غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: عباس تبريزيان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-182-7
الصفحات: ٥٨٤

قبل البلوغ معارض باحتمال طروئها بعده ، فالأصل تأخّر الطروء ، وأصالة تأخّر البلوغ مع أنّه لا يتم فيما لم يعلم حصول الكرّ تدريجاً لا يقاوم ما ذكرنا من الأُصول ، سيّما مع المعارضة.

وقد يستدلّ بأنّ العلّة للنجاسة هي قلّة الماء ، وقد زالت ، فيزول معلولها ، لاستحالة انفكاك المعلول عن العلّة.

وفيه : أنّا نمنع اتّحاد علّة الوجود والبقاء ، فلعلّ العلّة للبقاء هو أمر معنوي حصل من التنجيس.

واستدلّ ابن إدريس (١) بالإجماع ، والعمومات،مثل(لِيُطَهِّرَكُمْ) (٢) و (فَاطَّهَّرُوا) (٣) وقوله عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء كرّاً لم يحمل خبثاً» (٤) بتقريب أنّ معناه لم يظهر فيه خبث ، كما ذكره جماعة من اللغويين.

وجوابه منع الإجماع ، وأما العمومات فلا ريب أنّ صحّة الطهارة من الحدث والخبث مشروطة بالطهارة ، وطهارة هذا الماء أوّل الدعوى.

وأما المستفاد من مثل «خلق الله الماء طهوراً»(٥) و (أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٦) ونحو ذلك ، فليس إلّا الطهارة بالأصل ، ولا تنافي نجاسته بالعرض ، وهو يقيني.

وأما الرواية ، فلم نقف عليها في كتب أصحابنا ، إلّا ما رواه السيد والشيخ في بعض كتبهم الاستدلاليّة مرسلاً ، واستدلّ بها السيد لأصل عدم انفعال الكرّ بالنجاسة ، وظاهرها أيضاً ذلك.

__________________

(١) السرائر ١ : ٦٣.

(٢) الأنفال : ١١.

(٣) المائدة : ٦.

(٤) الانتصار : ٦ ، الخلاف ١ : ١٧٤ ، عوالي اللآلي ١ : ٧٦ ، وج ٢ : ٦ ، مستدرك الوسائل ١ : ١٩٨ أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٦.

(٥) الوسائل ١ : ٩٩ أبواب الماء المطلق ب ١.

(٦) الفرقان : ٤٨.

٥٤١

وما نقل عن جماعة من اللغويين معارض بما نقل عن جماعة اخرى أنّ معنى عدم الحمل هو الدفع ، وهو المتبادر ، فإنّ معنى فلان لا يحمل الضيم : يأباه (١) ، مع أنّ مقتضى الشرطيّة أنّ بعد البلوغ لا يظهر فيه الخبث ، والظاهر منه أنّ الماء الخالي عن الخبث إذا بلغ كرّاً لم يحمل خبثاً ، ولو فرض له إطلاق أو عموم فهو مخصّص بما تقدّم.

الخامس : تطهيره بماء المطر وقد مرّ.

التاسع : ظاهر فتوى الأصحاب عدم التفرقة في طرق التطهير بين القليل والكثير.

ويشكل فيما لو اجتمع ألف كرّ من ماء نجس مثلاً وأُلقي عليه كرّ واحد ، فإنّه يستهلك في النجس ، وتوجيهه أن يقال : إنّ الأصل في ذلك الكرّ عدم الانفصال حتّى تحصل منه الممازجة المطهرة بمقدار كرّ آخر مثلاً ، ثم تحصل من المجموع الممازجة المعتبرة لآخر ، وهكذا. فإذا حصل تمازج مجموع ذلك الماء المجتمع بعضه مع بعض فيحصل التطهير للجميع ، والكلام الذي يقرب من التصريح بذلك من جملة كلماتهم هو ما ذكروه في حكم المتغيّر بإلقاء كرّ فكرّ حتّى يزول التغيّر.

ثم إنّ الكثير إذا تغيّر فإما أن يبقى مقدار كرّ منه متّصل غير متغيّر ، أو لا. والمحتاج إلى الخارج إنّما هو الصورة الأخيرة ، وأما الاولى فالمعروف بين الأصحاب كفاية زوال التغيّر بالتموّج وحصول الامتزاج بذلك مع عدم حصول العلم بانقطاعه أو تغيّر

__________________

(١) قال في القاموس ٣ : ٣٦٢ وحمل الخبث أظهره قيل ومنه لم يحمل خبثاً أي لم يظهر فيه الخبث. وقال في نهاية ابن الأثير ١ : ٤٤٤ لم يحمل خبثاً لم يظهره ولم يغلب الخبث عليه من قولهم فلان يحمل غضبه أي لا يظهره ، وقيل معنى لم يحمل خبثاً أنّه يدفعه عن نفسه كما يقال فلان لا يحمل الضيم إذا كان يأباه ويدفعه عن نفسه. وفي المجمل لابن الفارس ١ : ٢٥٣ ، أنّ المراد لم يظهر فيه الخبث قالوا وتقول العرب فلان يحمل غضبه أي يظهر غضبه.

٥٤٢

شي‌ء منه قبل تمام التطهير ، وإن لم يحصل ذلك فيحتاج إلى الخارج.

والمعتبر في إزالة التغيّر أيضاً هو الحسّيّ ، فلو زال التغيّر بشي‌ء ثم القي عليه كرّ لم يكن يزيله لو كان التغيّر باقياً ، فالظاهر كفايته.

والمشهور أن زوال التغيّر بنفسه أو بتصفيق الرياح ونحوه لا يكفي في التطهير (١) ، خلافاً ليحيى بن سعيد (٢) ، لاستصحاب النجاسة ، وعدم ما يدلّ على الطهارة.

وحجّة الطهارة : الأصل ، وأن العلّة للنجاسة هو التغيّر وقد زالت فتزول ، وربما يفرّع ذلك على التطهير بتتميم القليل كرّاً.

ويرد على الأوّل أنّه قد ارتفع بالنجاسة ، وعلى الثاني ما مر في جواب حجّة القائل بتطهير التتميم ، وعلى الثالث مع بطلان الأصل كما مرّ أنّ تغيّر المجموع قد أظهر فيه الخبث ، ورفعه يحتاج إلى الدليل.

والقول بأنّ المتغيّر نجس ما دام متغيّراً دعوى خالية عن الدليل ، بل القضيّة إما دائمة لو قلنا بأنّ النهي يفيد الدوام ، أو مطلقة ويكفي في صحّة الاستصحاب.

العاشر : يطهر الجاري المتغيّر بتدافعه حتّى يزول التغيّر لقوله عليه‌السلام : «يطهّر بعضه بعضاً» (٣) ، وفيه إشكال ، لأنّ الظاهر منه عدم الانفعال لا التطهير ، ولكن الظاهر أنّ المسألة إجماعيّة ، وظاهر العلامة أيضاً أنّه لا يعتبر في المطهر حينئذٍ الكرّيّة (٤) ، ولكن الظاهر أنّ هذا الحكم عنده مخصوص بما كان منحدراً على الأرض ، لعدم تنجّس ما فوق النجاسة حينئذٍ كما مرّ.

__________________

(١) منهم المحقّق في المعتبر ١ : ٤١ ، والعلامة في المنتهي ١ : ٦٤ ، والقواعد ١ : ١٨٦ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ١٣٥.

(٢) الجامع للشرائع : ١٨.

(٣) الوسائل ١ : ١١٢ أبواب الماء المطلق ب ٧ ح ٧.

(٤) المنتهي ١ : ٦٤.

٥٤٣

ولو زال تغيّره بعلاج ، فعلى ما اخترناه لا يكفي مجرّد الاتصال ، ويظهر من المعالم أنّ بعض من قال بكفايته (١) لا يكتفي هنا ، نظراً إلى تخصيص كلامهم في الاكتفاء بما لو كان المطهر مساوياً للنجس أو أعلى (٢) ، ولعلّ هذا القائل نظره إلى أنّ الجاري الذي يحصل زوال تغيّره بعلاج قبل تدافع الماء إنّما يكون في المياه القليلة المجتمعة في العيون الصغار غالباً ، وإلا فتحتيّة المادّة في الجاري مطلقاً ممنوعة.

وأما تطهير ماء الحمّام ، أي الحوض الصغير الذي تجري إليه المادّة ، فإن تغيّر ثم انقطع قبل زواله أو تنجّس بعد الانقطاع فحكمه حكم القليل ، وقد مرّ حكمه ، وأنه يجوز تطهيره بالمادّة.

وأما لو تنجّس بالتغيّر حال الاتصال فيطهر بزوال التغيّر بالتدافع من المادّة والامتزاج والقهر والاستهلاك ، لكن مع بقاء كرّ من الماء في المادّة بعد تمام التطهير بما ذكر كما أشرنا. وتدلّ عليه الرواية المتقدّمة على إشكال تقدّم ، لكن الظاهر أنّ التطهير حينئذٍ أيضاً إجماعيّ بالشروط المذكورة ، هذا إذا كانت المادّة أعلى.

ومع التساوي والتحتيّة ، فالظاهر عدم اشتراط الزائد من الكرّ في المادّة أوّلاً ، لكن بالشروط والتفاصيل المتقدّمة في تطهير القليل.

ثم هل يعتبر تساوي السطوح في مادّة ماء الحمّام؟ فالأظهر بالنظر إلى الإطلاق وعدم كون مادّة الجاري مستوية : عدمه في أصل عدم التنجّس ، كما صرّح به في المعالم (٣) ، فإن ظهرت العلّة بحيث يمكن الاعتماد فلا نعتبره في التطهير أيضاً ، وإلّا لكان للتوقّف فيه مجال ، سيّما والغالب في مادّة ماء الحمّام استواء السطوح ، والمطلق ينصرف إليه. ومنه يظهر الإشكال في عدم الانفعال أيضاً. هذا حال تطهيره بمادته ، وأما سائر الطرق فمثل ما مرّ.

__________________

(١) في «م» : بكفاية الاتّصال.

(٢) المعالم : ١١٥.

(٣) المعالم : ١٣.

٥٤٤

الحادي عشر : يحصل التطهير للبئر على القول بنجاسته بالنزح وغيره.

أما النزح فكونه مطهّراً اتفاقي ، ويتفاوت بتفاوت النجاسات ، وبحصول التغيّر وعدمه. ونذكره في ضمن مسائل مقدّماً لحكم الغير المتغيّر.

الأُولى : يجب نزح الجميع لوقوع الخمر فيها بلا خلاف بينهم ، وادّعى ابن إدريس (١) وابن زهرة (٢) الإجماع عليه.

وتدلّ عليه صحيحة الحلبي (٣) ، سيّما على ما في الاستبصار ، وصحيحة عبد الله ابن سنان (٤) ، وصحيحة معاوية بن عمار (٥) ، وتشريك البول لها فيها غير مضر ، فيحمل فيه على الاستحباب ، أو على صورة التغيّر.

والمشهور عدم الفرق بين قليلها وكثيرها للإطلاقات في الأخبار المتقدّمة ، مؤيّداً بما ورد في الأخبار الكثيرة من عدم الفرق بين قليلها وكثيرها في الحرمة ؛ ، والاستصحاب (٦) خلافاً للصدوق في المقنع ، فإنّه قال : ينزح للقطرة منه عشرون دلواً (٧). وقد يستدلّ عليه برواية زرارة (٨) ورواية كردويه (٩) ، وفي

__________________

(١) السرائر ١ : ٧٠.

(٢) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٥٢.

(٣) الكافي ٣ : ٦ ح ٧ ، التهذيب ١ : ٢٤٠ ح ٦٩٤ ، الاستبصار ١ : ٣٤ ح ٩٢ الوسائل ١ : ١٣٢ أبواب الماء المطلق ب ١٥ ح ٦.

(٤) التهذيب ١ : ٢٤١ ح ٦٩٥ ، الاستبصار ١ : ٣٤ ح ٩٣ ، الوسائل ١ : ١٣١ أبواب الماء المطلق ب ١٥ ح ١.

(٥) التهذيب ١ : ٢٤١ ح ٦٩٦ ، الاستبصار ١ : ٣٥ ح ٩٤ ، الوسائل ١ : ١٣٢ أبواب الماء المطلق ب ١٥ ح ٤.

(٦) الوسائل ١٧ : ٢٥٩ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٥.

(٧) المقنع : ١١.

(٨) التهذيب ١ : ٢٤١ ح ٦٩٧ ، الاستبصار ١ : ٣٥ ح ٩٦ ، الوسائل ١ : ١٣٢ أبواب الماء المطلق ب ١٥ ح ٣.

(٩) التهذيب ١ : ٢٤١ ح ٦٩٨ ، الاستبصار ١ : ٣٥ ح ٩٥ ، وص ٤٥ ح ١٢٥ ، الوسائل ١ : ١٣٢ أبواب الماء المطلق ب ١٥ ح ٢.

٥٤٥

دلالتهما قصور.

والتحقيق : أنّ حكم القطرة لا يستفاد من شي‌ء من الأخبار ، والتمسّك بالاستصحاب يجعله من جملة ما لا نصّ فيه فالأُولى إرجاعه إلى ما لا نصّ فيه ، والأظهر على المختار في ماء البئر الاكتفاء بمقتضى الروايتين المتقدّمتين مسامحة في أدلّة السنن ، وإن كان نزح الجميع أفضل.

والمشهور إلحاق سائر المسكرات المائعة بالخمر ، وعن الشيخ ومن تأخّر عنه إلحاق الفقاع (١) ، ولا نصّ فيها من جهة الأخبار.

وقد يستدلّ بالأخبار المستفيضة القائلة بأنّ كلّ مسكر خمر (٢) ، وأنّ ما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر (٣) ، وكذلك ما ورد في الفقاع من أنّه خمر ، وأنه الخمر بعينها (٤) ، وقد مرّ بعضها. وجه الاستدلال نظير ما مرّ في نجاستها.

وألحق الشهيد في الذكرى بها العصير بعد الاشتداد إن قيل بنجاسته (٥) ، وهو مشكل ، وقد نبّهنا على ما يمكن الاستدلال به في نجاسته.

والمشهور وجوب نزح الجميع للبعير أيضاً ، بل يظهر من المختلف والمعالم (٦) عدم الخلاف ، وتدلّ عليه صحيحة الحلبي المتقدّمة (٧) ، وتؤيّده صحيحة عبد الله بن سنان المتقدّمة (٨).

__________________

(١) كما في المبسوط ١ : ١١ ، والنهاية : ٦.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٥٩ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٥.

(٣) الوسائل ١٧ : ٢٧٣ أبواب الأشربة المحرّمة ب ١٩.

(٤) الوسائل ٢ : ١٠٥٥ أبواب النجاسات ب ٣٨.

(٥) الذكرى : ١١.

(٦) المعالم : ٣٤.

(٧) الكافي ٣ : ٦ ح ٧ ، التهذيب ١ : ٢٤٠ ح ٦٩٤ ، الاستبصار ١ : ٣٤ ح ٩٢ الوسائل ١ : ١٣٢ أبواب الماء المطلق ب ١٥ ح ٦.

(٨) التهذيب ١ : ٢٤١ ح ٩٦٥ ، الاستبصار ١ : ٣٤ ح ٩٣ ، الوسائل ١ : ١٣١ أبواب الماء المطلق ب ١٥ ح ١.

٥٤٦

وأما رواية عمرو بن سعيد بن هلال الدالّة على كفاية نزح كرّ في الجمل (١) فلا تقاوم ما ذكرنا.

وعن الأكثر أنّ حكم الثور أيضاً نزح الجميع ، لصحيحة عبد الله بن سنان المتقدّمة ، وذهب آخرون إلى كفاية نزح كرّ من ماء لرواية عمرو بن سعيد المتقدّمة (٢) ، وهي لا تقاوم الصحيحة دلالة ومتناً ، بل لا دلالة فيها يعتمد عليها.

ومما ينزح له الجميع : المني والدماء الثلاثة على المشهور ، بل المجمع عليه في الأوّل.

ويدلّ على حكم المني الإجماع ، نقله ابن إدريس (٣) وابن زهرة (٤) ، ولكن لم يعلم تحقّق الإجماع في غير مني الإنسان ، وإن شمله إطلاق كلماتهم ، لما نقل عن بعض الأصحاب تخصيصه الحكم بمني الإنسان ، وجعل غيره مما لا نصّ فيه (٥).

وأما الدماء الثلاثة ، فلم نقف على ما يوجب مغايرتها لسائر الدماء من الأخبار ، وتخريج حكمه عن وجوب إزالة قليلها وكثيرها في الصلاة ضعيف.

نعم نقل ابن إدريس (٦) وابن زهرة (٧) الإجماع عليه ، وعدم شمول ما سيجي‌ء في مطلق الدم من الأخبار لهذه ونقل الإجماع والشهرة يرجّح قول المشهور.

وأما إلحاق بعضهم عرق الإبل الجلّالة ، وعرق الجنب من حرام (٨) ، وإلحاق آخر

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٣٥ ح ٦٧٩ ، ورواه في الاستبصار ١ : ٣٤ ح ٩ ، الوسائل ١ : ١٣٢ أبواب الماء المطلق ب ١٥ ح ٥.

(٢) كابن إدريس في السرائر ١ : ٧٠.

(٣) السرائر ١ : ٧٠.

(٤) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٥٢.

(٥) كما في المدارك ١ : ٦٥.

(٦) السرائر ١ : ٧٢.

(٧) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٥٢.

(٨) ابن البرّاج في المهذب ١ : ٢١ ، ونقله في المختلف ١ : ١٩٣.

٥٤٧

بول وروث ما لا يؤكل لحمه عدا بول الرضيع والصبي والرجل (١) ، فلا دليل عليه.

ومما يجب نزح الجميع له : ما لم يرد فيه نصّ على المشهور ، للاستصحاب ، وعدم ثبوت المقدّر. وذهب الشيخ في المبسوط (٢) والعلامة في بعض كتبه (٣) إلى كفاية أربعين. واحتجّ الشيخ بقولهم عليهم‌السلام : «ينزح منها أربعون دلواً إن صارت مُبخرة» (٤).

وعن البشرى القول بكفاية ثلاثين دلواً (٥) ، لرواية كردويه الاتية في المسألة السادسة (٦).

واعترض على احتجاج الشيخ بجهالة السند وعدم ذكر موجب النزح.

وأُجيب بأنّ الشيخ ثقة ثبت ، فلا يضرّ إرساله ، والظاهر من احتجاجه دلالة صدرها المحذوف على ما نحن فيه (٧).

وفيه ما فيه ، لأنّ ما ذكر لا ينفي الخطأ عن الشيخ في الاجتهاد ، مع أنّه لا بدّ من تقييده بما لو زال البخر بأربعين.

وعلى رواية كردويه بضعف السند (٨) ، وعدم الدلالة أيضاً ، إذ موردها الأُمور المذكورة ، ولا دلالة فيها على غيرها.

ويمكن أن يقال إنّ الظاهر من سياق السؤال والجواب حكم ماء المطر المخالط لأيّ

__________________

(١) الكافي في الفقه : ١٣٠ ، ونقله في المختلف ١ : ١٩٢.

(٢) المبسوط ١ : ١٢.

(٣) كما في الإرشاد ١ : ٢٣٧.

(٤) المبسوط ١ : ١٢ ، ولكن فيه : وإن بدل «إن».

(٥) حكاه عنه في غاية المراد كما في المدارك ١ : ١٠٠.

(٦) الفقيه ١ : ١٦ ح ٣٥ ، التهذيب ١ : ٤١٣ ح ١٣٠٠ ، الاستبصار ١ : ٤٣ ح ١٢٠ ، الوسائل ١ : ١٣٣ أبواب الماء المطلق ب ١٦ ح ٣.

(٧) حكاه في روض الجنان : ١٥١.

(٨) فإنّ كردويه مجهول ، لم يذكره النجاشي ولا الشيخ ، بل لم ينصّ أحد على توثيقه كما قال في معجم رجال الحديث ١٤ : ١١٤ / ٩٧٢٢ ، وقيل : إنّه لقب لمسمع بن عبد الملك كردين ، ومسمع غير موثّق.

٥٤٨

نجاسة كانت ، والمذكورات إنّما هي بعنوان المثال ، فهي على العموم إلّا ما خرج بالدليل مما نصّ عليه بالخصوص.

وقد اعترض على المشهور بمنع حجيّة الاستصحاب ، وفيه ما فيه.

وبمنع عدم ثبوت المقدّر ، فإنّ صحيحة ابن بزيع (١) تدلّ على كفاية نزح ما يزيل التغيّر في المتغيّر ، فلا يجب نزح الجميع إذا زال بدونه ، فيثبت عدم وجوب نزح الجميع في غير المتغيّر بطريق الاولى.

وفيه : أنّ الأولويّة المذكورة مع أنّها ممنوعة ينافيها صدر الرواية ، فإنّه يدلّ على عدم النجاسة أصلاً ، فالعجز يثبت شيئاً من باب الأولوية ، والصدر ينفي كلّ شي‌ء من باب التنصيص.

والحاصل أنّ الكلام في المنزوحات بعد القول بالانفعال ، وهذه الرواية لا تناسبه ، مع أنّ المراد بما لا نصّ فيه هو ما لم يرد ما يدلّ على وجوب مقدار من النزح في خصوص ما وقع بشخصه أو بنوعه كالفرس ، أو بجنسه القريب كالدابة ، وأما الحكم بأنّ كلّ نجس لاقى البئر يجب نزح أربعين منه مثلاً ، أو كلّ نجس لاقى البئر لا يجب منه شي‌ء إلّا ما غيّره ، فليس ممّا نحن فيه ، ولذلك لم يعترض على رواية أربعين وثلاثين بعد التوجيه الذي ذكرنا بأنهما من باب المنصوص عليه لا ما لا نصّ فيه.

وقد يقال : بعد البناء على الاستدلال بصحيحة ابن بزيع على ما ذكر أنّه إذا ثبت به نفي وجوب نزح الجميع ، فتعيّن نزح أربعين ، لعدم الدليل على الثلاثين من جهة الاستصحاب.

وقد يقال : إنّ بَعدَ ذلك يتعيّن ثلاثون ، لضعف الاستصحاب ، وأصالة عدم الزيادة ، واختيار قول آخر يوجب خرق الإجماع المركّب.

وربما يقدح في الإجماع المركّب بمنع تحقّقه ، والأقوى على القول بالانفعال هو

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٣٤ ح ٦٧٦ ، الاستبصار ١ : ٣٣ ح ٨٧ ، الوسائل ١ : ١٢٧ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٧.

٥٤٩

نزح الجميع للاستصحاب.

وقال صاحب المعالم : والمتّجه عندي الاكتفاء بنزح ما يزيل التغيّر لو كان إن وجد إلى العلم به سبيل ، وإلّا فالجميع ، وليس ذلك بطريق التعيين على التقديرين ، بل لأنّ المقدار المطهر غير معلوم ، ومع بلوغ أحدهما يعلم حصوله ، لاشتمال كلّ منهما عليه (١) ، انتهى ونظره إلى اعتبار الأولويّة في التغيّر التقديري ، قيل : والظاهر أنّ عند تقدير التغيّر إنّما تقدّر أقلّ مراتبه (٢) ، وفيه نظر.

تذنيب :

المشهور أنّه إذا تعذّر نزح الجميع فيما قدّر له لغلبة الماء ، فيتراوح عليه أربعة رجال يوماً ، كلّ اثنين دفعة ، وعن المنتهي أنّه لا يعرف فيه خلافاً من القائلين بالنجاسة (٣).

واستدلّوا عليه بموثّقة عمار ، عن الصادق عليه‌السلام في خبر طويل ، قال : وسئل عن بئر يقع فيها كلب أو فأرة أو خنزير ، قال : «تنزف كلّها ، فإن غلب عليه الماء فلينزف يوماً إلى الليل ، ثم يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين فينزفون يوماً إلى الليل ، وقد طهرت» (٤)

وقد حمل على صورة التغيّر ، وإلّا فلا يجب نزح الجميع للمذكورات ، وهو إنّما يتمّ على القول بوجوب نزح الجميع للمتغيّر ، ويمكن الحمل على الاستحباب ، ولا ينافي ذلك وجوب التراوح فيما يجب النزح ، فإنّه بيان لعلاج ما يقتضي نزح الجميع ولم يمكن ، وجوبياً كان الاقتضاء أو ندبياً ، ولا قائل بالفصل بين الوجوب

__________________

(١) المعالم : ٩٥ ، ونقله عنه في مشارق الشموس : ٢٣٩.

(٢) مشارق الشموس : ٢٢٢.

(٣) المنتهي ١ : ٧٣.

(٤) التهذيب ١ : ٢٨٤ ح ٨٣٢ ، الوسائل ١ : ١٤٣ أبواب الماء المطلق ب ٢٣ ح ١.

٥٥٠

والندب ، ولا بين الموجبات.

وقد أُورد عليها أيضاً بأنّها تدلّ على وجوب التراوح يوماً بعد نزح يوم. وفيه أنّه إن قرئت كلمة «ثم» مفتوحة فلا إشكال ، وإن ضُمّت فيمكن أن يُراد بها ترتيب بيان الكيفيّة على أصل الحكم ، وذلك من حزازات كلمات عمار ، مع أنّه في المعتبر رواها بدونها (١) ، ولعلّه رواها عن غير الشيخ ، أو عن نسخة صُحّحت عنده هكذا. وعبارة فقه الرضا مصرّحة بالمطلوب من دون حزازة (٢) ، وفهم الأصحاب عصراً بعد عصر ، واستدلالهم بها على المطلوب أعظم مؤيّد لها.

ويؤيّده أنّ التعطيل غير جائز بالإجماع ، كما ادّعاه بعض الأصحاب (٣) ، والاقتصار على نزح البعض تحكّم ، ولا قائل بوجوب أزيد من ذلك.

والظاهر أنّ ما ينزح من البئر قبل حصول العلم بالعجز عن المقدّر لا يحسب من يوم التراوح ، وتنبّه عليه الرواية المتقدّمة وكلام الأصحاب.

والظاهر أنّه لا يحصل الظنّ بالعجز إلّا مع نزح مقدارٍ يحصل معه الظنّ بأنّ الماء الذي كان موجوداً في البئر لم يكن أزيد من ذلك ، والاعتماد في ذلك على حصول التجربة من حال البئر ونحوه نادر لا يلتفت إليه ، لتفاوت الأحوال في السنوات والتقلّبات.

وأيضاً الظاهر وجوب نزح تمام ما كان في البئر ، وإنّما يجب نزح ما يخرج في حال النزح أيضاً من باب المقدّمة ، ففي صورة العجز لا يمكن تحصيل العلم بزوال ما كان فيه ، فيعتمد على الظنّ ، وهو يحصل مع التراوح المذكور.

ثم إنّ الظاهر من الرواية والفتوى حكم العجز من جهة غلبة الماء من جهة قوّة النبع ، ويشكل فيما لو كان من جهة نفس كثرة الماء. ويمكن الاطراد ، للزوم العسر والحرج ، وحمل الرواية وكلام الأصحاب على الغالب في أفراد كثرة الماء.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٥٩.

(٢) فقه الرضا (ع) : ٩٤.

(٣) المعتبر ١ : ٦٠.

٥٥١

وقال الشهيد : إنّ مراد الجماعة من اليوم يوم الصوم ، فإنّه المفهوم من اليوم مع تحديده بالليل (١) ، وتبعه المتأخّرون ، فأوجبوا إدخال شي‌ء من الليل أوّلاً وآخراً من باب المقدّمة (٢).

وزاد بعضهم تقديم التأهّب قبل ذلك الجزء أيضاً (٣).

والحقّ أنّ كلمات الأصحاب لا تنافي حمله على الأقلّ من يوم الصوم ، وكذلك الرواية ، لأنّه يصدق اليوم على الممتدّ من أوّل طلوع الشمس إلى الغروب ، بل وعلى ما لو ذهب شي‌ء قليل منه أيضاً. ويستفاد ذلك من الأخبار أيضاً (٤).

ولا يبعد ادّعاء صيرورة اليوم حقيقة في القدر المشترك بين المعنيين ، فتعيين الزائد يحتاج إلى دليل كما في الصوم ، ولا ريب أنّ اعتباره أحوط.

ولا يكفي الليل ، ولا الملفّق ، لبطلان القياس ، ولا يجب تحرّي الأطول.

والأظهر عدم الاجتزاء بالنساء والصبيان ، لأنّ الظاهر من القوم الرجال بنصّ أهل اللغة والفصحاء (٥) ، وظاهر الكتاب (٦) ، مع إمكان الاجتزاء بهنّ لو قوين على مثل فعلهم.

والظاهر أنّ الاقتصار بالأربعة ، لكونه أقلّ ما يحصل به التراوح اثنين اثنين ، وإلّا فالرواية أعم (٧). نعم عبارة فقه الرضا مصرّحة بالأربعة (٨) ، ولا ريب أنّه أحوط ، سيّما إذا أوجبت الزيادة بطءاً في النزح.

__________________

(١) الذكرى : ١٠.

(٢) روض الجنان : ١٤٨ ، المسالك ١ : ١٥ ، الروضة البهيّة ١ : ٢٧٦ ، كشف اللثام ٣٦.

(٣) المسالك ١ : ١٦ ، روض الجنان ١ : ١٤٨.

(٤) مثل كلّ ما ورد في اعتبار نصف النهار في صيام المسافر وإرادة الزوال ونحوه (منه رحمه‌الله).

(٥) انظر الصحاح ٥ : ٢٠١٦ ، ولسان العرب ١٢ : ٥٠٤.

(٦) الحجرات : ١١.

(٧) التهذيب ١ : ٢٨٤ ح ٨٣٢ ، الوسائل ١ : ١٤٣ أبواب الماء المطلق ب ٢٣ ح ١.

(٨) فقه الرضا (ع) : ٩٤.

٥٥٢

واعتبار كون أحدهما فوق البئر والآخر فيها يملأ الدلو كما ذكره بعض الأصحاب (١) لا دليل عليه.

واستقرب في التذكرة كفاية قويّين ينهضان بعمل الأربعة (٢) ، وهو مشكل.

والأحوط جعل الأكل والصلاة في حال الاستراحة ، فلا يجتمعون بهما.

الثانية : المشهور وجوب نزح كرّ من ماء لموت الدابّة أي الحمار والفرس والبغل ، وألحق جماعة بها البقرة (٣).

أما الحمار ، فتدلّ عليه رواية عمرو بن سعيد المتقدّمة ، قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عمّا يقع في البئر ما بين الفأرة والسنور إلى الشاة فقال : كلّ ذلك يقول : «سبع دلاء» قال : حتّى بلغت الحمار والجمل ، فقال : «كرّ من ماء» (٤) وفي موضع آخر من التهذيب ذكر البغل (٥) ، وكذا في المعتبر (٦).

ولا يضرّ ذكر الجَمل في الاستدلال مع وجوب الجميع فيه ، لأنّ الجواب بمنزلة أنّه يجب في كلّ واحد من المذكورات كرّ من ماء ، فيكون عاما قابلاً للتخصيص في الجمل بما مرّ ، فلا يرد أنّ الجواب عن الكلّ وإرادة البعض تعمية.

ويظهر مما ذكر حكم البغل أيضاً.

وأما الفرس ، فيمكن أن يستدلّ عليه بصحيحة الفضلاء ، عن الصادق عليه‌السلام : في البئر يقع فيها الدابة والفأرة والكلب والطير فيموت ، قال : «يخرج ثم

__________________

(١) كالشهيد الثاني في روض الجنان : ١٤٨.

(٢) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٨.

(٣) كالشيخ المفيد في المقنعة : ٦٦ ، والشيخ الطوسي في المبسوط ١ : ١١ ، والنهاية : ٦ ، والشهيد في اللمعة : ١.

(٤) التهذيب ١ : ٢٣٥ ح ٦٧٩ ، الاستبصار ١ : ٣٤ ح ٩١ ، الوسائل ١ : ١٣٢ أبواب الماء المطلق ب ١٥ ح ٥.

(٥) لم نجد كلمة البغل. نعم نقل عن شرح المفاتيح وحاشية المدارك «أنّه في بعض نسخ التهذيب ذكر فيها البغل بعنوان النسخة» مفتاح الكرامة ١ : ١٠٩.

(٦) المعتبر ١ : ٥٧.

٥٥٣

ينزح من البئر دلاء ، ثم اشرب وتوضّأ» (١) وتقرب منها رواية البقباق (٢).

وتوجيهه أن يقال : مقتضى الجمع المنكر إذا كان مدخولاً للأمر حصول الامتثال بأقلّ ما يصدق عليه كما حقّقناه في الأُصول (٣) ، وهو ثلاثة أدلٍ من دون فرق بين جمع القلّة والكثرة ، وبذلك خرج ما نحن فيه من قسم ما لا نصّ فيه ، فنحملها في الفرس على الكرّ لما دلّ عليه في الحمار والبغل ، لعدم القول بالفصل ، فإنّ الدابة تشمل المذكورات عرفاً ، وترك الاستفصال يفيد العموم.

وقد تتوهّم استفادة العموم من تعليق الحكم على الطبيعة ، وليس بذلك ، إذ الظاهر هنا إرادة العهد الذهني.

وبذلك يمكن إدراج البقرة أيضاً لو بنينا على أنّ معناها ما يركب ، كما هو أحد معانيها العرفيّة ، ولكن ركوب البقرة نادر لا تنصرف إليه الإطلاقات ، فينبغي حينئذٍ إدراجها في جملة ما لا نصّ فيه.

ويشكل إدراجها فيه أيضاً ، لأنّ في الأخبار ما يمكن أن يستنبط منه حكمها ، لكن لا نعرف القائل به ، مثل صحيحة عبد الله بن سنان المتقدّمة في الخمر (٤) ، فإنّها مشتملة على أنّ الثور ونحوه موجب لنزح الجميع على ما في التهذيب ، وليس كلمة «نحوه» في الاستبصار فمقتضاه نزح الجميع ، وهكذا يمكن استفادة حكمها من بعض الإطلاقات في الميتة وغيرها (٥).

أقول : ويمكن استنباط حكمها من رواية عمرو المتقدّمة (٦) ، بأن يقال : إنّ «بلغت» معناها الترقّي في السؤال عن الحيوانات بحسب الجثة ، فيكون حكم ما فوق

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٣٦ ح ٦٨٢ ، الاستبصار ١ : ٣٦ ح ٩٩ ، الوسائل ١ : ١٣٥ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٥.

(٢) التهذيب ١ : ٢٣٧ ح ٦٨٥ ، الاستبصار ١ : ٣٧ ح ١٠٠ ، الوسائل ١ : ١٣٥ أبواب الماء المطلق ب ١٧ ح ٦.

(٣) قوانين الأُصول : ٢٢١.

(٤) التهذيب ١ : ٢٤١ ح ٦٩٥ ، الاستبصار ١ : ٣٤ ح ٩٣ ، الوسائل ١ : ١٣١ أبواب الماء المطلق ب ١٥ ح ١.

(٥) الوسائل ١ : ١٤٢ أبواب الماء المطلق ب ٢٢.

(٦) التهذيب ١ : ٢٣٥ ح ٦٧٩ ، الاستبصار ١ : ٣٤ ح ٩١ ، الوسائل ١ : ١٣٢ أبواب الماء المطلق ب ١٥ ح ٥.

٥٥٤

الشاة إلى الجمل نزح كرّ من ماء ، وهذا أولى من كلّ ما ذكروه فيها ، ولم أقف على من ذكره.

ومن ذلك ظهر دليل آخر على حكم الفرس والبغل إن قطعنا النظر عن وجوده في بعض النسخ أيضاً.

الثالثة : اتّفق القائلون بالنجاسة كما ذكره الفاضلان ) على وجوب نزح سبعين دلواً لموت الإنسان لموثّقة عمار ، قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل ذبح طيراً فوقع بدمه في البئر ، فقال : «ينزح منها دلاء إذا كان ذكيّاً ، وما سوى ذلك مما يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكثره الإنسان ينزح منها سبعون دلواً ، وأقلّه العصفور ينزح منها دلو واحد» (٢).

وظاهر الرواية أنّ ذلك إنّما هو لموت الإنسان من حيث إنّه موت الإنسان ، فلو تلطّخ بدنه بالمني ونحوه فلا يستفاد من الرواية الاكتفاء بسبعين دلو.

وعلى هذا فاستفادة حكم الكافر من الرواية مشكل ، ولكن الأصحاب لم يفرقوا في ذلك ، إلّا ابن إدريس (٣) ، فحكم بوجوب نزح الجميع في الكافر وادّعى عليه الإجماع ، وعارض الاستدلال بعموم الإنسان بحكاية وجوب سبع دلاء في المجنب بأنّه لا يعم الكافر.

وأُجيب بمنع الإجماع ، ومنع الحكم رأساً ، ومنع الفرق في صورة المعارضة أيضاً ، وعلى فرض ثبوته فإنّما يثبت بدليل ، ولا يستلزم تخصيص بعض العمومات تخصيص مماثله (٤).

__________________

(١) المعتبر ١ : ٦٢ ، المنتهي ١ : ٧٦.

(٢) التهذيب ١ : ٢٣٤ ح ٦٧٨ ، الوسائل ١ : ١٤١ أبواب الماء المطلق ب ٢١ ح ٢.

(٣) السرائر ١ : ٧٣.

(٤) كما في المعتبر ١ : ٦٣.

٥٥٥

وظاهر الفقهاء عدم الفرق بين وقوع ميت الإنسان في البئر أو موته في البئر بعد وقوعه وليس بذلك البعيد ، ولا تنافيه الرواية أيضاً ، وإن كان ظاهرها الموت فيه ، فإنّه وارد مورد الغالب.

ثم : إنّ الظاهر أنّ اعتماد ابن إدريس على الإجماع ، لا على أنّ حكم ما لا نصّ فيه نزح الجميع كما يظهر من كلامه ، ودعوى الإجماع في غاية البُعد مع انفراده بالفتوى على الظاهر.

وحيث عرفت ضعف دلالة الرواية على حكم النجاسة الكفريّة وصعوبة الاعتماد على نقل إجماع ابن إدريس ، فلا بد من إرجاع حكمه إلى ما لا نصّ فيه.

وأما حكم مباشرة الكافر حيّاً ؛ فلو سلّمنا عموم الرواية للكافر كما فهمه الأصحاب ، فيمكن استفادة حكمه من باب الإشارة من الرواية ، وأنّ حكمها لا يزيد على موته فيه ، فإنّ الموت يزيد النجاسة ، فلا يجب للأقلّ أكثر مما يجب للأزيد ، ولكن الاعتماد على ذلك أيضاً لا يخلو عن إشكال. وإن لم نسلّم فيدخل تحت ما لا نص فيه أيضاً.

وكيف كان فالأمر على ما اخترناه من عدم الانفعال سهل ، والاحتياط على الطريقة الأُخرى واضح.

الرابعة : ذهب الشيخان (١) والمرتضى(٢) إلى وجوب خمسين للعذرة الرطبة والذائبة وعشر لليابسة.

وقال الصدوق : للعذرة عشر ، فإن ذابت فأربعون أو خمسون (٣) ، واختاره المحقّق (٤) ، وهو الأظهر ، لرواية أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن

__________________

(١) الشيخ المفيد في المقنعة : ٦٧ والشيخ الطوسي في المبسوط ١ : ١٢ ، والنهاية : ٧.

(٢) نقله عنه في المعتبر ١ : ٦٥.

(٣) المقنع (الجوامع الفقهيّة) : ٤.

(٤) المعتبر ١ : ٦٥.

٥٥٦

العذرة تقع في البئر ، فقال : «ينزح منها عشر دلاء ، فإن ذابت فأربعون أو خمسون دلواً» (١). ومثلها رواية عليّ بن أبي حمزة (٢).

والتخيير بين الأقلّ والأكثر يقتضي جواز الاكتفاء بالأقلّ.

ولم نقف على ما يدلّ على القول الأوّل ، إلّا أن تحمل الرواية على ترديد الراوي من جهة النسيان ، فحينئذٍ لا يحصل اليقين بالبراءة إلّا بالخمسين.

ولا ينافي ما ذكرنا رواية كردويه الاتية (٣) ، لتفاوت الموضوع.

وقيل : المراد بالذوبان تحلّل الأجزاء وشيوعها في الماء بحيث يستهلكها (٤) ، والظاهر أنّه يطلق على مجرّد تفرّق الأجزاء وتقطّعها عرفاً. وفي اعتبار ذوبان الجميع أو الاكتفاء بالبعض إشكال ، والأحوط الثاني.

ثم إنّ الرواية خالية عن ذكر الرطبة ، وفي إلحاقها بالذائبة إشكال.

وعن الشيخ (٥) وأتباعه (٦) وجوب الخمسين أيضاً للدم الكثير ، مثل دم ذبح الشاة ، وعن المفيد وجوب خمسة للقليل منه وعشرة للكثير (٧) ، وعن السيد في الدم ما بين الواحد إلى عشرين (٨).

وعن الصدوق وجوب ثلاثين إلى أربعين في الكثير ، ووجوب دلاء يسيرة في القليل (٩) ، وارتضاه في الذكرى (١٠) ، وهو أقرب.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٤٤ ح ٧٠٢ ، الاستبصار ١ : ٤١ ح ١٦ ، الوسائل ١ : ١٤٠ أبواب الماء المطلق ب ٢٠ ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٧ ح ١١ ، الوسائل ١ : ١٤٠ أبواب الماء المطلق ب ٢٠ ح ٢.

(٣) التهذيب ١ : ٤١٣ ح ١٣٠٠ ، الاستبصار ١ : ٤٣ ح ١٢٠ ، الوسائل ١ : ١٣٣ أبواب الماء المطلق ب ١٦ ح ٣.

(٤) المسالك ١ : ١٦.

(٥) المبسوط ١ : ١٢ ، النهاية : ٧.

(٦) منهم ابن البرّاج في المهذّب ١ : ٢٢ ، وأبو الصلاح في الكافي في الفقه : ١٣٠ ، وسلار في المراسم : ٣٠.

(٧) المقنعة : ٦٧.

(٨) نقله عن مصباح السيد في المختلف ١ : ١٩٨.

(٩) المقنع (الجوامع الفقهيّة) : ٤.

(١٠) الذكرى : ١٠.

٥٥٧

أما في القليل فلصحيحة محمّد بن إسماعيل المتقدمة في حجّة القائلين بانفعال البئر (١) ، وموثّقة عمار المتقدّمة في موت الإنسان (٢) وغيرها من الأخبار.

ويدلّ على حكم الكثير والقليل كليهما صحيحة عليّ بن جعفر ، قال : سألته عن رجل ذبح شاة فاضطربت فوقعت في بئر ماء وأوداجها تشخب دماً ، هل يتوضّأ من ذلك البئر؟ قال : «ينزح منها ما بين الثلاثين إلى أربعين دلواً ثم يتوضّأ منها ، ولا بأس به» قال : وسألته عن رجل ذبح دجاجة أو حمامة فوقعت في بئر ، هل يصلح أن يتوضّأ منها؟ قال : «ينزح منها دلاء يسيرة ثم يتوضّأ منها» قال : وسألته عن رجل يستقي من بئر فرعف فيها ، هل يتوضّأ منها؟ قال : «ينزح منها دلاء يسيرة» (٣) والظاهر عدم القول بالفصل بين الدمين المذكورين في هذه الروايات وغيرها.

وربما يلحق غير المذكورات فيها بما لا نصّ فيه ، وأما سائر المذاهب فليس لها ما يمكن الاعتماد عليه.

فاحتجّ الشيخ (٤) لقول المفيد بصحيحة ابن بزيع المتقدّمة (٥) ، بتقريب أنّ أكثر عدد يضاف إلى هذا الجمع عشرة ، فيجب أن يؤخذ به ، إذ لا دليل على ما دونه ، وهو كما ترى ، لعدم ذكر الكثرة في الخبر ، بل الظاهر منه القلّة. ولأنّ هذه الصيغة ليست من صيغ جمع القلّة. ولأنّه لا فرق عند التحقيق عند علماء الأُصول بين جمع القلّة

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥ ح ١ ، التهذيب ١ : ٢٤٤ ح ٧٠٥ ، الاستبصار ١ : ٤٤ ح ١٢٤ ، الوسائل ١ : ١٣٠ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٢١ ، عن البئر تكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شي‌ء من عذرة كالبعرة ونحوها ما الذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقع بخطّه في كتابي : ينزح دلاء منها.

(٢) التهذيب ١ : ٢٣٤ ح ٦٧٨ ، الوسائل ١ : ١٤١ أبواب الماء المطلق ب ٢١ ح ٢.

(٣) الكافي ٣ : ٦ ح ٨ ، الفقيه ١ : ١٥ ح ٢٩ ، التهذيب ١ : ٤٠٩ ح ١٢٨٨ ، الاستبصار ١ : ٤٤ ح ١٢٣ ، الوسائل ١ : ١٤١ أبواب الماء المطلق ب ٢١ ح ١.

(٤) التهذيب ١ : ٢٤٥.

(٥) يعني صحيحة محمد بن إسماعيل المتقدمة.

٥٥٨

والكثرة في احتمال أفراد الجموع ، وفي أنّه يحمل على الأقلّ في مثل هذا الكلام (١).

وإن قيل : مراد الشيخ أنّ الجمع المجرور لا يصير مميزاً إلّا للعشرة فما دون فهي أكثر ما يضاف إليه (٢) ، ففيه أوّلاً : إنّ لفظة هذا تنافي ذلك ، بل الظاهر منه خصوصيّة الجمع. وثانياً : إنّ اتّحاد حكم ما ذكر معه المضاف وما لم يذكر أوّل الكلام.

وأما قول السيد (٣) فقد يستدلّ عليه برواية زرارة المتقدّمة في حكم القطرة من الخمر (٤) ، وهي مقدوحة السند والدلالة (٥).

وقدّر جماعة من الأصحاب القليل بمثل دم ذبح الطير والرعاف القليل ، والكثير بدم ذبح الشاة (٦) ، ولعلّهم استفادوا ذلك من مثل صحيحة عليّ بن جعفر الجامعة بين حكمهما (٧). ويؤيّده الترديد في السؤال عن ذبح دجاجة أو حمامة وجعل حكم الرعاف متحداً معهما فيها.

وعن الراوندي أنّ الاعتبار في ذلك بماء البئر في الغزارة والنزارة (٨) ، وهو غير مستفاد من دليل ، لعدم ذكر القلّة والكثرة في الرواية والاعتماد على استنباط العلّة ضعيف.

__________________

(١) المستصفى من علم الأُصول ١ : ٢٧١.

(٢) المعتبر ١ : ٦٦.

(٣) المنقول في المختلف ١ : ١٦٨.

(٤) التهذيب ١ : ٢٤١ ح ٦٩٧ ، الاستبصار ١ : ٣٥ ح ٩٦ ، الوسائل ١ : ١٣٢ أبواب الماء المطلق ب ١٥ ح ٣.

(٥) لجهالة نوح بن شعيب الخراساني ، إذ لم يذكر في كتب الرجال.

(٦) كما في الشرائع ١ : ٥ ، ٦ ، والمختلف ١ : ١٩٨.

(٧) الكافي ٣ : ٦ ح ٨ ، الفقيه ١ : ١٥ ح ٢٩ ، التهذيب ١ : ٤٠٩ ح ١٢٨٨ ، الاستبصار ١ : ٤٤ ح ١٢٣ ، الوسائل ١ : ١٤١ أبواب الماء المطلق ب ٢١ ح ١.

(٨) نقله عنه الشهيد الثاني في روض الجنان : ١٥٠.

٥٥٩

الخامسة : ذهب الشيخان(١) والمرتضى(٢) وأتباعهم (٣) إلى وجوب أربعين دلواً للثعلب والأرنب والكلب والخنزير ، والسنور والشاة لموثّقة سماعة (٤) ، ورواية عليّ (٥) ، وليس فيهما إلّا الترديد بين الثلاثين والأربعين ، أو مع العشرين أيضاً. ولا دلالة فيها على مطلوبهم.

وقال الصدوق في الفقيه : في الكلب ثلاثون إلى أربعين وفي السنور سبع دلاء ، وفي الشاة وشبهها تسع دلاء إلى عشرة (٦). وفي المقنع : إن وقع فيها كلب أو سنور فانزح ثلاثين دلواً إلى أربعين. وقد روي سبع دلاء ، وإن وقعت في البئر شاة فانزح منها سبع دلاء (٧).

وهذان القولان يستفادان من أخبار متفرّقة (٨) ، وهاهنا أخبار كثيرة معارضة لما ذكر ، ففي بعض الصحاح ما يدلّ على كفاية الخمس (٩) وفي بعضها ما يدلّ على نزح دلاء (١٠) ، وفي بعضها ما يدلّ على نزح الجميع (١١) ، ولكن لا يعهد على ظاهرها عامل ، وهذا كلّه دليل الاستحباب. ولا ريب أنّ الأحوط العمل على الأربعين.

__________________

(١) الشيخ المفيد في المقنعة : ٦٦ ، والشيخ الطوسي في التهذيب ١ : ٢٣٦ ، والمبسوط ١ : ١١ ، والنهاية : ٦.

(٢) نقله عنه في المعتبر ١ : ٦٦.

(٣) منهم أبو الصلاح في الكافي في الفقه : ١٣٠ ، وسلار في المراسم : ٣٥.

(٤) التهذيب ١ : ٢٣٦ ح ٦٨١ ، الاستبصار ١ : ٣٦ ح ٩٨ ، الوسائل ١ : ١٣٥ أبواب الماء المطلق ب ١٧ ح ٤.

(٥) التهذيب ١ : ٢٣٥ ح ٨٦٠ ، الاستبصار ١ : ٣٦ ح ٩٧ ، الوسائل ١ : ١٣٤ أبواب الماء المطلق ب ١٧ ح ٣.

(٦) الفقيه ١ : ١٢.

(٧) المقنع (الجوامع الفقهيّة) : ٤.

(٨) لاحظ الوسائل ١ : ١٣١ أبواب الماء المطلق ب ١٥ ، ١٧ ، ١٨.

(٩) الوسائل ١ : ١٣٥ أبواب الماء المطلق ب ١٧ ح ٧.

(١٠) الوسائل ١ : ١٣٥ أبواب الماء المطلق ب ١٥ ح ٥.

(١١) الوسائل ١ : ١٣١ أبواب الماء المطلق ب ١٥ ح ١.

٥٦٠