا غيره! فلم يعرف عمرو فرقاً يُعرف (١)!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٢٢ و ٢٣.

٣٧٧

تسكيت ابن السكّيت الدورقي :

هو يعقوب بن إسحاق الأهوازي الدورقي الشيعي ، التقى بالتقي عليه‌السلام وروى عنه ، من أئمة اللغة وحامل لواء العربية والشعر والأدب ، صاحب كتاب «إصلاح المنطق».

قال السيوطي : كان ابن السكيت رافضياً ومع ذلك ندبه المتوكل لتعليم ابنيه المعتز والمؤيد ، ونظر إليهما يوماً واعجب بهما وأراد اختباره فسأله : مَن أحبُّ إليك هما أو الحسن والحسين؟! فقال : قنبر (مولى علي) خير منهما! فقيل : أمر بسلّ لسانه فمات ، وقيل : بل أمر غلمانه الأتراك فداسوا بطنه حتى مات ، ثمّ أدّى ديته إلى ابنه (١).

وقال ابن الوردي : في سنة (٢٤٤ ه‍) قال المتوكل لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق بن السكّيت : أيما أحبّ إليك ابناي المعتز والمؤيد أم الحسن والحسين؟! فغضّ ابن السكّيت من ابنيه وذكر في الحسن والحسين ما هما أهله ، فداسوا بطنه وحُمل إلى داره فمات. وقيل : بل قال : إنّ قنبر خادم علي خير منك ومن ابنيك! فسلّوا لسانه من قفاه! وعمره ثمان وخمسون سنة (٢).

وإنما قيل له السكّيت لكثرة سكوته ، ومن الغريب أنّه وقع فيما حذّر عنه من عثرات اللسان بقوله قبل قتله بقليل :

يموت الفتى من عثرة بلسانه

وليس يموت المرء من عثرة الرجل

فعثرته في القول تُذهب رأسه

وعثرته بالرجل تبرأ عن مَهل (٣)!

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ٤٠٩.

(٢) تاريخ ابن الوردى ١ ٢١٩.

(٣) هدية الاحباب ٧٢ ٧٣.

٣٧٨

وكان ذلك سنة (٢٤٤ ه‍) وقد مرّ الخبر عن إعجابه بجواب الهادي عليه‌السلام بمحضر المتوكل فلعلّه أضمرها له من يومئذ.

وفي سنة (٢٤٥ ه‍) ساخ جبل من ساحل أنطاكية في البحر ، وعمّت الزلازل فخربت القناطر والقلاع والمدن. وزلزلت مصر وسُمعت من السماء أصوات هائلة بناحية بلبيس من مصر حتّى مات منها خلق من أهلها! وغارت عيون مكة فأرسل المتوكل مئة ألف دينار لإجراء الماء إليها من عرفات (١).

موسى بن محمد بن الرضا وابن الرضا :

يظهر من الخبر التالي : أنّ المتوكل كانت له محاولات لجرّ الهادي عليه‌السلام إلى منادمته في مجلس شربه وشربه معه! وقد أعياه ذلك ، فمع عودته من رحلته في الصيف إلى الشام ، قال : ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا (علي بن محمد) أبى أن ينادمني أو يشرب معي أو أجد منه فرصة من هذا!

ويظهر من الخبر أن موسى بن محمد بن الرضا الذي اشتهر بعدها بالمبرقع لم يكن مبرقعاً يومئذٍ على اشتهاره بأنّه قصّاف عزّاف يتعشق ويشرب! فلمّا تعاجز المتوكل من إخضاع الهادي عليه‌السلام قالوا له : فإن لم تجد منه فهذا أخوه موسى كذا وكذا! قال : فابعثوا إليه فجيئوا به حتّى نُموّه به على الناس نقول : هو ابن الرضا!

فكتب إليه وأشخصه إليه على أنّه إذا وافاه أقطعه قطيعة (أرضاً) وبنى له فيها وجعل له منزلاً سريّاً يزوره هو فيه ووصله وبرّه وحوّل الخمّارين والقيان إليه! فأشخصه إليه مكرماً وأمر فتلقاه بنو هاشم (بنو العباس) وقوّاده والناس!

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٠٩.

٣٧٩

فيظهر من الخبر أنّ هذا كان سنة (٢٤٤ ه‍) ثلاث سنين قبل قتل المتوكل. فلمّا وافى تلقاه أبو الحسن على قنطرة وصيف مولى المتوكل ، وكان موضع تلقي القادمين ، فسلّم عليه ووفّاه حقّه ثمّ قال له : إنّ هذا الرجل (المتوكل) قد أحضرك ليهتكك ويضع منك! فلا تقرّ له أنك شربت نبيذاً قط!

قال موسى : فإذا كان إنما دعاني لهذا فما حيلتي؟! قال : فلا تضع من قدرك ولا تفعل. فأبى عليه! فكرّر عليه ، فما أجاب! فلمّا رآه لا يجيب قال له : أما إنّ هذا مجلس لا تجتمع أنت وهو عليه أبداً!

قال الراوي : فأقام ثلاث سنين يبكّر كل يوم فيقال له : قد تشاغل اليوم ، فأت عصراً ، فيذهب عصراً فيقال : قد سكر فبكّر صباحاً. فيبكّر فيقال : قد شرب دواءً! فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل ولم يجتمع معه عليه (١).

المتوكل وعلي بن محمد الهادي عليه‌السلام :

مرّ الخبر أنّ المتوكل انتقل من سامراء لأوّل محرّم لعام (٢٤٦ ه‍) إلى قصره الجعفري في الجعفرية التي تبعد عن سامرّاء بثلاثة فراسخ (١٧ كم) وسيأتي أنّه قُتل هناك ، وظاهر الخبر التالي أنّه كان بسامرّاء قبل انتقاله إلى الجعفرية.

أسند المسعودي عن محمد بن يزيد المبرّد النحوي البصري البغدادي (م ٢٨٥ ه‍) قال : وَشوا بأبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام إلى المتوكل : بأنّ في منزله من «شيعته» كتباً وسلاحاً! فوجّه إليه ذات ليلة جنوداً من الأتراك وغيرهم ليهجموا عليه بمنزله على غفلة فيأتوه به على حالته. فهجموا عليه بمنزله على غفلة فوجدوه في بيت بلا بساط إلّاالرمل والحصى ، وعليه مدرعة من شعر وعلى رأسه

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٠٢ ، الحديث ٨ ، باب مولد الهادي عليه‌السلام.

٣٨٠