غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: عباس تبريزيان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-182-7
الصفحات: ٥٨٤

المقصد الأوّل

في النجاسات

وفيه مباحث :

الأوّل : البول والغائط

مما لا يؤكل لحمه نجس إذا كان له نفس سائلة ، أي دم سائل يخرج بقوّة ودفع إذا قطع عرق من صاحبه لاجتماعه فيه ، وهو في مقابل الرشح ، كدم السمك وغيره.

وهو في غير الطير وبول الرضيع قبل الإطعام إجماعيّ ، بل ضروري في بول الإنسان.

وادّعى الفاضلان إجماع علماء الإسلام على غيره إذا كان مما لا يؤكل لحمه مما له نفس سائلة (١) ، إلّا أنّ العلامة حكى عن بعض العامة طهارة أبوال جميع البهائم والسباع ، وقال : إنّه خارق للإجماع.

ويدلّ على نجاسة البول عموماً وفي خصوص الإنسان وعلى عموم ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات : الأخبار الصحاح وغيرها مما تقرب حدّ التواتر (٢).

__________________

(١) المحقّق في المعتبر ١ : ٤١٠ ، والعلامة في المنتهي ٣ : ١٦٧.

(٢) الوسائل ٢ : ١٠٠١ أبواب النجاسات ب ١ ، وص ١٠٠٧ ب ٨.

٣٨١

وكذلك في الروث تدلّ الأخبار إما بعموم ذكر العذرة كما في الأخبار الكثيرة إن قلنا بشمولها لخرء غير الإنسان أيضاً ، كما هو ظاهر أهل اللغة ، أو بخصوص خرء السنور والكلب والفأرة كما في بعضها (١) ، ويكفي الإجماع وعدم القول بالفرق.

وأما ما لا نفس له ، فلا يتبادر رجيعه من هذه الأخبار ، فإنّ أغلب ما لا نفس له مما لا يؤكل لحمه لا لحم له يصلح للأكل. والمتبادر ما يكون معدّاً للأكل ، ولذلك لا نفهم الإنسان منها أيضاً ، والأصل يقتضي طهارته.

والظاهر عدم تحقّق البول في أكثرها أيضاً.

مع أنّ لزوم التحرّز منه مستلزم للحرج في كثير منها كالذباب والبق والبراغيث والقمل ونحو ذلك ، ولا قائل بالفصل.

مضافاً إلى أنّ الطهارة كأنّها إجماعيّة ، كما يظهر من العلامة في التذكرة والمنتهى وغيره (٢).

وألحق الأصحاب بذلك : ما لم يؤكل لحمه بعرض ، كالجلّال ، وشارب لبن الكلبة والخنزيرة حتّى يشتدّ لحمه ، والموطوء.

والظاهر أنّ ذلك أيضاً إجماعيّ ، كما يظهر من التذكرة (٣) ، وادّعاه في المختلف في خصوص ذرق الدجاج الجلّال (٤).

ويدلّ عليه أيضاً : عموم ما دلّ على نجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه ، ومفهوم كلّ ما دلّ على طهارة بول ما يؤكل لحمه.

وقد يعارض ذلك بالأخبار الدالّة على طهارة بول البعير والشاة ونحوهما

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٠١ أبواب النجاسات ب ١ ، وص ١٠٠٧ ب ٨.

(٢) التذكرة ١ : ٥١ ، المنتهي ٣ : ١٦٧.

(٣) التذكرة ١ : ٥١.

(٤) المختلف ١ : ٤٥٥.

٣٨٢

بالخصوص (١) ، فإنّ بينهما عموماً من وجه ، والأصل مع ما دلّ على الطهارة ، ولو سلّم شمول عمومات نجاسة مطلق البول لما نحن فيه ، فهي أيضاً أعمّ مطلقاً مما دلّ على طهارة بول تلك الحيوانات بالخصوص ، والخاص مقدّم على العام ، فلم يبق إلّا ظاهر الإجماع.

وأما بول الرضيع قبل أن يطعم ، فالمشهور فيه أيضاً النجاسة ، للإجماع المنقول عن المرتضى (٢) والعلامة (٣) ، والعمومات ، وخصوص ما ورد في نجاسة بول الصبي (٤).

وذهب ابن الجنيد إلى طهارته (٥) ، استناداً إلى رواية السكوني (٦) ، وبأنّه لو كان نجساً لوجب غسله ولم يكتف فيه بالصبّ كما هو المشهور في طريق تطهيره كما سيجي‌ء.

والرواية مع ضعفها (٧) لا تنافي النجاسة ، ونحن نقول بالنجاسة ، ولكن نكتفي بالصب ، فإنّ طريق تطهير النجاسات مختلف.

وأما رجيع الطير مما لا يؤكل لحمه فالمشهور فيه أيضاً النجاسة (٨) ، وعن ابن أبي عقيل (٩) ؛ والصدوق (١٠) والشيخ في المبسوط (١١) القول بالطهارة.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٠٩ أبواب النجاسات ب ٩.

(٢) المسائل الناصريّة (الجوامع الفقهيّة) : ١٨١ ، ونقله عنه في المختلف ١ : ٤٥٩.

(٣) التذكرة ١ : ٥٢.

(٤) الوسائل ٢ : ١٠٠٢ أبواب النجاسات ب ٣.

(٥) نقله عنه في المختلف ١ : ٤٥٩.

(٦) التهذيب ١ : ٢٥٠ ح ٧١٨ ، الاستبصار ١ : ١٧٣ ح ٦٠١ ، الوسائل ٢ : ١٠٠٣ أبواب النجاسات ب ٣ ح ٤ ، وفي الفقيه ١ : ٤٠ ح ١٥٧ ، والمقنع : ٥ مرسلاً.

(٧) لوقوع النوفلي في طريقها وهو لم يوثق وطريق الشيخ إليه ضعيف. انظر معجم رجال الحديث ٦ : ١١٣.

(٨) منهم الشيخ في الخلاف ١ : ٤٨٥ ، والمحقّق في المعتبر ١ : ٤١١.

(٩) نقله عنه في المختلف ١ : ٤٥٦.

(١٠) الفقيه ١ : ٤١ ، المقنع : ٥.

(١١) المبسوط ١ : ٣٩.

٣٨٣

حجّة المشهور : مطلقات ما دلّ على نجاسة البول والعذرة ، وخصوص حسنة عبد الله بن سنان : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (١) وكلّ ما دلّ بالمفهوم على ذلك كما مرّ.

وحجّة المخالف : حسنة أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «كلّ شي‌ء يطير فلا بأس بخرئه ، وبوله» (٢).

فنقول : إن لم يكن للطير بول فيشتمل دليلهم على ما يضعفه ، ولا يعارض به ما تقدّم ، وإن كان له بول فنقول أيضاً : لا يقاوم هذه الحسنة ما ذكرنا من الأدلّة ، فإنّ التخصيص مشروط بالتقاوم ، واعتضاد ما تقدّم بعمل جمهور الأصحاب يمنع من تخصيصها بذلك ، سيّما والنسبة بين الحسنتين عموم من وجه كما لا يخفى.

وأما الخرء ، فإن سُلّم انصراف العذرة في الأخبار إلى خرء الطير كما يظهر من الصحاح والقاموس من تفسير الخرء بالعذرة (٣) ، واعتمدنا على مفهوم موثّقة عمار ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «كلّ ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه» (٤) فالكلام فيه مثل ما تقدّم.

وإن لم نسلّم كما نقل عن ظاهر ابن الأثير والهروي أنّهما خصّاه بعذرة الإنسان (٥) ، ولم تُسلّم حجيّة المفهوم ، أو عمومه ، أو عدم دلالة مفهوم نفي البأس المنكر على النجاسة ، فيكفي عدم القول بالفصل.

والظاهر أنّ مفهوم الموثّقة حجّة ، لأنّه في معنى الشرط ، أو معتضد بالقرينة الخارجيّة إن قلنا بأنّه مفهوم الوصف. والمفهوم عام كما حقّقناه في الأُصول ، فيثبت

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٧ ح ٣ ، التهذيب ١ : ٢٦٤ ح ٧٧٠ ، الوسائل ٢ : ١٠٠٨ أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٥٨ ح ٩ ، التهذيب ١ : ٢٦٦ ح ٧٧٩ ، الوسائل ٢ : ١٠١٣ أبواب النجاسات ب ١٠ ح ١.

(٣) الصحاح ١ : ٤٦ ، القاموس المحيط ١ : ١٤.

(٤) التهذيب ١ : ٢٦٦ ح ٧٨١ ، الوسائل ٢ : ١٠١١ أبواب النجاسات ب ٩ ح ١٢.

(٥) النهاية لابن الأثير ٢ : ١٧.

٣٨٤

به حكم الخرء والبول معاً.

وأما نفي البأس المنكر ، فهو كناية عن الطهارة ، فوجود البأس كناية عن النجاسة ، والقول بأنّ رفع السلب الكلّي هو الإيجاب الجزئي في هذا المقام وحصول بأس ما أعمّ من النجاسة ، فهو كلام ظاهري.

وقد يستدلّ على الطهارة بصحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه عليه‌السلام : وعن الرجل يرى في ثوبه خرء الطير أو غيره ، هل يحكّه وهو في صلاته؟ قال : «لا بأس» (١) فإنّ ترك الاستفصال يفيد العموم.

وفيه : أنّ الظاهر أنّ السؤال ليس عن حال الخرء ، بل عن جواز هذا الفعل في الصلاة ، فلا التفات إلى بيان حكم الخرء ، كما أنّه لم يستفصل عن غيره أيضاً ، وهو أيضاً أعمّ من النجس.

ثم إنّ المشهور أنّ بول الخشّاف أيضاً نجس (٢) ، وكذلك الشيخ استثناه من الطير مع قوله بطهارة خرئه في المبسوط (٣) ، لرواية داود الرقّي (٤) ، ويظهر من العلامة في المختلف الإجماع على ذلك.

وأما رواية غياث الدالّة على طهارتها (٥) ، فلا تقاوم رواية داود ، وإن كانت أقوى سنداً منها ، لاعتضادها بالشهرة ، وحسنة ابن سنان وغيرها من الأدلّة.

وأما أبوال ما يؤكل لحمه فطاهرة كلّها ، وكذلك أرواثها ، والظاهر أنّه إجماعيّ. وتدلّ عليه الأخبار الكثيرة الدالّة بعمومها على طهارة أبوال ما يؤكل لحمه

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٦٤ ح ٧٧٥ ، قرب الإسناد : ٨٩ ، الوسائل ٤ : ١٢٧٧ أبواب قواطع الصلاة ب ٢٧ ح ١.

(٢) كالمحقّق في المعتبر ١ : ٤١١ ، والعلامة في المختلف ١ : ٤٥٧ ناقلاً عليه الإجماع ، والشهيد في البيان : ٩٠.

(٣) المبسوط ١ : ٣٩.

(٤) التهذيب ١ : ٢٦٥ ح ٧٧٧ ، الاستبصار ١ : ١٨٨ ح ٦٥٨ ، الوسائل ٢ : ١٠١٣ أبواب النجاسات ب ١٠ ح ٥. عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي فأطلبه ولا أجده ، قال : اغسل ثوبك.

(٥) التهذيب ١ : ٢٦٦ ح ٧٧٨ ، الاستبصار ١ : ١٨٨ ح ٦٥٩ ، الوسائل ٢ : ١٠١٣ أبواب النجاسات ب ١٠ ح ٥ ، لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف.

٣٨٥

منطوقاً ومفهوماً والدالّة بخصوصها في البعير والشاة وغيرهما (١) مع عدم القول بالفصل.

نعم وقع الخلاف في أبوال وأرواث الحمولات الثلاث ، والمشهور طهارتهما منها مع كراهة (٢) ، والكراهة في البول أشد من غيره ، والأمر في الحمار أشد من غيره ، لأنّ لحمه أشد كراهة من غيره على الأقوى.

وذهب ابن الجنيد إلى نجاستهما منها (٣) ، واختاره الشيخ في النهاية ، ولكن رجع عنه في الاستبصار (٤) والمعتمد الأوّل.

لنا : الأصل ، والاستصحاب ، وكلّ ما دلّ بعمومه على طهارة أبوال ما يؤكل لحمه منطوقاً ومفهوماً من الأخبار الصحيحة والحسنة والموثّقة وغيرها.

لا يقال : إنّ المتبادر مما يؤكل لحمه هو ما كان معدّاً للأكل ومخلوقاً لهذه المصلحة ، وما يتعارف أكله.

لأنّا نقول : إنّ العرف وإن كان مقدّماً على اللغة في سائر المواضع ، إلّا أنّ الظاهر أنّ المراد هنا ما يجوز أكله شرعاً ، وإلّا فالعرف العام قبل ورود الشرع أو مع قطع النظر عنه يأكلون الخنزير والثعلب والأرنب ، بل اليربوع وغيرها ، وأكل هذه الأُمور في العرف العام ليس بأقلّ من أكل اليحمور واليعفور وغيرهما.

وهذا لا ينافي ما قدّمنا من إخراج الإنسان ومثل الحشرات عن إطلاق تلك الأخبار وعموماتها ، فإنّ لهما وجهاً آخر. أما في الإنسان فلأنّ فاعل الأكل هو نوع الإنسان ، والمتبادر من المأكول هو المباين للأكل بالنوع.

وأما في الحشرات ، فلعدم وجود اللحم فيها ، لعدم إطلاقه عليها عرفاً

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٠٩ أبواب النجاسات ب ٩.

(٢) منهم الشيخ في التهذيب ١ : ٤٢٢ ، والاستبصار ١ : ١٧٩ ، والمبسوط ١ : ٣٦ ، والعلامة في النهاية ١ : ٢٦٦.

(٣) نقله عنه في المختلف ١ : ٤٥٧.

(٤) النهاية : ٥١ ، الاستبصار ١ : ١٧٩.

٣٨٦

في الأغلب.

وبما ذكرنا تعرف أنّه لا يمكن للقائل بالنجاسة قلب الدليل بأنّ هذه الدواب مما لا يؤكل لحمها عرفاً ، فتكون أبوالها وأرواثها نجسة.

وكيف كان ، فلا ينحصر الدليل في العمومات ، بل الخصوصات كثيرة ، مثل رواية أبي الأعز النحّاس المرويّة في الكافي والفقيه ، المصرّحة بنفي البأس منكّراً في الأبوال (١) ، ورواية معلّى بن خنيس وابن أبي يعفور الصريحة في بول الحمار (٢).

وموثّقة الحلبي : في السرقين الرطب أطأ عليه ، فقال : «لا يضرّك مثله» (٣).

وصحيحة الحلبي النافية للبأس عن روث الحمير ، الإمرة بغسل بولها (٤) ، فإنّ عدم القول بالفصل يثبت الحكم في البول ، والأمر محمول على الاستحباب.

ويقرب من ذلك رواية أبي مريم (٥) ، ورواية عبد الأعلى بن أعين (٦) ، وما رواه الحميري في قرب الإسناد صحيحاً عن ابن رئاب ، الدالّة على جواز الصلاة مع الروث.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٨ ح ١٠ ، الفقيه ١ : ٤١ ح ١٦٤ ، الوسائل ٢ : ١٠٠٩ أبواب النجاسات ب ٩ ح ٢. عن بول وروث الدواب ينضح على الثوب قال : لا بأس به ، واختلفت المصادر في ضبط اسم الراوي ففي الكافي : أبو الأعزّ النخّاس ، وفي الفقيه أبو الأغرّ النخّاس ، وكذا في بعض نسخ الكافي.

(٢) التهذيب ١ : ٤٢٥ ح ١٣٥١ ، الاستبصار ١ : ١٨٠ ح ٦٢٨ ، الوسائل ٢ : ١٠١١ أبواب النجاسات ب ٩ ح ١٤. قالا : كنّا في جنازة وقربنا حمار فبال فجاءت الريح ببوله حتّى صكّت وجوهنا وثيابنا فدخلنا على أبي عبد الله (ع) فأخبرناه فقال : ليس عليكم شي‌ء.

(٣) الكافي ٣ : ٣٨ ح ٣ ، الوسائل ٢ : ١٠١٠ أبواب النجاسات ب ٩ ح ٣.

(٤) الكافي ٣ : ٥٧ ح ٦ ، التهذيب ١ : ٢٦٥ ح ٧٧٣ ، الاستبصار ١ : ١٧٨ ح ٦٢١ ، الوسائل ٢ : ١٠٠٩ أبواب النجاسات ب ٩ ح ١.

(٥) الكافي ٣ : ٥٧ ح ٥ ، التهذيب ١ : ٢٦٥ ح ٧٧٥ ، الاستبصار ١ : ١٧٨ ح ٦٢٣ ، الوسائل ٢ : ١٠١١ أبواب النجاسات ب ٩ ح ٨.

(٦) التهذيب ١ : ٢٦٥ ح ٧٧٦ ، الاستبصار ١ : ١٧٩ ح ٦٢٥ ، الوسائل ٢ : ١٠١١ أبواب النجاسات ب ٩ ح ١٣.

٣٨٧

حجّة المخالف : العمومات ، وخصوص الأخبار المعتبرة المستفيضة ، وكثير منها صحيح (١) ، ولكنها لا تقاوم ما ذكرنا.

أما العمومات ، فشمولها لما نحن فيه ممنوع ، لأنّ المتبادر منها بول الإنسان. سلّمنا ، لكنها مخصّصة بما ذكرنا.

وأما الخصوصات فلا يعارض بها ما ذكرنا ، لأنّ الصحيح فيها أيضاً موجود ، ومع اعتضادها بالشهرة العظيمة التي كادت أن تكون إجماعاً ، وموافقتها لأصل البراءة ، والطهارة ، والسهولة واليسر ، ونفي الحرج والعسر ، سيّما في الأسفار ، وخصوصاً في الأيام الكثيرة الريح ، وخصوصاً مع الاحتياج إليها في رضّ الأكداس. فتترجح على معارضاتها وإن لم تكن معتبرة الإسناد ، فكيف مع اعتبار سند كثير منها ، مع مهجوريّة معارضاتها عند الأصحاب ، وتركهم العمل عليها ، وانفراد ابن الجنيد بالعمل عليها مع كونه في الأكثر موافقاً للعامة ، ومخالفتها للأُصول والعمومات والعمل.

فلا بد من حملها على التقيّة ، فإنّ ذلك مذهب بعض العامة ، أو على الكراهة كما صرّح به في رواية زرارة ، عن أحدهما عليهما‌السلام : في أبوال الدواب تصيب الثوب ، فكرهه ، فقلت : أليس لحومها حلالاً؟ قال : «بلى ، ولكن ليس مما جعله الله للأكل» (٢).

وإنّما لم نعدّها من جملة الأدلّة ؛ لعدم الحقيقة الشرعيّة في الكراهة في المعنى المصطلح ، ولكن بعد الجمع والتأويل فهو منطبق على المدّعى.

__________________

(١) انظر الوسائل ٢ : ١٠١٠ أبواب النجاسات ب ٩ ح ٦ ، ٩ ، ١١ ، وفي الصحيح منها : يغسل بول الفرس والحمار والبغل ، وأما الشاة وكل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله ، وفي أُخرى : عن أبوال الخيل والبغال قال : اغسل ما أصابك منها.

(٢) الكافي ٣ : ٥٧ ح ٤ ، التهذيب ١ : ٢٦٤ ح ٧٧٢ ، الاستبصار ١ : ١٧٩ ح ٦٢٦ ، الوسائل ٢ : ١٠١٠ أبواب النجاسات ب ٩ ح ٧ ، وفيها القاسم بن عروة ، ولم يثبت توثيقه.

٣٨٨

ثم إنّ المحقّق في الشرائع تردد في طهارة ذرق الدجاج الغير الجلّال (١) لرواية ضعيفة جدّاً (٢) معارضة بمثلها (٣). ولا وجه له ، للأصل ، والعمومات ، وكلّ ما تقدّم من الأدلّة ، ولا بأس باستحباب التنزّه.

الثاني : المني والدم.

من ذي النفس السائلة نجسان. أما المني فيدلّ عليه مضافاً إلى الإجماع المتكرر في كلامهم (٤) : الأخبار المستفيضة الصحيحة وغيرها (٥).

والحقّ أنّه ليس فيها ما يشمل جميع أفراده ، بل الظاهر منها مني الإنسان (٦).

وقد يظنّ التعميم من صحيحة محمّد بن مسلم ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «ذكر المني فشدّده ، وجعله أشدّ من البول» (٧) بأنّ فيه إشعاراً بكونه أولى بالتنجيس من البول ، فكلّ ما حكم بنجاسة بوله فيكون منيه أولى بالتنجيس.

وفيه مع ما فيه لا يتمّ فيما بوله طاهر.

فالمعتمد هو الإجماع.

__________________

(١) الشرائع ١ : ٤٣.

(٢) روى فارس قال : كتب إليه رجل يسأله عن ذرق الدجاج تجوز الصلاة فيه؟ فكتب لا. التهذيب ١ : ٢٦٦ ح ٧٨٢ ، الاستبصار ١ : ١٧٨ ح ٦١٩ ، الوسائل ٢ : ١٠١٣ أبواب النجاسات ب ١٠ ح ٣ ، وفارس فيها هو ابن حاتم القزويني ، وقال الشيخ في رجاله : ٤٢٠ إنّه غالٍ ملعون.

(٣) روى وهب بن وهب عن الصادق (ع) : لا بأس بخرء الدجاج والحمام يصيب الثوب. التهذيب ١ : ٢٨٣ ح ٨٣١ ، الاستبصار ١ : ١٧٧ ح ٦١٨ ، الوسائل ٢ : ١٠١٣ أبواب النجاسات ب ١٠ ح ٢. ووهب عاميّ مطعون فيه بالكذب كما في رجال النجاشي : ٤٣٠.

(٤) كما في التذكرة ١ : ٥٣ ، والمدارك ٢ : ٢٦٥ ، والذخيرة : ١٤٦ ، وكفاية الأحكام : ١١.

(٥) الوسائل ٢ : ١٠٢١ أبواب النجاسات ب ١٦.

(٦) ففي حسنة الحلبي إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه .. ، وفي رواية محمد بن مسلم سألته عن المذي يصيب الثوب .. وقال في المني يصيب الثوب : إن عرفت مكانه فاغسله ، وهكذا.

(٧) الفقيه ١ : ١٦١ ح ٧٥٨ ، التهذيب ١ : ٢٥٢ ح ٧٣٠ ، الوسائل ٢ : ١٠٢٢ أبواب النجاسات ب ١٦ ح ٢.

٣٨٩

والاستدلال بقوله تعالى (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) (١) ضعيف ، إذ بعد تسليم كون المراد من الرجز المني دون الجنابة أو غيرها ليس فيه دلالة على النجاسة ، وإرادة الطهارة من الخبث من قوله تعالى (لِيُطَهِّرَكُمْ) ليس بأولى من إرادة الطهارة من الحدث.

وأما مني ما لا نفس له ، فقد تردّد فيه بعض الأصحاب (٢) ، وصرّح جماعة منهم بطهارته (٣) ، وهو الأقوى ، للأصل ، وعدم استفادة حكمه من الأخبار.

وأما الدم فأما بالإجمال فلا ريب في نجاسته ، وهو إجماعيّ مدلول عليه بالأخبار المعتبرة.

وأما التفصيل ، فإن كان من ذي النفس فنجس قليله وكثيره ، خلافاً لابن الجنيد في الأقلّ من الدرهم (٤) ، وهو ضعيف.

واستثني من ذلك : ما يتخلّف في اللحم ، وسيجي‌ء الكلام فيه.

أما نجاسة أصل هذا الدم ، فإجماعيّة كما نقله الفاضلان (٥) وغيرهما (٦) ، وظاهر المدّعين للإجماع على مطلقه ، سواء كان مسفوحاً أي مصبوباً من عرق بقوّة أو كان من أثر الخدشة والشوكة ، وهو مقتضى إطلاق الفتاوى والأخبار.

وما يتوهّم من كلام العلامة في المنتهي وغيره من تقييده بالمسفوح (٧) ، فمراده إخراج المتخلّف في اللحم ، لا ما تقدّم ، كما تشهد به سائر كلماته.

__________________

(١) الأنفال : ١١.

(٢) كالمحقّق في الشرائع ١ : ٤٣ ، والمعتبر ١ : ٤١٥.

(٣) كالشهيد في البيان : ٩٠ ، وصاحب المدارك ٢ : ٢٦٧.

(٤) نقله في المعتبر ١ : ٤٢٠.

(٥) المحقّق في المعتبر ١ : ٤٢٠ ، والعلامة في المنتهي ٣ : ١٨٨.

(٦) كصاحب المدارك ٢ : ٢٨١.

(٧) لأنّه قال : قال علماؤنا الدم المسفوح من كلّ حيوان ذي نفس سائلة ، أي يكون خارجاً بدفع من عرق نجس وهو مذهب علماء الإسلام. المنتهي ٣ : ١٨٨.

٣٩٠

والظاهر أنّ التقييد في الآية أيضاً ناظر إلى ذلك ، فلا دلالة فيه على نفي الحرمة فيما تقدّم حتّى تثبت الطهارة.

وبالجملة فلا إشكال في نجاسة غير المتخلّف في اللحم للإجماع ، والأخبار (١).

وأما المتخلّف في اللحم فهو طاهر حلال بالإجماع ، كما يظهر من جماعة من أصحابنا (٢) ، ونقطع به من تتبع أحوال السلف في كلّ زمان من غير نكير.

وقد يستدلّ عليه بقوله تعالى (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (٣).

وقد يستشكل فيه : بأنّ مفهوم الوصف لا حجّيّة فيه ، وعموم الدم في الآية الأُخرى يشمله ، وكذلك سائر الأخبار ، ولا يعارض الخاص المفهوم سيّما إذا ضعف العام المنطوق ، وخصوصاً إذا جُهل التاريخ ، إلّا أن يقال : إنّه من باب مفهوم الحصر ، وهو قوي.

وقيل : عليه أن يعارض الآية الأُخرى ، إما مع الجزء السلبي من الحصر أو الإثباتي ، أما الأوّل فيفيد عكس المطلوب ، فإنّ مطلق الدم حينئذٍ أخص ، وأما الثاني فيرجع إلى اعتبار مفهوم الوصف (٤).

أقول : وغاية ما يستفاد من الحصر نفي الحرمة عن غير الدم المسفوح ، وغير الدم المسفوح أعمّ من الدم المطلق من وجه ، فإنّ غير الدم المسفوح أعمّ من الدم الغير المسفوح ، فلا بد من الرجوع إلى المرجّحات ، فلا يفيد عكس المطلوب أيضاً.

وكيف كان فما ادّعينا من ظهور الآية في إخراج المتخلّف وكون الحصر إضافيّاً بالنسبة إلى ما حرّمه العرب على أنفسهم مما في بطون الأنعام أيضاً مع الإجماع يكفي في إثبات المطلب ، وإن كان الانفهام والظهور من جهة المفهوم الوصفي ، فإنّه

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٢٦ أبواب النجاسات ب ٢٠.

(٢) كالعلامة في المختلف ١ : ٤٧٤ ، والسبزواري في الذخيرة : ١٤٩.

(٣) الأنعام : ١٤٥.

(٤) مشارق الشموس : ٣٠٨.

٣٩١

قد يصير حجّة بانضمام المقام والتأيّد بالقرائن.

ثم إنّهم اشترطوا في ذلك القذف المعتاد ، فلو تخلّف لعارض ، كما لو جذبه الحيوان بنفسه إلى جوفه ، أو بسبب كون رأسه أعلى من جسده حال الذبح ، فينجس ما في البطن ، بل ما في العروق أيضاً لو علم أنّه من ذلك ، ولكن فرض حصول العلم فيه بعيد.

وبالجملة المسفوح حرام نجس ، وغير المسفوح طاهر حلال ، والألفاظ موضوعة للأُمور النفس الأمريّة ، ومع عدم إمكان العلم فيتبع الظنّ.

وعلى هذا فالأمر في المتخلّف في العروق وداخل اللحم سهل ، لكمال بُعد حصول العلم أو الظنّ بكونه من جملة الدم المسفوح ، بخلاف ما يجتمع في البطن ، فإنّ الغالب حصول العلم أو الظنّ بكونه من الدم المسفوح.

ولا يكتفى بمجرّد عدم معلوميّة كونه مسفوحاً ، لإطلاقات النجاسة ، وعدم العلم بتحقّق الإجماع ولا نقله في ذلك.

ولا يبعد القول بعدم نجاسة ملاقية مع القول بالحرمة ، لأصالة الطهارة ، بل لا تبعد الطهارة والحلّ ، للأُصول ، وصحيحة عبد الله بن سنان الاتية (١).

وأما دم غير ذي النفس ، فهو طاهر مطلقاً ، وادّعى عليه الإجماع الشيخ (٢) والفاضلان (٣).

وقد يستدلّ عليه بقوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) (٤) وفيه ضعف ، لعدم تبادر دمه.

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٧٩ ح ٣٣٧ ، الوسائل ١٦ : ٤٩٥ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٦٤ ح ٢ ، كلّ شي‌ء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال.

(٢) الخلاف ١ : ٤٧٦.

(٣) المحقّق في المعتبر ١ : ٤٢١ ، والعلامة في المنتهي ٣ : ١٩٠.

(٤) المائدة : ٩٦.

٣٩٢

وبجواز أكل السمك حيّاً وفيه الدم. وفيه أيضاً أنّ الأحكام تابعة للأسامي ، ولا يقال لأكله أكل الدم.

وبقوله تعالى (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (١) بالتقريب المتقدّم ، والجواب هنا أظهر مما تقدّم.

وسيجي‌ء في كتاب المطاعم أن الأشهر الأقوى حرمته ، فلا وجه للاستدلال بالآية أصلاً. مع أنّ الظاهر من الآية الحصر الإضافي بالنسبة إلى المتخلّف ، كما تشهد به مطابقته مع اشتراط التلبس بالمبدإ في المشتق ، وأنّ المتبادر من المسفوح وغيره ما من شأنه السفح ، بخلاف ذي النفس السائلة وغير السائلة.

وتؤيّده رواية السكوني في السمك (٢) ، وصحيحة ابن أبي يعفور في دم البراغيث (٣) ، وكذلك رواية الحلبي (٤) ورواية غياث فيه وفي دم البقّ (٥) ، مع لزوم العسر والحرج في اجتناب كثير منها أيضاً.

والظاهر أنّ الدم الذي يوجد في البيض أيضاً نجس كما صرّح به جماعة من الأصحاب (٦) ، ولا يبعد كونه إجماعيّاً ، فإنّهم قالوا : إنّه علقة ، وادّعى الشيخ على نجاستها إجماع الفرقة (٧) ، وتشمله مطلقات الدم أيضاً.

والذي نشاهده أنّ هذا الدم خارج الصفرة ، ويحتمل عدم إمكان تطهير الصفرة كالبياض لميعانها ، ويحتمل التطهير ، لأنّ عليها جلدة رقيقة توجب تماسكها ، فيمكن

__________________

(١) الأنعام : ١٤٥.

(٢) الكافي ٣ : ٥٩ ح ٤ ، التهذيب ١ : ٢٦٠ ح ٧٥٥ ، الوسائل ٢ : ١٠٣٠ أبواب النجاسات ب ٢٣ ح ٢.

(٣) التهذيب ١ : ٢٥٥ ح ٧٤٠ ، الاستبصار ١ : ١٧٦ ح ٦١١ ، الوسائل ٢ : ١٠٣٠ أبواب النجاسات ب ٢٣ ح ١.

(٤) الكافي ٣ : ٥٩ ح ٨ ، التهذيب ١ : ٢٥٩ ح ٧٥٣ ، الوسائل ٢ : ١٠٢٧ أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ٧.

(٥) التهذيب ١ : ٢٦٦ ح ٧٧٨ ، الاستبصار ١ : ١٨٨ ح ٦٥٨ ، والوسائل ٢ : ١٠١٣ أبواب النجاسات ب ١٠ ح ٥.

(٦) المعتبر ١ : ٤٢٢ ، الدروس ١ : ١٢٣.

(٧) الخلاف ١ : ٤٩٠ مسألة ٢٣٢.

٣٩٣

إدخالها في الكر أو الجاري أو غيرهما.

وأما ما يوجد في اللبن ، فهو أيضاً نجس ، للإطلاقات. ولأنّ ضعف الحيوان منَعَ عن استحالته ، فبقي على حاله.

ثم إنّ الأظهر في الدم المشتبه الطهارة ، للأصل والإطلاقات. وأما الحلّيّة ، فلا ، لتفاوت المأخذ فيهما ، وإن كان يحتمله أيضاً ، لصحيحة عبد الله بن سنان : «كلّ شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه» (١) بل هو الأظهر.

الثالث : الميتة

من ذي النفس السائلة نجسة بإجماع العلماء ، إلّا من الشافعي في الإنسان ، معلّلاً بأنّه لو كان نجساً لما قبل التطهير (٢) ، وإلّا من الشيخ في الحيوان المائي (٣) ، لخبرين ضعيفي المأخذ والدلالة (٤). ونقل الإجماع في المسألة جماعة من الأصحاب (٥).

ويدلُّ عليه الأخبار التي كادت أن تكون متواترة بالمعنى ، مثل الصحاح المستفيضة الدالّة على أن الميتة والجيفة إذا غيّرت الماء فلا يشرب منه ولا يتوضّأ (٦).

والصحاح وغيرها الواردة في منزوحات البئر ، سيّما ما دلّ على نجاستها

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٧٩ ح ٣٣٧ ، الوسائل ١٦ : ٤٩٥ أبواب الأطعمة المحرمة ب ٦٤ ح ٢.

(٢) الام ١ : ٢٦٦ ، المجموع ٥ : ١٨٥ ، وعمدة القارئ ٣ : ٢٣٩ ، بداية المجتهد ١ : ٢٢١ ، مغني المحتاج ١ : ٧٨ ، فتح الباري ٣ : ٩٨ ، المحلّى ٢ : ٢٤.

(٣) الخلاف ١ : ١٨٩ مسألة ١٤٦.

(٤) وهما ما رواه عنهم أنّهم قالوا : إذا مات فيما فيه حياته لا ينجّسه ويقرب منه ما في الفقيه ٣ : ٢٠٦ ح ٩٤٥ ، والتهذيب ٩ : ١١ ح ٤٠. وما روي عن النبيّ (ص) في البحر : هو الطهور ماؤه الحل ميتته الوسائل ١ : ١٠٢ أبواب الماء المطلق ب ٢ ح ٤ نقلاً عن المعتبر.

(٥) المعتبر ١ : ٤٢٠ ، المنتهي ٣ : ١٩٥ ، التذكرة ١ : ٥٩ ، الذكرى : ١٣ ، روض الجنان : ١٦٢.

(٦) الوسائل ١ : ١٠٣ أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٤ ، ٦ ، ٨ ، ٩ ..

٣٩٤

مع تغيّرها بها (١).

والأخبار المستفيضة جدّاً من الصحاح وغيرها الدالّة على أنّ السمن والزيت الذي يموت فيه الجرذ والفأرة يحرم أكله إن كان مائعاً ويستصبح به (٢) ، وما ورد في إهراق مرقٍ ماتت فيه الفأرة وغسل لحمه (٣).

وصحيحة محمّد بن مسلم الدالّة على حرمة الأكل في إنية أهل الكتاب إذا كانوا يأكلون فيها الميتة (٤).

وحسنة الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت فقال : «يغسل ما أصاب الثوب» (٥).

ولهذه الحسنة صدر أطلق فيه لفظ الميت على الإنسان وغيره ، فلا اختصاص له بالإنسان.

ورواية إبراهيم بن ميمون ، عنه عليه‌السلام : عن الرجل يقع ثوبه على جسد الميت ، قال : «إن كان غُسّل الميت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه ، وإن كان لم يُغسّل الميت فاغسل ما أصاب ثوبك منه» (٦).

وكلمة «ما» تفيد العموم ، وتشمل لعاب الفم والأنف والعين وغيرها.

ولا وجه للقدح في دلالتهما كما وقع من صاحب المدارك (٧) وبعض من قلّده (٨) ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣١ أبواب الماء المطلق ب ١٥ ، ١٧ ١٩ ، ٢١ ، ٢٢.

(٢) الوسائل ١٦ : ٤٦١ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤٣ ، ٤٤.

(٣) الوسائل ١٦ : ٤٦١ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤٣ ، ٤٤.

(٤) الفقيه ٣ : ٢١٩ ح ١٠١٧ ، التهذيب ٩ : ٨٨ ح ٣٧١ ، المحاسن : ٤٥٤ ، الوسائل ١٦ : ٤٧٦ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٥٤ ح ٦.

(٥) الكافي ٣ : ١٦١ ح ٤ ، التهذيب ١ : ٢٧٦ ح ٨١٢ ، الاستبصار ١ : ١٩٢ ح ٦٧١ ، الوسائل ٢ : ١٠٥٠ أبواب النجاسات ب ٣٤ ح ٢.

(٦) الكافي ٣ : ١٦١ ح ٧ ، التهذيب ١ : ٢٧٦ ح ٨١١ ، الوسائل ٢ : ١٠٥٠ أبواب النجاسات ب ٣٤ ح ١.

(٧) يعني القدح في دلالة الروايتين الأخيرتين. المدارك ٢ : ٢٦٨ ٢٧١.

(٨) كالسبزواري في الذخيرة : ١٤٧.

٣٩٥

ولو تؤمّل في دلالة اغسل ولا تغسل على النجاسة وعدمها فلا اختصاص له بما نحن فيه ، مع تراكم أفهام الفقهاء على ذلك فيه.

وأكثر الأخبار المتقدّمة يدل على المطلوب بالعموم ، إما من جهة المفرد المحلّى الدال على العموم بسبب حصول الطبيعة في ضمن جميع الأفراد على التحقيق ، أو بسبب الوقوع في كلام الحكيم وخلوّه عن القرينة على القول الأخر ، أو من جهة ترك الاستفصال.

ورواية جابر عن الباقر عليه‌السلام تدلّ بالعموم صريحاً ، قال : أتاه رجل فقال له : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت ، فما ترى في أكله؟ فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : «لا تأكله» فقال له الرجل : الفأرة أهون عليّ من أنّ أترك طعامي من أجلها ، قال ، فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : «إنّك لم تستخفّ بالفأرة ، وإنّما استخففت بدينك ، إنّ الله حرّم الميتة من كلّ شي‌ء» (١) ولا يخفى على المتأمّل أنّ المراد الحرمة الحاصلة بسبب النجاسة.

ثم : إنّ ظاهرهم الاتفاق على أنّ المبانة من الحيوان نجسة ، حياً كان أو ميتاً ، إلّا ما يشعر به الفقيه من طهارة جلد الميتة (٢).

ويدلّ على نجاسة جزء الميت إذا بان مضافاً إلى ظاهر الإجماع وشمول بعض الأخبار المتقدّمة الاستصحاب ، وصحيحة الحلبي المجوّزة للصلاة فيما كان من صوف الميتة ، معلّلاً بأنّه ليس فيه روح (٣)

وفي مثل البثور والثؤلول والأجزاء الصغار من بدنه إشكال.

وأما جزء الحي ، فإن خرجت منه الروح ولما ينقطع فالأظهر الطهارة ، وفي المنقطع بعد خروج الروح إشكال.

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٨٦ ح ٣٦٥ ، الوسائل ١ : ١٤٩ أبواب الماء المضاف ب ٥ ح ٢.

(٢) الفقيه ١ : ٩ ح ١٥.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٦٨ ح ١٥٣٠ ، الوسائل ٢ : ١٠٨٨ أبواب النجاسات ب ٦٨ ح ١.

٣٩٦

وأما لو خرجت منه الروح بعد الانقطاع ، فالمذهب فيه النجاسة ، وتدل عليه الأخبار المستفيضة ، منها : ما ورد في قطع أليات الغنم ، وأنّها ميتة ، ويحرم عدم الاجتناب عنها (١).

ومنها ما ورد في الصيد : «أنّ ما أخذت الحبالة وقطعت منه فهو ميتة ويذكى سائر جسده» (٢) وفيها الصحيح والحسن.

ورواية أيوب بن نوح ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة» (٣).

نعم الظاهر في الأجزاء الصغار مثل البثور والثؤلول الطهارة ، كما استقربه العلامة (٤) وجماعة ممن تأخّر عنه (٥) ، لعدم شمول الأدلة ، ولصحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يكون به الثؤلول أو الجرح ، هل يصلح له أن يقطع الثؤلول وهو في صلاته ، أو ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح ويطرحه؟ قال : «إن لم يتخوّف أن يسيل الدم فلا بأس ، وإن تخوّف أن يسيل الدم فلا يفعله» (٦) وجه الدلالة : ترك الاستفصال مع أنّه مقامه ، وفيه تأمّل.

وللزوم الحرج الشديد في مثل ما ينفصل عن الشفة وعن اليد في حال عصر الثياب ، ولا يترك الاحتياط فيما لم يحصل الحرج.

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٣٥٩ أبواب الذبائح ب ٣٠.

(٢) الوسائل ١٦ : ٢٨٥ أبواب الصيد ب ٢٤.

(٣) الكافي ٣ : ٢١٢ ح ٤ ، التهذيب ١ : ٤٢٩ ح ١٣٦٩ ، الاستبصار ١ : ١٠٠ ح ٣٢٥ ، الوسائل ٢ : ٩٣١ أبواب غسل المسّ ب ٢ ح ١.

(٤) المنتهي ٣ : ٢١٠.

(٥) كصاحب المدارك ٢ : ٢٧٢ ، وصاحب الحدائق ٥ : ٧٥.

(٦) التهذيب ٢ : ٣٧٨ ح ١٥٧٦ ، الاستبصار ١ : ٤٠٤ ح ١٥٤٢ ، الوسائل ٢ : ١٠٨٢ أبواب النجاسات ب ٦٣ ح ١.

٣٩٧

ثم إنّ نجاسة الميتة مثل سائر النجاسات لا تتعدّى إلّا مع الرطوبة ، وذهب العلامة إلى تعدّيها مع اليبوسة (١).

ويدلُّ على المختار : الأصل ، والاستصحاب ، وعموم التعليل بالجفاف لعدم التنجيس في العذرة وغيرها من النجاسات في الأخبار (٢).

وموثّقة عبد الله بن بكير : «كلّ يابس ذكيّ» (٣).

وخصوص صحيحة عليّ بن جعفر ، قال : سألته عن الرجل وقع ثوبه على كلب ميت قال : «ينضحه بالماء ، ويصلي فيه ، ولا بأس» (٤).

وصحيحته الأُخرى : عن الرجل يقع ثوبه على حمار ميت ، هل تصلح له الصلاة فيه قبل أن يغسله؟ قال : «ليس عليه غسله ، وليصلّ فيه ، ولا بأس» (٥).

ولعلّ العلامة استند إلى إطلاق حسنة الحلبي ورواية إبراهيم المتقدّمتين.

وفيه : أنّهما مطلقتان ، فيجب الحمل على المقيّد. مع أنّ قوله عليه‌السلام : «يغسل ما أصاب الثوب دون ما أصابه من الثوب» ونحو ذلك يشعر بالرطوبة.

وذهب في المنتهي إلى تفصيل آخر ، وهو أنّ النجاسة الحاصلة بمسّ اليابس حكميّة ، فلو لاقى جسماً رطباً لا يجب غسله (٦) ، وهو أيضاً ضعيف.

بقي في المقام شيئان :

الأوّل : أنّ في نجاسة ميت الآدمي قبل البرد قولين : من جهة الإطلاقات ، ومن جهة صحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام ، قال : «مسّ الميّت عند موته

__________________

(١) القواعد ١ : ٢٣٥ ، نهاية الأحكام ١ : ١٧٣.

(٢) الوسائل ٢ : ١٠٣٥ أبواب النجاسات ب ٢٦.

(٣) التهذيب ١ : ٤٩ ح ١٤١ ، الاستبصار ١ : ٥٧ ح ١٦٧ ، الوسائل ١ : ٢٤٨ أبواب أحكام الخلوة ب ٣١ ح ٥.

(٤) الفقيه ١ : ٤٣ ح ١٦٩ ، التهذيب ١ : ٢٧٧ ح ٨١٥ ، الاستبصار ١ : ١٩٢ ح ٦٧٤ ، الوسائل ٢ : ١٠٣٥ أبواب النجاسات ب ٢٦ ح ٧.

(٥) التهذيب ١ : ٢٧٦ ح ٨١٣ ، الاستبصار ١ : ١٩٢ ح ٦٧٢ ، الوسائل ٢ : ١٠٣٥ أبواب النجاسات ب ٢٦ ح ٥.

(٦) المنتهي ٢ : ٤٥٦.

٣٩٨

وبعد غسله والقُبلة ليس به بأس» (١).

الثاني : إنّ ميتة ما لا نفس له طاهرة بالإجماع كما نقله جماعة من الأصحاب (٢) ، والأخبار. وخلاف الشيخ في نجاسة ميتة العقرب (٣) ضعيف ، وما ورد من الأخبار الدالّة على إراقة ماء وقعت فيه (٤) محمول على الاستحباب ، أو على الاجتناب من سمه.

الرابع : لا تطهر الميتة بالدباغ على المشهور ، بل المجمع عليه ، كما ادّعاه الشيخ في الخلاف والشهيد في الذكرى (٥) ، والعلامة عن غير ابن الجنيد (٦) ، وادّعى الشهيد تواتر الأخبار به.

وإنّا وإن لم نقف على الأخبار المتواترة ، لكن يمكن الاستدلال بصحيحة عليّ بن أبي المغيرة ، وفي التهذيب عليّ بن المغيرة (٧) قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك ، الميتة ينتفع بشي‌ء منها؟ قال : «لا» قلت : بلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ بشاة ميمونة فقال : «ما كان على أهل هذه الشاة إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها» فقال : «تلك شاة لسودة بنت زمعة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها ، فتركوها حتّى ماتت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما كان على أهلها إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا

__________________

(١) الفقيه ١ : ٨٧ ح ٤٠٣ ، التهذيب ١ : ٤٣٠ ح ١٣٧٠ ، الاستبصار ١ : ١٠٠ ح ٣٢٦ ، الوسائل ٢ : ٩٣١ أبواب غسل المسّ ب ٣ ح ١.

(٢) كالمحقّق في المعتبر ١ : ١٠١ ، والعلامة في المنتهي ١ : ١٦٥.

(٣) النهاية : ٦.

(٤) انظر الوسائل ١ : ١٧٢ أبواب الأسآر ب ٩ ح ٥ ، وج ٢ : ١٠٥٢ أبواب النجاسات ب ٣٥ ح ٤.

(٥) الخلاف ١ : ٦٠ مسألة ٩ ، الذكرى : ١٦.

(٦) المنتهي ٣ : ٣٥٢.

(٧) وكذا في الكافي.

٣٩٩

بإهابها أي تذكّى» (١).

ورواية محمّد بن أبي عمير ، عن غير واحد ، عنه عليه‌السلام : في الميتة قال : «لا يصلّى في شي‌ء منه ولا ينتفع» (٢).

وتؤدّي مؤدّاهما رواية الفتح بن يزيد وغيرها (٣) ، ورواية عبد الرحمن بن الحجّاج عنه عليه‌السلام ، حيث أنكر في آخرها على أهل العراق استحلالهم الميتة لزعمهم أنّ دباغ جلد الميتة ذكاته : «ثم لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلّا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٤) وتؤدّي مؤدّاها رواية أبي بصير (٥).

وجه الاستدلال : أنّ الانتفاع بالرطب الملاقي لها كالماء والسمن انتفاع بجلد الميتة غالباً ، حيث لو لم تكن الجلدة لما تمكّن من حفظ ذلك الرطب.

ولم يقل أحد بحرمة تناول ذلك الرطب ، سيّما بعد إخراجه منها ، من جهة أنّه كان في جلد الميتة ، لا من جهة النجاسة ، بل إنّما يقول من يقول بالحرمة لأجل النجاسة.

وكذلك إنكار كون الدباغ ذكاة ، فإنّ الذكاة تفيد الحلّ والطهارة كليهما في ما يؤكل ، والطهارة في غيره ، وإطلاق الحلّ يحمل على العموم كما قرّر في محلّه.

ورواية أبي القاسم الصيقل ، حيث سأل عن اضطراره إلى استعمال جلود الميتة في السيوف وملامستها بثيابهم ، فأجاب عليه‌السلام : «اجعلوا ثوباً للصلاة» (٦).

فإنّ الظاهر أنّ تلك الجلود كانت مدبوغة ، وعدم منعهم عن الاستعمال لعلّه كان لأجل التقيّة.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٥٩ ح ٧ ، التهذيب ٢ : ٢٠٤ ح ٧٩٩ ، الوسائل ٢ : ١٠٨٠ أبواب النجاسات ب ٦١ ح ٢.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٠٣ ح ٧٩٣ ، الوسائل ٣ : ٢٤٩ أبواب لباس المصلّي ب ١ ح ٢.

(٣) الكافي ٦ : ٢٥٨ ح ٦ ، التهذيب ٩ : ٧٦ ح ٣٢٣ ، الاستبصار ٤ : ٨٩ ح ٣٤١ ، الوسائل ١٦ : ٤٤٨ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٣٣ ح ٧.

(٤) الكافي ٣ : ٣٩٨ ح ٥ ، التهذيب ٢ : ٢٠٤ ح ٧٩٨ ، الوسائل ٢ : ١٠٨١ أبواب النجاسات ب ٦١ ح ٤.

(٥) الكافي ٣ : ٣٩٧ ح ٢ ، التهذيب ٢ : ٢٠٣ ح ٧٩٦ ، الوسائل ٢ : ١٠٨٠ أبواب النجاسات ب ٦١ ح ٣.

(٦) التهذيب ٦ : ٣٧٦ ح ١١٠٠ ، الوسائل ١٢ : ١٢٥ أبواب ما يكتسب به ب ٣٨ ح ٤.

٤٠٠