موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

قال : أنت تزعم أنّ الإمامة لا فرض من الله تعالى ولا سنة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف يكون الخطأ فيما ليس بفرض ولا سنة عندك؟! وكيف تزعم أنهم أخطؤوا واجتمعوا على ضلالة وهم لم يعلموا؟!

قال آخر : فإن كنت أن تدّعي الإمامة لعلي دون غيره فهات على ما تدعي بيّنتك.

فقال : ما أنا بمدّعٍ .. فإنّ المدّعي من يزعم أنّ إليه التولية والعزل وأنّ إليه الاختيار ، ولكنّي مقرٍّ ولا بيّنة على المُقرّ. والبيّنة لا تخلو من أن تكون من شركائه فهم خصماء ، أو تكون من غيرهم ولا وجود لهم.

قال آخر : أفما وجب على علي بعد مضيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يُعلم الناس أنّه إمام؟

فقال : إنّ الإمامة لا تكون بفعل منه في نفسه ، ولا بفعل من الناس من اختيار أو تفضيل أو غير ذلك ، وإنما تكون بفعل من الله تعالى كما قال لإبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً (١)) وكما قال لداود عليه‌السلام : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ (٢)) فالإمام إنّما يكون إماماً من قبل الله تعالى وباختياره إياه من بدء الصنيعة ، وفي التشريف في النسب ، والطهارة في المنشأ ، و «العصمة» في المستقبل (٣). ولو كانت بفعل منه في نفسه كان من فعل ذلك الفعل مستحقاً للإمامة وإذا عمل خلافه انعزل ، فيكون خليفة من قبل أفعاله (وليس من الله).

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) سورة ص : ٢٦.

(٣) هذا ، ونعيد إلى الذاكرة ما ذُكر قبل من مناظراته مع الرضا عليه‌السلام في ظواهر ألفاظ القرآن الكريم الموهمة لخلاف عصمة الأنبياء ، فهل اعتقد بها حتى للأوصياء؟

٢٤١

قال آخر : فلم أوجبت الإمامة لعلي بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

فقال : لخروجه من الطفولية إلى الإيمان كخروج النبيّ من الطفولية إلى الإيمان ، والبراءة من ضلالة قومه عن المحجة واجتنابه الشرك ، كبراءة النبيّ من الضلالة واجتنابه الشرك ؛ لأنّ الشرك ظلم ولا يكون الظالم إماماً!

قال آخر : فلم لم يقاتل علي أبا بكر وعمر كما قاتل معاوية؟

فقال : وقد ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قتال المشركين يوم صدّوا لهديه عن البيت يوم الحديبية ، فلمّا وجد الأعوان وقوي حارب ، كما قال الله تعالى له في أول أمره : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (١)) ثمّ قال عزوجل : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ (٢)) وإنما يجب أن يُنظر في أمر علي أمِن قبل الله؟ أم من قبل غيره؟ فإن صحّ أنه من قبل الله فقد قال تعالى : (فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٣)) فأفعال الفاعل تبع لأصله ، فإن كان قيامه عن الله تعالى فأفعاله عنه ، وعلى الناس الرضا والتسليم.

قال آخر : إذا زعمت أنّ إمامة علي من قبل الله تعالى وأنّه مفترض الطاعة ، فلم لم يجز للأنبياء عليهم‌السلام إلّاالتبليغ والدعاء ، وجاز لعلي أن يترك دعوة الناس إلى طاعته؟!

فقال : من قِبل أنا نزعم أنه وضع علَماً بين الله تعالى وبين خلقه. فمن تبعه كان مطيعاً ومن خالفه كان عاصياً ، فإن وجد أعواناً يتقوّى بهم فعليه أن يجاهد ،

__________________

(١) الحجر : ٨٥.

(٢) التوبة : ٥.

(٣) النساء : ٦٥.

٢٤٢

وإن لم يجد أعواناً فاللوم عليهم ولا لوم عليه ؛ لأنهم أُمروا بطاعته على كل حال ، وهو لم يؤمر بمجاهدتهم إلّابقوة.

ثمّ هو بمنزلة البيت ، على الناس الحج إليه إذا حجّوا أدّوا ما عليهم ، وإذا لم يفعلوا كانت اللائمة عليهم.

وقال آخر : إذا وجب بالضرورة أن لابد من إمام مفترض الطاعة ؛ فكيف يثبت بالضرورة أنه عليّ لا سواه؟

فقال : من قِبل أنّ الله لا يفرض ممتنعاً والمجهول ممتنع ، فالله لا يفرض مجهولاً ، فلابد من دلالة الرسول على الفرض ، ليقطع العذر بين الله عزوجل وبين عباده. أرأيت لو فرض الله تعالى على الناس صوم شهر ثمّ لم يعلم الناس أي شهر هو؟ ولم يوسَم بوسم وكان على الناس استخراج ذلك بعقولهم حتى يصيبوا ما أراد الله تعالى ، فيكون الناس حينئذٍ مستغنين عن الرسول المبيِّن لهم ، وعن الإمام الناقل لهم خبر الرسول.

وقال آخر : إنّ الناس يزعمون أنّ علياً حين دعاه النبيّ كان صبياً ، ولم يكن بلغ مبلغ الرجال ولا جاز عليه الحكم ، فمن أين تُثبت أنّ علياً كان بالغاً حين دعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

فقال : من قِبل أنه لا يخلو في ذلك الوقت من : أن يكون ممن أُرسل إليه النبيّ ليدعوه ، فهو محتمل التكليف قوي على أداء الفرائض ، وإن كان ممن لم يرسل عليه فقد لزمه قول الله عزوجل : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (١)) ومع ذلك كان قد كلّف النبيّ عباد الله عن الله ما لا يطيقون ، وهذا من المُحال الذي يمتنع كونه ولا يأمر به حكيم ولا يدل

__________________

(١) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦.

٢٤٣

عليه الرسول ، تعالى الله عن أن يأمر بالمُحال ، وجلّ الرسول من أن يأمر بخلاف ما يمكن كونه في حكمة الحكيم. فعند ذلك سكت القوم جميعاً.

فقال لهم المأمون : قد سألتموني ونقضتم علي ، أفأسألكم؟ قالوا : نعم.

قال : أليس قد روت الأئمة «بإجماع» منها : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من كذب علي متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار»؟ قالوا : بلى.

قال : ورووا عنه أنّه قال : «من عصى الله بمعصية صغرت أو كبرت ثم اتّخذها ديناً ومضى مصرّاً عليها ، فهو مخلّد بين أطباق الجحيم»؟ قالوا : بلى.

قال : فخبرّوني عن رجل تختاره الأُمة فتنصبه خليفة ، هل يجوز أن يقال له خليفة رسول الله ومن قبل الله ، ولم يستخلفه الرسول؟! فإن قلتم : نعم ، فقد كابرتم ، وإن قلتم : لا ، ثبت أن أبا بكر لم يكن خليفة رسول الله ولا كان من قبل الله ، وأنكم تكذبون على نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنتم متعرضون لأن تكونوا ممن وسمه النبيّ بدخول النار!

وخبّروني : في أي قوليكم صدقتم : أفي قولكم مضى صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يستخلف ، أو في قولكم لأبي بكر : خليفة رسول الله؟ فإن قلتم صدقتم في القولين فهذا لا يمكن إذ هو متناقض ، وإن صدقتم في أحدهما بطل الآخر.

فاتقوا الله! وانظروا لأنفسكم ، ودعوا التقليد وتجنّبوا الشبهات ، فوالله ، ما يقبل الله تعالى إلّامن عبد لا يأتي إلّابما يُعقل ، ولا يدخل إلّافيما يعلم أنه حق ، والريب شك ، وإدمان الشك كفر بالله وصاحبه في النار!

وخبّروني : هل يجوز أن يبتاع أحدكم عبداً فإذا ابتاعه صار مولاه وصار المشتري عبده؟ قالوا : لا. قال : فكيف جاز أن يكون من اجتمعتم عليه أنتم لهولكم واستخلفتموه صار خليفة عليكم وأنتم ولّيتموه؟! ألا كنتم أنتم الخلفاء

٢٤٤

عليه! بل تولّون خليفة وتقولون : إنه خليفة رسول الله ، ثمّ إذا سخطتم عليه قتلتموه ، كما فُعل بعثمان بن عفّان!

فقال قائل منهم : ذلك لأنّ الإمام وكيل المسلمين فإذا رضوا عنه ولّوه وإذا سخطوا عليه عزلوه.

قال : فالمسلمون والعباد والبلاد لمن؟ قالوا : لله تعالى. قال : فوالله لهو أولى أن يوكّل على عباده وبلاده من غيره ؛ لأن «إجماع» الأُمة على أنه : من أحدث حدثاً في ملك غيره فهو ضامن ، وليس له أن يُحدث ، فإن فعل فهو آثم غارم.

ثمّ قال : خبّروني عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هل استخلف حين مضى أم لا؟ فقالوا : لم يستخلف! قال : فترْكه ذلك هدى أم ضلال؟ قالوا : هدى! قال : فعلى الناس أن يتّبعوا الهدى ويتركوا الباطل ويتنكّبوا الضلال؟ قالوا : وقد فعلوا ذلك! قال : فلم استخلف الناس بعده وقد تركه هو؟ و «محال» أن يكون خلاف الهدى هدى! وإذا كان ترك الاستخلاف هدى فلم استخلف أبو بكر ولم يفعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! ولم جعل عمر الأمر بعده شورى بين المسلمين خلافاً لصاحبه؟! وقد زعمتم أنّ النبيّ لم يستخلف وأن أبا بكر استخلف وعمر لم يترك الاستخلاف كما تركه النبيّ بزعمكم ولم يستخلف كما فعل أبو بكر وجاء بمعنى ثالث : فخبّروني : أي ذلك ترونه صواباً؟! فإن رأيتم فعل النبيّ صواباً فقد خطّأتم أبا بكر ، وكذلك القول في بقية الأقاويل. فخبّروني : أيهما أفضل : ما فعل النبيّ بزعمكم من ترك الاستخلاف؟ أو ما صنعت طائفة من الاستخلاف؟! وخبّروني : هل يجوز أن يكون تركه من الرسول هدى وفعله من غيره هدى! فيكون هدى ضد هدى! فأين الضلال حينئذٍ؟!

وخبّروني : هل ولي أحد بعد النبيّ باختيار الصحابة؟ فإن قلتم : لا ؛ فقد أثبتم أنّ الناس كلهم عملوا ضلالة بعد النبي ، وإن قلتم : نعم ؛ فقد كذّبتم الأُمة وأبطل قولَكم ما لا يُدفع.

٢٤٥

وخبروني : عن قول الله عزوجل : (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ للهِ (١)) أصدق هذا أم كذب؟ قالوا : صدق ، قال : أفليس ما سوى الله لله إذ كان مُحِدثَه ومالِكَه؟ قالوا : بلى. قال : وفي هذا بطلان ما أثبت من اختياركم خليفة وتسمونه خليفة رسول الله وأنتم استخلفتموه وتفترضون طاعته ، وهو معزول منكم إذا غضبتم عليه وعمل بخلافكم ، وإذا أبى الاعتزال فهو مقتول.

ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فتلقوا غداً وبال ذلك إذا قمتم بين يدي الله تعالى ووردتم على رسول الله وقد كذبتم عليه متعمدين وقد قال : «من كذب علي متعمداً فليتبوّأ معقده من النار».

ثمّ استقبل المأمون القبلة ورفع يديه وقال : اللهم إني قد أرشدتهم! اللهم إني قد أخرجت إليهم ما وجب عليَّ إخراجه من عنقي! اللهم إني لم أدَعهم في ريب ولا شك. اللهم إني أدين بالتقرب إليك بتقديم عليّ على الخلق بعد نبيّك محمد كما أمرَنا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال (الراوي : يحيى بن أكثم؟ أو بل إسحاق بن حماد بن زيد الأزدي؟) : ثمّ افترقنا ، فلم نجتمع بعد ذلك حتى قبض المأمون (٢).

__________________

(١) الأنعام : ١٢.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٨٤ ـ ١٩٩ / ١٥ صفحة! ثمّ قال الصدوق : قال (الراوي) : محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري : وفي حديث آخر (أي في رواية أُخرى عن إسحاق بن حماد الأزدي) قال : فسكت القوم. فقال لهم : لم سكتّم؟ قالوا : لا ندري ما نقول؟ قال : هذه حجة تكفيني عليكم! ثمّ أمر بإخراجهم. قال : فخرجنا متحيّرين خجلين! قال : ثمّ نظر المأمون إلى الفضل بن سهل فقال : هذا أقصى ما عند القوم! فلا يظنّ ظان أنّ جلالتي منعتهم من النقض عليَّ ، والله الموفّق للخيرات.

٢٤٦

اسم علي في جامع البصرة :

لعلّ من العلل التي بدت بعد إعلان المأمون لتفضيل علي عليه‌السلام : ما نقله السبط عن الصولي قال : كان بالبصرة رجل يُدعى أبا عمرة حفص الخطّابي (نسبةً إلى عمر بن الخطاب) وكان يجلس إلى سارية من سواري جامع البصرة.

__________________

هذا وقد قدّم الصدوق لهذا الخبر الطويل خبراً آخر قصيراً عن الراوي نفسه إسحاق بن حماد بن زيد الأزدي البغدادي (القاضي) قال : كان المأمون يعقد مجالس للنظر ويجمع المخالفين لأهل البيت عليهم‌السلام فيكلمهم في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وتفضيله على جميع الصحابة ، تقرّباً إلى أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام وكان الرضا عليه‌السلام يقول لمن يثق به من أصحابه : لا تغترّوا منه بقوله ، فما يقتلني ـ والله ـ غيره! ولكنه لابد لي من الصبر حتى يبلغ الكتاب أجله! ٢ : ١٨٤ ـ ١٨٥ ثمّ ذكر هذا الخبر الطويل مصداقاً لما مرّ من عقده المجالس وكلامه في الإمامة والتفضيل! في حين أنّ هذا القول بالتفضيل منذ ذلك الحين (عام ٢٠٢ ه‍) مع عشرين من المتكلمين وعشرين من المتحدثين لو كان لكانوا يتحدثون به فلا يبقى القول الوحيد والحديث المتسالم عليه في التاريخ والمؤرخين : أن إظهار المأمون القول بالتفضيل كان عام (٢١٢ ه‍) قولاً واحداً! وأيضاً قوله : «فلم نجتمع بعد ذلك حتى قبض المأمون» يدل على أنّ ذلك كان على أواخر عهد المأمون لا في دولة الفضل بن سهل كما ادّعي ذلك!

بل نقل الخبر قبل الصدوق (م ٣٨١ ه‍) أحمد بن محمد بن عبد ربّه الأندلسي القرطبي المرواني المالكي (م ٣٢٨ ه‍) في كتابه العقد الفريد ٥ : ٩٠ ـ ٩٨ عن إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بن حماد بن زيد قال : بعث يحيى بن أكثم إليّ وإلى عدّة من أصحابي وقال لنا : إن المأمون أمرني أن أحضر معي غداً أربعين رجلاً كلهم يفقه ما يقال له ويحسن الجواب ، فسمّوا من تظنونه يصلح لما يطلب قال : فسمّينا له عدّة حتى تم العدد الذي أراد ، قال : فدخلنا فإذا المأمون جالس وعليه سواده. ومن هنا يُعلم أنه كان ببغداد بعد خلع الخضرة والعودة إلى السواد.

٢٤٧

فكُتب عليها شعراً :

رحم الله علياً

إنه كان تقياً

فلما رآها أبو عمرة وهو أعور أمر أن يمحى! ورُفع ذلك إلى المأمون فأشخصه إليه ، فلما دخل عليه قال له : لِمَ محوت اسم أمير المؤمنين من السارية؟! وقد كان عليها :

رحم الله علياً

إنه كان تقياً

قال : بلغني أنه كان : إنه كان نبيّاً! فقال له المأمون : بل كانت القاف أصحّ من عينك الصحيحة! ولولا أن أزيدك عند العامة نفاقاً لأدّبتك! ثمّ أمر بإخراجه (١).

خروج اليمن عن حكم المأمون :

كان إبراهيم بن أبي جعفر الحميري المُناخي أناخ بالحميريين معه بجبل منيع وامتنع عن حكم المأمون.

وكان على اليمن محمد بن نافع ، فثار عليه رجل من نسل عمر بن الخطاب يُدعى أحمد بن محمد العُمري ، وثب بمن معه على ابن نافع وأخرجه من اليمن واحتوى على بيت المال. فولّى المأمون اليمن محمد بن عبد الحميد ، فلمّا قدم بعسكره إلى اليمن استأمن إليه أحمد العمري فآمنه ثمّ أوثقه وولده وجمعاً من أهل بيته في الحديد وحملهم إلى المأمون. ولكنه بعده زحف إلى إبراهيم الحميري المُناخي في جباله فحاربه المناخي وأناخ عليه بالقتل والأسر وقطع أيدي وأرجل أسراه وخلّى سبيلهم ، وغلب على اليمن وخرّب حصن السلطان سنة (٢١٢ ه‍) (٢).

__________________

(١) تذكرة الخواص ٢ : ٤٨٧ عن كتاب الأوراق للصولي الشطرنجي (م ٣٣٥ ه‍).

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦١.

٢٤٨

ولاية المعتصم على مصر والمغرب :

في سنة (٢١٤ ه‍) وثب بالجزيرة خارجي يدعى بلال الضبّابي الشاري ، فعقد المأمون لأخيه المعصتم على مصر والمغرب ، وولّى ابنه العباس بن المأمون على الجزيرة ، فقدم العباس مع عمه المعتصم إلى الجزيرة فاجتمعا بقوّادهما على بلال الشاري فظفروا به وقتلوه.

ثمّ وثبت القيسية واليمانية بناحية الحذف في مصر ، فوجه المعتصم إليهم عمير بن الوليد عاملاً على مصر فقُتل ، فأمر المأمون المعتصم بالسير إليهم ، وكان قد استقر في الرَّقة ، فسار إلى مصر وقاتلهم فظفر بهم وأسر رؤساءهم فقتلهم وصلبهم وأسر منهم جمعاً عظيماً وحملهم إلى بغداد.

فوشى يحيى بن أكثم إلى المأمون على أخيه المعتصم قال له : بلغني أنه يحاول الخلع! فوجّه إليه يأمره بالقدوم إلى بغداد فيقيم بها حتى يعود إليه المأمون. فاشترى المعتصم مئتي بغل واستخلف على الفسطاط عبدويه بن جبلة وسار إلى بغداد (١) والمأمون قد خرج لغزو الروم.

مولد الإمام الهادي عليه‌السلام :

نُقل عن سهل بن زياد الادمي قال : مولد علي بن محمد الهادي في شهر رجب سنة (٢١٤ ه‍) (٢) والجواد عليه‌السلام يومئذ تسع عشرة سنة ، فما روى عن محمد بن الفرج الرخجي أن الجواد عليه‌السلام دعاه ودفع إليه صرة فيها ستون ديناراً ،

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٤ ـ ٤٦٥.

(٢) تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام : ٨٦ وعن تاريخ ابن الخشّاب : ١٩٧ ورواه الكليني في الكافي ١ : ٤٩٧.

٢٤٩

ووصف له وصيفة بصورتها ولباسها وحليتها (١) فتزوّجها أو تسرّى بها فولدت له ابنه الذي سمّاه باسم أبيه علياً ، كان ذلك في أواخر الثامنة عشرة من عمر الجواد عليه‌السلام أي في (٢١٣ ه‍) وكان ذلك قبل ما يأتي من اتيانه المأمون في تكريت في طريقه لغزو الروم وأمره بحمل ابنته أُم الفضل وزفافها إليه في شهر صفر عام (٢١٥ ه‍) كما يأتي عن الطبري آنفاً. فكأنه عليه‌السلام بعد زواجه بأُم الهادي سمانة ومولد الإمام منها : اذن له في سواها.

خروج المأمون للروم وزفاف الجواد عليه‌السلام :

في (٢٤ محرم) سنة (٢١٥ ه‍) يوم الخميس ، بعد ما صلّى المأمون الظهر استخلف على بغداد وكور دجلة وسوادها إلى حُلوان : إسحاق بن إبراهيم الخزاعي ابن عمّ طاهر بن الحسين ، ورحل لغزو الروم.

فلمّا وصل إلى تكريت لحقه صهره الإمام الجواد عليه‌السلام من المدينة ، وكانت ليلة جمعة من شهر صفر ، ولقيه بها ، وكان مع المأمون أهله وأولاده وبناته وفيهن أُم الفضل التي كان قد عقدها له من قبل ، فأمر أن يُعدّ له دار ، فاعدّت له دار أحمد بن يوسف على شاطئ دجلة ، فأمر أن تحمل ابنته أُم الفضل إليه في تلك الدار ، فحملت إليه وأُدخلت عليه ، فأقام بها إلى أن خرج بأهله وعياله لأيام الحجّ إلى مكة (٢) وعمر الجواد عليه‌السلام يومئذ في العشرين عاماً.

ليلة الزفاف ، وصبيحتها :

كان مع المأمون أخوه المعتصم وخال المعتصم : الريّان بن شبيب الكوفي

__________________

(١) اثبات الوصية : ١٩٣.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٦٢٣.

٢٥٠

أخو ماردة بنت شبيب ، فأسند الكليني عن ابنه محمد بن الريّان (عن أبيه) قال : إنّ المأمون احتال بكل حيلة ليحمل معه الجواد عليه‌السلام على ما هو فيه من امور الدنيا وشؤونها فلم يمكّنه من ذلك.

وكان من مشاهير المغنّين له ومعاريفهم رجل يقال له «مُخارق» صاحب صوت وضرب وعود ومع ذلك قد أطال لحيته! فدعاه المأمون ليجتذب إليه التفاتة من الجواد عليه‌السلام! فقال له مخارق : يا أمير المؤمنين! إن كان أبو جعفر في شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره!

ورُفع إلى المأمون مئتا وصيفة من أجمل الوصائف ، هذا وهو في حال السفر للجهاد! فدُفع إلى كل واحد منهن جام فيه جوهر ، فإذا جاء أبو جعفر عليه‌السلام وقعد مع قوّاد المأمون وأجناده فالوصائف يستقبلنه بما في أيديهن من جامعات الجواهر!

وقعد مُخارق بين يدي أبي جعفر عليه‌السلام ، واجتمع حوله أهل الدار ، فجعل يضرب بعوده ويغنّي ساعة! وأبو جعفر عليه‌السلام لا يلتفت لا يمينياً ولا شمالاً! ثمّ رفع رأسه إليه فصاح عليه : اتق الله يا ذا العُثنون (اللحية الطويلة).

فشهق مُخارق شهقة اجتمع عليه أهل الدار ، وسقط من يديه العود والمضراب! وحُمل إلى المأمون فسأله عن حاله فقال : لما صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا افيق منها أبداً (١).

وفي صبيحة عُرس الإمام عليه‌السلام بزينب أُم الفضل ابنة المأمون. أسند الكليني عن علي بن محمد أو محمد بن علي الهاشمي (العباسي؟) قال : كنت أنا أول من دخل على أبي جعفر في صبيحة عُرسه ، وكنت في الليل قد تناولت دواءً معطّشاً ، فأصابني العطش وكرهت أن أدعو بالماء عنده! فنظر أبو جعفر في وجهي

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٤٩٤ ـ ٤٩٥ ، الحديث ٤ وقال : لم يَسلَم حتى مات!

٢٥١

وقال لي : أظنّك عطشاناً! فقلت : أجل! فنادى بالغلام : اسقنا ماءً! فقلت في نفسي : الآن يأتونه بماء يَسُمّونه به! واغتممت لذلك (ولعلّه من صنيعهم معه البارحة ظنّ هكذا!) فأقبل الغلام ومعه الماء فتبسّم في وجهي وقال له : ناولني الماء. فتناول الماء فشرب ثمّ ناولني فشربت.

ثمّ عطشت ثانية وكرهت أن أدعو بالماء ، ففعل مثل ما فعل في الأُولى ، فلمّا جاء الغلام ومعه القدح قلت في نفسي مثل ما قلت في الأول ، فتناول القدح فشرب فناولني وتبسّم! فأنا أظنّه كما يقولون! هذا ما أسنده الكليني (١) وعنه المفيد وفيه : قال محمد بن علي الهاشمي (العباسي؟) : والله إنني أظن أنّ أبا جعفر ـ كما تقول الرافضة ـ يعلم ما في النفوس (٢)! مفسّراً لآخر الخبر.

المأمون وقاضيه ، والجواد عليه‌السلام :

مرّ الخبر في حوادث عام (٢١٢ ه‍) أي قبل ثلاثة أعوام : أنّ المأمون أعلن القول بتفضيل علي عليه‌السلام على الناس بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه طلب من قاضيه يحيى بن أكثم التميمي البصري المروزي أن يجمع له عشرين من محدثي بغداد وعشرين من متكلميها ليحاجّهم فيتمّ عليهم حجته في ذلك ، فحاجّه محدثوهم بما أُثر لهم من المرويات الأموية في فضائل الشيخين ، وأنّ المأمون كيف فنّدها ونقدها وردّها ، وكأنّه لا دور لقاضيه ابن أكثم في ذلك إلّادعوتهم ثم رواية خبرهم.

واليوم وبعد ثلاثة أعوام في سنة (٢١٥ ه‍) في تكريت ، تكرّر مصغّر ذلك بين ابن أكثم والجواد عليه‌السلام بمحضر المأمون : أرسل خبره الطبرسي قال : روى أنّ

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٤١٥ ـ ٤١٦ ، الحديث ٦ ، باب مولد الجواد عليه‌السلام.

(٢) الإرشاد ٢ : ٢٩٢.

٢٥٢

المأمون بعد ما زوّج ابنته امّ الفضل أبا جعفر ، كان في مجلس وعنده أبو جعفر عليه‌السلام ويحيى بن أكثم وجماعة كثيرون ، إذ التفت ابن أكثم إلى الجواد عليه‌السلام وقال له :

يابن رسول الله! ما تقول في الخبر الذي روي : أنّ جبرئيل نزل على رسول الله وقال له : يا محمد ، إنّ الله عزوجل يقرئك السلام ويقول لك : إني راض عن أبي بكر فسله هل هو راضي عني!

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : لست بمنكر فضل أبي بكر ، ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ بمثال الخبر الذي قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجة الوداع : «قد كثرت عليَّ الكذّابة وستكثر بعدي ، فمن كذب علي متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار! فإذا أتاكم حديث عني فاعرضوه على كتاب الله وسنتي ، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به ، وما خالف كتاب الله وسنّتي فلا تأخذوا به».

قال : وهذا الخبر لا يوافق كتاب الله ؛ فقد قال الله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١)) فالله عزوجل (هل) خفى عليه رضا أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سرّه؟! هذا مستحيل في العقول!

فقال يحيى : وقد روي عنه قال : إنّ مثَل أبي بكر وعمر في الأرض كمثَل جبرئيل وميكائيل في السماء!

فقال : وهذا أيضاً يجب أن يُنظر فيه : لأنّ جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقربان لم يعصيا الله قط ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة ، وهما (أبو بكر وعمر) قد أشركا بالله عزوجل وإن أسلما بعد الشرك ، فكان أكثر أيامهما الشرك بالله ، فمحال أن يشبّههما (النبيّ) بهما!

__________________

(١) سورة ق : ١٦.

٢٥٣

قال يحيى : وقد روي عنه أيضاً : أنهما سيدا كهول أهل الجنة! فما تقول فيه؟

فقال عليه‌السلام : وهذا الخبر مُحال أيضاً ، لأنّ أهل الجنة كلهم شباب بلا كهول ، وقد وضع بنوا أُمية هذا الخبر مضادة للخبر الذي قاله رسول الله في الحسن والحسين عليهما‌السلام : بأنهما سيدا شباب أهل الجنة.

فقال يحيى : وروي عنه قال : إنّ عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة!

فقال عليه‌السلام : وهذا أيضاً مُحال ؛ لأنّ في الجنة ملائكة الله المقرّبين وجميع الأنبياء والمرسلين (من) آدم (إلى) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا تضيء الجنة بأنوارهم حتى تضيء بنور عمر؟!

فقال يحيى : وقد روي عنه قال : إنّ السكينة تنطق على لسان عمر!

فقال : لست بمنكر فضل عمر ولكن أبا بكر أفضل من عمر! وقد قال على المنبر : إنّ لي شيطاناً يعتريني فإذا مِلت فسدّدوني!

فقال يحيى : وقد روي عنه قال : لو لم ابعث لبُعث عمر!

فقال عليه‌السلام : كتاب الله أصدق من هذا الحديث ، والله يقول في كتابه : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ (١)) فقد أخذ الله ميثاق النبيين ، فكيف يمكن أن يبدّل ميثاقه؟ وكل الأنبياء عليهم‌السلام لم يشركوا بالله طرفة عين ، فكيف يبعث بالنبوة من أشرك وكان أكثر أيامه مع الشرك بالله؟!

فقال يحيى : وقد روي عنه أيضاً قال : ما احتبس الوحي عنّي قط إلّاظننته نزل على آل الخطاب!

فقال عليه‌السلام : وهذا مُحال أيضاً ؛ لأنه لا يجوز أن يشك النبيّ في نبوته ؛ قال الله

__________________

(١) الأحزاب : ٧.

٢٥٤

تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ (١)) فكيف يجوز أن تنتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به؟!

قال يحيى : وروي أنه قال : لو نزل العذاب لما نجى منه إلّاعمر!

فقال عليه‌السلام : وهذا مُحال أيضاً ؛ لأنّ الله تعالى يقول : (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٢)) فأخبر أنه لا يعذِّب أحداً مادام فيهم رسول الله وماداموا يستغفرون (٣).

انفرد به الشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي (م ٦٢٠ ه‍ تقريباً) ولم يذكر سنده بعد ما قال في مقدمته لكتابه : «ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار باسناده ؛ إما لوجود الإجماع عليه ، أو لاشتهاره في السير والكتب بين المؤالف والمخالف ، أو لموافقته لما دلت العقول عليه» وهذا الأخير يصدق هنا ، فإنّ أكثر ما ذكر ابن أكثم من المرويات الأُموية في فضل الشيخين في هذا الخبر ، مردود بما دلّ العقل على بطلان النقل وفساده في الدين كتاباً وسنة.

غزوات المأمون للرومان :

قال الطبري : ثمّ سلك المأمون طريق الموصل حتى صار إلى مَنبج ثمّ دابق ثمّ أنطاكية ثمّ المصّيصة ثمّ دخل من طرسوس إلى بلاد الروم للنصف من جُمادى الأُولى ، فافتتح حصناً يقال له ماجدة! فمنّ عليهم وخلّاهم ، ثمّ حاصر حصناً يقال له قُرّة حتى فتحه عنوة في (٢٥) جمادى الأُولى. ووجّه بقائدَين من قوّاده :

__________________

(١) الحج : ٧٥.

(٢) الأنفال : ٣٣.

(٣) الاحتجاج ٢ : ٢٤٥ ـ ٢٤٩. وعليه تعاليق المحقّق السيّد الخرسان عن الأميني في الغدير مناقشة لهذه المرويّات.

٢٥٥

جعفر الخياط وعُجيف بن عنبسة إلى حصن سنان! فسمعوا وأطاعوا ، ووجّه بقائده أُشناس (الفارسي) إلى حصن سندس فأتاه برئيسه (ففرض عليه ما أراه) ثمّ انصرف من أرض الروم إلى دمشق ، وانصرف إليه أخوه المعتصم من مصر (١).

وقال اليعقوبي : كان على أنقرة البطريرك منوئيل فلمّا توجه إليه المأمون هرب منها ، فصالحه المستولون على نصفها ، وافتتح نصفها الآخر عنوة فأخربها. ثمّ انصرف إلى دمشق.

وكان أهل برقة قد خالفوا وعليهم مسلم بن نصر الأعور ، فنفذ المأمون إليها وافتتحها وأسر مسلم الأعور. وأتاه الخبر : أنّ أهل البشرود من مصر قد ثاروا ، فأمر أخاه المعتصم أن يوجّه إليهم حيدر بن كاووس الأفشين (الفارسي) فوجّه به إليهم فكفّهم. ثمّ بلغه أنهم عاودوا العصيان فانصرف المأمون بنفسه إليهم وحاربهم سنة (٢١٦ ه‍).

ثمّ انصرف منهم إلى أرض الروم ثانية ، ففتح اثني عشر حصناً من حصونهم ، وكان ملك الروم يومئذ توفيل بن ميخائيل فبلغ المأمون أنه قد زحف إليه ، فوجّه المأمون إليه بابنه العباس ، وبعث توفيل بأُسقف من أساقفته معه كتاب إليه بدأ فيه باسمه ، فلما رآه المأمون وقد بدأ فيه باسمه ردّه وقال : لا أقرأ له كتاباً يبدأ فيه باسمه! فعاد الأُسقف. وكان عند الروم من الأسرى المسلمين سبعة آلاف أسير! فكتب توفيل إلى المأمون : لعبد الله غاية الناس في الشرف! ملك العرب! من توفيل بن ميخائيل ملك الروم .. وسأله أن يقبل منه الأسرى ومئة ألف دينار ، فيدع لهم ما افتتحه من مدائن الروم وحصونهم ويكفّ عنهم الحرب خمس سنين (إلى سنة ٢٢٠ ه‍) فلم يجبه المأمون إلى ذلك! وانصرف إلى كيسوم من أرض الجزيرة (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٦٢٣ ـ ٦٢٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٥.

٢٥٦

المأمون إلى مصر ثانية :

وبلغ المأمون أنّ الذين يحاربون الأفشين بمصر من أهل الحوف والبشرود والبيما وهم قبط البشرود ، وهي من كور أسفل مصر ، قد اشتدت شوكتهم ، فزحف إليهم بنفسه لأول عام (٢١٧ ه‍) فقتلهم وسباهم.

وكان في مصر من تلامذة مالك الحارث بن مسكين فاستفتاه المأمون لسبي هؤلاء ، فقال : إن كانوا قد خرجوا لظلم نالهم فلا تحِل دماؤهم وأموالهم. فقال له المأمون : أنت تَيس (معْز) ومالك كان أتيس منك! هؤلاء كفار لهم ذمة ، إذا ظُلموا عليهم أن يتظلّموا للإمام ، وليس لهم أن يستنصروا بالكفار! ولا يسفكوا دماء المسلمين في ديارهم! ثمّ أخرج المأمون رؤساءهم فحملهم إلى بغداد.

هذا ومع المأمون في معسكره يحيى بن أكثم وأحمد بن أبي دؤاد ، وعلم المعتصم أنّ الساعي عليه والواشي به عند المأمون هو يحيى بن أكثم ، فحمل القائد محمد بن أبي العباس الطوسي أن يحمل أحمد بن أبي دؤاد على الوشاية على يحيى بن أكثم تقرباً إلى المعتصم! ففعلا ذلك ، وسخط المأمون على يحيى ، فأمر بنزع السواد عنه ونفيه من عسكره وإخراجه إلى منزله ببغداد لا يخرج منه! فأرسل كذلك (١) وبطلت سعايته ووشايته على المعتصم فخرج من بغداد إلى أخيه المأمون.

المأمون إلى الروم ثالثة :

وخرج المأمون من مصر في (٣) صفر سنة (٢١٧ ه‍) منصرفاً منه إلى دمشق ، فأقام أياماً ثمّ شخص إلى الثغر ، فعسكر في أدنة .. ثمّ صار إلى حصن من

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٦.

٢٥٧

حصونهم يقال له لؤلؤة فأقام عليه حيناً ، حتى بنى حواليه حصنين أنزل فيهما الرجال ، ثمّ قفل متوجهاً إلى قرية يقال لها سلَغَوس. وكان من أجلّ قوّاد المأمون عجيف بن عنبسة فخلّفه عليهم مع زاد سنتهم ، ومكر أصحاب حصن لؤلؤة بعجيف حتى أسروه ، وكاتبوا ملكهم توفيل بن ميخائيل فسار نحوهم ، فخرج إليه أصحاب الحصنين فهزموا ملكهم بغير قتال وظفروا بعسكره وحووا كل ما كان فيه. وبقي أهل لؤلؤة في حصارهم ، فلمّا أضرّ بهم الحصار قال رئيسهم لعجيف : أُخلّي سبيلك على أن تطلب لنا الأمان من المأمون ، فضمن لهم ذلك ، فطلب رهينة فجاء إليه بفرّاشَين نصرانيَّين على أنهما ابناه! فدفعهما عجيف إليهم وخرج ثمّ كتب إليهم أنهما نصارى منهم ؛ فكتب رئيسهم إليه : إنّ الوفاء حسن وهو في دينكم أحسن! فأخذ عجيف لهم الأمان من المأمون وأخرجهم منها وأسكنها المسلمين سنة (٢١٧ ه‍) (١).

حدّ القذف والتشهير لشتم الصحابة :

ومرّ أن القاضيَين يحيى بن أكثم وأحمد بن أبي دؤاد كانا في عسكر المأمون ، فكان القاضي في بغداد بشر بن الوليد الكندي. وبلغ المأمون أنّه قُدّم إليه رجل رفع عليه أنه شتم أبا بكر وعمر! فضربه حدّ القذف (ثمانين جلدة!) ثمّ أطافه على جمل يُشهر به! وذلك في شهر رمضان! (عام ٢١٧ ه‍) (٢).

ولمّا عاد المأمون إلى بغداد أحضره وأحضر الفقهاء فقال له : يا بشر!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٧.

(٢) ذكرها اليعقوبي ضمن حوادث (٢١٨) ولكن وفاة المأمون في جمادى (٢١٨) فهذه كانت لرمضان سابق.

٢٥٨

إني قد نظرت في قضيّتك (على الرجل القارف) فوجدتك قد أخطأت فيه خمس عشرة خطيئة! يا بشر! بمَ أقمت «الحدّ» على هذا الرجل؟ قال : بشتم أبي بكر وعمر! قال : حضرك خصومه؟ قال : لا. قال : فوكّلوك؟ قال : لا. قال : فللحاكم أن يقيم حدّ القِرفة بغير حضور خصم؟! قال : لا. قال : فأُمهما كافرتان أو مسلمتان؟ قال : بل كافرتان. قال : فيقام في الكافرة حدّ المسلمة؟! قال : لا. قال : فهبك فعلت هذا بما يجب لأبي بكر وعمر من الحق ، أفشهد عندك شاهدا عدل؟ قال : قد زُكّي أحدهما! قال : فيقام الحدّ بغير شاهدين عدلين؟! قال : لا. قال : ثمّ أقمت الحدّ في رمضان ، فالحدود تُقام في شهر رمضان؟! قال : لا. قال : ثمّ جلدته وهو قائم ، فالمحدود يقام؟! قال : لا. قال : ثمّ شبحته بين العُقابين (خشبتي الفلقة) فالمحدود يشبّح؟! قال : لا. قال : ثمّ جلدته عرياناً! فالمحدود يُعرّى؟! قال : لا. قال : ثم حملته على جمل فأطفت به ، فالمحدود يطاف به؟! قال : لا. قال : ثمّ حبسته بعد الحدّ ، فالمحدود يُحبس بعد الحدّ؟! قال : لا. فقال المأمون : لا يراني الله أبوء باثمك وأُشاركك في جرمك! ثمّ قال لمن حضره : أحضروا المحدود ليأخذ حقه من بشر!

فقال له من حضر من الفقهاء : الحمد لله الذي جعلك عاملاً بحقوقه عارفاً بأحكامه ، تقول الحق وتأمر بالعدل وتعمل به وتؤدّب من رغب عنه ؛ يا أمير المؤمنين ؛ وإن هذا حاكم قد جدّ في رأيه وأخطأ ، فلا تفضح به الحكام وتهتك به القضاة!

فأمر المأمون بعزله وأن يُحبس في داره حتى يموت (١) كما حكم على ابن أكثم.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٦٨ ـ ٤٦٩.

٢٥٩

وفاة ابن أبي عمير مولى الأزد :

أبو أحمد محمد بن أبي عمير زياد بن عيسى من موالي المهلّب بن أبي صفرة الأزدي البصري ، وهو بغدادي الأصل والمقام ، مات بها سنة (٢١٧ ه‍) (١).

كان قد التقى بمشايخ من العامة قال : وقد سمعت منهم ، ثمّ أقبلت على علم الخاصة ، ورأيت كثيراً من أصحابنا قد سمعوا منهما فكانوا يروون حديث العامة عن الخاصة وحديث الخاصة عن العامة ، مختلطاً عليهم سهواً ، فكرهت أن يختلط عليَّ فتركت ذلك.

وسُعي به إلى السلطان (الرشيد) : أنّه يعرف أسامي عامة الشيعة بالعراق! فأخذه السلطان وأمره أن يسمّيهم فامتنع ، فجُرّد وعُلّق بين العُقابين وضُرب مئة سوط ، قال : فكدت أن اسمّي ، فسمعت صوت محمد بن يونس بن عبدالرحمن (؟!) يقول : يا محمد بن أبي عُمير! اذكر موقفك بين يدي الله عزوجل ، فتقوّيت بقوله فصبرت ولم أُخبر ، والحمد لله. قال الفضل بن شاذان : فأضرّ به هذا أكثر من مئة ألف درهم (٢)!

ونقل ابن عبد الله الشاداني عن الفضل بن شاذان أيضاً قال : حُبس ابن أبي عمير أيام هارون لعنه الله وضُرب مئة وعشرين خشبة وتولّى ضربه السنديّ بن شاهك على التشيع! فأدى واحداً وعشرين ألفاً حتى خُلّي عنه! قال : وكان صاحب خمسمئة ألف درهم.

وقال الفضل : أخذ أبي بيدي يوماً وذهب بي إلى دار فصعدنا فيه إلى غرفة وفيها شيخ وحوله مشايخ يعظّمونه ويبجّلونه! فسألت أبي : مَن هذا؟

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٢٦ ـ ٣٢٧ برقم ٨٨٧.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٥٩٠ ـ ٥٩١ ، الحديث ١١٠٥.

٢٦٠