غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: عباس تبريزيان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-182-7
الصفحات: ٥٨٤

أظهر ، والثاني أحوط.

وأما ماء اللحية المسترسلة وأطراف الوجه مما غسل من باب المقدّمة ، فالظاهر أنّه من ماء الوضوء ، ولا يضرّ ، مع أنّ اللحية بخصوصها منصوص عليها ، وإطلاقها أعم من قدر الواجب.

وأما الرطوبة التي تحصل في العمامة والقلنسوة باعتبار صبّ الماء أوّلاً ، فلا تدخل في ماء الوضوء.

الرابع : يجب أن لا يكون على المغسول والممسوح حائل يمنع وصول الماء لعدم صدق الامتثال بدونه. فيجب تخليل الشعر في اليدين ، وغسل الأظفار وإن طالت. وفيما خرج عن حدّ أطراف الأصابع عُرفاً إشكال ، والأحوط عدم الترك.

وأما الوسخ الحاصل أحياناً في أُصول الأظفار ، فإن كان له جسميّة ظاهرة تمنع وصول الماء فتجب إزالته (١) إذا كان ساتراً للظاهر ، بخلاف ما إذا ستر ما يختفي عن الحس.

واستشكل العلامة في أصل الوجوب ، من جهة عدم منع الشارع عن ذلك (٢) والصحيحة الدالّة على وجوب تحريك السوار والدملج ليدخل الماء تحتهما (٣) لا تدلّ على وجوب ذلك كما توهّم ، والأحوط بل الأظهر ما اخترناه.

وأما السواد الذي يحصل في أُصول الأظافير من الدخان والأوساخ الرقيقة الغير المانعة عن الماء ، فالظاهر عدم الإشكال فيها.

وأما المسح ، فاشتراط عدم الحائل فيه أيضاً إجماعيّ ، والأخبار الصحيحة ناطقة

__________________

(١) في النسخ : إزالتها.

(٢) منتهى المطلب ٢ : ٣٩.

(٣) الكافي ٣ : ٤٤ ح ٦ ، التهذيب ١ : ٨٥ ح ٢٢٢ ، قرب الإسناد : ٨٣ ، الوسائل ١ : ٣٢٩ أبواب الوضوء ب ٤١ ح ١.

١٤١

به (١) ؛ سواء كان مثل العمامة والمقنعة ، أو مثل الحنّاء المانعة عن وصول الماء. وبعض الأخبار الصحيحة المجوّزة للمسح فوق الحناء (٢) ، فمع عدم مقاومتها لأخبار المنع ، محمولة على لون الحناء ، أو على الرقيق الذي لا يمنع وصول ماء المسح.

وأما الشعر ، فليس بحائل إن كان من مقدّم الرأس ولم يخرج بمدّه عن حدّ المقدّم بلا إشكال ، بالإجماع ، والأخبار ، وإن خرج عن حدّه فتمسح أُصوله ، وإلّا فلا يجوز ، بلا خلاف بينهم ، لعدم صدق الامتثال.

والأخبار المعتبرة في عدم جواز المسح على الخفّين تكاد أن تكون متواترة (٣) ، حتّى أنّ في بعضها أنّه لا تقيّة فيها ، مضافاً إلى الإجماع والأخبار في منع الساتر مطلقاً.

والمذهب جوازه للضرورة ، من تقيّة أو خوف من برد أو غيره لرواية أبي الورد (٤). والمعارض مؤوّل ، وظاهره مهجور.

وإذا زال العذر ففي الاكتفاء به إشكال ، والأحوط التجديد ، بل نقضه ثم التجديد ، وسيجي‌ء الكلام في الجبيرة.

__________________

(١) انظر الوسائل ١ : ٣٢٠ أبواب الوضوء ب ٣٧ ، ٣٨.

(٢) الوسائل ١ : ٣٢٠ أبواب الوضوء ب ٣٧ ح ٢ ٤.

(٣) الوسائل ١ : ٣٢١ أبواب الوضوء ب ٣٨.

(٤) التهذيب ١ : ٣٦٢ ح ١٠٩٢ ، الاستبصار ١ : ٧٦ ح ٢٣٦ ، الوسائل ١ : ٣٢٢ أبواب الوضوء ب ٣٨ ح ٥. وفيها : قلت فهل فيهما يعني المسح على الخفين رخصة؟ فقال : لا إلّا من عدو تتقيه ، أو من ثلج تخاف على رجليك.

١٤٢

المقصد الرابع

في شرائطه

وفيه مباحث :

الأوّل : يجب الترتيب في الوضوء بتقديم الوجه ، ثمّ اليد اليمنى ، ثم اليسرى ، ثم مسح الرأس ، ثم الرجلين (١) ، بالإجماع ، والأخبار الصحيحة (٢).

بل الأقوى وجوب تقديم الرجل اليمنى أيضاً ، خلافاً للمشهور ، ووفاقاً لجماعة

__________________

(١) قال في الذكرى : لا يكفي في الترتيب عدم تقديم المؤخّر ، بل يعتبر تقديم المقدّم إذ هو المفهوم منه ، وللأخبار ، فلو غسل الأعضاء معاً بطل لفقد المعنى الثاني وإن وجد الأوّل ، فحينئذٍ يحصل الوجه فإن أعاد الغسل الدفعي فاليمنى ، فإن أعاده فاليسرى ويمسح بمائها. ولو ارتمس ناوياً صحّ الوجه ، فإن أخرج اليدين مرتّباً صحّتا ، أو أخرجهما معاً فاليمين إذا قصد بالإخراج الغسل ، فلو كان في جار وتعاقبت الجريات ناوياً صحّت الأعضاء الثلاثة ، والأقرب أنّ هذه الهيئة كافية في الواقف أيضاً لحصول مسمى الترتيب الحكمي ويمسح بماء الاولى ، ولو غسل عضواً قبل الوجه لم يعتدّ به ، فإذا غسل الوجه صحّ ، ولو نكس مراراً ترتّب الوضوء مهما أمكن وصحّ إن نوى عنده أو كان قد تقدّمت النيّة في موضع استحباب المقدّم والأقرب أنّه لا يضرّ غروبها بعد تحقّق الامتثال فيخرج عن العهدة ويحتمل الإعادة مع الغروب لوجود الفصل بأجنبيّ بخلاف ما إذا أتى بأفعال الوضوء مرتّبة ، انتهى ويقرب منه ما في التذكرة (منه رحمه‌الله).

(٢) الوسائل ١ : ٣١٥ أبواب الوضوء ب ٣٤ ، ٣٥.

١٤٣

من القدماء (١) ، والشهيدين في اللمعة وشرحها (٢) ، لحسنة محمّد بن مسلم (٣) ، وما رواه النجاشي في كتاب الرجال عن عليّ عليه‌السلام (٤) ، مضافاً إلى ما يستفاد من الأخبار البيانيّة (٥) ، مع توقّف اليقين بالبراءة عليه.

واستدلّ سائر الأصحاب بالإطلاقات ، وحكموا بالأفضليّة.

واستدلّ عليها في المعتبر (٦) وغيره (٧) بقوله عليه‌السلام : «إن الله يحبّ التيامن» (٨) والظاهر أنّهم غفلوا عن الرواية ، وإلّا فهي أولى بالاستدلال. وعدم استدلالهم لا يدلّ على عدم اعتنائهم بها ، سيّما في الاستحباب.

وروى الطبرسي في الاحتجاج ، عن صاحب الأمر عليه‌السلام : عن المسح على الرجلين بأيّهما نبدأ ، باليمين ، أو نمسح عليهما جميعاً معاً؟ فأجاب عليه‌السلام : «يمسح عليهما جميعاً معاً ، فإن بدأ بإحداهما قبل الأُخرى ، فلا يبدأ إلّا باليمين» (٩).

فإن نسي فخالف ، فليعد بما يحصل معه الترتيب ، للصحاح (١٠). فلو غسل وجهه ثم يساره ثم يمينه مثلاً ثم تذكّر ، فهل يكتفي بإعادة اليسار ، أم يعيد اليمين ثم

__________________

(١) كعليّ بن بابويه وابن الجنيد نقله عنهما في المختلف ١ : ٢٩٨ ، والصدوق في الفقيه ١ : ٢٨ ، وسلّار في المراسم : ٣٨.

(٢) الروضة البهيّة ١ : ٣٢٦.

(٣) الكافي ٣ : ٢٩ ح ٢ ، الوسائل ١ : ٢٩٤ أبواب الوضوء ب ٢٥ ح ١.

(٤) رجال النجاشي : ٧.

(٥) انظر الوسائل ١ : ٢٧١ أبواب الوضوء ب ١٥.

(٦) المعتبر ١ : ١٥٥.

(٧) منتهى المطلب ٢ : ١٠٩.

(٨) عوالي اللآلي ٢ : ٢٠٠ ح ١٠١ ، مستدرك الوسائل ١ : ٣٣٠ أبواب الوضوء ب ٣٠ ح ٣.

(٩) الاحتجاج : ٤٩٢ ، الوسائل ١ : ٣١٦ أبواب الوضوء ب ٣٤ ح ٥.

(١٠) انظر الوسائل ١ : ٣١٧ أبواب الوضوء ب ٣٥.

١٤٤

اليسار؟ ظاهر موثّقة أبي بصير (١) وما رواه الصدوق مرسلاً (٢) بل صريحهما الإعادة ، وسائر الأخبار الصحيحة وغيرها أيضاً لا تنافيه ، بل تشملها بعموم ترك الاستفصال أيضاً.

ولكن يظهر من صريح بعض فروع مسألة الترتيب في المعتبر والتذكرة وشرح القواعد للمحقّق الثاني : الاكتفاء بما صنع ، فيعيد ما تقدّم عليه (٣) ، وسائر عبارات الفقهاء أيضاً لا تنافيه ، وتدلّ عليه الإطلاقات والعمومات. وفي شمولها إشكال.

نعم روى في السرائر ، عن نوادر البزنطي في الموثّق ، عن ابن أبي يعفور ما يدلّ عليه (٤). فإن كانت المسألة إجماعيّة ، وإلّا فيشكل ترجيح الاكتفاء إلّا بملاحظة هذه الرواية ، ولم يظهر لنا الإجماع ولا دعواه من أحد ، ولم أقف على أحدٍ منهم استدلّ بهذه الرواية أيضاً. والاحتياط في مراعاة ظاهر الأصحاب ثم الإعادة.

الثاني : تجب الموالاة في الوضوء بالإجماع ، والأخبار (٥).

واختلفوا في معناها ، والأكثر على أنّها أن لا يؤخّر بعض الأعضاء عن بعض بمقدار ما يجفّ ما تقدّم (٦).

وجماعة منهم المفيد فسّروها : بأنّها عدم التفريق بين الأعضاء والتزام التتابع إلّا

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٥ ح ٦ ، التهذيب ١ : ٩٩ ح ٢٥٨ ، الاستبصار ١ : ٧٤ ح ٢٢٧ ، الوسائل ١ : ٣١٨ أبواب الوضوء ب ٣٥ ح ٩.

(٢) الفقيه ١ : ٢٩ ح ٩٠ ، الوسائل ١ : ٣١٩ أبواب الوضوء ب ٣٥ ح ١٠.

(٣) المعتبر ١ : ١٥٦ ، التذكرة ١ : ١٨٧ ، جامع المقاصد ١ : ٢٢٤.

(٤) السرائر ٣ : ٥٥٣ ، الوسائل ١ : ٣١٩ أبواب الوضوء ب ٣٥ ح ١٤.

(٥) الوسائل ١ : ٣١٤ أبواب الوضوء ب ٣٣.

(٦) منهم الشيخ في الجمل والعقود : ١٥٩ ، وأبو الصلاح في الكافي في الفقه : ١٣٣ ، وابن البرّاج في المهذّب ١ : ٤٥ ، وابن حمزة في الوسيلة : ٥٠ ، وابن إدريس في السرائر ١ : ١٠١.

١٤٥

لضرورة ، وفي الضرورة يعتبر الجفاف (١).

والظاهر أنّ مرادهم بالضرورة مثل انقطاع الماء في البين ، أو حصول النسيان ، أو غير ذلك.

ثم صريح بعض هؤلاء أنّ تركها بهذا المعنى بلا ضرورة حرام لا مُبطل (٢) ، وظاهر بعضهم أنّه مُبطل وإن لم يحصل الجفاف في غير الضرورة ، وأما فيها فيُراعى الجفاف (٣).

وكيف كان فظاهرهم الاتفاق على أنّ الجفاف مخلّ بالموالاة ، مبطل للوضوء. وخلافهم في اعتبار الأزيد من ذلك ، وهو التتابع وعدم التفريق.

نعم يظهر من الصدوقين : أنّ إخلال الجفاف بالموالاة إنّما هو إذا لم تحصل الموالاة بالمعنى الثاني ، بل المبطل إنّما هو الجفاف الحاصل من التفريق (٤). واختاره صاحب المدارك (٥) وشارح الدروس (٦).

ويظهر من ذلك أنّ الإجماع المدّعى في كلامهم على اعتبار الجفاف إنّما هو فيما حصل من جهة التفريق ، ولا تفيد عباراتهم في بيان مراعاة الجفاف أيضاً أزيد من ذلك ، كما أنّ الأخبار الدالّة على مراعاة الجفاف أيضاً لا يستفاد منها أزيد من ذلك.

__________________

(١) المفيد في المقنعة : ٤٧ ، وممن فسّرها بذلك الشيخ في النهاية : ١٥ ، والتهذيب ١ : ١٠٣ ، والمبسوط ١ : ٢٣ ، والخلاف ١ : ٩٣ ، والراوندي في فقه القرآن ١ : ٢٩ ، والمحقّق في المعتبر ١ : ١٥٦ ، والعلامة في المختلف ١ : ٢٩٩ وباقي كتبه.

(٢) كالمحقّق في المعتبر ١ : ١٥٧.

(٣) كالشيخ في المبسوط ١ : ٢٣. فإنّه قال : الموالاة واجبة في الوضوء ، وهي أن يتابع بين الأعضاء مع الاختيار فإن خالف لم يجزئه.

(٤) نقله عن عليّ بن بابويه في الفقيه ١ : ٣٥ ، والمختلف ١ : ٢٩٩ ، واختاره الصدوق في المقنع (الجوامع الفقهيّة) : ٣.

(٥) المدارك ١ : ٢٣٠.

(٦) مشارق الشموس : ١١٧.

١٤٦

ولكن ذلك إنّما يتمّ في الغسل ، وأما في المسح فيضرّ الجفاف ، للزوم استئناف الماء ، وهو غير جائز إجماعاً كما تقدّم ، وكلام الصدوقين أيضاً لا يفيد ما ذكر إلّا في الغسل. وابن الجنيد أيضاً إنّما كان يجوّز الاستئناف في حال الضرورة بالمعاني المتقدّمة ، وما نحن فيه ليس منها بالفرض.

وأما الضرورة بمعنى عدم الإمكان فالكلام فيه قد تقدّم.

أما الدليل على مراعاة الجفاف فهو الإجماع ، وصحيحة معاوية بن عمّار (١) ، وموثّقة أبي بصير (٢) ، ومرسل الصدوق المتقدّم في عدم جواز استئناف الماء للمسح (٣) ، وغيرها.

ولكنها واردة فيما حصل الجفاف لانقطاع الماء في البين ، أو عروض حاجة ، أو حصول نسيان ، فلا تدلّ على اعتباره في جميع الأوقات. والإجماع المركّب منتفٍ لما عرفت من كلام الصدوقين ومن تبعهما. مع أنّ كلام أصحابنا القائلين بالاعتبار لا ينافيه (كما بيّنا) (٤) ، فلا يبعد الاقتصار على مورد الأخبار ، للأصل ، والإطلاقات ، وصدق الامتثال.

وأما اعتبار التتابع ، فذكروا له أدلّة ضعيفة ، أقواها قوله عليه‌السلام : «إنّ الوضوء لا يبعّض» في موثّقة أبي بصير (٥) ، وقوله : «أتبع وضوءك بعضه بعضاً» في حسنة الحلبي (٦) ، وفعلهم عليهم‌السلام في الوضوءات البيانيّة.

وكلّها مدخولة ، فإنّ الظاهر من الأوّل التبعّض باليبس لا مطلقاً ، ومن الثاني

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨٧ ح ٢٣١ ، الاستبصار ١ : ٧٢ ح ٢٢١ ، الوسائل ١ : ٣١٤ أبواب الوضوء ب ٣٣ ح ٣.

(٢) الكافي ٣ : ٣٥ ح ٧ ، التهذيب ١ : ٩٨ ح ٢٥٥ ، الاستبصار ١ : ٧٢ ح ٢٢٠ ، علل الشرائع : ٢٨٩ ح ٢ ، الوسائل ١ : ٣١٤ أبواب الوضوء ب ٣٣ ح ٢.

(٣) الفقيه ١ : ٣٦ ح ١٣٤ ، الوسائل ١ : ٣١٥ أبواب الوضوء ب ٣٣ ح ٥.

(٤) في «م» مشطوبة.

(٥) المتقدّمة الإشارة إليها.

(٦) التهذيب ١ : ٩٩ ح ٢٥٩ ، الاستبصار ١ : ٧٤ ح ٢٢٨ ، الوسائل ١ : ٣١٨ أبواب الوضوء ب ٣٥ ح ٩.

١٤٧

وجوب مراعاة الترتيب كما يظهر بالتأمّل فيهما ، ويظهر الثاني من رواية زرارة أيضاً (١).

وأما البيانيّة ، فقد يناقش فيها بعدم الدلالة على الوجوب ، كما مرّت الإشارة إليه ، وقد يعارض بما تقدّم من الأخبار الدالّة على الإعادة بما يحصل معه الترتيب فيمن نسي الترتيب ، وبما دلّ على أخذ الماء من اللحية وغيرها إذا نسي المسح ودخل في الصلاة ، وغيرها مما دلّ على عدم إضرار التفريق.

ويمكن أن يقال : اجتماع أدلّتهم يورث ظنّاً قوياً بالاعتبار ، وإن كان كلّ منها مما يمكن المناقشة فيه ، فيحصل الشكّ في الامتثال بدونه. وأما المعارضات ، ففيها أنّها إما مخصصات ، أو غير منافيات للتتابع المعتبر (٢).

ويمكن أن يُجعل المعيار هو انمحاء صورة الوضوء في عرف المتشرّعة ، فيثبت به مصطلح الشارع بأصالة عدم النقل ، كما يتمسّك بذلك في تحقيق منافاة الفعل الكثير للصلاة ، فلا ريب في أنّ من غسل وجهه ويده اليمنى (٣) وجلس يأكل الطعام ويكلّم الجلساء مدة مديدة لا يقال له «إنّه متوضّئ» وإن قام بعد ذلك وتمّمه أيضاً ، بل يصحّ سلب الاسم عنه ، وإن بَقَت الرطوبة في أعضائه ، فلا يكفي مطلق اعتبار الجفاف. فالأولى تقديم اعتبار الموالاة بهذا المعنى ، واشتراط الوضوء به أيضاً ، وأما الوجوب الشرعي بمعنى العقاب على تركها على حدة (٤) فلا نفهمه من الأدلّة.

نعم تجب الموالاة أيّاً ما كانت من باب المقدّمة.

فحينئذٍ فما دلّ على اعتبار الجفاف وعدمه في صورة التفريق لعذرٍ مخصّص لهذه

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٤ ح ٥ ، الفقيه ١ : ٢٨ ح ٨٩ ، التهذيب ١ : ٩٧ ح ٢٥١ ، الاستبصار ١ : ٧٣ ح ٢٢٣ ، الوسائل ١ : ٣١٥ أبواب الوضوء ب ٣٤ ح ١. وفيها : تابع بين الوضوء كما قال الله عزوجل ابدأ بالوجه ثم باليدين ..

(٢) في «م» : التتابع المعتبرة.

(٣) في «م» زيادة : في فصل الشتاء في غاية رطوبة الهواء.

(٤) في «ح» : حدّه.

١٤٨

القاعدة ، كما أشرنا ، أو أنّ المراد منها ما لم يحصل فيه التراخي بما يصح معه سلب اسم الوضوء ؛ بل الأولى الاقتصار على ذلك ، لعدم دلالة تلك الأخبار على أزيد منه أيضاً.

والأحوط مراعاة عدم الجفاف مطلقاً ، فيعيد إلّا في صورة عدم إمكان بقاء الرطوبة كما مرّ.

ثمّ المراد بجفاف ما تقدّم : جفاف الكلّ عند الأكثرين ، فيكفي في الموالاة بقاء الرطوبة في الجملة ، في أيّ عضوٍ كان من الأعضاء ، للأصل ، والإجماع على جواز أخذ البلل من اللحية وغيرها للمسح ، والأخبار الدالّة عليه.

وجفاف البعض عند ابن الجنيد ، فيعتبر فيها رطوبة الجميع (١). وذلك لا ينافي تجويزه تجديد ماء المسح لو جفّت اليد فيما تقدّم ، لأنّ ذلك إنّما يقوله في غير حال الضرورة بالمعنى المتقدّم.

وجفاف العضو السابق عند السيد (٢) وابن إدريس (٣) ، ولا وجه لهما يعتدّ به.

ثم إنّ الأصحاب اعتبروا في الجفاف وعدمه اعتدال الهواء ، فلا يجدي بقاء الرطوبة (٤) في مدّة طويلة في غاية رطوبة الهواء ، كما لا يضرّ الجفاف السريع في الطرف المقابل.

واعتُرض عليهم : بأنّ الحكم في الروايات التي استدلّوا بها معلّق على الجفاف ، وهو حقيقة في الحسّيّ.

وقد يحمل كلامهم على أنّهم أرادوا إخراج طرف الإفراط في الحرارة الغالبة.

وفيه أيضاً إشكال ، إلّا أن يجعل ذلك من الأفراد الغير الممكنة فيها مراعاة الموالاة

__________________

(١) نقله عنه في المختلف ١ : ٣٠٢.

(٢) المسائل الناصريّة (الجوامع الفقهيّة) : ١٨٥.

(٣) السرائر ١ : ١٠١.

(٤) في «م» : رطوبة.

١٤٩

كما مرّ في المسح.

أقول : ولعلّهم فهموا من الروايات اعتبار زمان يحصل فيه الجفاف ، فيكون الجفاف كناية عن مرور زمان يحصل معه الجفاف (١) ، بأن يكون المضرّ هي الفاصلة ، والجفاف وعدمه علامة لتحقّقه ، فحينئذٍ يُحمل على الأفراد المتعارفة ، وهي المعتدلة ، كما في نظائره. واستخراج ذلك من الرواية دونه خرط القتاد.

وأما على ما اخترناه من تقديم اعتبار التتابع العرفي سيّما مع حمل الأخبار المعارضة (٢) على ما لم يحصل التراخي بما يصحّ معه سلب الاسم فيسهل الخطب والله العالم.

الثالث : يشترط في ماء الوضوء أُمور :

الأوّل : أن يكون جائز التصرّف ، بأن يكون مباح الأصل ، كالمياه التي لم يحزها أحد قبله ، أو مملوكاً له بحيازة أو شراء أو استنباط ، أو مأذوناً فيه صريحاً أو فحوى أو بشاهد حال.

وفُسّر شاهد الحال : بما إذا كان هناك أمارة تشهد بأنّ المالك لا يكره. وظاهر ذلك كفاية الظنّ برضاه ، وعن ظاهر كثير من الأصحاب اعتبار العلم ، والأوّل أوفق بعمومات الأدلّة الاتية ، وحصول العلم في غاية الندرة. مع أنّا نراهم يحكمون بجواز الصلاة في الصحاري والأرحبة وغيرها بلا خلاف بينهم ، مع أنّه لا يحصل في الأغلب فيها إلّا الظنّ.

ولعلّ مراد من يظهر منه اعتبار العلم : هو الذي يتسامحون في إطلاق العلم عليه في العرف ، ولو نقّب ودقّق فيه ، بل لو شكك فيه بأدنى تشكيك يزول الظنّ به ، فضلاً

__________________

(١) في «م» : جفاف.

(٢) في «ز» : المتعارضة ، وفي «م» : أخبار المعارضة.

١٥٠

عن علمه. كما ترى أنّ حلّاب الأغنام والبقرات في الليالي المظلمة مع اختلاط أغنام القوم وبقراتهم بمجرّد موافقة اللون والجثّة واعتيادها في الرواح والسراح ، يحلبونها ، ويعتقدونها أنعامهم ، ويدّعون العلم ، ولا يشكّون في كونها أنعامهم ؛ مع أنّه لو قيل لهم : ألا يجوز أن يكون فرد من نعم القوم مشابهاً لفرد من نعمك في جميع الجزئيات ، أو يتفاوت معه بتفاوت قليل يشتبه عليك في الظلمة؟ فلا يمكنه إنكار الجواز ومنع هذا الاحتمال كما لا يخفى.

وكذلك في الزوج والزوجة في الليلة المظلمة ، سيّما إذا حصلت المجامعة بعد الإفاقة من النوم ، لإمكان نوم غير زوجته مكانها ، وقد يجامعها في المنام باعتقاد أنّها زوجته ، ولا ريب أنّ في بادئ النظر يعتقد أنّه عالم بأنّه يجامع زوجته ، وهكذا. بل الذي يظهر من الأدلّة أنّ شاهد الحال أمره أسهل من ذلك أيضاً.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرناه مغاير لما يسمّونه بالعلم العادي في الاصطلاح ، فإنّه لا يقبل التشكيك بالنظر إلى مجرى عادة الله تعالى ، كعدم انقلاب الجبل الذي شاهدناه بالأمس ذهباً ، أو صيرورة الأواني (١) التي رأيناها في البيت علماء فضلاء عارفين بجميع العلوم ، ونحو ذلك ، وإن كان يجري فيه الاحتمال العقلي بالنظر إلى قابليّة المادة ، وعموم قدرة الله تعالى لكلّ ممكن ، فإنّ هذا علم حقيقي جزماً ، بخلاف ما ذكرناه ، فإنّ مدّعيه بعد الالتفات وملاحظة الاحتمال قد لا يبقى ظنّه فضلاً عن علمه ، بخلاف ما نحن فيه.

وظاهر الأصحاب جواز الشرب والتوضّؤ والغسل وغسل الثياب من المياه المملوكة في الأنهار والساقيات ونحوها ، إلّا مع النهي أو العلم بالكراهة أو الظنّ بها.

وهل ذلك من باب الإذن بشاهد الحال ، أو ذلك حقّ في ملكهم للمسلمين كحقّ

__________________

(١) في «م» : الأداني.

١٥١

الحصاد والجذاذ؟ ظاهر كثير ممن صرّح بذلك كالعلامة في القواعد والتحرير (١) والشهيد في الدروس (٢) وغيرهما : أنّ ذلك بسبب شاهد الحال ، وهو الظاهر من الفاضل المتّقي مولانا محمّد تقي المجلسي في كتاب حديقة المتّقين.

وأما ولده العلامة المجلسي ، فيظهر منه أنّ ذلك حقّ للمسلمين ، قال في شرح التهذيب : والظاهر أنّ للمسلمين في المياه حقّ الشرب والوضوء والغسل والاستعمالات الضروريّة ، كما تشهد به عادة السلف من عدم استئذان المُلّاك في ذلك ، والأخبار الكثيرة الدالّة بفحاويها عليه ، إلى آخر ما ذكره (٣) ، ويقرب منه ما ذكره في رسالته الفارسيّة المسمّاة بحقّ اليقين ، وقال : إنّه الظاهر من الأخبار المعتبرة ، مثل ما ورد أنّ الناس في ثلاثة شرع سواء : الماء والنار والكلاء (٤). وهو الظاهر من صاحب المفاتيح في ختام كتابه (٥).

ويظهر ذلك من كلام ابن إدريس أيضاً ، قال في السرائر : الابار على ثلاثة أضرب ، ضرب يحفره في ملكه ، وضرب يحفره في الموات ليملكها ، وضرب يحفره في الموات لا للتملّك ، فما يحفره في ملكه فإنّما هو نقل ملكه عن ملكه ، لأنّه ملك المحلّ قبل الحفر ، والثاني إذا حفر في الموات ليتملّكها فإنّه يملكها بالإحياء ، فإذا ثبت هذا فالماء الذي يحصل في هذين الضربين هل يملك أم لا؟ قيل : فيه وجهان ، أحدهما أنّه يملك ، وهو مذهبنا ، والثاني أنّه لا يملكه لأنّه لو ملكه لم يستبح بالإجارة ، وإنّما قلنا إنّه مملوك لأنّه نماء ملكه ، مثل ثمرة الشجرة ، وإنّما يستباح بالإجارة لمجرى العادة ، ولأنّه لا ضرر على مالكه لأنّه يستخلف في الحال بالنبع ، وما

__________________

(١) قواعد الأحكام (الطبعة الحجريّة) ١ : ٢٢٤ ، تحرير الأحكام ٢ : ١٣٣.

(٢) الدروس ١ : ١٥٢.

(٣) ملاذ الأخيار ١١ : ٢٣٣.

(٤) حقّ اليقين : ٥٨٨.

(٥) المفاتيح ٣ : ٣٣٦.

١٥٢

لا ضرر عليه فليس له منعه ، مثل الاستظلال بحائطه ، إلى آخر ما ذكره (١).

ووجه دلالته على ما ذكرنا : أنّه اعتمد على جواز التصرّف في الماء بعدم الضرر ، وأنّ ما لا يضرّ صاحبه التصرّف فيه فليس له منعه ، وهو معنى استحقاق الغير لذلك التصرف ، ويدلّ على ما نحن فيه بطريق أولى.

وتشكل الطريقة الأُولى بالمياه المجهولة المالك ، أومأ عُلم كون مالكها صغيراً أو مجنوناً ، وبأنّه كيف يكفي مجرّد عدم ظهور الكراهة والمنع؟! وكيف يكون ذلك إذناً يعتمد عليه؟

والطريقة الثانية ، بأنّ ذلك يقتضي الإطلاق ، ولا يناسب التقييد بعدم مظنّة الكراهة ونحوه إلّا أن يقال : المستفاد من الأدلّة هو إثبات حقّ محدود ، فيكون ذلك حكماً مستقلا ، بأن يكون الشارع اقتصر في هذا التصرّف في مال الغير على عدم ظهور كراهية ، وفي معنى ظهور الكراهة التضرّر بذلك ، فيكون ذلك نظير الإذن في الأكل من بيوت من ذكر في سورة النور (٢).

ولعلّ السرّ في ذلك الاعتماد على غالب أحوال المسلمين ، من كونهم راضين بذلك التصرف ، ولذلك لا يجب التجسّس والتفحّص عن حال المالك وأنّه هل له أهليّة الإذن والرضا أم لا. فالمناط هو عدم تضرّر المالك ، أو عدم مظنّة الإكراه.

والأوّل يشمل مياه الصغار واليتامى ، مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ شهادة حال الولي بالرضا وعدم ظهور كراهته كافٍ ، وإن كان هو الإمام ، وأنّ الإذن في ذلك كما هو مقتضى إطلاق الفتاوى والأخبار ، فتتمّ الطريقة الأُولى أيضاً.

وممن صرّح بذلك الشهيد في الذكرى في مكان المصلّي والظاهر عدم الفرق

__________________

(١) السرائر ٢ : ٣٨٣.

(٢) النور : ٦١.

١٥٣

لاتّحاد المناط ، قال : لو علم الكراهيّة من صاحب الصحراء وشبهها امتنعت الصلاة ، لأنّه كالغاصب حينئذٍ ، ولو جهل بنى على شاهد الحال ، ولو علم أنّها لمولّى عليه فالظاهر الجواز ، لإطلاق الأصحاب ، وعدم تخيّل ضررٍ لاحق به ، فهو كالاستظلال بحائطه ؛ ولو فرض ضرر امتنع منه ومن غيره ، ووجه المنع : أنّ الاستناد إلى أنّ المالك أذِنَ بشاهد الحال ، والمالك هنا ليس أهلاً للإذن إلّا أن يقال : إنّ الولي أذن هنا ، والطفل لا بدّ له من ولي (١) ، انتهى.

وصرّح في المدارك أيضاً بكفاية رضا الولي في مكان المصلّي ، لكنه يعتبر في شاهد الحال حصول العلم (٢) (٣).

__________________

(١) الذكرى : ١٥٠.

(٢) مدارك الأحكام ٣ : ٢١٧.

(٣) وحاصل استدلال المستدلّ على عدم الملكيّة يرجع إلى أنّه يصحّ استئجار البئر جزماً ، ويشترط في الإجارة كون العين المستأجرة مملوكة باقية غير تالفة ، فلا يصحّ استئجاره ، ولكن لما كان استئجار البئر مع مائها صحيحاً فلا بد أن يكون الماء غير مملوك حتّى يكون التصرّف فيه من جهة الإباحة بالأصالة لا من جهة وقوع الإجارة عليه حتّى يرد البحث ، فتختص الإجارة بنفس البئر ، ولا يشترك الماء معه فيه. وحاصل الجواب أنّ جواز التصرّف في الماء بعد الإجارة لا ينافي مملوكيّته ، ولا يثبت كون جواز التصرّف من جهة ورود الإجارة عليه ، بل إنّما وردت الإجارة على نفس البئر ، وإنّما استبيح التصرّف في الماء بمجرى العادة برضا صاحبه حينئذٍ بذلك ، ولأنّ صاحبه مع استيفاء وجه الإجارة حينئذٍ لا يتضرّر بتصرّف المستأجر في ذلك الماء. ومن هذا يظهر حكم ما نحن فيه بطريق أولى كما لا يخفى ، فعلى طريقة ابن إدريس ليس لصاحب هذا الماء منع المحتاجين عن التصرّف فيه ، ويلزمه أنّه لو كره صاحبه من جهة أُخرى لأمن جهة الضرر أيضاً لا يضرّ في جواز الاستعمال ، فإثبات هذه الطريقة في الاستدلال في غاية الإشكال ، سيّما في المقام الذي استدلّ ابن إدريس بذلك. والأولى أن يجعل الكلام في استئجار البئر كاستئجار الضرع للإرضاع ، كما أفتى به الأصحاب بجعل اللبن والماء مقصودين بالتبع في الإجارة ، أو تابعاً للمقصود بالعقد ، إلّا أن يقال إنّ مراد ابن إدريس أن إجارة نفس البئر توجب منع صاحبها عن التصرّف فيها ، فحينئذٍ الماء المملوك له في البئر ما لا منفعة في تملكه ، فيصير من قبيل المباح من جهة عدم إمكان الانتفاع به للمالك ، سيّما مع استخلافه بالنبع وتجدّده ، وأيضاً الانتفاع بالبئر لا يمكن إلّا بنزح الماء ، ولما كانت قيمة الماء المنزوح غالباً لا تزيد على وجه إجارة البئر ، ولو رجع المالك إلى قيمة الماء يرجع المستأجر إلى وجه الإجارة ، فيكون الماء حينئذٍ بعد الإجارة بلا قيمة ، ويكون كحطبٍ كثير في مفازة بعيدة عن المعمورة لا يمكن إيصاله إليها إلّا بإنفاق أضعاف قيمتها ، وفيه تأمّل (منه رحمه‌الله تعالى).

١٥٤

وكيف كان فالعمدة بيان الدليل على المطلوب ، ولنا عليه وجوه :

الأوّل : أنّ النسبة بين العمومات الدالّة على طهوريّة الماء خصوصاً ما ورد في مقام الامتنان مثل قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (١) و (لِيُطَهِّرَكُمْ) (٢) وقوله عليه‌السلام : «خَلَقَ اللهُ الماءَ طهوراً» (٣) ونحو ذلك وما دلّ على حرمة التصرّف في مال الغير عموم من وجه ، والأولى معتضدة بالأصل والاعتبار والعمل والاشتهار ورفع الضيق والحرج والإعسار ، سيّما مع ملاحظة عمل المسلمين في الأعصار والأمصار من دون نكير.

ويظهر لمن تأمّل ذلك أنّ ذلك كان إجماعيّاً ، لا يتخالج فيه ريبة ولا شكّ ، لكن القدر المستفاد من هذه الطريقة أيضاً هو ما لم يظهر التضرّر والكراهة.

والثاني : أنّ المياه على الإباحة الأصليّة ، ولم يحصل اليقين برفعها إلّا في غير تلك الاستعمالات ، ولا ينصرف ما دل على المنع عن التصرّف في مال الغير إلى ذلك (٤).

الثالث : أنّه لو توقّف الاستعمال في المذكورات على الإذن لزم الحرج الشديد ، سيّما في الأسفار في البلاد الكبيرة التي لم يردها قبله.

الرابع : تتبّع الأخبار ، مثل صحيحة ابن أبي يعفور وعنبسة بن مصعب ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «إذا أتيت البئر وأنت جنب ، فلم تجد دلواً ولا شيئاً تغرف به فتيمّم بالصعيد ، ولا تقع في البئر ، ولا تُفسد على القوم ماءهم» (٥).

__________________

(١) الفرقان : ٤٨.

(٢) الأنفال : ١١.

(٣) السرائر ١ : ٦٤ ، المعتبر ١ : ٤٠ ، الوسائل ١ : ٢٥٧ أبواب الوضوء ب ١ ح ٩. ورواه الفخر الرازي في التفسير الكبير ٢٤ : ٩٥.

(٤) في «م» : غير ذلك.

(٥) الكافي ٣ : ٦٥ ح ٩ ، التهذيب ١ : ١٤٩ ح ٤٢٦ ، الاستبصار ١ : ١٢٧ ح ٤٣٥ ، الوسائل ١ : ١٣٠ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٢٢.

١٥٥

وكلّ ما ورد في الأمر بالشرب (١) والتوضّؤ إذا لم يتغيّر من الأخبار الكثيرة إما من جهة الإطلاق أو ترك الاستفصال. ولنذكر منها واحداً ، وهي موثّقة سماعة ، قال : سألته عن الرجل يمرّ بالماء وفيه دابّة ميتة قد أنتنت ، قال : «إذا كان النتن الغالب على الماء فلا تتوضّأ ولا تشرب» (٢) بل الظاهر منها أنّ الرواة كانوا يعلمون عدم الضرر من جهة عدم رضا المالك ، وإنّما كان سؤالهم عن مضرّة التغيّر وعدمها.

وكذلك كلّ ما ورد في منزوحات البئر «أنّ بعد النزح يشرب ويتوضّأ» من دون تقييد واستفصال في البئر.

وكلّ ما دلّ على نفي البأس عن البول في الماء الجاري (٣) ، وهي كثيرة ، وكذلك التعليل للمنع في بعضها بأنّ له أهلاً (٤) ، فإنّها بالإطلاق وترك الاستفصال تدلّ على جواز مثل هذا التصرّف في المياه المملوكة ، فالتصرّف بالشرب والتوضّؤ أولى بالجواز.

ومثل صحيحة صفوان الجمّال ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحياض التي ما بين مكّة إلى المدينة تَرِدها السباع ، وتَلِغ فيها الكلاب ، ويشرب منها الحمير ، ويغتسل فيها الجنب ، ويتوضّأ منها ، قال : «وكم قدر الماء؟» قال : إلى نصف الساق ، وإلى الركبة ، فقال : «توضّأ منه» (٥) مضافاً إلى رواية أُخرى دالّة على أنّ لها أهلاً (٦).

__________________

(١) في «ز» : وكل ما ورد في الشرب.

(٢) التهذيب ١ : ٢١٦ ح ٦٢٤ ، والاستبصار ١ : ١٢ ح ١٨ ، الوسائل ١ : ١٠٤ أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٦.

(٣) الوسائل ١ : ١٠٧ أبواب الماء المطلق ب ٥.

(٤) انظر الوسائل ١ : ٢٤٠ أبواب أحكام الخلوة ب ٢٤ ح ٣.

(٥) الكافي ٣ : ٤ ح ٧ ، التهذيب ١ : ٤١٧ ح ١٣١٧ ، الاستبصار ١ : ٢٢ ح ٥٤ ، الوسائل ١ : ١١٩ أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١٢.

(٦) الوسائل ١ : ١١٩ أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١٠.

١٥٦

ويقرب منها رواية أبي بصير الدالّة على حكم الغدير الواقع في جانب القرية (١).

ثمّ يبقى الإشكال فيما لو جمعها في مخزن كالحمّام للاغتسال ، والمصانع والحياض للشرب ، فإن ثبت هناك استمرار وطريقة عمل يظهر منه إما الإجماع أو رضا المالك ، فهو ، وإلّا فإدخاله تحت حقّ الغسل والشرب مشكل ، فإن أخذ الماء مجتمعاً يصعب في نظر المالك ، وإن كان صرفه متفرّقاً قد يكون أكثر من ذلك ، والمعهود المتعارف (٢) في الشرب والاغتسال والتوضّؤ أما الإتيان بالمذكورات في شاطئ النهر ، أو أخذ كلّ واحدٍ من المسلمين بقدر حاجته في ذلك الوقت.

والظاهر أنّ ما ذكرنا من الحكم لا يتفاوت في المغصوب وغيره ، فإذا غصب النهر المملوك فلا ينتفي بذلك حقّ شرب المسلمين وتوضّئهم واغتسالهم ، وهو مستصحب ، كما صرّح به المرتضى (٣) وغيره (٤) في المكان المغصوب. نعم قد يمكن الحكم بعدم جوازه للغاصب ، لأنّ الظاهر كراهة المالك لذلك.

وأما ما ادّعاه السيد من الإجماع على بطلان الوضوء بالماء الغصبي (٥) ، فالظاهر أنّ مراده ما تحقّق فيه الغصب ، كما إذا كان محرزاً في إنية ، فإنّ الظاهر أنّ عدم جواز الوضوء به إجماعيّ ، كما هو مدّعى به في كلامهم. والظاهر أنّ مرادهم البطلان ، وإلّا فالحرمة إجماعيّ العلماء كافة ، وصرّح بإرادة ذلك السيّد في المسائل الناصريّة (٦) ، وقد استدلّوا عليه بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، وهو غير تام كما

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١٧ ح ١٣١٦ ، الاستبصار ١ : ٢٢ ح ٥٥ ، الوسائل ١ : ١٢٠ أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١٤.

(٢) في «ز» ، «ح» بالتعارف.

(٣) حكاه في الذكرى : ١٥٠ ، وحكاه في البحار ٨٠ : ٢٨٢ عن الكراجكي أيضاً.

(٤) كالعلامة في المنتهي (الطبعة الحجريّة) ١ : ٢٤٢.

(٥) المسائل الناصريّة (الجوامع الفقهيّة) : ١٨٠ مسألة ٧.

(٦) المسائل الناصريّة (الجوامع الفقهيّة) : ١٨٠ مسألة ٧.

١٥٧

حقّقناه في الأُصول ، وسنشير إليه في مكان المصلّي أيضاً.

وإنّما حملنا كلام السيد على إرادة ما تحقّق فيه الغصب ، لأنّ القدر المسلّم كونه مصداقاً للغصب هو ذلك ، وكون ذلك التصرّف في الماء المغصوب غصباً أوّل الكلام.

ويشهد بما ذكرنا : استدلاله رحمه‌الله على البطلان بعدم إمكان قصد التقرّب بما كان معصية ، كما هو مقتضى القاعدة الأُصوليّة.

وإنّما أطنبنا الكلام لتجدّد عهد الإشكال فيه في هذه الأيام ، بعد ما استمر كونه موضوعاً على طرف التمام ، وعدم تكرر ذكره مستقصى في كتب الأقوام.

وأما المشتبه بالمغصوب ، فقالوا (١) : لا يجوز استعماله ، والظاهر أنّ مرادهم إذا كان من جملة المحصور ، كالمشتبه بالنجس ، بناءً على وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة.

ولم نقف على مصرّح بالإجماع على البطلان في خصوص ذلك إذا توضّأ بالجميع ، فإنّ تمّ وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة بأجمعها وقلنا بدلالة النهي على الفساد حتّى مثل هذا النهي المستفاد من وجوب المقدّمة فيثبت فيه البطلان حينئذٍ ، وإلّا فللتأمّل فيه مجال ، لعدم ثبوت الإجماع على البطلان حينئذٍ ، لأنّ المفروض حصول الطهارة بالماء المباح أيضاً.

وأما لو توضّأ بأحدهما ، فعلى القول بوجوب اجتناب مجموع المشتبه فيبطل أيضاً ، لا لما قيل : إنّ ذلك لأجل عدم حصول اليقين بالمأمور به ، وهو الطهارة بالماء المباح ، بل لحرمة الاستعمال ، ودلالة النهي على الفساد ، إذ القدر المعلوم من القاعدة الأُصوليّة هو البطلان فيما عُلمت الحرمة ، لا ما كان مغصوباً في نفس الأمر ، ليتحقّق عدم جواز اجتماعه مع الأمر ، فما لم يعلم كونه حراماً كما فيما نحن فيه

__________________

(١) انظر القوانين : ١٤٠.

١٥٨

لا يصير مورداً للقاعدة ، ولم يعلم من مدّعي الإجماع أيضاً إلّا الإجماع على البطلان مع العلم بالغصب وحرمة التصرّف ، لا الإجماع على اشتراط الإباحة ، حتّى يقال فيما نحن فيه : إنّ بطلان الوضوء بسبب عدم الإتيان بالمأمور به لا للإتيان بالمنهي عنه ، حتّى يقبل منع دلالة النهي على الفساد.

والأظهر عندي عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة ، إلّا فيما يحصل معه العلم بارتكاب الحرام ، كما تدلّ عليه صحيحة عبد الله بن سنان وغيرها في كلّ شي‌ء يكون فيه حلال وحرام (١) ، ووجوب المقدّمة أيضاً لا يجدي فيما نحن فيه ، إذ القدر المسلّم من وجوب اجتناب الحرام هو ما عُلمت حرمته ، وحينئذٍ فيجوز التصرّف في أحد الماءين ، فإذا جاز التصرّف فإنّه يصحّ الوضوء.

وكذلك لو انقلب أحد الماءين المشتبهين بالمغصوب ، خرجنا عن ذلك الأصل في المشتبه بالنجس في خصوص الإناءين بدليل وبقي الباقي.

ثم إنّ ما ذكرنا من المنع إنّما يتمّ فيما لو وجد ماء غير المغصوب والمشتبه ، وإلّا فيتعيّن البطلان ، لعدم بقاء مورد آخر للأمر ، فتتحد جهتا الأمر والنهي.

الثاني : أن يكون طاهراً ، فلا تجوز الطهارة بالماء النجس ، والمراد بعدم الجواز عدم ترتب الأثر ، لا الحرمة المصطلحة ، إلّا أنّ يعتقدها جائزة ، اعتقاداً ناشئاً من غير حجّة شرعيّة.

وقد يستدلّ على الحرمة بالأخبار الكثيرة الناهية عن الوضوء به ، ودلالتها غير واضحة ، إذ الظاهر منها عدم الاعتداد به ، كما هو إجماعيّ ، ومدلول عليه بالأخبار أيضاً ، مثل صحيحة عليّ بن مهزيار ، في حكاية مكاتبة سليمان بن راشد الاتية في لباس المصلي (٢) ، وموثّقة عمار الإمرة بإعادة الوضوء والصلاة لمن وجد في الانية

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ ح ٣٩ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ح ٩٨٨ ، الفقيه ٣ : ٢١٦ ح ١٠٠٢.

(٢) الوسائل ٣ : ٢٥٨ أبواب لباس المصلّي ب ٧ ح ٣.

١٥٩

التي توضّأ منها فأرة متسلّخة (١) ، ومرسلة إسحاق (٢) وغيرها.

وأما المشتبه بالنجس ، فلا تجوز الطهارة به أيضاً بالإجماع (٣) نقله الشيخ (٤) والفاضلان (٥). وتدلّ عليه موثّقة سماعة ، عن الصادق عليه‌السلام : في رجل معه إناءان فيهما ماء ، وقع في أحدهما قذر ، لا يدري أيّهما هو ، وليس يقدر على ماء غيره ، قال : «يهريقهما ويتيمّم» (٦) وموثّقة عمار عنه عليه‌السلام.

وقد استدلّ عليه أيضاً بوجوه ضعيفة ، أقواها : أنّ اجتناب النجس واجب قطعاً ، وهو لا يتمّ إلّا باجتنابهما معاً ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب.

وفيه منع ظاهر ، إذ الواجب إنّما هو اجتناب ما عُلمت نجاسته ، ولا يحصل العلم في كلّ منهما ، فالقاعدة تقتضي جواز استعمال كلّ واحد منهما. والحرام إنّما هو استعمال الجميع ، ونظيره في الشرع موجود ، كعدم وجوب الغسل على واجدي المني في الثوب المشترك ، فلو لم يكن في المسألة إجماع ولا الخبران لحكمنا بجواز الطهارة بأحدهما.

ومما ذكرنا تظهر سهولة الأمر في غير مورد الإجماع والخبر ، كما سيجي‌ء الكلام في المشتبه بالنجس في مباحث النجاسات.

والظاهر عدم الفرق بين الإناءين والأكثر ، كما صرّح به الشيخان (٧)

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٤ ح ٢٦ ، التهذيب ١ : ٤١٨ ح ١٣٢٢ ، الوسائل ١ : ١٠٦ أبواب الماء المطلق ب ٤ ح ١.

(٢) التهذيب ١ : ٤١٩ ح ١٣٢٣.

(٣) في «ز» : للإجماع.

(٤) الخلاف ١ : ١٩٦ مسألة ١٥٣.

(٥) المحقّق في المعتبر ١ : ١٠٣ ، والعلامة في التذكرة ١ : ٨٩ ، ونهاية الأحكام ١ : ٢٤٨ ، والمختلف ١ : ٢٤٨.

(٦) الكافي ٣ : ١٠ ح ٦ ، التهذيب ١ : ٢٤٩ ح ٧١٣ ، الاستبصار ١ : ٢١ ح ٤٨ ، الوسائل ١ : ١١٣ أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ٢.

(٧) الشيخ المفيد في المقنعة : ٦٩ ، والشيخ الطوسي في الخلاف ١ : ١٩٦ مسألة ١٥٣.

١٦٠