موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

وكان مقتله في صفر سنة (٢٧٠ ه‍) وأُدخل رأسه إلى بغداد في أواخر جمادى الآخرة (٢٧٠ ه‍) وقد زُيّنت له الطرق وعُقدت له القباب ، حتى أدخلوه على المعتمد (١).

وكان في كرخ بغداد من فروع دجلة نهر عيسى وانبثق في هذه السنة ، ففاض الماء في الكرخ حتى تهدّم سبعة آلاف دار فيها (٢)!

مصير علوي في حكم ابن طولون :

طال المنون ابن طَولون في سنة السبعين بعد المئتين وخلفه ابنه خمارويه. وقبل موته وقع ما يلي :

روى ابن طاووس عن محمد بن علي العلوي الحسيني المصري قال : سُعي إلى أحمد بن طولون فداهمني أمر عظيم وهمّ شديد من قِبله حتى خشيته على نفسي ، فخرجت من مصر إلى الحجّ ثمّ صرت إلى العراق لمشهد مولاي الحسين عليه‌السلام عائذاً لائذاً مستجيراً به من سطوة ابن طولون ، فأقمت بالحائر أُسبوعاً أدعو وأتضرّع ليلي ونهاري.

وبين اليقظة والنوم من ليلة الأحد من الأُسبوع الثاني تراءى لي وليّ الرحمان قيّم الزمان (عجل الله تعالى فرجه) فقلت له : أراد فلان هلاكي فلجأت إلى سيّدي الحسين عليه‌السلام أشكو إليه عظيم ما أراد بي!

فقال : إذا كانت ليلة الجمعة فاغتسل وصلّ صلاة الليل فإذا سجدت سجدة الشكر فابرك على ركبتيك وادع بهذا الدعاء وذكر لي دعاءً. ثمّ كرّر عليَّ هذا القول والدعاء في كل ليلة قبل الجمعة حتى حفظت الدعاء.

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣١٩.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢٨.

٥٢١

وفي ليلة الجمعة اغتسلت ولبست ملابس جديدة وتطيّبت ، ثمّ صلّيت صلاة الليل وسجدت سجدة الشكر ثمّ جثوت على ركبتيّ ودعوت الله بالدعاء. فلما أمسيت ليلة السبت أتاني وقال لي : يا محمد ، قد أُجيبت دعوتك عند فراغك من الدعاء وقُتل عدوّك (؟) بيد مَن وَشى بك إليه (ابن طولون).

قال : فلما أصبحت ودّعت سيدي الحسين عليه‌السلام وخرجت إلى مصر ، فلما بلغت الأُردن رأيت رجلاً مؤمناً من جيراني بمصر فحدّثني أن أحمد بن طولون قد قبض ليلة الجمعة على خصمي (؟) فلم يصبح حتى ذبح من قفاه! وأُمر به فطُرح في النيل. وكان ذلك عند فراغي من الدعاء كما أخبرني مولاي عليه‌السلام (١).

أول شأن المهدي الإسماعيلي ؛ والقرمطي؟ :

في سنة (٢٧٠ ه‍) ظهرت من اليمن دعوة عبيد الله المهدي الفاطمي الإسماعيلي ، وفي (٢٦٨ ه‍) حجّ فالتقى بقبيلة كَتامة من مصر فصحبهم إلى مصر ، ثمّ صحبهم إلى المغرب إذ رأى منهم طاعة وقوة.

وفيها بالكوفة ظهر المدعو بالقرمطي ، وكان كيسانياً! يزيد في أذانه : وأن محمد بن الحنفية رسول الله! ويصلّي ويحج إلى بيت المقدس! وإنّما يصوم النوروز والمهرجان (٢)! كما ذكره السيوطي.

وسبقه ابن الأثير فذكر قبلتهم بيت المقدس ، إلّاأنّه ذكر لهم أذاناً يذكرون فيه كل أُولي العزم ، وذكر لهم صلاة خاصة! وأنّ عطلتهم كانت يوم الاثنين لا الجمعة ولا السبت ولا الأحد (٣)! وذكر ظهورهم بسواد الكوفة في سنة

__________________

(١) بحار الأنوار ٥١ : ٣٠٧ عن مهج الدعوات لابن طاووس.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٢٨.

(٣) الكامل في التاريخ ٦ : ٧٠.

٥٢٢

(٢٧٨ ه‍) (١) وكذا اختاره ابن الوردي قال : في (٢٨٧ ه‍) تحرك بسواد الكوفة نبطي يُدعى بالنبطية : «كرم تيه» أي أحمر العين ، فأجابه من السواد والبادية مَن ليس لهم عقل ولا دين ، أخرج لهم كتاباً فيه : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، يقول «الفرج بن عثمان» من قرية «خصرانة» : إنه داعية المسيح عيسى وهو «الكلمة» وهو «المهدي» وهو «أحمد بن محمد بن الحنفية» وأنه تصوّر في جسم إنسان وقال (لي) : إنك الداعية ، وإنك «الناقة» وإنك «الدابة» وإنك يحيى بن زكريا! وإنك روح القدس! وعرّفه : أنّ الصلاة أربع ركعات : ركعتان قبل طلوع الشمس ، وركعتان قبل غروبها! وأنّ الأذان في كل صلاة أن يقول المؤذن ثلاث مرات : الله أكبر ، ومرتين أشهد أنّ لا إله إلّاالله ، ثمّ : أشهد أنّ آدم رسول الله! وأشهد أنّ نوحاً رسول الله ، وأشهد أنّ إبراهيم رسول الله ، وأشهد أنّ عيسى رسول الله ، وأشهد أنّ محمداً رسول الله ، وأشهد أنّ أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله! والقبلة بيت المقدس.

ولكنه عن تاريخ ابن المهذب المقري تراجع بتاريخ ظهوره إلى (٢٦٤ ه‍) ، وقال : بل زعموا أنهم يدعون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد! قال : ثمّ صدر منهم ما لا يصدر من الكفار» (٢).

فلعلّهم علّلوا دعوتهم إلى الإسماعيلية أولاً إلى حوالي (٢٧٠ ه‍) ثمّ إلى الكيسانية لمّا رأوها منتشرة في بادية الكوفة وسوادها ، وظهروا عام (٢٧٨ ه‍).

وفيات أصحاب تاريخ وسنن :

في سنة (٢٧٣ ه‍) توفي محمد بن يزيد بن ماجة القزويني صاحب كتاب

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦ : ٦٧.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٣٣.

٥٢٣

السنن (معدود مع الصحاح الستة) قال ابن الوردي : وسننه أحسن «الكتب الستة» رحل لطلب الحديث من قزوين إلى الري فالعراق فالشام ومصر ، وله تفسير وتاريخ أحسن فيه.

وفي (٢٧٥ ه‍) مات أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب كتاب السنن أيضاً.

وفي (٢٧٦ ه‍) مات ابن قتيبة عبد الله بن مسلم صاحب كتاب «أدب الكاتب» و (٦٥) كتاباً آخر.

وفي (٢٧٧ ه‍) مات يعقوب بن سفيان الفسوي الفارسي قال : وكان «يتشيع»! وله تاريخ (١).

آخر أمر الموفّق مع المعتمد وبدء المعتضِد :

مرّ أن طلحة الموفق العباسي في عهد أخيه المعتمد وباسمه توفّق لإخفاق صاحب الزنج والزنوج معه بالبصرة ، ودخل برأسه إلى أخيه ببغداد منتصراً ، ومعه وفي مقدمته ابنه أبو العباس عام (٢٧٠ ه‍).

وفيها أيضاً طال الموت أحمد بن طولون التركي المصري وخلفه ابنه أبو الجيش خمارويه ، وجرّد جيشه للشامات. وفي السنة التالية (٢٧١ ه‍) بدأ النقرس برجلي الموفق وانتهى به بمرض الفيل!

قال المسعودي : في شوال من سنة (٢٧١ ه‍) وجّه الموفق ابنه أبا العباس لمحاربة جيش أبي الجيش خمارويه ، إلى الطواحين من أرض فلسطين ، فواقعه فهزمه واحتوى معسكره ، وانهزم أبو الجيش إلى مصر ، إلّا أنّ غلامه

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٣٢ وتاريخ الفسوي مطبوع منشور.

٥٢٤

سعد الأعسر تخلّف فواقف أبا العباس فهزمه واستباح عسكره ، فانهزم أبو العباس إلى العراق (١).

فغضب عليه أبوه الموفّق فأوقفه بدار وزيره إسماعيل بن بلبل الشيباني (مولاهم) مضيقاً عليه ، وخرج أبوه الموفق إلى بلاد الجبال فآذربايجان ، ووافى من آذربايجان عليلاً مدنفاً متورّماً في بيت من الخشب مبطّناً بالحرير والخزّ ، يحملونه على أكتافهم متناوبين ، فدخل بغداد في صفر سنة (٢٧٨ ه‍) واشتدت علّته وارجف بموته.

وكان الوزير إسماعيل بن بلبل قد وكّل بأبي العباس مولاه بكتمر ليحبسه في المدائن على أقل من يوم من بغداد ، وأيس الوزير إسماعيل من الموفّق فأرسل إلى بكتمر أن ينصرف بأبي العباس إلى بغداد ، فدخل إليها من يومه.

وبلغ إسماعيلَ الوزير صلاح حال الموفّق ، فأخرج الخدّام : يأنس ومؤنس وصافي الحرمي وغيرهم من خدم الموفق اخرجوا أبا العباس من حبسه في دار ابن إسماعيل الوزير وساروا به إلى الموفق.

وأسرع سائر الخدم مع عامة الناس إلى نهب دور الأجلّة والكتّاب فنهبوها وفتحوا أبواب السجون والجسور فلم يبق أحد منهم في الحديد والمَطبق إلّااخرج فكان أمراً فظيعاً!

وخلع الموفق على ابنه أبي العباس وسمّاه المعتضد وانصرفوا من عنده .. ومكث الموفق بعد ذلك ثلاثة أيام ثمّ توفي في أواخر صفر سنة (٢٧٨ ه‍) وقام المعتضِد بتدبير أُمور الناس ، وخلع ابن عمه جعفر المفوّض بن المعتمِد من ولاية عهده ، واستمر إسماعيل بن بلبل في وزارته ثمّ عزل وعذّب حتى

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٢٢.

٥٢٥

مات سنة (٢٧٨ ه‍) ومات بعده المعتمِد سنة (٢٧٩ ه‍) وقتلته مداومته لشرب النبيذ! ثمّ سلّموا على المعتضِد بالخلافة (١).

خلافة المعتضِد :

مرّ الخبر عن عدم اعتماد طلحة الموفق أخو المعتمد على تدبيره ، وتولّى هو تدبيره حتى أنه عيّن ابنه أحمد لولاية العهد وأخذ البيعة له بذلك ولقّبه بالمعتضِد ، فتولّى بعد أبيه الموفّق وعمّه المعتمِد ، وهو في الأربعين من عمره تقريباً. واستوزر عبيد الله بن سليمان. وجعل حاجبه صالح الأمين. وقاضيه إسماعيل بن إسحاق الجهضمي الأزدي مولاهم ، وكان مالكياً! وعبد الحميد البصري الحنفي على قضاء شرقيّ بغداد (٢) وأُمّه جارية رومية ، وقام مولاه بدر بتدبير خلافته والقوّاد والجيوش وجميع المعارف في الآفاق. ونديمه عبد الله بن حمدون (٣) واتخذ المطامير وفيها صنوف العذاب وعليها نجاح الحرمي (٤).

وكان أبوه الموفق قد غضب عليه فحبسه مدّة ، فرأى فيه رؤيا بشّرته بخلاصه وخلافته ؛ قال : رأيت كأنّ على دجلة شيخاً جالساً يمدّ يده إلى ماء دجلة فيسحب ماءها حتى تجفّ دجلة ، ثمّ يردّه من يده فتعود دجلة كما كانت! وكان حوله ناس سألتهم عنه قالوا : هذا علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقمت إليه وسلّمت عليه فقال لي : يا أحمد ، إنّ هذا الأمر سيصير إليك ، فلا تتعرض لولدي ولا تؤذهم! فقلت له : السمع والطاعة لك يا أمير المؤمنين!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٣٩ ـ ١٤١.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣٢٠ ، ٣٢١.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٤٢ و ١٤٣.

(٤) مروج الذهب ٤ : ١٤٥.

٥٢٦

ولذا لما رُفع إليه أنّ محمد بن زيد الداعي العلوي (الحسني) صاحب طبرستان أرسل مالاً إلى بغداد سرّاً ليفرّق في آل أبي طالب ، وأُخذ الرجل إليه أنكر عليه إخفاء ذلك! وأمره بإظهاره (١) هذا مع أنه كان سفّاكاً للدماء شديد الرغبة في القتل بالتمثيل! كثير الإقدام عليه قليل الرحمة (٢)!

تولّى في شهر رجب ، واتخذ لنفسه مصلى قرب داره ، فلمّا كان الفطر صلّى بالناس فيه فكبّر في الأُولى بستّ تكبيرات ، وفي الثانية بواحدة ، ثمّ صعد ليعقد البيان فتعقّد لسانه فلم يُسمع منه شيء (٣)!

ولم يتساهل مع ابن سهل :

وكأنّ تساهله مع رسول الداعي العلوي الحسني من طبرستان بالأموال إلى رجال منهم ببغداد ، جرّأ محمد بن الحسن بن سهل ابن أخ الفضل بن سهل ذي الرياستين على الدعوة لمثله ببغداد ولا سيما بين جماعة من المستأمنين من فلول عسكر صاحب الزنج المدّعى العلوية بهتاناً وزوراً ، وكان له كتاب ألّفه من أخبار أنصاره. فأقرّ عليه جمع منهم لدى المعتضد ، فلمّا كبست قواته دار ابن سهل أصابوا لديه جرائد بأسماء رجال بايعوه لرجل من الطالبيين؟! فاخذوا وأُدخلوا

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٨١. وانظر تفصيل الخبر والرؤيا في الطبري ١٠ : ٤١ فذكر أنّ الرجل هو محمد بن ورد العطار والمال كان اثنين وثلاثين ألف دينار ليفرقها ببغداد والكوفة ومكة والمدينة ، والرؤيا بكيفية أُخرى في عام (٢٨٢ ه‍).

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٤٤.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٤٥ وقال شعراؤه : ما ذلك من إفحام ولكن من احتشام! وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٢ : أنّ ذلك كان في صلاة الأضحى.

٥٢٧

على المعتضِد فأقرّوا بذلك ، فأمر بهم فقُتلوا! ثمّ أراد المعتضد بالله من محمد بن الحسن بن سهل أن يدلّه على الطالبي فأبى وقال له : لو شويتني بالنار لما كشفت لك! عمّن أقررت بإمامته ودعوت الناس إلى طاعته ، فاصنع ما أنت صانع! فأمر المعتضِد بشَويه على النار ، فشدّ بين رماح وادير على النار يُشوى كما يُشوى الدجاج حتى مات وتفرقع جسمه ثمّ صُلب في غربيّ بغداد بين الجسرين (١).

فكان هذا مصير هذه الأُسرة بالعراق. وبهذا عُرف مستوى احتساب المعتضِد واقترابه من آل أبي طالب!

ابن أبي دُلف لرافع بن الليث :

مرّ الخبر عن تمرّد يعقوب بن الليث الصفّار حتى وفاته ، وخلفه أخوه رافع بن الليث وتحمّل إلى بلاد الري متاخماً لبلاد طبرستان وعليها الداعي العلوي محمد بن زيد الحسني. فكتب المعتضد إلى أحمد بن أبي دلف أن يواقع رافع الصفّار ، في أواخر العام الهجري ، فسار أحمد إلى رافع فالتقوا حول الريّ لآخر ذي القعدة الحرام ، فتحاربوا أياماً حتى ولّى رافع ، واستولى ابن أبي دلف على عسكره. ووصل خبرهم إلى بغداد لأوائل ذي الحجة لعام (٢٧٩ ه‍) (٢).

وفي سنة (٢٨٠ ه‍) فشا أمر داعي المهدي الفاطمي الإسماعيلي في القَيروان ، فقاتله صاحبها صاحب افريقية ، فعلا أمر الداعي الفاطمي وزاد ولم يزل يزداد (٣).

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٥٤ ، ١٥٥.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٥٤.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٢.

٥٢٨

زواج المعتضِد بقطر الندى :

حيث مات أحمد بن طولون المولى العباسي المتمرّد عليهم بدمشق وخلفه ابنه خمارويه أبو الجيش ، وتغيّر الخليفة ببغداد إلى أحمد المعتضد ، وجعل وليّ عهده ابنه علياً ولقّبه بالمكتفي بالله ، وكان لخمارويه ابنة لقّبها بقطر الندى ، فزفّها مع رسوله الحسن بن عبد الله بن الجصاص مع سبعة أشخاص من مصر إلى بغداد ومعهم هدايا كثيرة وأموال جليلة ، وليسعوا في تزويج قطر الندى بعليّ المكتفي.

فلمّا وصلوا إلى المعتضد قبلهم وطلع عليهم وتقبّل قطر الندى لنفسه! وكان ابن الجصاص قد حمل معها جوهراً لم يجتمع مثله عند خليفة قط! وكان المعتضِد يومئذ بمدينة بلد ، فجعل صداقها ألف ألف (مليون) درهم وطيباً وأمتعة من العراق والهند والصين ، فحمل المعتضد ذلك لها على الماء إلى بغداد وانحدر هو من مدينة بلد إليها ، وخصّ أباها أبا الجيش ببدرة من الجوهر الثمين فيها أنوك من الجوهر والياقوت وتاج وإكليل ووشاح ، فحملوها إلى مصر في رجب سنة ثمانين ومئتين (١).

وقال المعتضد لأصحابه : أكرموها بشموع عنبر ، وكان في خزانتهم أربعمئة من أتوار الذهب والفضة وأربعمئة شمعة عنبر ، فأعدّوا أربعمئة وصيفة وأوقدوا الشموع في العشاء بأيدي هذه الوصائف قدّام قطر الندى! فاستكثرها المعتضِد وقال لهم : اطفِئوا شمعنا واسترونا (٢).

وكان في جهازها عشر صناديق جوهر فيها أربعة آلاف تكّة مجوهرة (٣).

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٤٥ ، ١٤٦.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٣٧

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٢.

٥٢٩

وكان من قواد العباسيين بخراسان محمد بن أبي الساج ، فاستدعاه المعتضِد وتزوّج ابنته لغلامه بدر بحضرته ، ثمّ رحّله من خراسان إلى مراغة من آذربايجان وبها عبد الله بن الحسين متغلّباً ، فافتتحها ابن أبي الساج وأخذ عبد الله واستصفى أمواله ثمّ قتله.

وكان قد مات نصر بن أحمد الساماني أمير خراسان وخلفه أخوه إسماعيل ، فسار إلى بلاد الترك وقاتلهم فقتل منهم عشرة آلاف وأسر خمسة عشر ألفاً منهم وهزم ملِكهم طنكش وأسر زوجته خاتون.

وكان الشراة الخوارج من الأباضية في عمان قد بلغوا نحو مئتي ألف ، وامامهم الصلت بن مالك ، وكان على البحرين أحمد بن ثور ، فأثاره المعتضد على الصلت ، فصمد إليه بجمعه ، فكانت له عليهم وافتتح عمان وقتل منهم مقتلة عظيمة ، ثمّ حمل كثيراً من رؤوسهم إلى المعتضد ببغداد ، فنُصبت على الجسور بها.

وكان أعراب بني شيبان ممّا يلي الجزيرة والزاب في الموضع المعروف بوادي الذئاب ، كانوا قد عتوا وأكثروا الفساد ، فخرج إليهم المعتضد بنفسه مع عسكره فقَتل كثيراً منهم وأَسر ذراريهم ووصل الموصل (١). كل ذلك في عام (٢٨٠ ه‍).

وفي سنة (٢٨١ ه‍) كان في دمشق من قواد العباسيين مولاهم أبو أخشيد طغج بن شبيب ، فسار من دمشق في عساكر كثيرة إلى الروم غازياً فدخل طرسوس ممّا يلي درب الراهب وبلاد برغوث حتى فتح مكورية وعاد إلى دمشق.

وبعد هزيمة رافع بن الليث عند جبل الريّ بلغته عن بلاد الجبال امور فحمل معه ابنه علياً المكتفي حتى أنزله بالريّ وولّاه عليها وأضاف إليها من

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٥٥ و ١٥٦.

٥٣٠

همَدان إلى قم والريّ ثمّ قزوين إلى زنجان وأبهر! ودعا إليه عمر بن أبي دلف فقلّده الكرخ إلى إصفهان! ولم يعرض لصاحب بلاد طبرستان محمد بن زيد العلوي الحسني (١) وغارت مياه الريّ إلى طبرستان فقحطوا حتى أكلوا الجيف (٢)!

النوروز المعتضِدي رفقاً بأهل الخراج :

أجدب أهل البصرة واعتورهم عمّالهم بالجور في خراجهم ، فاجتمع خلق من أهل الرياسة والشرف والعلم ومن خُلطائهم ومتكلميهم ، وأولهم أبو خليفة الجُمحي مولاهم! ووفدوا على المعتضد في مراكب بحرية بيض مشحّمة بالشحم والنورة ، يشكون إليه ما نزل بهم من الجدب والجور (٣).

ففي (٢٨٢ ه‍) أمر المعتضد بافتتاح الخراج في النيروز المعتضدي رفقاً بهم وبعامة الناس ، وذلك عند ركون الشمس في أواخر الجوزاء في حزيران (٤) فعمّ الناس تأخر الخراج عنهم من إنعام المعتضد عليهم ، ونظمه الشعراء فأكثروا ووصفوه فأطنبوا ، منهم يحيى بن علي المنجم (٥).

إلّا أنه منعهم والقصّاص من القعود في الطرق ، ومنع الورّاقين من بيع كتبهم والفلسفة! وسنن المجوس في النيروز من إيقاد النيران وصبّ المياه (٦)!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٥٧.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٢.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٤٩ ، ١٥٠.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٣٤ ، وفي الطبري ١٠ : ٣٩ : أنّ ذلك كان لأول سنة (٢٨١ ه‍).

(٥) مروج الذهب ٤ : ١٨٢.

(٦) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤٣٢ ، وفي الطبري ١٠ : ٣٩ : كان ذلك في المحرم عام (٢٨١ ه‍). وفي : ٥٣ يقول : كان ذلك في جمادى الأُولى عام (٢٨٤ ه‍) ثمّ أطلقه لهم!

٥٣١

وفي السنة التالية أشاع المنجّمون : أنه في السنة القادمة تكثر الأمطار فتزيد المياه في الأنهار حتى يغرق العراق إلّايسيراً من بابل! فقلّت الأمطار وغارت المياه حتى دجلة حتى استسقى الناس ببغداد عدة مرّات (١).

حمْدان جدّ الحمْدانيين :

هو حمدان بن حمدون بن الحارث بن منصور بن لقمان التغلبي ، جدّ ناصر الدولة الحسن بن عبد الله الحمداني ، جمع جمعه وبنى لهم قلعة سمّاها بالصوّارة (أو ماردين) على عين الزعفران وأنفق عليها أموالاً جليلة وتحصّن بها ، فقصده المعتضد بعسكره حتى نزل عند القلعة ، فاستأمن إليه ابن حمدان : الحسين ، ومن معه من أصحابه ، وخرّب المعتضِد القلعة (٢). وضمّ الحسينَ بن حمدان إلى عسكره ، كان ذلك عام (٢٨١ ه‍).

وفي (٢٨٣ ه‍) خرج المعتضد بعسكره إلى تكريت لحرب هارون الشاري الخارجي ، وأخرج معه الحسين بن حمدان وسيّره لحرب الشاري ، فكانت بينهم حروب عظيمة انتهت بغلبة ابن حمدان على الشاري وأسره وأخيه بغير أمان. فألبسه درّاعة ديباج وجعل على رأسه برنس خزّ طويل وأركبه فيلاً ، وألبس أخاه مثله وأركبه على بعير ذي سنامين. وعبّأ المعتضد بالله جيوشه بباب الشماسيّة ببغداد أحسن ما يكون من التعبئة وأكمل هيئة ، ونُصبت له القباب وزُيّنت له الطرقات ، فشقّوا بغداد إلى القصر الحسني ، ودخل المعتضد بقباء أسود وقلنسوة

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٥١ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ٢٦٣ كلاهما في عام (٢٨٤ ه‍).

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٥٧.

٥٣٢

على فرس ، وعلى يساره أخوه عبد الله بن الموفّق وخلفه غلامه بدر ووزيره عبيد الله بن سليمان وابنه القاسم ، وهم في أثر الحسين بن حمدان وأصحابه. ثمّ خلع المعتضِد على ابن حمدان وطوّقه بطوق من ذهب ، وخلع على رؤساء أهله وفرسانه وأصحابه ، وشهرهم في الناس تكريماً وتقديراً لحسن بلائهم وفعالهم ، فعلا بذلك أمرهم وشأنهم (١).

كان ذلك في شرقيّ بغداد ، فلمّا عاد الناس إلى غربيّه تكاثفوا على الجسر فانخسف بهم كرسيّ أعلى الجسر ، وكان تحته زورق مملوء من الناس العابرين ، وسقط الجسر عليهم فغرق ممّن عُرف منهم نحو ألف نفر (٢)!

وأصبح الصفّار من الأنصار :

لمّا غلب المعتضد ببركة الحسين بن حمدان وعسكره على عسكر الشاري الضاري ، وآخرين قبله مثله ، ومنهم رافع بن الليث الصفّار ، رأى أخوه عمرو بن الليث أن يسالم الخليفة ببغداد.

ففي سنة (٢٨٣ ه‍) وردت بغداد هدايا من قبل عمرو بن الليث : منها مئة من مهارى خراسان وجمّازاتها ، وعليها صناديق كثيرة وفيها أربعة آلاف ألف (ملايين) درهماً ، ومن الجمّازات ما تجرّ عربة على عجلات عليها تمثال صنم من صفر مثال امرأة عليها وشاحان من فضة مرصّعة بالجواهر البيض والحُمر ،

__________________

(١) وكان حمدان قد هرب ، تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٣٤ فعاد إلى المعتضد ببغداد واستأمنه فأمنه. مختصر تاريخ الدول : ١٥٠. وفصّل الطبري ١٠ : ٣٩ ، ٤٠ كيفية حروبه واستجارته وقال : كان معه الأكراد ، وفي : ٤٣ و ٤٤ فصل حرب هارون الشاري واشتراط ابن حمدان على المعتضد.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٦٦.

٥٣٣

وبين يديها أصنام صغار عليها الجواهر والحلي ، أوصلوها إلى المعتضد ، ثمّ أمر المعتضِد أن تُرد هذه التماثيل إلى مجلس الشرطة في شرقيّ بغداد فتُنصب للناس ثلاثة أيام!

فاشتغل الناس فيها عن أعمالهم بالنظر إليها! وكانت هي من مغانم عمرو بن الليث من بلاد الهند (١).

وانفصلت مصر ثمّ اتصلت :

تمرّد أحمد بن طولون مولى العباسيين بمصر والشام ومات ، فخلفه ابنه أبو الجيش خمارويه على دمشق وجعل ابنه الجيش على مصر ، وتودّد للمعتضد بتزويجه ابنته قطر الندى إياه كما مرّ ، وكان قد بنى لنفسه قصراً في سفح جبل دير مرّان يشرب فيه الخمر مع غلامه طُغج ، وذات ليلة تتآمر عليه عدة من سودان مماليكه فخرج بهما خادمهم إلى أميال من الجبل فرموهم بالنشّاب وقتلوهم (٢).

وحملوا أبا الجيش في تابوت إلى مصر (الفسطاط) وعلى بابه خرج إليه ولده الأمير جيش ومعه الأُمراء والأولياء ، وأخرجوا أباه من التابوت وجُعل على سرير فصلّى عليه القاضي العبداني ثمّ دُلّي في قبره (٣).

وفي سنة (٢٨٣ ه‍) نقم المصريون على الجيش تقدُّمه على أخيه سلامة المؤتمن وتقديمه لغلامه نجح الطولون فشغبوا عليه وقتل أبو محمد المارداني

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٤٨.

(٢) مروج الذهب ٤ : ١٥٨.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٥٩.

٥٣٤

عليّ بن أحمد المارداني ، وخرج قوّاد من عسكره فلحقوا بالمعتضد فخلع عليهم (١) فخلعوا الجيش وأمّروا أخاه هارون فصالح المعتضد كل سنة بمليون ونصف دينار (٢).

وعقاب ، وشغب ببغداد :

وكان المعتضِد ولّى الحسبة ببغداد أحمد بن الطيب السرَخْسي من أصحاب يعقوب بن إسحاق الكندي الفيلسوف ، وفي سنة (٢٨٣ ه‍) رفع إليه تقرير عليه باكتنازه الأموال ، فعزله وسلّمه إلى غلامه بدر ، فوجّه إلى داره من قرّر جواريه على أمواله حتى استخرجوها وقبضوا على جميع أمواله ، فكان جملة ما حصل من ثمن الآلات والعين والورق مئة وخمسين ألف دينار.

واجتمع الخدم في داره إليه وكلّموه بما يلحقهم في الأزقة والشوارع والدروب والطرق من الصغير والكبير من العوام من صياحهم بالسودان منهم : يا عاق يا طويل الساق ، وبالحمر منهم : يا عقيق صبّ ماي واطرح دقيق! فأمر المعتضِد فاخذ جمع منهم وضُربوا سياطاً ، فشغبوا لذلك (٣).

الشيعة في حدود (٢٨١ ه‍):

كان الشيعة يكاتبون إلى الناحية المقدّسة ببعض حوائجهم ، منهم : علي بن زياد الصيمري كتب يطلب كفناً لنفسه ، وكأنه كان شيخاً كبيراً ، فجاءه جوابه :

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٧٠.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٥١ ، وابن الوردي ١ : ٢٣٥.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٧٠ ، ١٧١ ، وللتفصيل انظر الطبري ٨ : ٥٣ ، ٥٤.

٥٣٥

إنك تحتاج إليه في سنة (إحدى) وثمانين ومئتين ، وأُرسل إليه بالكفن في السنة نفسها ومات بعد ذلك بشهر أو شهرين (١).

وكأنّ حالة التقية كانت قد أبقت بعض الشيعة لا يعلم إلى من يفزع في مذهبه بل حتى لا يعرف إمام زمانه معرفة تامة ، منهم : أحمد بن إبراهيم قال : في سنة (٢٨٢ ه‍) حججت وكان قد تعرّف على الهادي عليه‌السلام وأُخته حكيمة بنت الجواد عليه‌السلام ، فدخل عليها وكلّمها من وراء الحجاب ، قال : سألتها عن دينها ، فسمّت لي من تأتمّ به حتى ذكرت ابن أخيها الحسن العسكري عليه‌السلام ثمّ سمّت ابنه. فقلت لها : سميتيه معاينة أو خبراً؟ قالت : بل كتب به أبو محمد (العسكري عليه‌السلام) إلى أُمه. قلت : فأين هذا المولود؟ قالت : مستور. قلت : فإلى من تفزع الشيعة؟ قالت : إلى أُمّ أبي محمد (العسكري جدّة الحجة عليه‌السلام فقلت : فهل هو أوصى إلى امرأة)؟! قالت : نعم.

فقلت لها : أفأقتدي بمن وصيّته إلى امرأة؟!

قالت : نعم ، اقتداءً بالحسين بن علي عليه‌السلام ، فإنه في الظاهر أوصى إلى أُخته زينب بنت علي بن أبي طالب ، فكان ما يخرج من علم عن علي بن الحسين يُنسب إلى زينب بنت علي ، تستّراً على علي بن الحسين. ثمّ قالت : أنتم قوم أصحاب أخبار ، أما رُويتم أن التاسع من وُلد الحسين عليه‌السلام يُقسّم ميراثه وهو في الحياة (٢)؟!

الأسرى المسلمون والروم :

أجمل القول المسعودي قال : في شعبان من سنة (٢٨٣ ه‍) كان افتداء الأسرى بين المسلمين والرومان (٣).

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٥٢٤ ، الحديث ٢٧ وكمال الدين : ٥٠١ ، الحديث ٢٦.

(٢) كمال الدين : ٥٠١ ، الحديث ٢٧.

(٣) مروج الذهب ٤ : ١٦٩ ـ ١٧٠.

٥٣٦

وفي السنة نفسها بلا تعيين الشهر قال ابن العبري : سارت الصقالبة إلى الروم وخرّبوا بلادهم حتى حاصروا القسطنطينية وقاتلوا أهلها فقتلوا منها خلقاً كثيراً ، وكان عند الروم أُسارى المسلمين ، فلمّا رأى ملك الروم (؟) أنه لا يجد خلاصاً من الصقالبة رأى أن يدفعهم بأسرى المسلمين! وسألهم معونتهم على الصقالبة فأجابوا ، فجمعهم وسلّحهم فكشفوهم وأزاحوهم عن القسطنطينية!

ثمّ خاف على نفسه فجرّدهم من السلاح وفرّقهم في بلاد الروم.

ثمّ كان الفداء بين المسلمين والروم ، فكان جملة من فودي من المسلمين من الرجال والنساء والصبيان! ألفين وخمسمئة نفس (١) وذلك يقتضي أنه بعد أن فرّقهم جمَعهم وفادى بهم.

قتل الشاعر ابن الرومي :

عيسى بن جعفر بن المنصور العباسي امتلك عبداً رومياً يونانياً يدعى جرجيس أو جورج ، وأسلم ابنه فسمّى عباساً ، وتزوّج حسنة ابنة عبد الله السجزي الخراساني (٢) فولدت له ابنين سمّيا محمداً وعلياً ، وعُدّوا هؤلاء من موالي الأمير عبيد الله بن عيسى العباسي ببغداد.

وكان عباس ابن الرومي يصادق الراوية الضلّيع في اللغة والأنساب محمد بن حبيب ، فاختص علي بن العباس بهذا الشيخ يختلف إليه ، ويحدب عليه ابن حبيب لما يراه من ذكائه وحدّة ذهنه (٣).

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٥١ ، وذكر الطبري خبر حرب الصقالبة وإعانة المسلمين للروم عليهم في ١٠ : ٤٥ ، وخبر المفاداة كما هنا في ١٠ : ٤٦ على حدة بفاصل بينهما.

(٢) معجم الشعراء للمرزباني الخراساني : ١٤٥.

(٣) الغدير ٤ : ٥٥.

٥٣٧

ثمّ تزوج ابن الرومي ورزق ثلاثة أبناء هم : هبة الله ومحمد وثالث لم يذكر اسمه ، وماتوا كلهم وهم أطفال أو صبيان فرثاهم أبوهم في شعره (١). وكان صاحب ضيعة ومالك دارين وثراء وتحف موروثة (٢).

وثار يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي بوجه بني العباس بالكوفة ، فقاتله الطاهريون موالي خزاعة ببغداد حتى قتلوه ، فرثاه علي ابن الرومي بقصيدة تمنّى في آخرها قيام ثائر لآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قال خطاباً لبني العباس :

لعلّ لهم في منطوى الغيب ثائراً

سيسموا لكم ، والصبح في الليل مولج

فقال المعرّي بشأنه : إنّ البغداديين يدّعون أنه متشيّع ، ويستشهدون لذلك بهذه الجيمية (٣) وفي نونية يخاطب العلويين ويشير إلى العباسيين يقول :

فاصبروا يهلكهم الله لكم

مثل ما أهلك أذواء اليمن

قرب النصر فلا تستبطئوا

قرب النصر يقيناً غير ظن!

ويحيى بن عمر الزيدي ومعظم من كان معه كانوا من الزيدية (٤) بل الجيمية الدالة على تشيّعه هي :

لكنّ حبّيَ للوصيِّ مخيِّم

في الصدر يسرح في الفؤاد تولّجا

قال النبيّ له مقالاً لم يكن

 «يوم الغدير» لسامعيه ممجمجا (٥)

من كنت مولاه فذا مولىً له

مثلي ، وأصبح بالولاء متوّجا (٦)

__________________

(١) الغدير ٤ ٥٦.

(٢) الغدير ٥ ٦٣.

(٣) رسالة الغفران ٢٤٤.

(٤) الغدير ٤ ٦٤ ٦٦.

(٥) مجمج في كلامه لم يبيه.

(٦) مناقب آل طالب ٣ ٣٨.

٥٣٨

وكان يكثر مجالسة القاسم بن عبيد الله ، على عهد وزارة أبيه عبيد الله بن سليمان للمعتضد ، فبلغ ذلك إلى الوزير فأمر ابنه القاسم بطرده بل بقتله ، وكان أعدى الناس لابن الرومي : ابن فراس فدسه عليه فدس إليه خبزاً محلّى بسكّر مسموم فقتله في أواخر جمادى الأُولى سنة (٢٨٣ ه‍) (١).

كتاب المعتضد بشأن الأُمويين :

كان أهل الفتيا والقُصّاص يقعدون حلقاً في المسجدَين الجامعَين بالجانبَين ببغداد ، والباعة يقعدون في رحابهما ، وجماعة يسقون الماء فيهما ويترحَّمون على معاوية ويجتمعون على من يناظر أو يجادل في ذلك!

فأمر المعتضد فكُتبت نسخ أمر بقراءتها بالجانبين في الأرباع والأسواق والمحلات ، فقرئت عليهم منذ الخامس والعشرين من جمادى الأُولى عام (٢٨٤ ه‍) إلى العاشر من جمادى الآخرة ، فمنعهم من ذلك جميعاً. وفي يوم الجمعة الحادي عشر نودي في الجامعين : بأنّ الذمة بريئة ممّن اجتمع من الناس على مناظرة أو جدل ، وأن لا يترحّموا على معاوية ولا يذكروه بخير!

وكان المأمون قد أمر بإنشاء كتاب براءة من معاوية وبني أبيه ليُقرأ على الناس ، فانشئ ثمّ صُرف عن ذلك فبقي في ديوان الخلافة ، وذُكر للمعتضد فأمر بإخراجه وفيه :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، الحمد لله العلي العظيم الحليم الحكيم العزيز الرحيم.

وقد انتهى إلى أمير المؤمنين ما عليه جماعة من العامة ، من شبهة قد دخلتهم في أديانهم ، وفساد قد لحقهم في معتقدهم ، وعصبية قد غلبت عليها

__________________

(١) الغدير ٤ : ٨٤ ، ٨٥.

٥٣٩

أهواؤهم ونطقت بها ألسنتهم ، على غير معرفة ولا روية ، وقلّدوا فيها قادة الضلالة بلا بيّنة ولا بصيرة ، وخالفوا السنن المتّبعة إلى الأهواء المبتدعة.

قال الله عزوجل : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١)) خروجاً عن الجماعة ومسارعة إلى الفتنة ، وإيثاراً للفرقة وتشتيتاً للكلمة ، وإظهاراً لموالاة من قطع الله عنه الموالاة وبتر عنه العصمة وأخرجه من الملة وأوجب عليه اللعنة! وتعظيماً لمن صغّر الله حقّه وأوهن أمره وأضعف ركنه من «بني أُمية» الشجرة الملعونة! ومخالفة لمن استنقذهم الله به من الهلكة ، وأسبغ به عليهم النعمة من أهل بيت الرحمة والبركة.

قال الله عزوجل : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢)).

فأعظم أمير المؤمنين ما انتهى إليه من ذلك ، ورأى في ترك إنكاره حرجاً عليه في الدين ، وفساداً لمن قلّده الله أمره من المسلمين ، وإهمالاً لما أوجبه الله عليه من تقويم المخالفين وتبصير الجاهلين ، وإقامة الحجة على الشاكّين ، وبسط اليد على المعاندين.

إنّ الله عزوجل لما ابتعث محمداً بدينه وأمره أن يصدع بأمره ، بدأ بأهله وعشيرته فدعاهم إلى ربّه ، وأنذرهم وبشّرهم ونصح لهم وأرشدهم ، فكان من استجاب له وصدّق قوله واتّبع أمره نفر يسير من بني أبيه ، من بين مؤمن بما أتى من ربّه ، وبين ناصر له وإن لم يتّبع دينه ، إعزازاً له وإشفاقاً عليه ، لماضي علم الله فيمن اختاره منهم ، ونفذَت مشيئته فيما يستودعه إياه من خلافته وإرث نبيّه ، فمؤمنهم مجاهد بنصرته وحميّته ، يدفعون من نابذه وينهرون من عازّه وعانده ،

__________________

(١) القصص : ٥٠.

(٢) آل عمران : ٧٤.

٥٤٠