موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٧

ملحفة من الصوف ، متوجهاً إلى ربّه يترنّم بآيات الوعد والوعيد ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل فيه. فاخذ على ما وجد عليه وحُمل إلى المتوكل حالاًّ ، فمثل بين يديه ، وكان بيد المتوكل كأس من شراب وقد شرب منه.

فلمّا رآه أعظمه وأجلسه إلى جنبه ، وناوله الكأس الذي في يده! فقال له : يا أمير المؤمنين! ما خامر لحمي ودمي قط! فاعفني منه! فعافاه عنه ولكنه قال : فأنشدني شعراً أستحسنه! فقال له : إني لقليل الرواية للأشعار. قال : لابدّ أن تُنشدني! فأنشده :

باتوا على قُلل الأجبال تحرسهم

غُلب الرجال ، فما أغنتهم القُلل

واستُنزلوا ـ بعد عزّ ـ عن معاقلهم

فاودعوا حفراً! يا بئسما نزلوا

ناداهم صارخ ـ من بعد ما قُبروا :

أين الأسرّة والتيجان والحُلل

أين الوجوه التي كانت منعَّمةً

من دونها تُضرب الأستار والكِلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم :

تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد اكلوا

وطالما عمّروا دوراً لتحصنهم

ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا

وطالما كنزوا الأموال وادّخروا

فخلّفوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت منازلهم قفراً معطّلة

وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا

فأشفق من حضر وظنّوا أن بادرة تبدر من المتوكل إلى علي عليه‌السلام ولكنّه بكى فبكى من حضر ، وأمر برفع الشراب!

ثمّ التفت إلى أبي الحسن وقال له : أعليك دَين؟ قال : نعم ، أربعة آلاف دينار! فأمر بها إليه وردّه إلى منزله مكرّماً (١)!

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ١٠ ـ ١٢ ، وعنه في تذكرة الخواص ٢ : ٤٩٦ ـ ٤٩٨ وبهامشه

٣٨١

واستشهد المبرّد للتعريض بكلام للإمام جواباً للمتوكل قال له : ما يقول ولد أبيك! في العباس بن عبد المطّلب؟ قال : ما يقول ولد أبي في رجل افترض الله طاعة نبيّه على خلقه ، وافترض طاعته على نبيّه! وإنما أراد أبو الحسن : أن الله افترض طاعته على نبيه (لا طاعة العباس) ولكنّه عرّض بكلامه ، فأمر له المتوكل بمئة ألف درهم (١) فهذا كان بسامرّاء قبل انتقاله إلى الماخورة في سنة (٢٤٦ ه‍).

نكبة بَختيشوع الطبيب الرومي :

وكان بختيشوع لا زال في قصور الخلفاء ، فقال له المتوكل يوماً : ادعني إلى دارك. قال : نعم وكرامة! فاستضافه وأظهر من التجمّل والثروة ما أعجب المتوكل واستكثره له ، فحقدها عليه ، فبعد أيام يسيرة حضر الحسين بن مخلّد من قبل الخليفة فختم على خزائنه وباع شيئاً كثيراً وأخذ منه مالاً كثيراً.

وبقي نبيذ وفحم وحطب ونحوها فاشتراها الحسين بستة آلاف دينار ثمّ باع منها اثني عشر ألف دينار! وكان ذلك في سنة (٢٤٤ ه‍) (٢).

وقال ابن الوردي : ثمّ نفاه إلى البحرين (٣).

قتل دعبل الخزاعي :

قال ابن الوردي : في سنة (٢٤٦ ه‍) توفي (أو قتل) دعبل بن علي الخزاعي

__________________

مصادر عديدة ، وشهادة المعصومين وبهامشه بعض المصادر الأُخرى ، والمسعودي عن المبرّد أقدم مصدر ، وفي ابن الوردي ١ : ٢٢٣.

(١) مروج الذهب ٤ : ١٠ ، ١١ ، وكشف الغمة ٤ : ٧ عن الجنابذي وبهامشه مصادر عديدة.

(٢) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٤٤.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٩.

٣٨٢

الشاعر ، وكان يتشيّع (١) وعمره (٩٦) عاماً ومع ذلك كان له خصوم ، فقيل إنّ أبا سعيد أو غيره منهم نظم شعراً في هجو مالك بن طوق من أُمراء البصرة ، وقيل في هجو نزار ، وكان على البصرة إسحاق بن عباس العباسي فلمّا دخل دعبل إلى البصرة بعث من قبض عليه ، ودعا بالسيف والنطع لقتله فحلف أنّه لم يقلها وأن عدوّاً له قالها ونسبها إليه ليُغري بدمه ووقع يقبّل الأرض بين يديه ويبكي حتّى أعفاه عن القتل وقال : فلابدّ أن اشهرك ، فضربوه حتّى سلح في ثيابه فالقى على قفاه وفتح فمه وألقوا أوساخه في فمه وضُرب ليبلعه ويستوفيه أو يقتله! فما ترك حتى بلعها كلّها! ثمّ خلّاه ، فهرب إلى الأهواز.

فأعطى مالك بن الطوق لرجل جريء عشرة آلاف درهم ليغتال دعبل ، فتعقّبه حتّى وجده في قرية من نواحي بلدة شوش كانت تسمى الطيب بين كور الأهواز وواسط العراق ، فبعد صلاة العتمة وقف عليه بعُكّازته وبها زِجّ مسموم فاتّكأ بها على قدم دعبل فمات منها صباح تلك الليلة ، فحُملت جنازته إلى بلدة شوش ودُفن بمقبرتها (٢) إلى مقبرة دانيال النبيّ من أنبياء بني إسرائيل ، وقبره ظاهر معلوم يُزار. وله ابنان عبد الله والحسين وهو شاعر كأبيه.

وكتب على قبره :

أَعدَّ لله يوم يلقاه

دعبلُ أن : لا إله إلّاهو

يقولها مخلصاً عساه بها

يرحمه في القيامة الله

الله مولاه والرسول ومِن

بعدهما «فالوصيّ» مولاه (٣)

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ ٢١٩

(٢) الاغاني ١٨ ٦٠ ووفيات الاعيان ٢ برقم ٢٧٧

(٣) انظر الغدير ٣ ٥٤٢ ٥٤٤

٣٨٣

نذر شجاع امّ المتوكل :

أُم المتوكل زوج المعتصم شجاع أُم ولد ، وحجّت مع حفيدها محمد بن جعفر المنتصر بن المتوكل لأول ولاية عهده ، وهو الذي صلّى عليها في شهر ربيع الآخر من سنة (٢٤٧ ه‍).

ويظهر من الخبر التالي أنّ ذلك كان كذلك بسامرّاء قبل انتقالهم إلى الجعفرية.

أسند الكليني عن إبراهيم بن محمد الطاهري (الخزاعي مولاهم) : أنّ المتوكل خرج به خراج (قرح مقيّح لا يخرج) ولا يجسر أحد أن يمسّه بحديدة (لشدة ألمه) وكان الفتح بن خاقان (مولى الأزد) حاضراً فاقترح عليه قال : لو بعثت إلى هذا الرجل (ابن الرضا) فإنه لا يخلو أن يكون عنده صفة يفرّج عنك بها. فبعث إليه رسولاً يصف له علّته. فردّ الرسول يقول : يوخذ كُسب الشاة (ثفل الدهن) ويداف (يخلط) بماء ورد ويوضع عليه!

فلمّا رجع الرسول وأخبرهم أقبل الحاضرون يستهزئون من قوله! وقال الفتح : والله إنه أعلم بما يقول (وقبِل المتوكل) فأُحضر الكُسب وعُمل بقوله ووُضع عليه فسكن وغلبه النوم ، ثمّ انفتح وخرج ما فيه.

وكانت امه شجاع قد نذرت إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالاً جليلاً من مالها! فلما بُشّرت أُمه بعافيته بعثت إليه بكيس عليه خاتمها فيه عشرة آلاف دينار!

وكان رجل من العلويين يدعى البطحائي (١) ، سعى إلى المتوكل بأنّ أموالاً وسلاحاً يُحمل إليه! وكان من حُجّاب المتوكل رجل يدعى سعيد بن صالح

__________________

(١) البطحائي هو محمد بن القاسم الحسني من بني الحسن الموالين لبني العباس!

٣٨٤

المجوسي (أبوه) فقال له المتوكل : هذه الليلة اهجِم عليه وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح واحمله إليّ.

فكان سعيد يقول : لمّا كان الليل حملت معي سلّماً وصرت إلى داره وصعدت السطح ، وكان الليل مظلماً فناداني : يا سعيد مكانك حتّى يأتوك بشمعة! فلم ألبث أن أتوني بها ونزلت فرأيته عليه جبة صوف وقلنسوة (كلاه شب / قبعة الليل) وهو على حصير وبين يديه سجّادة! تدل أنّه كان يصلّي ، فلمّا رآني قال لي : دونك البيوت.

فدخلتها وفتّشتها فلم أجد فيها شيئاً إلّابدرة بخاتم لشجاع أُم المتوكل.

فلمّا صرت به إلى المتوكل ونظر إلى خاتم أُمه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه وقالت له : في علتك لمّا أيست منك نذرت إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار ، فحملتها إليه ، وهذا خاتمي على الكيس! فضمّ إلى البدرة بدرة أُخرى وأمرني بحملها له فحملته له وقلت له : يا سيدي لقد عزّ عليَّ! فتلا قوله سبحانه : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (١)).

علي بن جعفر البرمكي والمتوكل :

كان علي بن جعفر رجلاً من أهل همينيا من قرى سواد بغداد ، ولذا كان يُنسب إلى القرية فيقال له الهُماني ، وكان قد تعرّف على الجواد فالهادي عليهما‌السلام حتّى توكّل له في عهد المتوكل العباسي فسعى عليه لديه الفتح بن خاقان عمّ وزير المتوكل عبيد الله بن يحيى بن الخاقان ، فحبسه وطال حبسه.

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٤٩٩ ، ٥٠٠ ، الحديث ٤ ، باب مولد الهادي عليه‌السلام ، والآية من الشعراء : ٢٢٧.

٣٨٥

فاحتال حتّى توصّل إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزير بضمان ثلاثة آلاف دينار عنه (رشوة لإطلاقه) فعرض عبيد الله بن خاقان ديوان السجناء وفيه الهُماني على المتوكل يعرض عليه إطلاقه! وكان المتوكل قد عرفه بنفسه! وكان عبيد الله بن يحيى بن خاقان ناصبيّاً كالمتوكل لا يشك فيه! فقال له : يا عبيد الله! لو شككت فيك لقلت : إنك «رافضي»! هذا وكيل (علي بن محمد بن الرضا) وأنا عازم على قتله! وإنّ عمك قد أخبرني به! فتركه عُبيد الله.

وانتهى خبره إلى الهماني فكأنّه أيس من الحياة ، فكتب من سجنه رقعة إلى أبي الحسن عليه‌السلام :

«يا سيدي! الله الله فيّ فقد خفت ـ والله ـ أن أرتاب» في دينه ومذهبه ومعرفته بهم عليهم‌السلام. فوقّع الهادي عليه‌السلام في رقعته : «أما إذا بلغ بك الأمر ما أرى فسأقصد الله فيك» وكان ذلك في ليلة جمعة ، فكأنه عليه‌السلام تلك الليلة ابتهل وتضرّع ودعا له.

وأصبح المتوكل محموماً وازدادت عليه علّته حتّى أصبح يوم الاثنين يصرخ من شدة الحمى ، وكأنّه احتمل أن تكون تلك الحمّى العارضة عارضة عذاب لتعذيبه الأبرياء في سجونه ، فأمر بتخلية كل محبوس عُرض عليه اسمه. إلّا أنّ ابن خاقان مع ذلك التهديد والوعيد العتيد من المتوكل في علي بن جعفر الهُماني لم يجرؤ على العودة إلى ذكره عنده! حتّى ذكره المتوكل نفسه فقال لابن خاقان : لِمَ لِمَ تعرض عليَّ أمره؟! قال : لا أعود إلى ذكره! قال : خلّ سبيله وسله أن يجعلني في حِل! فخلّى ابنُ خاقان سبيل الهُماني ، وبرأ المتوكل من علّته!

٣٨٦

وأمر أبو الحسن الهادي عليه‌السلام علي بن جعفر الهُماني أن يحج إلى مكة فيجاور بها وكيلاً عنه (١).

ونعتبر من الخبر أنّ التوسّل بالدعاء المستجاب من الإمام المعصوم عليه‌السلام لا يكون إلّاعند ما يكون من مصاديق قوله سبحانه : (أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) صدق الله العلي العظيم.

سوابق قتل المتوكل :

نقل الطبرسي عن «كتاب الواحدة» للحسن بن محمد العميّ البصري : أنّ بُغا أو الوصيف من معاريف موالي المتوكل ، نقل : أنّ الهادي عليه‌السلام كان أُحضر إلى دار المتوكل فأمر المتوكل عليّ بن كُركُر بحبس الإمام ، فسمعه يقول : أنا أكرم على الله من ناقة صالح! ثمّ تلا قوله سبحانه : (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٢)) فلمّا كان الغد أطلقه واعتذر إليه.

فلمّا كان اليوم الثالث وثب على المتوكل باغر وبغلون واوتامش وجماعة معهم فقتلوه (٣).

وروى الحلبي عن أبي سالم : أنّ المتوكل أمر الفتح بن خاقان بسبّ الهادي عليه‌السلام فذكر الفتح ذلك للإمام ، فأجابه الإمام : قل : «تمتعوا في داركم ثلاثة

__________________

(١) اختيار معرف الرجال : ٦٠٧ ، الحديث ١١٢٩ و ١١٣٠ ، وفي رجال النجاشي : ٢٨٠ برقم ٧٤٠. عرّفه النجاشي بالبرمكي ، فلعلّه بعد نكبتهم هو أو أبوه خرج من بغداد إلى تلك القرية فنُسب إليها ، ولعلّه ليس منهم بل من مواليهم فاضيف إليهم. والآية ٦٢ في سورة النحل.

(٢) هود : ٦٥.

(٣) إعلام الورى ٢ : ١٢٢ ، ١٢٣.

٣٨٧

أيام» فأنهى الفتح ذلك إلى المتوكل فقال : أقتله بعد ثلاثة أيام! فلمّا كان اليوم الثالث قتل المتوكل والفتح (١).

وتكرّر ذكر تهديده ووعيده بثلاثة أيام ضمن خبر أسنده ابن طاووس عن زُرافة من حجّاب المتوكل (٢) : أنّه في يوم قائظ شديد الحرّ أمر الأشراف من أهله والأُمراء والوزراء والقواد وساير عساكره ووجوه الناس أن يتزيّنوا بأحسن ما لديهم ويظهروا في أفخر عُددهم وذخائرهم مشاة ، وأن لا يركب أحد إلّاهو والفتح بن خاقان (مولى الأزد) واخرج في جملة الأشراف أبو الحسن علي بن محمد عليه‌السلام وشقّ عليه ما لقيه من الحرّ والزحام.

قال زُرافة : فأقبلت إليه وقلت له : يا سيدي يعزّ والله عليَّ ما تلقى من هؤلاء الطغاة ، وما قد تكلّفت من المشقّة ، وأخذت بيده فتوكأ عليّ وقال لي : يا زُرافة ؛ ما ناقة صالح عند الله بأكرم مني أو قال : بأعظم قدراً مني! ولم أزل أُسائله وأُحادثه واستفيد منه حتّى نزل المتوكل من الركوب وأذن للناس بالانصراف! فقُدّمت دوابّهم فركبوا إلى منازلهم ، وقدّمتُ له بغلة فركبها وركبتُ معه إلى داره فنزل وودّعته وانصرفت إلى داري.

وكنت أحضره لولدي مؤدّباً من أهل العلم والفضل وكان يتشيع ، وكنت احضرت على طعامي ، فحضر وتجارينا الحديث وما جرى من ركوب المتوكل والفتح ومشي الأشراف وذوي الأقدار. وذكرت له ما شاهدته من أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام وما سمعته من قوله ، فرفع يده وقال لي : بالله إنك سمعت هذا

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٤٣٩.

(٢) ذكره في حجّابه في التنبيه والإشراف : ٣١٤ ثمّ ولّي عملاً بمصر فمات بها في (٢٥٢ ه‍) كما في مروج الذهب ٤ : ٩١.

٣٨٨

اللفظ منه؟! فقلت له : والله سمعته يقول ذلك! فقال لي : اعلم أنّ المتوكل لا يبقى على مملكته أكثر من ثلاثة أيام ، فانظر في أمرك وأحرز ما تريد إحرازه وتأهَّبْ لأمرك ، لا يفجأوكم هلاك هذا الرجل فتهلك أموالكم بحادثة تحدث أو سبب يجري ، فإنه لا يجوز أن يبطل قول الإمام!

قال زُرافة : فلمّا كانت الليلة الرابعة هجم المنتصر ومعه بُغا ووصيف والأتراك على المتوكل ، فقتلوه وقطّعوه والفتح ابن الخاقان جميعاً قطعاً حتى لم يُعرف أحدهما من الآخر (١)!

والراجح ما في «الخرائج والجرائح» عن زُرافة قال : أراد المتوكل أن يمشّى علي بن محمد بن الرضا «يوم السلام» فقال له وزيره (؟) إنّ في هذا شناعةً عليك وسوء قالة! قال : لابدّ من هذا! قال : فإن لم يكن بدّ من هذا فتقدّم بأن يمشي القواد والأشراف كلّهم حتى لا يظن أحد أنك قصدته دون غيره! ففعل ومشى. وكان الصيف (وكأنه كانت البداية والنهاية من قصر المتوكل واليه) فوافى الدهليز وقد عرق. قال : فلقيته فأجلسته في الدهليز وأخرجت منديلاً فمسحت وجهه به وقلت له : إنّ ابن عمك (المتوكل) لم يقصدك دون غيرك فلا تجد عليه في قلبك!

فقال لي : إيهاً عنك «تمتّعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب».

قال زُرافة : وكان (لأولادي) معلم يتشيّع ، وكنت كثيراً ما امازحه بلقب «الرافضي» فانصرفت يومئذ إلى منزلي وقت العشاء وقلت له : تعال «يا رافضي» حتى أُحدثك بشيء سمعته اليوم من إمامكم! قال : وما سمعت؟ فأخبرته بما قال.

__________________

(١) مهج الدعوات : ٢٦٥ ، وعنه في بحار الأنوار ٥٠ : ١٩٢ ، الحديث ٥ والخبر مقدّمة لدعاء عنه عليه‌السلام على المتوكل!

٣٨٩

فقال : يا حاجب ، أنت سمعت هذا من علي بن محمد عليه‌السلام؟ قلت : نعم. قال : فحقك واجب عليَّ فاقبل نصيحتي! قلت : هاتها! قال : إن كان علي بن محمد قد قال لك ما قلت فاحترز واخزن ما تملك فإنّ المتوكل بعد ثلاثة أيام سيموت أو يقتل! فغضبت عليه وشتمته وطردته.

فلمّا خلوت بنفسي تفكرت وقلت : ما يضرّني أن آخذ بالحزم فإن كان من هذا شيء كنت قد أخذت بالحزم ، وإن لم يكن لم يضرّني ذلك. فركبت إلى دار المتوكل وجمعت ما كان لي هناك فأخرجته ، وعمدت إلى كل ما كان لي ففرّقته عند أقوام أثق بهم إلّاحصيراً!

فلمّا كانت الليلة الرابعة قتل المتوكل ، وسلمت أنا ومالي (١).

وقد مرّ الخبر أنّه عليه‌السلام كان عند علي بن كُركر ليلة ثم أطلق ، فلعلّه اطلق ليُمشّى مع الناس.

وفي الخبر التالي أنّه كان عند سعيد الحاجب قبل يومين من قتل المتوكل ، ومقتضاه أنّه اعيد بعد مسيرة «يوم السلام» إلى التوقيف :

أرسل الراوندي عن محمد بن اورمة القمي قال : في أيام المتوكل خرجت (من قم) إلى سامرّاء ، وكان المتوكل قد دفع أبا الحسن إلى سعيد الحاجب ليقتله. فلمّا دخلت على سعيد قال : أتحبّ أن تنظر إلى إلهك؟! قلت : سبحان الله. إلهي الذي «لا تدركه الأبصار»! قال : هذا الذي تزعمون أنّه إمامكم! قلت : ما أكره ذلك. قال : فقد امرت بقتله وأنا فاعله غداً! وعنده صاحب بريد (الخليفة ليخبر عنه) فإذا خرج فادخل إليه.

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٤٠١ ـ ٤٠٣ ، الحديث ٨ وتمامه : وعند ذلك تشيعت وصرت إليه ولزمت خدمته وتولّيته حق الولاية وسألته أن يدعو لي. وليس فيه رواية الدعاء عنه على المتوكل.

٣٩٠

قال ابن اورمة القمي : فلم ألبث أن خرج صاحب بريد (الخليفة) فقال لي سعيد : ادخل.

قال : فدخلت الدار التي كان فيها فإذا بحياله قبر محفور! فسلّمت وبكيت بكاءً شديداً فقال لي : ما يبكيك؟ قلت : لما أرى! قال : لا تبكِ لذلك فإنه لا يتمّ لهم ذلك ، إنه لا يلبث أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه. قال ابن اورمة : فوالله ما مضى غير يومين حتّى قتل (١) وطبيعي أنّه عليه‌السلام افرج عنه.

قتل المتوكل ومصيره :

اكتفى اليعقوبي في ذلك بقوله : كان المتوكل قد جفا ابنه محمداً المنتصر ، فأغروه بأبيه ، ودبّروا للوثوب عليه. ففي الثالث من شوال (٢) سنة (٢٤٧ ه‍) كان المتوكل في مجلس خلوة مع الفتح ابن خاقان ، فدخل عليه جماعة من الأتراك منهم بُغا الصغير واوتامش صاحب المنتصر ، وباغر وبغلو وواجن وكنداش وغيرهم ، فقتلوا المتوكل والفتح معاً (٣).

وأجمل المسعودي قال : نال المتوكل ابنه محمداً بأنواع الذلة والهوان! فأجمع على قتله ، فواطأ وصيفاً وبُغا وغيرهم من الموالي على الفتك بأبيه ، فأعدّوا لذلك عدة من أصاغر الموالي باغر وغيره ، فقتلوه بمدينته المسماة بالجعفرية من سامراء لثالث شوال (٢٤٧ ه‍) وله أربعون سنة. وكان أسمر أصفر رقيق البشرة

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٤١٢ ، الحديث ١٧ ، ورواه الخزاز في كفاية الأثر والصدوق في الخصال وكمال الدين ومعاني الأخبار عن الصقر بن أبي دلف وفيه أن سعيداً كان يتشيّع! وليس فيه : إلى يومين.

(٢) فيعلم أنّ يوم السلام كان يوم عيد الفطر ، وزيارة ابن اورمة كانت لأيام عيد الفطر.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٢.

٣٩١

كبير العينين خفيف العارضين وسيماً ، مؤثراً للهزل والمضاحك ومايشين الملوك ، وكان حجّابه : وصيف وبُغا وزرافة (١).

وفصّل فنقل عن البحتري الشاعر أنّ المتوكل نُقل له أنّ سيفاً هندياً لا نظير له وقع إلى رجل من أهل البصرة ، فأمر المتوكل بكتاب إلى عامل البصرة يطلبه بشرائه بلغ ما بلغ ، فعُلم أنّ السيف اشتراه رجل من اليمن ، فأمر المتوكل بالبعث إلى اليمن بطلب السيف وابتياعه! فاشتري بعشرة آلاف درهم ودخل به عبيد الله بن يحيى بن خاقان على المتوكل.

فلمّا كان الغداة استشار الفتح بن خاقان في غلام موثوق به وبشجاعته ليقف بهذا السيف على رأسه ، ودخل باغر التركي وكان مقداماً أهوج فوصفه بالبسالة والشجاعة ، فدعا به المتوكل ودفع إليه السيف وأمره بأمره ، وزاد في مرتبته ورزقه.

وكان بُغا الصغير قد اصطنع باغر واتخذه وملأ عينه من الصِلات ، فامتحنه أولاً بطلب قتل ابنه فارس فوجده مستعداً ، ثمّ امتحنه بطلب قتل وصيف فوجده مستعداً ، ثمّ امتحنه بطلب قتل المنتصر ابن المتوكل فتوقّف وقال : هذا لا يجيء شيء منه! قال : وكيف؟ قال : يقتل الابن والأب باق إذاً يقتلكم أبوه به ولا يستوي لكم شيء! قال : فما ترى أنت؟ قال : إلّاأن نبدأ بالأب! فقال : وهل يتهيّأ هذا وتفعله؟! حتّى قال له باغر : فادخل أنت على أثري فإن فعلت وإلّا فاقتلني وقل : أراد أن يقتل مولاه! فعلم بغا صدقه فدبَر له وبه.

فبعد ثلاث ساعات من ليلة الثالث أو الرابع من شوال دخلوا عليهما فقتلوهما.

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣١٣ ، ٣١٤.

٣٩٢

ونقل المسعودي الخبر عن البحتري الشاعر شاهداً حاضراً ناظراً مباشراً قال : كان من عادة المتوكل إذا سكر سكراً شديداً وتمايل يقيمه خدمه الذين عند رأسه! وسكر المتوكل تلك الليلة سكراً شديداً ومضى نحو ثلاث ساعات من الليل! إذ أقبل باغر على رأس عشرة من الأتراك معه متلثّمين وبأيديهم سيوفهم تبرق في ضوء الشموع! وأقبلوا إلى المتوكل ، وصعد باغر السرير فصاح الفتح : ويلكم مولاكم! وتطاير من حضر من الجلساء والندماء والغلمان ولم يبقَ غير الفتح وهو يمانعهم ، وضرب باغر بسيف المتوكل على جانبه الأيمن فشقه إلى خاصرته وثانية على جانبه الأيسر ، وضرب أحد الأتراك بسيفه في بطن الفتح فأخرجه من متنه! فطرح بنفسه على المتوكل فماتا معاً! فلفّوهما بالبساط وطرحوهما ناحية.

هذا مع كثرة الموالي والجند والشاكرية (چاكران) ودرّ العطاء لهم وجليل ما كانوا يقبضونه في كل شهر من الجوائز والهبات! وأنفق على الجوسق (كوشك) الجعفري والقصر الهاروني أكثر من مئة ألف درهم! وصارت إليه أربعة آلاف سريّة وطأهنّ جميعاً! مئتان منهن هدايا ابن طاهر! منهن محبوبة المؤدّبة المثقفة الشاعرة والمغنّية بالعود فأحبّها جدّاً! فلمّا قُتل المتوكل ضُمّت هي وكثير من الوصائف إلى بُغا الكبير!

وبويع ابنه المنتصر صباحاً في القصر الجعفري وهو ابن (٢٥) عاماً من امّ ولد رومية اسمها حبشية! ونفى عبيد الله بن يحيى بن خاقان من الوزارة واستوزر أحمد بن الخصيب (١) بن الضحاك الجرجاني!

وفي اليوم التالي أحضر القواد والكُتاب والوجوه في الجعفرية فخرج عليهم

__________________

(١) مروج الذهب ٤ : ٣٤ ـ ٤٨.

٣٩٣

أحمد بن الخصيب وأخرج كتاباً وقرأه عليهم يخبر فيه عن المنتصر : أنّ الفتح بن خاقان قتل المتوكل فنحن قتلناه به (١)!

قال ابن الوردي : وكان المتوكل شديد البغض لعلي ولأهل بيته! فكان نديمه عُبّادة المخنّث يشدّ مخدة على بطنه وهو أصلع ويكشف رأسه ويترقّص للمتوكل في مجالس لياليه ويقول : هذا الأنزع البطين خليفة المسلمين! يعني علياً رضى الله عنه ورأى ذلك ابنه المنتصر (وهو من تأديب ابن السكّيت) فقال ليلةً لأبيه : يا أمير المؤمنين! إنّ علياً ابن عمك! فإذا شئت فكل لحمه أنت ولا تخلّ مثل هذا الكلب وأمثاله يطمع فيه! فقال المتوكل للمغنّين : غنّوا بهذه المقولة :

غار الفتى لابن عمّه

رأس الفتى في «حِرُ» امّه (٢)

قال : وكان مجالسوه ممّن اشتهر (مثله) ببغض علي عليه‌السلام كأبي السمط والشاعر ابن الجهم.

ثمّ قال : وكان منَع القول بخلق القرآن وأحسن السيرة ولكن ذمّه لعلي عليه‌السلام غطّى على حسناته! ثمّ قال شعراً :

وكم قد مُحي خير بشرّ ، كما انمحت

ببغض علي عليه‌السلام سيرةُ المتوكل

تعمّق في عدل! فلمّا جنى على

جناب علي حطه السيل من عَلي (٣)

ونقل السيوطي الشافعي عن ابن عساكر الشافعي عن المتوكل (الشافعي!) أنّه كان يقول : رأيت رسول الله في «المنام» يقول : يا أيها الناس! إنّ محمد بن إدريس المطلّبي قد صار إلى رحمة الله وخلّف فيكم علماً حسناً فاتّبعوه تهدوا!

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول : ١٤٦ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ٢٢٠.

(٢) حِر الأُم : عورتها!

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢١٧.

٣٩٤

ثمّ كان المتوكل يقول : اللهمّ ارحم محمد بن إدريس وسهّل عليَّ حفظ مذهبه وانفعني به! قال السيوطي : فكان المتوكل أول من تمذهب بمذهب الشافعي من الخلفاء (١)! فهل كان الشافعي يبغض علياً عليه‌السلام ويذمّه ويضحّك عليه؟!

ويعدّ ممّن مات في عهد المتوكل أحمد بن حنبل (٢) ونقل عن ابن عساكر عن أحمد بن حنبل قال : رأيت في «نومي» قائلاً يقول شعراً :

ملك يُقاد إلى مليك عادل

متفضّل بالعفو ليس بجائر

فلمّا أصبحنا جاءنا نعي المتوكل (٣)! فابن حنبل يُعاد إلى الحياة ليشهد للمتوكل بالنجاة! شعراً!

ونقل الطوسي عن ابن خُشيش عن التميمي عن أبي المفضل الشيباني : أنّ المنتصر سمع أباه يشتم فاطمة عليها‌السلام (كما كان يشتم علياً) فسأل عن ذلك فقيل له : يجوز قتله إلّا أنّه من قتل أباه لم يطل عمره! قال : إذا أطعتُ الله بقتله فلا ابالي أن لا يطول عمري. فقتله وعاش سبعة أشهر (٤).

ولم يسمّ أحداً من أبنائه علياً وسمّى بطلحة (الموفّق) والزبير (المعتزّ) (٥) فما أشقاه ناصبيّاً!

لذا لم يشتهرا باسميهما بل بكناهما : أبو عبد الله المعتز ، وأبو أحمد الموفق! فالناس لم يكونوا على دين المتوكل!

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ٤١٢.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤١٧.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٤١٥.

(٤) أمالي الطوسي : ٣٢٨ ، آخر خبر ١٠٢ ، المجلس ١١.

(٥) المعارف : ٣٩٤ ، ومروج الذهب ٤ : ٨١ ، والتنبيه والإشراف : ٣١٦ ، وابن الوردي ١ : ٢٢٤ ، والسيوطي : ٤٢٠.

٣٩٥

وأيضاً قبر الحسين عليه‌السلام :

مرّ الخبر عن الطوسي بسنده عن القاسم بن أحمد الأسدي الكوفي وله علم بالسيرة وأيام الناس : أنّ المتوكل أخرج قائداً من قوّاده إلى طفّ كربلاء لحفر قبر الحسين عليه‌السلام في سنة (٢٣٧ ه‍). قال : ثمّ مضى الأمر على ذلك حتّى كانت سنة (٢٤٧ ه‍) أي بعد عشرة أعوام وفي سنة قتله ، بلغ المتوكل كذلك مصير أهل الكوفة والسواد إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين عليه‌السلام وأنّه قد كثر جمعهم لذلك ، وصار لهم سوق كبير هنالك! ولعلّه في أيام محرم الحرام لعاشوراء ، وصفر الخير لأربعين الحسين عليه‌السلام ، أو لنصف شعبان ونصف رجب ، وهذان أقرب ممّا يلي حتّى يتصل بقتل المتوكل كما يأتي.

قال : فأنفذ قائداً من قواده (؟) في كثير من جنوده ، وأمر منادياً ينادي فيهم هناك ببراءة الذمة ممن يزور قبر الحسين! ثمّ نبش القبر وحرث أرضه! وتتبّع «الشيعة» فلم يتم له ما قدّر!

ثمّ أسند عن عبد الله بن دانية الطوري قال : في سنة (٢٤٧ ه‍) رجعت من الحج إلى العراق فزرت علياً عليه‌السلام على خيفة من السلطان! ثمّ توجهت إلى كربلاء لزيارة الحسين عليه‌السلام ، فإذا هو قد حُرثت أرضه ومخر فيها الماء ، وأرسلت الثيران العوامل في الأرض ولا يزالون ؛ فبعيني وبصري رأيتهم يثيرون الثيران فتنساق لهم حتّى إذا حاذت مكان القبر حادت عنه يميناً وشمالاً! فتُضرب بالعصيّ الضرب الشديد فلا ينفع ذلك فيها ، ولا تطأ القبر بوجه! فما أمكنتني زيارته إلّاكذا من بعيد ، وتوجهت إلى بغداد وقلت في ذلك شعراً :

تالله إن كانت أُمية قد أتت

قتل ابن بنت نبيّها مظلوماً

فلقد أتاك بنو أبيه بمثلها

هذا لعمرك قبره مهدوما

أسِفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله ، فتتبّعوه رميما!

٣٩٦

فلمّا قدمت بغداد سمعت الهائعة فسألت عن الخبر فقالوا : سقط حمام البريد بقتل جعفر المتوكل! فقلت : إلهي ليلة بليلة (١)! فرجوعه عن الحج طال به تسعة أشهر إلى رمضان؟

فشتم عليّ وهدم الحسين!

أثرن الوليدَ لقتل أبيه

ونقل الإصفهاني عن الأشناني : أنّه خرج مع رجل من العطّارين من الكوفة إلى نواحي «الغاضرية» قال : ثمّ خرجنا منها نصف الليل حتّى مررنا بين مَسلحتين وهم نيام ، وكان على القبر «صندوق» فكانوا قد قلعوه وأحرقوه وأجروا الماء عليه فانخسف موضع اللبن وكان كالخندق! فأكببنا عليه وشممنا منه رائحةً ما شممت مثلها قط فقلت للعطار الذي كان معي : ما هذه الرائحة؟ قال : لا والله ما مثلها شيء من العطر! فزرناه وجعلنا حول قبره علامات بعدة مواضع. فلمّا قُتل المتوكل اجتمعنا مع جمع من الطالبيين والشيعة وصرنا إلى العلامات على القبر فأعدناه إلى ما كان عليه (٢).

بعض وكلاء الهادي عليه‌السلام :

مرّ خبر عن وكيل له عليه‌السلام هو علي بن جعفر البرمكي البغدادي الهُماني الذي حبسه المتوكل في سامرّاء ثمّ أطلقه فأمره الهادي عليه‌السلام بالحج إلى مكة ومجاورتها.

وكان من وكلاء الهادي عليه‌السلام أيضاً فارس بن حاتِم القزويني ، وانحرف فجعل يأخذ من الشيعة أموالهم للإمام ويريهم رقاعاً وتوقيعات بوصولها إليه ، ثمّ يتبيّن عدم وصولها ، فتبرّأ الإمام منه.

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٣٢٨ و ٣٢٩ ، الحديث ١٠٣ و ١٠٤ ، المجلس ١١ وذكر الأبيات السيوطي قال : فتألّم المسلمون من ذلك وهجاه الشعراء ، فمما قيل في ذلك ... ولم يعيّن لمن؟

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٩٦.

٣٩٧

ويظهر من خبر لاحق أنّ ابن جعفر الهُماني كان بعد قتل المتوكل في (٢٤٧ ه‍) قد عاد من مكة إلى سامراء ، فيظهر من خبر أنّه عارض فارساً القزويني وتنازعا وحتى تسابّا ، وانتشر خبرهما بين شيعة الإمام ولم يصلهم تبرّؤ الإمام من القزويني ، فتحيّروا.

وكان من وكلاء الإمام أيضاً إبراهيم بن محمد الهمداني ، فكتب إليه عليه‌السلام :

«جعلت فداك ، قِبلنا أشياء تُحكى عن فارس والخلاف بينه وبين علي بن جعفر ، حتّى صار يبرأ بعضهم من بعض ، فإن رأيت أن تمنّ عليَّ بما عندك فيهما ، وأيهما يتولّى حوائجي قِبلك ، حتّى لا أعدوَه إلى غيره ، فقد احتجت إلى ذلك ، فعلتَ متفضلاً إن شاء الله» (١).

فأرسله مع ابنه جعفر بن إبراهيم الهمداني في سنة (٢٤٨ ه‍) بعد قتل المتوكل في عهد المستعين.

فكتب إليه : «ليس عن مثل هذا يُسال ولا في مثل هذا يُشك ، فقد عظَّم الله من حرمة العليل (لقب الهماني) أن يقاس إليه القزويني! فاقصد إليه بحوائجك ، ومن أطاعك من أهل بلادك أن يقصدوا إلى العليل بحوائجهم ، وأن يجتنبوا القزويني أن يُدخلوه في شيء من أُموركم ، فإنه قد بلغني ما يموّه به عند الناس ، فلا تلتفتوا إليه ، إن شاء الله».

وقرأ الكتاب بعض أهل الكوفة (٢) ممّا يشير إلى محل التساؤل في الكوفة. إلّا أن ما يبعث على التساؤل هنا هي العلاقة بين الكوفة محل التساؤل وبين بلدة همدان من بلاد الجبال في إيران مدينة إبراهيم الهَمداني ومحل وكالته (٣)!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٢٣ ، الحديث ١٠٠٥.

(٢) المصدر السابق : ٥٢٧ ، الحديث ١٠٠٩.

(٣) المصدر السابق : ٦١١ ، الحديث ١١٣٦.

٣٩٨

حُنين بن إسحاق طبيب المتوكل :

ذكر ابن العبري : أنّ قوماً من نصارى العرب قُبيل الإسلام من قبائل شتى أخذوا يبنون بيوتهم بظهر الحيرة مجتمعين منفردين عنها ودُعوا بالعباديين. منهم صيدلاني (١) بالحيرة اسمه إسحاق ، وله ولد اسمه حُنين (٢).

فلمّا عمرت بغداد واشتهر بها يوحنّا بن ماسويه النصراني بالطب رحل إليه حُنين وجعل يخدمه ويقرأ عليه وكان كثير السؤال ، فغضب يوحنّا عليه يوماً وقال له : ما لأهل الحيرة والطب؟! امرق وارتزق على الطرق ببيع الفلوس (دواء) كشغل أبيه بالحيرة! فأخرجه باكياً ، فعزم على تعلّم اليونانية ليقرأ كتب الطب اليوناني ، فتوجّه إلى بلاد الروم وأقام بها عامين حتّى أحكم اليونانية! فعاد إلى بغداد ، ومن بغداد إلى البصرة فلزم الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري حتّى برع في العربية! ثمّ عاد إلى بغداد. فتوصّل للترجمة إلى جبرئيل بن بَختيشوع ، قال الطبيب يوسف : دخلت يوماً على جبرئيل بن بَختيشوع فوجدت حنيناً قد ترجم له بعض كتاب التشريح ، وجبرئيل يسميه الريّان ويبجّله!

ولم يزل أمر حُنين يقوى وعلمه يتزايد وعجائبه تظهر في التراجم والتفاسير حتّى صار عالماً علماً ، واتصل خبره بالمتوكل فأمر بإحضاره ، وأقطع له إقطاعاً حسناً وقرّر له جارياً جيّداً! ثمّ ظنّ به أن يكون ملك الروم قد عمل من خلاله حيلة عليه! فدعاه وأقطعه اقطاعاً يشتمل على خمسين ألف درهم وقال له : لنا عدو نريد قتله وليس يمكن اشتهاره فنريده سرّاً فأُريد أن تصف لي دواءً يقتل العدو! (هل كان للهادي عليه‌السلام؟) فقال : إلّاأن أذهب فأتعلم ذلك! فهدّده وحبسه

__________________

(١) صيدلة معرّب عن الفارسية : ساييدنى : المساحيق.

(٢) باسم حرب حنين شماتة بالمسلمين؟!

٣٩٩

وطال حبسه سنة في قلعة ، ثمّ أحضره وأحضر نطعاً وسيفاً وعاوده وهدّده ، فعاوده حُنين بقوله السابق! فتبسّم المتوكل وقال : أردنا امتحانك والطمأنينة إليك ، ولكن ما الذي منعك من الإجابة؟ قال : الدين والصناعة ، فأمّا الدين : فهو يأمر بالجميل مع الأعداء فكيف بالأصدقاء! وأمّا الصناعة ، فقد جُعل في رقاب الأطباء عهد بأيمان مغلّظة أن لا يعطوا دواءً قتّالاً لأحد! فخلع عليه.

وكان له ابن أُخت يقال له حُبيش الأعسم أحد الناقلين من اليوناني والسورياني إلى العربية ، وكان يرضى نقله ويقدمه على سائر تلامذته ، وكثير من نقله نُسب إلى حُنين ، فكثيراً ما يرون! بنقل حُبيش فيظنونه مصحَّفاً فيجعلونه : حنين! وكان لحنين بن إسحاق ابنان : داود طبيباً عاماً ، وإسحاق تولّى الترجمة وخدمها وأتقنها وأحسن فيها ويميل إلى الفلسفة أكثر من الطب (١).

محمد بن جعفر المنتصر :

قال اليعقوبي : أحضر أخويه إبراهيم المؤيد وأبا عبد الله المعتز وأخذ البيعة عليهما ، وأمر بعطاء الجنود لعشرة أشهر! وعاد من القصر الجعفري في الجعفرية إلى سامراء وأمر بتخريب تلك القصور! فنقل الناس عنها ورجعوا إلى منازلهم بسامرّاء ، وعطلت مدينة الجعفرية فصارت خراباً (٢).

قال المسعودي : وكان مربوعاً حسن الوجه أسمر مسمناً ، وبقي الحاجبان بغا ووصيف كما كانا (٣).

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٤٤ ، ١٤٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٩٣.

(٣) التنبيه والإشراف : ٣١٤.

٤٠٠