غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: عباس تبريزيان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-182-7
الصفحات: ٥٨٤

ولعلّ من يحكم بالنجاسة غفل عن ذلك لما رأى أنّ قوله يُنزّل على الصدق ، وكذا فعله بالنسبة إليه نفسه ، فإذا اجتنب من إنائه وقال إنّه نجس ، ليس لأحد أن يمنعه ويردعه عن ذلك ، ويقال إنّ اجتنابه صحيح ، وقوله صادق ، فحسب أنّ ذلك يثبت النجاسة الواقعيّة ، حتّى يلزم على غيره أيضاً الاجتناب ؛ وانفكاك الأحكام المتلازمة في نظر الظاهر في غاية الكثرة ، ولا ضير فيه.

وقد يستدلّ عليه ببعض الأخبار الواردة في أنّ شراء الخفّ والفراء من سوق المسلمين لا حاجة فيه إلى المسألة (١) حيث يظهر منها أنّ المسألة مثمرة لقبول قول البائع فيما في يده.

وأنت خبير بعدم دلالته أصلاً ، لأنّه إذا قال «غير مذكّى» فهو مطابق لأصالة عدم التذكية ، والذي اعتمدنا عليه في رفع تلك الأصالة هو يد المسلم وقوله ، وقد ارتفع فيما نحن فيه ، إذ فعله ليس أقوى من قوله.

وإذا قال «إنّه مذكّى» فهو إنّما يقبل لأنّه قول منه لا يوجب ضرراً ولا تكليفاً على الغير ولا معارض له أيضاً ، ومن ذلك يظهر أنّ إخبار ذي اليد كافٍ في الطهارة وإن علمت النجاسة قبله ، بل الظاهر قبول قول المسلم في تطهير ثوب غيره أيضاً كالتذكية.

وتؤيّده حسنة ميسر قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أمر الجارية فتغسل ثوبي من المني ، فلا تبالغ في غسله ، فأُصلي فيه ، فإذا هو يابس ، قال : «أعد صلاتك ، أما إنّك لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شي‌ء» (٢) وللزوم العسر والحرج العظيم لولا ذلك.

ولعلّ من قيّد قبول النجاسة بما قبل استعمال الغير نظر إلى بعض ما ذكرنا ، ولكنه لم يستوفِ التحقيق.

وأما من اشترط بيان سبب النجاسة ، فقد أصاب في المختلف فيه من النجاسات.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٧١ أبواب النجاسات ب ٥٠.

(٢) الكافي ٣ : ٥٣ ح ٢ ، التهذيب ١ : ٢٥٢ ح ٧٢٦ ، الوسائل ٢ : ١٠٢٤ أبواب النجاسات ب ١٨ ح ١.

٤٨١

التاسع : المعروف من مذهب الأصحاب بحيث لا يعرف خلاف بينهم أنّ الأرض تطهّر باطن الخفّ والنعل والقدم ويظهر من العلامة في بعض كتبه استشكال في القدم (١) ، ولا وجه له ، لدلالة الأخبار عليه.

والأصل في هذا الحكم الصحاح المستفيضة وغيرها ، ومنها روايتا محمّد الحلبي المتقدّمتان في وجوب إزالة النجاسة عن المساجد (٢).

وحسنة المعلّى بن خنيس قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخنزير يخرج من الماء فيمر على الطريق فيسيل منه الماء أمرّ عليه حافياً ، فقال : «أليس وراءه شي‌ء جاف؟» قلت : بلى ، فقال : «لا بأس ، إنّ الأرض يطهّر بعضها بعضاً» (٣) وهذه العبارة واردة في حسنة محمّد بن مسلم المرويّة في الكافي أيضاً (٤).

والأظهر في تفسيرها أنّ المراد بالبعض الأخير : هو الأجزاء المخلوطة بالنجاسة منها ، والمراد من تطهيرها : تطهير محلّها ، كما في قولك : «الماء يطهر البول» فمراد الإمام عليه‌السلام بيان طهارة الرجل والخفّ وغيرهما مما لاقى النجاسة ولصقت بها النجاسة المخلوطة بأجزاء الأرض ، لا تطهير نفس تلك الأجزاء الصغار ، كما فهمه بعضهم ، وقال : إنّ الإزالة والإحالة والتجفيف بالوطء عليها مرّة بعد اخرى ، وانتقال بعضها إلى بعض يوجب تطهير ذلك البعض (٥).

وهو مشكل ، لأنّ إرادة تطهير الأجزاء الأرضيّة دون الرجل والخفّ ونحوهما غير ظاهر من الأخبار ، سيّما من غير حسنة محمّد بن مسلم ، بل إنّما سيقت لأجل ذلك ،

__________________

(١) التحرير ١ : ٢٥ ، المنتهي ٢ : ٢٨٥.

(٢) الكافي ٣ : ٣٨ ح ٣ ، مستطرفات السرائر ٣ : ٥٥٥ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٧ أبواب النجاسات ب ٣٢ ح ٤ ، ٩.

(٣) الكافي ٣ : ٣٩ ح ٥ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٧ أبواب النجاسات ب ٣٢ ح ٣.

(٤) الكافي ٣ : ٣٨ ح ٢ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٧ أبواب النجاسات ب ٣٢ ح ٢.

(٥) المفاتيح ١ : ٧٩ ، الوافي ٦ : ٢٢٥ ، الحبل المتين : ١٢٧.

٤٨٢

وإرادة كليهما معاً يوجب إرادة المعنيين : الحقيقي والمجازي ، وهو خلاف التحقيق.

والحاصل : أنّ الظاهر من الكلام : هو أنّ الأرض تزيل حكم نجاسة الرجل وأخويها الحاصلة بسبب الأجزاء المتنجّسة منها ، كما أنّ الحجر والخرق يذهب حكم النجاسة من العجان ، كما يشير إليه صحيحي زرارة (١) ، فيشكل استفادة تطهير تلك الأجزاء بذلك ، إلّا أنّ استهلاكها في الأرض وعدم تميّزها يلحق مواضع الأقدام بالمشتبه بالنجس ، ولا يحكم بنجاسة ملاقيه ، لعدم تميّزها ، لا لحصول الطهارة بها. فحينئذٍ يشكل جواز السجود عليها والتيمّم بها.

وأما حسنة محمّد بن مسلم فلا ارتباط لهذا الكلام فيها بما قبله ، ولعلّها سقط منها شي‌ء يوجب إفادة ذلك.

ثم إنّ الظاهر كفاية المسح ، ولا يحتاج إلى المشي. والتحديد بمشي خمسة عشر ذراعاً موافقاً لصحيحة الأحول لا وجه له ، لما في صحيحة زرارة : «ولكنه يمسحهما حتّى يذهب أثرها».

وفي صحيحة أُخرى : «يجوز أن يمسح رجليه ولا يغسلهما» (٢) مع أنّه ذكر في صحيحة الأحول بعد ذلك : «أو نحو ذلك» (٣) ، فالمراد بيان ما يزيل غالباً.

وظاهرهم عدم اشتراط الجفاف قبل الدلك ، بل الظاهر من الأخبار هو ما كانت رطبة ، واستفادة حكم اليابس مشكل ، وصحيحة زرارة وإن كانت مطلقة إلّا أنّها

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٦ ح ١٢٩ ، الوسائل ١ : ٢٤٦ أبواب أحكام الخلوة ب ٣٠ ح ٣ ، قال : جرت السنّة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان ولا يغسله ، ويجوز أن يمسح رجليه ولا يغسلهما ، والثاني في التهذيب ١ : ٢٧٥ ح ٨٠٩ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٨ أبواب النجاسات ب ٣٢ ح ٧ قلت لأبي جعفر (ع) : رجل وطأ على عذرة فساخت رجله فيها ، أينقض ذلك وضوءه ، وهل يجب عليه غسلها؟ فقال : لا يغسلها إلّا أن يقذرها ، ولكنه يمسحها حتى يذهب أثرها ويصلّي.

(٢) تقدّمت الإشارة إليهما.

(٣) الكافي ٣ : ٣٨ ح ١ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٦ أبواب النجاسات ب ٣٢ ح ١ ، قال في الرجل يطأ على الموضع الذي ليس بنظيف ثم يطأ بعده مكاناً نظيفاً فقال : لا بأس إذا كان خمسة عشر ذراعاً أو نحو ذلك.

٤٨٣

ظاهرة في ذات الجرم الرطبة بقرينة مقابلتها لحكم الاستنجاء من الغائط ، إلّا أنّ الظاهر عدم الخلاف.

وفي اشتراط طهارة الأرض إشكال ، وصرّح جماعة باشتراطها (١) ، ولا تخلو رواية الأحول من إشعار ما من حيث احتمال التقرير ، ويعضده الاستصحاب ، لعدم انصراف الإطلاقات إلى النجس ، لأنّ الغالب في المطهّرات الشرعيّة هو الطاهر إن لم نقل باستفادة اشتراط الطهارة في أوّل الأمر من الاستقراء في جميع أبوابها.

وكذلك في اشتراط الجفاف إشكال ، ولا دلالة في حسنة المعلّى بن خنيس على ذلك ، لأنّ الظاهر أنّ المراد من الجفاف عدم التلوّث بالماء المتقاطر من الخنزير.

وبالجملة الظاهر أنّ النداوة القليلة غير مضرّة. إنّما الإشكال في الوحل ، سيّما مع عدم صدق الأرض عليه ، والمتبادر من المسح أيضاً هو على غير الوحل ، إلّا أنّ لزوم العسر والحرج سيّما في فصل الشتاء يؤيّد ذلك ، ولا ينبغي ترك الاحتياط.

ويظهر من ذلك الإشكال في كفاية الحجر والشجر والخزف (٢) وغيرها ، وقيد الأرض وإن كان وارداً مورد الغالب ، ولكن إطلاق المسح أيضاً ينصرف إلى ذلك.

ولا فرق بين أقسام الخفّ والنعل ، من خشب كان أو من جلد أو من خرقة أو غير ذلك ، وإن لم يصرّح ببعضها في الأخبار. ولا يفهم منها مثل الجورب.

وألحق جماعة بذلك خشبة الأقطع (٣) وفي القبقاب إشكال. وأما إلحاق أسفل العصا وكعب الرمح ونحوهما فلا وجه له.

العاشر : المشهور أنّ الشمس تطهّر ما تجففه من البول والنجاسات التي لا جرم لها أو لم يبق منها إلّا نداوتها ، في الأرض والبواري والحصر والأبنية

__________________

(١) نقله عن ابن الجنيد وقال لا بأس به في المدارك ٢ : ٣٧٤.

(٢) في «م» : الخرق.

(٣) كصاحب المدارك ٢ : ٣٧٥.

٤٨٤

والنباتات ونحوها (١).

وخصّصه بعضهم بالبول (٢) ، وبعضهم بالأرض وتالييها (٣).

وعن القطب الراوندي أنّه يجوز السجود على الأرض وتالييها إذا أصابها البول وجفّفته الشمس وإن لم تجز ملاقاتها مع الرطوبة (٤) ، ونقله بعضهم عن صاحب الوسيلة (٥) ، ومال إليه بعض المتأخّرين (٦).

والأقوى الأوّل ، للإجماع ، نقله الشيخ في الخلاف (٧) ، والصحاح المستفيضة (٨) ، وموثّقة عمار (٩) ، ورواية أبي بكر الحضرمي (١٠).

فروى زرارة في الصحيح قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن البول يكون على السطح أو في المكان الذي أُصلي فيه ، فقال : «إذا جفّفته الشمس فصلّ عليه فهو طاهر» (١١).

ودلالتها على المطلوب إما من جهة إطلاق الأمر بالصلاة عليه الشامل لما كان أعضاؤه رطبة ، ولجواز السجود عليها ؛ مع أنّا سنبيّن إن شاء الله تعالى اشتراط

__________________

(١) الخلاف ١ : ٢١٨ مسألة ١٨٦ ، الشرائع ١ : ٤٧ ، المنتهي ٢ : ٢٧٤ ، الذكرى : ١٥ ، التنقيح الرائع ١ : ١٥٥ ، روض الجنان : ١٦٩.

(٢) المقنعة : ٧١ ، المبسوط ١ : ٩٣.

(٣) الخلاف ١ : ٤٩٥ ، ولكن كلامه في خصوص الحصر والبواري.

(٤) نقله عنه في المختلف ١ : ٤٨٢ ، والذكرى : ١٥.

(٥) الوسيلة : ٧٩ ، قال : وإن كانت يابسة وجفّفتها الشمس جاز الوقوف عليها والسجود إذا كانت الجبهة يابسة.

(٦) المعتبر ١ : ٤٤٦.

(٧) الخلاف ١ : ٢١٩.

(٨) الوسائل ٢ : ١٠٤٢ أبواب النجاسات ب ٢٩.

(٩) التهذيب ١ : ٢٧٢ ح ٨٠٢ ، وج ٢ : ٣٧٢ ح ١٥٤٨ وفيه : وإن كان عين الشمس أصابه ، وأشار في الهامش إلى نسخة موافقة ، الاستبصار ١ : ١٩٣ ح ٦٧٥ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٢ أبواب النجاسات ب ٢٩ ح ٤.

(١٠) التهذيب ١ : ٢٧٣ ح ٨٠٤ ، الاستبصار ١ : ١٩٣ ح ٦٧٧ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٣ أبواب النجاسات ب ٢٩ ح ٥.

(١١) الفقيه ١ : ١٥٧ ح ٧٣٢ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٢ أبواب النجاسات ب ٢٩ ح ١.

٤٨٥

صحّة السجود بطهارة المحلّ ، وأنّه لا يكفي ما ذهب إليه الراوندي رحمه‌الله.

وإما من جهة قوله عليه‌السلام : «فهو طاهر» فإنّ الظاهر ثبوت الحقيقة الشرعيّة. سلّمنا لكن القرينة قائمة على إرادة المعنى الشرعي لكمال بُعد إرادة اللغوي.

وإطلاق صحيحته الأُخرى (١) وصحيحة عليّ بن جعفر (٢) مع ترك الاستفصال أيضاً يكفي في الاستدلال.

ومطلق الجفاف واليبس فيها مقيّد بمفهوم الصحيحة الأُولى. وفي معناها موثّقة أُخرى لعمّار أيضاً (٣).

وأخذ على ظاهر هذه الأخبار الراوندي ، مستنداً بأنّ جواز الصلاة عليها لا يدلّ على طهارتها. ويؤيّده أنّ عليّ بن جعفر الراوي لهذه روى أيضاً جواز الصلاة مع الجفاف بدون الشمس (٤).

ويدلّ عليه أيضاً صحيحة محمّد بن إسماعيل قال : سألته عن الأرض والسطح يصيبه البول وما أشبهه ، هل تطهّره الشمس من غير ماء؟ قال : «كيف يطهر من غير ماء» (٥).

والجواب عن استدلاله بظاهر الصحاح المتقدّمة : أنّ الإطلاق الشامل لما كانت الأعضاء رطبة ، وترك الاستفصال يناقض مذهب الراوندي ، ويوافق ما ذهبنا إليه.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩٢ ح ٢٣ ، التهذيب ٢ : ٣٧٦ ح ١٥٦٧ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٢ أبواب النجاسات ب ٢٩ ح ٢ ، عن الصلاة على السطح يصيبه البول ، قال : إن كان تصيبه الشمس والريح وكان جافّاً فلا بأس به.

(٢) التهذيب ١ : ٢٧٣ ح ٨٠٣ ، وج ٢ : ٣٧٣ ح ١٥٥١ ، الاستبصار ١ : ١٩٣ ح ٦٧٦ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٢ أبواب النجاسات ب ٢٩ ح ٣ ، عن البواري يصيبها البول هل تصلح للصلاة إذا جفّت من غير أن تغسل؟ قال : نعم لا بأس.

(٣) الفقيه ١ : ١٥٨ ح ٧٣٨ ، التهذيب ٢ : ٣٧٠ ح ١٥٣٩ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٤ أبواب النجاسات ب ٣٠ ح ٥ ، عن البارية يبلّ قصبها بماء قذر هل تجوز الصلاة عليها؟ فقال : إذا جفّت فلا بأس بالصلاة عليها.

(٤) الفقيه ١ : ١٥٨ ح ٧٣٦ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٣ أبواب النجاسات ب ٣٠ ح ١ ، عن البيت والدار لا تصيبهما الشمس ويصيبهما البول ويغتسل فيهما من الجنابة أيصلّى فيهما إذا جفّا؟ قال : نعم.

(٥) التهذيب ١ : ٢٧٣ ح ٨٠٥ ، الاستبصار ١ : ١٩٣ ح ٦٧٨ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٣ أبواب النجاسات ب ٢٩ ح ٧.

٤٨٦

سلّمنا ، لكن صحيحة زرارة الاولى مع رواية أبي بكر المنجبر ضعفها بعمل الأصحاب معتضدتين بالشهرة والإجماع المنقول.

وعموم ما دلّ على طهوريّة التراب واليسر ونفي العسر والحرج وموافقتها للأصل يكفي في المطلوب.

مع أنّ صحيحة زرارة أوضح دلالة ، ومن أصدع بالحقّ من زرارة ، والمروي عنه الباقر عليه‌السلام. وصحيحة ابن بزيع مع أنّها مضمرة هنا ، فهو يروي غالباً عن الكاظم أو الرضا عليهما‌السلام (١) ، وأخبارهما أقرب إلى التقيّة من أخبار الباقر عليه‌السلام ، كما لا يخفى على المطّلع. مع أنّه موافق لمذهب جماعة من العامّة (٢) ، فيحمل على التقيّة.

ولها محمل سديد يمكن أن يجعل ذلك مدلولها ، وهو أنّه لعلّه سئل عما جفّ بدون الشمس ، فسئل أنّه هل يكفي إشراق الشمس عليه من دون أن يصبّ عليه الماء حتّى يبتلّ فتجفّفه الشمس ، فقال عليه‌السلام : «كيف يطهر من غير ماء؟» وإلّا فلا حاجة إلى قوله من غير ماء في السؤال ولا في الجواب.

وأما موثّقة عمار ، فإن أخذناها على ما رواه في الاستبصار وبعض نسخ التهذيب ونقله بعضهم في الكتب الاستدلاليّة ، حيث قال عليه‌السلام : «وإن كان غير الشمس أصابه حتّى يبس فإنّه لا يجوز ذلك» وجعلنا كلمة «إن» وصليّة فهو صريح في مذهبنا ، وإن أخذناها على ما في بعض نسخ التهذيب ، حيث روى فيها : «وإن كان عين الشمس» بالعين المهملة والنون ، فهو على مذهبهم أدلّ ، غاية الأمر تعارض الاحتمالين وترك هذه الموثّقة لتهافتها وتشابهها ، ولا يضرّنا أصلاً.

ثم إنّ رواية أبي بكر عامّة ، فإنّ الباقر عليه‌السلام قال : «يا أبا بكر ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر» فيشمل البول وغيره ، والأرض وغيرها ، خرج ما خرج

__________________

(١) انظر معجم رجال الحديث ٣ : ١١٤.

(٢) الام ١ : ٥٢ ، الهداية ١ : ٣٥.

٤٨٧

بالدليل. واشتهار العمل بمضمونها يجبر ضعفها ، فلا يبعد العمل على عمومها فيما بقي ، مع أنّ في إحدى صحيحتي عليّ بن جعفر عليه‌السلام سئل عن قصب البوريا المبتلّ بالماء القذر ، ولا قائل بالفصل ، وموثّقة عمّار أيضاً تشمل البول وغيره.

ثم إنّ المشهور بين المتأخّرين : أنّه إذا جفّ المكان بغير الشمس ثم صُبّ عليه ماء غير مطهّر له ثم جفّفته الشمس يكفيه ، وهو كذلك ، لما مرّ.

وعن جماعة منهم أنّ باطن الجدار يطهر بإشراق الشمس على ظاهره إذا كانت الرطوبة متصلة (١) ، وهو ظاهر الأدلّة ، وأما طهارة الباطن بدون اتصال نجاستها ورطوبتها بالظاهر فلا دليل عليه.

ثم إنّ مذهب الجمهور أنّ الجفاف بغير الشمس من الهواء والأرياح لا يثمر التطهير ، للأصل ، ونقل عليه العلامة الإجماع (٢).

وعن الشيخ في الخلاف : الأرض إذا أصابتها نجاسة مثل البول وما أشبهه وطلعت عليها الشمس أو هبّت عليها الرياح حتّى زالت عين النجاسة فإنّها تطهر ، ويجوز السجود عليها والتيمّم بترابها ، وإن لم يطرح عليها الماء. واحتجّ بإجماع الفرقة (٣) ، ولكنه قال في موضع آخر منه : فإن جفّ بغير الشمس لم يطهر (٤).

وظنّي أنّ نظر الشيخ إلى صحيحة زرارة عن الصادق عليه‌السلام : السطح يصيبه البول ويبال عليه ، أيصلّى في ذلك الموضع؟ فقال : «إن كان تصيبه الشمس والريح وكان جافاً فلا بأس به ، إلّا أن يكون يتخذ مبالاً» (٥) فتكون «أو» في كلامه بمعنى الواو ، أو للتقسيم ، فإنّ الظاهر عدم اشتراط الاستقلال للشمس بذلك ، بل لا يمكن ذلك غالباً.

__________________

(١) المهذب البارع ١ : ٢٥٧ ، جامع المقاصد ١ : ١٧٨ ، الذخيرة : ١٧١ ، الكفاية : ١٤.

(٢) المنتهي ٢ : ٢٧٨.

(٣) الخلاف ١ : ٢١٨ ولكن فيه : وهبّت ، مكان : أو هبّت.

(٤) الخلاف ١ : ٤٩٥.

(٥) الكافي ٣ : ٣٩٢ ح ٢٣ ، التهذيب ٢ : ٣٧٦ ح ١٥٦٧ ، الوسائل ٢ : ١٠٤٢ أبواب النجاسات ب ٢٩ ح ٢.

٤٨٨

الحادي عشر : تطهّر النار ما أحالته رماداً من الأعيان النجسة للإجماع المنقول في الخلاف (١) ، وصحيحة الحسن بن محبوب : أنّه سأل أبا الحسن عليه‌السلام عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ويجصّص به المسجد ، أيسجد عليه؟ فكتب إليه بخطه : «إنّ الماء والنار قد طهّراه» (٢).

والأظهر أنّ المراد من تطهير الماء هو التطهير بماء المطر وغيره عما يتوهّم وصوله إليه من النجاسات من غير جهة العذرة أيضاً ، لئلا يلزم استعمال اللفظ في المعنيين الحقيقي والمجازي.

ويدلّ على المطلوب من باب الإشارة أيضاً حيث لم يمنع عن تجصيص المسجد به ، وحينئذٍ فيمكن حمل التطهير فيها على المعنى المجازي ، أعني التنظيف.

وأما إرادة التطهير من نجاسة العذرة بالماء الذي يمزج بالجص فلا تستقيم إجماعاً كما نقله في المعتبر (٣) ويدلّ عليه أيضاً أنّ الأحكام تابعة للأسامي.

وكذلك الكلام في الدخان ، ويظهر من المعتبر الإجماع أيضاً ، وعن المبسوط القول بنجاسة دخان الدهن النجس ، لتصاعد الأجزاء الدهنيّة قبل الإحالة بواسطة السخونة (٤). وفيه تأمّل واضح فيما لم يحصل العلم بذلك ، وأنّى يحصل؟ هذا الكلام في الأعيان النجسة.

وأما المتنجّسة ، فألحقه بعضهم بالنجس ، نظراً إلى الأولويّة (٥) ، وفيه تأمّل. نعم الأظهر عدم نجاسة ملاقية رطباً ، للأصل والاستصحاب.

__________________

(١) الخلاف ١ : ٤٩٩ مسألة ٢٣٩ ، ويظهر أيضاً من المبسوط ٦ : ٢٨٣.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٣٥ ح ٩٢٨ ، الفقيه ١ : ١٧٥ ح ٨٢٩ ، الوسائل ٢ : ١٠٩٩ أبواب النجاسات ب ٨١ ح ١.

(٣) المعتبر ١ : ٤٥٢.

(٤) المبسوط ٦ : ٢٨٣ ، قال : ورووا أصحابنا أنّه يستصبح به تحت السماء دون السقف ، وهذا يدلّ على أنّ دخانه نجس. ولكن قال بعده : الأقوى عندي أنّه ليس بنجس.

(٥) معالم الفقه : ٤٠٣ ، ونقله عنه في الحدائق ٥ : ٤٦٢.

٤٨٩

وأما الفحم ، فألحقه بعضهم بالرماد (١) وتوقّف بعضهم (٢) ، والإلحاق لا يخلو عن رجحان ما.

وأما الخزف ففيه قولان ، أوّلهما لجماعة منهم الشيخ في الخلاف مدّعياً عليه الإجماع (٣) ، والثاني لجماعة (٤) للاستصحاب ، وتوقّف فيه بعضهم (٥) ، والثاني أرجح لو لم يثبت الإجماع.

وأما خبز العجين النجس فلا يطهّره على المشهور (٦) ، للاستصحاب ، وصحيحتي ابن أبي عمير (٧).

وذهب الشيخ في الاستبصار إلى الطهارة (٨) ، لصحيحة ابن أبي عمير (٩) ، ورواية عبد الله بن الزبير (١٠) ، وهما لا يقاومان ما مرّ. مع أنّ لهما محملاً ظاهراً ، ويبنى الاستدلال بالرواية الثانية على نجاسة ماء البئر بالملاقاة ، وهو خلاف التحقيق

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ١٧٩.

(٢) روض الجنان : ١٧٠ ، المقاصد العليّة : ٩٩ ، معالم الفقه : ٤٠٣.

(٣) الخلاف ١ : ٤٩٩.

(٤) روض الجنان : ١٧٠ ، الروضة البهيّة ١ : ٣١٥.

(٥) المعتبر ١ : ٤٥٢ ، المنتهي ٢ : ٢٨٨ ، المدارك ٢ : ٣٦٩ ، الكفاية : ١٤.

(٦) التهذيب ١ : ٤١٤ ، النهاية : ٥٩٠ ، المعتبر ١ : ٤٥٣ ، المنتهي ٢ : ٢٨٩ ، المدارك ٢ : ٣٦٩.

(٧) التهذيب ١ : ٤١٤ ح ١٣٠٥ ، ١٣٠٦ ، الاستبصار ١ : ٢٩ ح ٧٦ ، ٧٧ ، الوسائل ١ : ١٧٤ أبواب الأسآر ب ١١ ح ١ ، ٢ ، في العجين يعجن من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال : يباع ممن يستحلّ أكل الميتة ، وفي الأُخرى : يدفن ولا يباع.

(٨) الاستبصار ١ : ٢٩ ، ٣٠.

(٩) الفقيه ١ : ١١ ح ١٩ ، التهذيب ١ : ٤١٤ ح ١٣٠٤ ، الاستبصار ١ : ٢٩ ح ٧٥ ، الوسائل ١ : ١٢٩ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٨ ، محمّد بن أبي عمير عمن رواه عن أبي عبد الله (ع) في عجين عجن وخبز ثم علم أنّ الماء فيه ميتة قال : لا بأس أكلت النار ما فيه.

(١٠) التهذيب ١ : ٤١٣ ح ١٣٠٣ ، الاستبصار ١ : ٢٩ ح ٧٤ ، الوسائل ١ : ١٢٩ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٧ ، عن البئر يقع فيها الفأرة أو غيرها من الدواب فيموت فيعجن من مائها أيؤكل ذلك الخبز؟ قال : إذا أصابته النار فلا بأس بأكله.

٤٩٠

كما سيجي‌ء.

ومن قبيل الاستحالة بالنار الاستحالة بغيرها أيضاً ، كصيرورة العذرة تراباً أو دوداً على المشهور بين الأصحاب (١). وعن بعضهم المنع في الأوّل (٢) ، وعن بعضهم التوقّف في الأوّل (٣).

لنا : عمومات ما دلّ على طهارة التراب وطهوريته ، وما دلّ على طهارة الحيوانات ، وخصوص ما ورد في دود الكنيف كما مرّ (٤). والأحكام تابعة للأسامي فلا مجال للتمسّك بالاستصحاب.

والتحقيق أنّ تغيّر الاسم فقط لا يجزئ ، فإن طحن الحنطة المتنجّسة لا يطهّرها مع تغيّر الاسم ، وكذلك لا تطهر المسكة (٥) المأخوذة من اللبن المتنجّس ، ولا الجبن الحاصل منه ، وهكذا.

بل المعتبر تغيّر الحقيقة أيضاً ، فحقيقة الحنطة وخواصها الثابتة لها من حيث إنّها حنطة من التقوّت بها والطعم والرائحة ونحوها لا تتفاوت بالطحن والخبز وجعله جريشاً وتوابل ، بخلاف ما لو احترق وصار رماداً. وكذلك الزنجبيل المسحوق والمنضوح ونحوهما.

فالمراد أنّ الحكم ثابت له ما لم يخرج عن حقيقة مصداق هذا الاسم وماهيته ، وإن لم يصدق عليه الاسم حقيقة ، فالإشكال المتقدّم في الفحم والخزف إنّما هو من جهة الشك في الخروج عن الحقيقة وعدمه. والأظهر في الأوّل الخروج دون الثاني.

__________________

(١) المبسوط ١ : ٣٢ ، المعتبر ١ : ٤٥٢ ، المنتهي ٢ : ٢٨٨ ، المدارك ٢ : ٣٦٩.

(٢) المبسوط ١ : ٩٣.

(٣) القواعد ١ : ١٩٥.

(٤) الوسائل ٢ : ١٠٩٩ أبواب النجاسات ب ٨٠.

(٥) المسكة في اللغة هي الجلدة وقد يعني بها هنا القشطة ، ويحتمل أن يريد به اللبن المخيض والأوّل أولى.

٤٩١

وأما صيرورة الكلب ملحاً والعذرة الواقعة في البئر حمأة ، ففيه أيضاً قولان (١) ، وتوقّف بعضهم (٢) ، والأقرب الطهارة ، لعمومات ما دلّ على حلّيّة ما عدا أشياء مخصوصة ، ولضعف الاستصحاب لتبدل الحقيقة والاسم.

وهذا إنّما يتمّ لو فرض ماء المملحة كرّاً ، وإلّا فلا مطهّر للأرض والماء. وفي صورة الكريّة أيضاً يحتاج إتمام المطلب إلى اعتبار تعارض الاستصحابين في بعض الأحيان ، كما لو صار جميع الماء مع الكلب ملحاً ، فلم يعلم تقدّم استحالة الكلب على قصور الماء عن الكريّة بسبب استحالة بعضه ملحاً.

ومن هذا الباب استحالة النطفة حيواناً طاهراً ، والماء والعلف النجسين بولاً وروثاً لحيوان مأكول ، والدم النجس قيحاً ، ونحو ذلك.

وأما انتقال الدم إلى جوف البق والبعوض والقراد ونحو ذلك ، فالظاهر أنّه من أجل عدم صدق الاسم فقط ، فهو في العرف دم البق والقمل والبعوض والقراد مثلاً ، لا دم الإنسان ، ودم ما لا نفس له طاهر ، فالطهارة حينئذٍ إنّما هي لتغيّر الحكم بالشرع بسبب تغيّر الاسم يعني أنّ الشارع نصّ على تفاوت الحكم بتفاوت الاسمين ، وهذا غير تغيّر الحكم بمجرّد الاستحالة.

ويقع الإشكال في مثل العلق (٣).

وأما انقلاب الخمر خلاً ، ففي جعله من باب الاستحالة إشكال ، للتردد في تغيّر الحقيقة ، ولكنه لا إشكال في أصل الحكم ، للإجماع ، والأخبار المعتبرة المستفيضة.

ثم إنّه لا إشكال كما لا خلاف في حلّه إذا انقلب بنفسه ، وكذا لا إشكال إذا

__________________

(١) ذهب إلى القول بعدم الطهارة المحقّق في المعتبر ١ : ٤٥١ ، والعلامة في المنتهي ٢ : ٢٨٧ ، وإلى القول بالطهارة الكركي في جامع المقاصد ١ : ١٨١ ، وصاحب الحدائق ٥ : ٤٧٢.

(٢) القواعد ١ : ١٩٥.

(٣) العلق : جمع علقة ، وهي دودة في الماء تمصّ الدم (منه رحمه‌الله).

٤٩٢

انقلب بعلاج ، ونقل عليه الإجماع في الانتصار (١). وتدلّ عليه الأخبار المعتبرة ، وصحيحة عبد العزيز بن المهتدي مصرّحة به (٢) ، وحسنة زرارة أيضاً كالصريحة ، فإن جعل الخمر خلّا ظاهر في العلاج ، سيّما في العتيقة منها ، كما سئل عنها في الحسنة (٣) ، وكذلك موثّقتا عبيد بن زرارة لابن بكير (٤) ، فلا وجه لتوقّف الشهيد الثاني وحكمه بعدم ما يدلّ عليه من الأخبار المعتبرة بالخصوص (٥).

ولكن لا بأس بالقول بالكراهة ، لصحيحة أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام : سئل عن الخمر يجعل فيها الخل فقال : «لا إلّا ما جاء من قِبَل نفسه» (٦) ، فإنّ ظاهرها مهجور عند الأصحاب ، فيحمل على الكراهة ، وكذلك موثّقته لابن بكير ، بل لا تدلّ هذه إلّا على الكراهة (٧).

وكذلك المشهور الأقوى المدّعى عليه الإجماع بالعموم من السيد أنّه لا فرق بين ما لو كان المعالج به مائعاً أو جامداً ، باقياً أو هالكاً.

وما قيل باشتراط عدم بقاء العين المعالج بها لأنّها تتنجّس ، والانقلاب إنّما يطهّر الخمر ، ولا مطهّر للعين المعالج بها ، فتستصحب النجاسة ، وينجس الخل أيضاً (٨) ،

__________________

(١) الانتصار : ٢٠٠.

(٢) التهذيب ٩ : ١١٨ ح ٥٠٩ ، الاستبصار ٤ : ٩٣ ح ٣٥٩ ، الوسائل ١٧ : ٢٩٧ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣١ ح ٨.

(٣) الكافي ٦ : ٤٢٨ ح ٢ ، الوسائل ٢ : ١٠٩٨ أبواب النجاسات ب ٧٧ ح ١ ، عن الخمر العتيقة تجعل خلاً. قال : لا بأس.

(٤) الكافي ٦ : ٤٢٨ ح ٣ ، الوسائل ٢ : ١٠٩٨ أبواب النجاسات ب ٧٧ ح ٢ ، التهذيب ٩ : ١١٧ ح ٥٠٧ ، الاستبصار ٤ : ٩٣ ح ٣٥٧ ، الوسائل ١٧ : ٢٩٧ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣١ ح ٥.

(٥) المسالك (الطبعة الحجريّة) ٢ : ٢٣٥.

(٦) التهذيب ٩ : ١١٨ ح ٥١٠ ، الاستبصار ٤ : ٩٣ ح ٣٦٠ ، الوسائل ١٧ : ٢٩٧ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣١ ح ٧.

(٧) الكافي ٦ : ٤٢٨ ح ٤ ، التهذيب ٩ : ١١٧ ح ٥٠٦ ، الاستبصار ٤ : ٩٤ ح ٣٦١ إلّا أنّ الرواية فيه عن عبيد بن زرارة ، الوسائل ١٧ : ٢٩٦ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣١ ح ٤.

(٨) نقله في المنتهي ٣ : ٢٢١ ، وانظر كشف اللثام ١ : ٥٨.

٤٩٣

ضعيف ، لأنّ هذا الإشكال مقلوب عليه ، فما يذوب فيها ويستهلك كالملح يتنجّس أيضاً.

سلّمنا عدم الورود بتقريب ادعاء أنّه حينئذٍ خمر عرفاً لا غير فيطهر بالانقلاب ، لكن ما ذكرنا من الأدلّة يشمله بعمومه ، ولا يجتمع الحكم بطهارة الخل مع بقاء العين المعالج بها على نجاستها. ويؤيّده ما يدلّ على طهارة الأشياء المودعة في العصير قبل ذهاب الثلثين ، وحكمهم بحلّيّة المليّن وإن خرج الخليط كلُبّ اللوز والجوز والنشا (١) قبل ذهاب الثلثين.

وقد نوقض على هذا القائل بطهارة الانية ، وهو غريب ، لأنّ قول الشارع بطهر الخمر وحلّه يدلّ على طهارة الانية تبعاً بالإشارة ، لعدم الانفكاك عقلاً ، بخلاف ما نحن فيه.

فالاعتماد إنّما هو على الإطلاقات والعمومات والخصوصات ، سيّما صحيحة عبد العزيز ، عن الرضا عليه‌السلام قال : كتبت إليه جعلت فداك العصير يصير خمراً فيصبّ عليه الخل وشي‌ء يغيّره حتّى يصير خلاً قال : «لا بأس» (٢) فلم يستفصل (٣) الإمام عليه‌السلام وحكم بالحلّ عموماً.

تذنيب :

لو القي في الخل خمر قليل فاستهلكت فيه ، فلا ريب أنّه يتنجّس ، ولا يطهر بذلك ، خلافاً لأبي حنيفة (٤) ولكن الإشكال فيما لو بقي إلى زمان ينقلب فيه الخمر خلاً ، والمشهور الأقوى عدم التطهير ، لأنّه لا يبقى حينئذٍ خمر عرفاً حتّى يقال إنّ

__________________

(١) النشا ما يعمل من الحنطة فارسي معرب وأصله نشاسته. انظر المصباح المنير ٢ : ٣١٢.

(٢) التهذيب ٩ : ١١٨ ح ٥٠٩ ، الاستبصار ٤ : ٩٣ ح ٣٥٩ ، الوسائل ١٧ : ٢٩٧ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣١ ح ٨.

(٣) في «ز» : يفصّل.

(٤) نقله في المختلف (الطبعة الحجريّة) ٢ : ١٣٦.

٤٩٤

الخمر انقلب خلاً ، بل ليس هنا إلّا خل متنجّس ، وبقاء الخل المتنجّس لا يوجب تطهيره.

وما يتوهّم من إلحاقه بالعين المعالج بها ، فهو ضعيف ، لعدم الإطلاق عرفاً. وأضعف منه جعله أولى لكونه أقوى من الأعيان المعالج بها.

وعن الشيخ (١) وابن الجنيد (٢) القول بالطهارة بمضيّ زمان ينقلب فيه الخمر خلاً مستنداً إلى موثّقة أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام : عن الخمر يصنع فيها الشي‌ء حتّى تحمض فقال : «إذا كان الذي وضع فيها (٣) هو الغالب على ما صنع فيه فلا بأس به» (٤) ولا دلالة فيها على المدّعى ، والأولى حملها على التقيّة.

الثاني عشر : من جملة المطهّرات الإسلام ، والنقص.

أما الأوّل ، فإنّما يطهّر البدن من النجاسة الكفريّة بالإجماع والأخبار ، وأما طهارة الثياب ونحوها فلا مطلقاً ، لعدم الدليل. والإسلام عن الكفر الأصلي محلّ الوفاق ، وأما عن ردّة فطريّة ففيه إشكال ، والأظهر الطهارة ، للزوم التكليف بما لا يطاق لولاه (٥).

وأما حكم ولد الكافر ، فقد أشرنا سابقاً ، وسيجي‌ء تمام الكلام في محلّه إن شاء الله تعالى.

وأما النقص ، فهو في العصير إذا حصل بذهاب الثلثين بعد الغليان على القول بنجاسته كما هو الأظهر ، وتطهر بتبعيته المزاولات. أما الإناء فبدلالة الإشارة ،

__________________

(١) النهاية : ٥٩٢ ، التهذيب ٩ : ١١٨.

(٢) نقله عنه في المختلف (الطبعة الحجريّة) ٢ : ١٣٧.

(٣) كذا ، وفي المصادر : صنع فيها.

(٤) الكافي ٦ : ٤٢٨ ح ١ ، التهذيب ٩ : ١١٩ ح ٥١١ ، الاستبصار ٤ : ٩٤ ح ٣٦٢ ، الوسائل ١٧ : ٢٩٦ أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣١ ح ٢.

(٥) وذلك لأنّه يتكلّف بالصلاة المشروطة بالطهارة ونحوها (منه رحمه‌الله).

٤٩٥

وأما غيره فإن جعلنا التجفيف مطهراً مطلقاً وإن كان للرطوبة فالأمر واضح بعد الجفاف.

وإن قلنا : إنّ ذهاب الثلثين إنّما يطهّر العصيريّة ، ولا يصدق العصير على هذه الرطوبات ، فالظاهر أنّ الدليل هو الإجماع. أما المنكرون للنجاسة فيقولون بالطهارة بالأصل ، وأما القائلون بها فالظاهر أنّهم لم يختلفوا في تبعيّة المزاولات.

ويقع الإشكال في كفاية جفاف الرطوبة العصيريّة عن غير (١) المزاول ، ولا يبعد القول بالكفاية ، والله العالم.

__________________

(١) في «م» : من.

٤٩٦

المقصد الثالث

في المياه

وفيه مقدّمة ومباحث :

أما المقدّمة :

فهو في الأصل طاهر ومطهّر بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب : فقوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (١) ومقام الامتنان يقتضي حمله على المطهّريّة ، فإنّه يستلزم الطهارة في بادئ الأمر باستقراء موارد المطهّرات ، وإن كان يمكن المناقشة في الاستلزام ، سيّما في غير الماء.

وقوله تعالى (لِيُطَهِّرَكُمْ) (٢) في حكاية أصحاب بدر (٣) ، والتقريب ما مرّ. ويمكن فيه إرادة الطهارة والمطهّريّة بمعنييه بعنوان عموم المجاز ، بملاحظة شأن النزول

__________________

(١) الفرقان : ٤٨.

(٢) الأنفال : ١١.

(٣) في بدر سبق الكفار المسلمين إلى الماء فنزلوا على كثيب رمل وأصبحوا محدثين ومجنبين وأصابهم الظمأ ووسوس إليهم الشيطان فقال : إنّ عدوّكم قد سبقكم إلى الماء وأنتم تصلّون مع الجنابة والحدث وتسوخ أقدامكم في الرمل ، فمطرهم الله حتى اغتسلوا به من الجنابة ، وتطهّروا به من الحدث ، وتلبّدت به أرضهم وأوحلت أرض عدوّهم. مجمع البيان ٢ : ٥٢٦.

٤٩٧

ومقام الامتنان. ويتمّ الكلام في غير ماء السماء بعدم القول بالفصل ، مع أنّ في مثل قوله تعالى (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ) (١) إشعار بالاتحاد ، وإن كان فيه تأمّل.

وأما السنّة : فكثيرة جدّاً ، مثل «الماء طاهر» و «خلق الله الماء طهوراً» و «الماء يطهّر» وغير ذلك (٢).

وأما الإجماع فلا ريب فيه ، بل هو ضروري ، وإنّما خالف بعض العامّة في مطهريّة ماء البحر (٣).

المبحث الأوّل : في الماء الراكد القليل.

فالمعروف من مذهب الأصحاب بل المتفق عليه من غير ابن أبي عقيل الانفعال بمجرّد ملاقاة النجاسة (٤) ، وادّعى السيد الإجماع عليه في المسائل الناصريّة (٥) ، وجعل في الأمالي من دين الإماميّة الإقرار بأنّه لا يفسد الماء إلّا ما له نفس سائلة (٦).

والإجماعات المنقولة في التطهير من الولوغ وغيره كثيرة. ويظهر منها موافقة ابن أبي عقيل أيضاً ، ولم ينقل عنه أحد التفرقة بين النجاسات ، ولعلّه تغيّر رأيه أيضاً.

والأصل فيه : الأخبار المستفيضة جدّاً ، بل القريبة حدّ التواتر ، حتّى ادّعى تواترها معنىً جماعة (٧) ، وهي أنواع مختلفة ، منها : الصحاح المستفيضة وغيرها

__________________

(١) الزمر : ٢١.

(٢) انظر الوسائل ١ : ٩٩ أبواب الماء المطلق ب ١.

(٣) هذا محكي عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص كما في الخلاف ١ : ٥١ ، وانظر المجموع ١ : ٩١ ، والمحلى ١ : ٢٢١ ، وتفسير القرطبي ١٣ : ٥٣.

(٤) نقله عنه في المختلف ١ : ١٧٦.

(٥) المسائل الناصريّة (الجوامع الفقهيّة) : ١٧٨.

(٦) أمالي الصدوق المترجم : ٦٤٥.

(٧) معالم الفقه : ٥.

٤٩٨

التي كادت أن تبلغ حد التواتر القائلة بأنّ الماء إذا كان قدر كر لم ينجّسه شي‌ء (١) ، الدالّة بمفهوم الشرط ، فإنّ ثبوت الانفعال في الجملة يبطل عدم الانفعال مطلقاً.

وما يتوهّم من أن تنجّس الأقلّ من الكرّ بشي‌ء ما كما هو مفاد المفهوم يتمّ بحمله على المغيّر ولا عموم فيه. فمدفوع بأنّ ذلك لا اختصاص له بالقليل كما لا يخفى.

مع أنّ الظاهر أنّ المراد من قوله عليه‌السلام : «لم ينجّسه شي‌ء» مجرّد بيان عدم الانفعال ، سيّما مع ملاحظة سؤال الراوي في بعضها ، لا تحقيق العموم في النجاسات وعدم الانفعال بكلّ منها. فمفهومه حينئذٍ هو الانفعال بالنجاسات مطلقاً ، وهذا يحتاج إلى لطف قريحة.

ومنها : الصحاح المستفيضة الواردة في حكم الكلب وسؤره وولوغه ، سيّما صحيحة البقباق ، حيث سأل الصادق عليه‌السلام عن فضل جميع الحيوانات فقال : «لا بأس» حتّى انتهى إلى الكلب فقال : «رجس نجس لا يتوضّأ بفضله ، واصبب ذلك الماء واغسله بالتراب أوّل مرّة ، ثم بالماء» (٢).

فإنّها تدل في أربعة مواضع منها ، الأوّل : ظهور الحقيقة الشرعيّة في النجس ، ويؤكده الاتباع.

والثاني : النهي عن التوضّؤ للإجماع ظاهراً على أنّه ليس من جهة عدم رافعيّته للحدث ، فيكون للنجاسة ، ويؤكده استلزامه بإطلاقه التيمّم مع اشتراطه بفقد الماء الطاهر.

والثالث : إيجاب الصبّ مع كونه إسرافاً ، ويؤكده ما تقدّم ، سيّما ويجب تحصيل الماء بأعلى القيم ، وبجعل المضاف مطلقاً ، وغير ذلك. والوجوب الغيري أيضاً كافٍ

__________________

(١) الوسائل ١ : ١١٧ أبواب الماء المطلق ب ٩.

(٢) الوسائل ١ : ١٦٢ أبواب الأسآر ب ١ ، ورواية الفضل أبي العباس البقباق في التهذيب ١ : ٢٢٥ ح ٦٤٦ ، الاستبصار ١ : ١٩ ح ٤٠ ، وهو الحديث الرابع من تلك الباب من الوسائل.

٤٩٩

للمطلوب ، فلا يرد أنّه ليس بوجوب أصلي.

والرابع : الأمر بالغسل مؤكّداً ، فإنّ الظاهر أنّه للنجاسة. وحملها على أنّه لعلّه من جهة وصول النجاسة إلى نفس الانية في غاية البعد.

ومنها : صحيحة عليّ بن جعفر : في دجاجة أو حمامة وطأت العذرة ودخلت في الماء ، ورواها في قرب الإسناد أيضاً مع زيادة ، فيها دلالة أيضاً (١).

وصحيحته الأُخرى في حكم ما لا يدركه الطرف من الدم (٢) ، وصحيحة البزنطي (٣)

وموثّقة سماعة ، قال : «إذا أدخلت يدك في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس ، إلّا أن يكون أصابها قذر بول أو جنابة ، فإن أدخلت يدك في الإناء وفيها شي‌ء من ذلك فأهرق الماء» (٤) وبهذا المضمون عشر روايات.

وموثّقتا عمّار الدالّتان على النهي عن التوضّؤ من ماءٍ شربَ منه طائر في منقاره دم (٥) ، وموثّقته في الإناءين المشتبهين (٦) ، وموثّقته الأُخرى (٧) ، والأخبار الدالّة على أنّ ما له نفس سائلة يفسد الماء (٨).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١٩ ح ١٣٢٦ ، الاستبصار ١ : ٢١ ح ٤٩ ، الوسائل ١ : ١١٥ أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١٣. وانظر قرب الإسناد : ٨٤.

(٢) الكافي ٣ : ٧٤ ح ١٦ ، التهذيب ١ : ٤١٢ ح ١٢٩٩ ، الاستبصار ١ : ٢٣ ح ٥٧ ، الوسائل ١ : ١١٢ أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١.

(٣) التهذيب ١ : ٣٩ ح ١٠٥ ، الوسائل ١ : ١١٤ أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ٧ ، عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة قال : يكفئ الإناء.

(٤) الكافي ٣ : ١١ ح ١ ، الوسائل ١ : ١١٣ أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ٤ ، وفيها سماعة عن أبي بصير.

(٥) الكافي ٣ : ٩ ح ٥ ، التهذيب ١ : ٢٢٨ ح ٦٦٠ ، وص ٢٨٤ ح ٨٣٢ ، الاستبصار ١ : ٢٥ ح ٦٤ ، الوسائل ١ : ١٦٦ أبواب الأسآر ب ٤ ح ٢ ٤.

(٦) الكافي ٣ : ١٠ ح ٦ ، التهذيب ١ : ٢٤٩ ح ٧١٣ ، وص ٢٢٩ ح ٦٦٢ ، الاستبصار ١ : ٢١ ح ٤٨ ، الوسائل ١ : ١١٣ أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ٢.

(٧) التهذيب ١ : ٣٨ ح ١٠٢ ، الوسائل ١ : ١١٤ أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١٠.

(٨) الوسائل ١ : ١٧٣ أبواب الأسآر ب ١٠.

٥٠٠