غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: عباس تبريزيان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-182-7
الصفحات: ٥٨٤

الرابع : المعروف من مذهب الأصحاب أنّ حكم ماء الحمّام حكم الجاري في عدم التنجّس بالملاقاة ما لم يتغيّر إذا كان متصلاً بالمادّة ، وكذلك في تطهيره وقيل : الظاهر أنّه إجماعيّ (١) ، وقال في المعالم : لا نعلم في الأصحاب مخالفاً في عدم الانفعال بالملاقاة مع بلوغ المادّة كرّاً (٢).

والمراد به : هي الحياض الصغار التي يجري إليها الماء من المخزن ، فإن ما كان كرّاً منها لا حاجة إلى السؤال عنها ، وهو الظاهر من الأخبار الواردة فيها ، وفهمها الفقهاء أيضاً كذلك.

والأصل فيه : الأخبار المستفيضة جدّاً ، مثل قوله عليه‌السلام في صحيحة داود بن سرحان ، عن الصادق عليه‌السلام : ما تقول في ماء الحمّام؟ قال : «هو بمنزلة الجاري» (٣).

ورواية ابن أبي يعفور ، عنه عليه‌السلام : «إن ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضاً» (٤) وظاهرها أنّه لا يقبل النجاسة كماء النهر.

وموثّقة حنّان عنه عليه‌السلام ، حيث سأل عن انتضاح ماء الحمّام الذي يرد عليه الجنب وغيره فقال : «أليس هو جارٍ؟» قلت : بلى ، قال : «لا بأس» (٥).

ورواية إسماعيل بن جابر في قرب الإسناد ، عن الكاظم عليه‌السلام : «ماء الحمّام لا ينجّسه شي‌ء» (٦).

وقويّة بكر بن حبيب ، عن الباقر عليه‌السلام قال : «ماء الحمّام لا بأس به إذا

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٤ ، كشف اللثام ١ : ٢٧.

(٢) المعالم : ١٣.

(٣) التهذيب ١ : ٣٧٨ ح ١١٧٠ ، الوسائل ١ : ١١٠ أبواب الماء المطلق ب ٧ ح ١.

(٤) الكافي ٣ : ١٤ ح ١ ، الوسائل ١ : ١١٢ أبواب الماء المطلق ب ٧ ح ٧.

(٥) الكافي ٣ : ١٤ ح ٣ ، التهذيب ١ : ٣٧٨ ح ١١٦٩ ، الوسائل ١ : ١٥٤ أبواب الماء المضاف ب ٩ ح ٨.

(٦) قرب الإسناد : ١٢٨ ، الوسائل ١ : ١١٢ أبواب الماء المطلق ب ٧ ح ٨.

٥٢١

كانت له مادّة» (١) وعن الكاظم عليه‌السلام مثله (٢).

وفي فقه الرضا عليه‌السلام : «ماء الحمّام سبيله سبيل الماء الجاري إذا كانت له مادّة» (٣) إلى غير ذلك من الأخبار.

ولو لم تكن هذه الأخبار لكان ينبغي الحكم بتنجّسها ، لقلّتها ، وعدم اندراجها تحت الكرّ بملاحظتها مع مادتها إذا كان المجموع كرّاً ، لما بينا أنّ التحقيق اعتبار الاتّحاد العرفي واستواء السطوح في الكرّ ، وهذا أيضاً من أعظم الشواهد على ما بيّنا هناك ، وإلا فلم يكن إشكال فيه مع الاتصال حتّى يحتاج إلى السؤال ، ولكان الأولى الجواب عن سؤال الرواة عنه بأنّه كرّ ، لا أنّه بمنزلة الجاري وسبيله سبيل الجاري ، أو أنّه كماء النهر ، ونحو ذلك.

والتحقيق أنّ ذلك من باب تقوّي القليل بالكثير ، لا من جهة ملاحظتهما معاً ، واندراجه تحت الكرّ إما على القول بعدم اعتبار تساوي السطوح ، ووجه السؤال عن حكمه هو خفاء اندراجه تحت ما دلّ على حكم مطلق الكرّ ، أو على جعل ذلك مستثنى من ذلك الشرط بهذه الأخبار لكثرة الابتلاء به ، ولزوم الحرج ، فيقال باشتراط استواء السطوح والاتّحاد العرفي إلّا في هذا الماء ، ويخصّص ذلك من جهة الأخبار ، واشترط في ذلك الاتصال بالمادّة ، فلو انقطع عنها فهو قليل.

ثم : إنّ المشهور اشتراط كرّيّة المادّة (٤) ، وعن بعضهم اشتراط أزيد منه (٥) ، ولعلّه

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٤ ح ٢ ، التهذيب ١ : ٣٧٨ ح ١١٦٨ ، الوسائل ١ : ١١١ أبواب الماء المطلق ب ٧ ح ٤. ووجه التعبير بالقويّة هو أنّ راويها مجهول ولكن الأصحاب تلقّوها بالقبول.

(٢) التهذيب ١ : ٣٧٨ ح ١١٧١ ، الوسائل ١ : ١١١ أبواب الماء المطلق ب ٧ ح ٦.

(٣) فقه الرضا (ع) : ٨٦.

(٤) منهم الصدوق في الفقيه ١ : ١٠ ، والعلامة في المنتهي ١ : ٣٢ ، والشهيد في البيان : ٩٨ ، وصاحب المدارك ١ : ٣٧.

(٥) التحرير ١ : ٤ ، روض الجنان : ١٣٧.

٥٢٢

لا يخالف المشهور ، بل ذلك لتحقّق الاستمداد والتقوّي ، لعدم إمكان العلم بالاستمداد حين الملاقاة إذا كانت المادّة لا تزيد على الكرّ أصلاً ، لأنّه حين الجريان غير قارّ ، وهو على صدد التناقص.

والمحقّق لم يعتبر الكرّيّة نظراً إلى الإطلاق ، فاكتفى بصدق المادّة عرفاً (١) ، واكتفى بعضهم بكون المجموع كرّاً (٢).

ولعلّ نظر المشهور إلى أنّ الغالب في ماء الحمّام هو التسنّم من انبوبة ونحوها ، ومع اعتبار اتّحاد الماء وتساوي السطوح في الكرّ فلا يمكن الحكم بعدم نجاسة هذا الماء بعد الملاقاة من جهة كونه كرّاً ، فيبقى الاعتماد في هذا الحكم بالتقوّي والاستمداد لهذه الروايات ، وإلا لكان يكفي بلوغ المجموع كرّاً في ماء الحمّام بطريق أولى ، للزوم الحرج فيه أكثر من غيره.

وربما يوجّه اعتبارهم كرّيّة المادة بأنّ ماء الحمّام في معرض التلف ، فلو لم تكن المادّة كرّاً لنقص بالأخذ والتلف ، وربما يوجّه بأنّ اعتبار الكرّيّة إنّما هو لأجل التطهير لا لعدم التنجّس ، وهو بعيد ، هذا.

ولكن التحقيق أنّه يمكن الاستدلال على اشتراط الكرّيّة بالأخبار أيضاً ، بأن يقال : إنّ الظاهر من المادّة المذكورة في الأخبار هو ما كان كرّاً فصاعداً ، لأنّه هو الفرد الشائع الغالب فيه كما لا يخفى.

مع أنّ الحكم بعدم النجاسة في الأخبار مشروط بثبوت المادّة وتحقّق الشرط بما ذكرنا متيقن ، والباقي مشكوك فيه.

ثم إنّ (٣) الظاهر من لفظ المادّة أيضاً اعتبار الكثرة بهذا المقدار ، فالتمسّك بالإطلاق لمذهب المحقّق ضعيف.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٤٢.

(٢) نسبه إلى الشهيد الثاني في فوائد القواعد في المدارك ١ : ٣٥.

(٣) في «م» ، «ز» : مع أنّ.

٥٢٣

وأما كفاية كون المجموع كرّاً مع قطع النظر عن اندراجه في الكرّ ، وعدم اعتبار الاتّحاد والتساوي ، فيظهر من طريقة استدلال المحقّق أيضاً ، والفرق بينه وبين قول المحقّق هو أنّ المحقّق يتّكل على إطلاق المادّة ، والمادّة على ما في اللغة هي الزيادة المتصلة ، وفي العرف أيضاً يستفاد منها كثرة ، وأما على قول هذا القائل فيكفي ولو فرض كون ماء الحمّام أكثر من مادته.

تذنيب :

المشهور بين الأصحاب نجاسة غُسالة الحمّام ما لم يعلم خلوها عن النجاسة ، وفسّر بالمستنقع ، وادّعى عليه ابن إدريس الإجماع (١) ، وذهب العلامة في المنتهي إلى الطهارة (٢).

وقال في روض الجنان : وهو الظاهر إن لم يثبت الإجماع على خلافه (٣) ، ونسب القول بالكراهة الفاضل المجلسي في شرحه الفارسي على الفقيه إلى أكثر المتأخّرين.

والأصل في هذه المسألة روايات ، وهي رواية حمزة بن أحمد ، عن الكاظم عليه‌السلام ، قال : سألته أو سأله غيري عن الحمّام ، فقال : «ادخله بمئزر ، وغضّ بصرك ، ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمّام ، فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرّهم» (٤).

ورواية ابن أبي يعفور ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غُسالة الحمّام ، فإنّ فيها غُسالة ولد الزنا ، وهو لا يطهر إلى سبعة إباء ، وفيها غُسالة الناصب وهو شرّهما ، إنّ الله لم يخلق خلقاً شراً من الكلب ، وإنّ

__________________

(١) السرائر ١ : ٩١.

(٢) المنتهي ١ : ١٤٦.

(٣) روض الجنان : ١٦١.

(٤) التهذيب ١ : ٣٧٣ ح ١١٤٣ ، الوسائل ١ : ١٥٨ أبواب الماء المضاف ب ١١ ح ١.

٥٢٤

الناصب أهون على الله من الكلب» (١).

وموثّقته المنقولة في العلل ، عنه عليه‌السلام ، قال : «وإيّاك أن تغتسل من غُسالة الحمّام ، ففيها تجتمع غُسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرّهم ، إنّ الله لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب ، وإنّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه» (٢).

وقد حصر في الذخيرة روايات الباب في ثلاثة : رواية حمزة ، ورواية ابن أبي يعفور ، ورواية أبي يحيى الاتية ، ومنع دلالتها على النجاسة وضعّفها. وكذا منع دلالة كلمات الأصحاب عليها ، وذكر أنّ المراد في المقامين عدم جواز الغسل (٣).

وكلاهما تعسّف ، لتصريح أكثر الأصحاب بالنجاسة ، وظهور كلام آخرين. نعم عبارة الصدوق مطابقة لموثّقة ابن أبي يعفور إلى قوله وهو شرهم.

ومنع دلالة الروايات على النجاسة أيضاً تعسّف ، سيّما بعد ملاحظة تشريك الناصب ، والتصريح بنجاسته ، سيّما في روايتي ابن أبي يعفور. إلّا أن يقال : إنّ الجنب وولد الزنا ليسا بنجسين ، ونجاسة غُسالة الناصب موقوفة على ثبوت نجاسة الغُسالة مطلقاً ، فلعلّ المراد التأكيد في عدم جواز الغسل بها. ولكن يمكن القلب : بأنّ تلك الروايات أولى بأن تجعل دليلاً على نجاسة الغُسالة مطلقاً ، ويضمّ إليها عدم القول بالفصل بين الغسلات ، فتثبت به نجاسة الغُسالة مطلقاً.

وفيه تأمّل ؛ فإنّ الشيخ قائل بطهارة الغُسالة في غير غسالة الحمام (٤) ، ولم ينقل عنه الطهارة هنا ، وكذا غيره ، مع أنّ الظاهر من الغُسالة هو الحاصل من التطهير ، وهو منتفٍ هنا كما لا يخفى.

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٤ ح ١ ، الوسائل ١ : ١٥٩ أبواب الماء المضاف ب ١١ ح ٤.

(٢) علل الشرائع : ٢٩٢ ، الوسائل ١ : ١٥٩ أبواب الماء المضاف ب ١١ ح ٥.

(٣) الذخيرة : ١٤٤.

(٤) الخلاف ١ : ١٧٩ ، ١٨١ ، المبسوط ١ : ٩٢.

٥٢٥

ولا وجه للتضعيف أيضاً ، سيّما مع ورود الموثّقة واعتضادها بعمل الأصحاب.

نعم يشكل الاستدلال من جهة أنّ الأخبار مصرّحة بوجود النجاسات المذكورة فيها ، فلا يتمّ فيما لم يحصل العلم ، وفتوى جمهور الأصحاب الحكم بالنجاسة ما لم يعلم طهارتها.

ويمكن أن تنزّل الأخبار على ذلك بإرادة أنّ غُسالة الحمّام مورد هذه الأُمور غالباً ، ويكون ذكر المذكورات بعنوان المثال ، فلا يرد أن يقال : لا يجري هذا الحكم فيما علم انتفاء المذكورات بخصوصها ، فإنّ الظن الغالب حاصل بحصول النجاسات في الحمّام وغسلها فيها.

وهذا هو السرّ في جعل الفقهاء والأُصوليين هذه المسألة مما يقدّم الظاهر على الأصل ، وإلا فمع العلم لا معنى للظهور ، وحينئذٍ فيبقى الإشكال في تنزيل الأخبار على إرادة ذلك ، لا ما علم وجود النجاسات المذكورة.

ثم إثبات ترجيح الظاهر على الأصل ، سيّما وقد روى أبو يحيى الواسطي ، عن بعض أصحابنا ، عن الكاظم عليه‌السلام ، قال : سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غُسالة الناس يصيب الثوب ، قال : «لا بأس» (١).

ولا يبعد ترجيح هذه الأخبار المعمول بها عند الأكثرين ، وحمل هذه الرواية مع ضعفها على غير المستنقع ، بل هو صريح الرواية ، فإنّ المستنقع خارج عن الحمّام غالباً.

ويبقى الكلام حينئذٍ في أنّ هذه المياه إنّما تجري من داخل الحمّام إلى الخارج ، فلا وجه لتخصيص المستنقع ، بل حكم صحن الحمّام والمياه الجارية في الصحن من الغسلات مثله.

وجوابه : أنّ الخروج عن الأصل يحتاج إلى دليل قوي ، وهذه الأخبار بعد اللتيا والتي إنّما دلت على نجاسة الغُسالة في المستنقع إذ الظاهر أنّه نجس باعتبار عدم

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٥ ح ٤ ، الفقيه ١ : ١٠ ح ١٧ ، التهذيب ١ : ٣٧٩ ح ١١٧٦ ، الوسائل ١ : ١٥٤ أبواب الماء المضاف ب ٩ ح ٩.

٥٢٦

سنوح التطهير له غالباً ، بخلاف داخل الحمّام وصحنه ، فإنّه كما أنّه يتنجّس كثيراً يطهر كثيراً أيضاً ، فلا يبقى ظهور مثل الظهور في المستنقع ، ولا دليل يوجب الخروج عن الأصل.

مع أنّ ههنا أخباراً كثيرة صحيحة تدلّ على طهارة الحمّام (١) ، وعدم وجوب غسل الرجل منه.

ومع ذلك يحصل الإشكال فيما حصل العلم بنجاسة صحن الحمام ولم يحصل العلم بالتطهير ، فإنّ الاستصحاب يقتضي النجاسة ، وقلّ ما لم يتحقّق ذلك في حمّام على ما وجدنا.

والمناص عن ذلك ليس إلّا بجعل زوال العلم بالنجاسة وحصول الشك فيها مطهّر للحمام بهذه الروايات الصحيحة ، أو التشبّث بتعارض الاستصحابين ، وإبقاء حكم الحمّام وملاقيه على حالهما ، فالملاقي طاهر والحمّام نجس. والأظهر البناء على الثاني.

وتظهر الثمرة في مثل جواز السجدة.

ويضعف التمسّك بالروايات أنّها نقل فعل أو قضيّة حال ، ولا يفيد العموم حتّى يشمل ما لو حصل العلم بالنجاسة ولم يحصل العلم الشرعي بخلافه بعده.

الخامس : المشهور بين الأصحاب بحيث لا يعرف منهم خلاف أنّ حكم ماء الغيث حكم الجاري في عدم تنجّسه بالملاقاة وتطهيره للغير في حال تقاطره ونزوله من السماء ، سواء كان مجتمعاً على الأرض أو نازلاً من الميزاب أو غيره ، للآيتين المتقدّمتين (٢) ، والأخبار المستفيضة جدّاً (٣).

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٣ أبواب الماء المضاف ب ٩.

(٢) الفرقان : ٤٨ ، الأنفال : ١١.

(٣) الوسائل ١ : ١٠٨ أبواب الماء المطلق ب ٦.

٥٢٧

واشترط الشيخ فيه الجريان (١) ، وهو المنقول عن صاحب الجامع (٢) ، والظاهر أنّ مراده مطلق الجريان ، لا خصوص مثل الميزاب ، لاستدلاله بصحيحة عليّ بن جعفر الاتية. والأقوى الأشهر عدم اعتباره.

لنا : إطلاق الآيتين ، والأخبار المستفيضة ، مثل صحيحة هشام بن سالم (٣) ، وحسنة عبد الله بن يحيى الكاهلي (٤).

وصحيحة محمّد بن إسماعيل ، عن بعض أصحابنا ، عن الكاظم عليه‌السلام ، في طين المطر : «إنّه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيام ، إلّا أن يعلم أنّه قد نجّسه شي‌ء بعد المطر» (٥) الحديث فإنّ إطلاق طهارة الطين يشمل ما لو كان قبله نجساً ويدلّ عليه مفهوم الاستثناء ، فإنّه لا معنى لتنجّسه وطهارة الطين.

وما يتوهّم من عدم الاستلزام كالغُسالة ، فمع أنّه قياس ، فالفارق موجود ، لبقاء المطر في الطين.

ومرسلة الصدوق في الفقيه أيضاً في طين المطر (٦) ورواية أبي بصير (٧).

احتجّ الشيخ بصحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه عليه‌السلام ، قال : سألته عن البيت يُبال على ظهره ويُغتسل من الجنابة ثم يصيبه المطر ، أيؤخذ من مائه فيتوضّأ به للصلاة؟ فقال : «إذا جرى فلا بأس به» قال : وسألته عن رجل يمر في ماء المطر وقد صُبّ فيه خمر فأصاب ثوبه ، هل يصلّي فيه قبل أن يغسله؟ فقال : «لا يغسل ثوبه

__________________

(١) المبسوط ١ : ٦ ، التهذيب ١ : ٤١١ ذ. ح ١٢٩٦.

(٢) الجامع للشرائع : ٢٠.

(٣) الفقيه ١ : ٧ ح ٤ ، الوسائل ١ : ١٠٨ أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ١.

(٤) الكافي ٣ : ١٣ ح ٣ ، الوسائل ١ : ١٠٩ أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٥ ، وفيها : الكاهلي عن رجل.

(٥) الكافي ٣ : ١٣ ح ٤ ، الفقيه ١ : ٤١ ح ١٦٣ ، التهذيب ١ : ٢٦٧ ح ٧٨٣ ، الوسائل ١ : ١٠٩ أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٦ ، وهي رواية محمّد بن إسماعيل عن بعض أصحابنا.

(٦) الفقيه ١ : ٧ ح ٥ ، الوسائل ١ : ١١٠ أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٧.

(٧) التهذيب ١ : ٤٢٤ ح ١٣٤٨ ، الوسائل ١ : ١١٠ أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٨.

٥٢٨

ولا رجله ويصلي فيه ، ولا بأس» ونقله في قرب الإسناد أيضاً (١) ، ولعليّ بن جعفر أيضاً روايتان أُخريان في قرب الإسناد تقاربان هذا المضمون (٢).

والجواب : أنّ الشرط وارد مورد الغالب ، بل لا يكاد يمكن أخذ الماء للتوضّؤ من السطح إلّا إذا جرى ، مع أنّه يمكن أن يكون ذلك لأجل تغيّر الماء لكون السطح مبالاً نفذت فيه النجاسة ، وكذلك في الأُخريين.

ويمكن أن يراد من الجريان النزول من السماء كما فهمه العلامة (٣) ، فهذه الروايات أيضاً من جملة أدلة المشهور.

وبالجملة لا إشكال في عدم تنجّس ماء المطر حين النزول مطلقاً ، وكذا لا إشكال في تطهيره للغير في غير الماء ، لعموم حسنة الكاهلي على كلّ شي‌ء يراه المطر فقد طهر ، وغيرها من الأخبار المتقدّمة والآية وغيرها.

والمعتبر هو التقاطر والاستيعاب مع زوال العين ، وأما الجريان والكثرة فلم يثبت اشتراطهما.

وما تشعر به صحيحة هشام من اعتبار الأكثريّة فلا يبعد اعتباره ، بل لا مناص عنه ، لأنّ الأقلّ يستهلك بالنجاسة أو يتغيّر.

وأما الماء فالأظهر أنّه يتطهّر به إذا جرى إليه من ميزاب أو غيره في حال النزول ومازجه أو تقاطر عليه إلى أن تحصل الممازجة.

وأما مجرّد التقاطر أو الاتّصال فالأظهر أنّه لا يطهر ، للأصل والاستصحاب ، وعدم الدليل ، لمنع عموم الآيتين بل الروايات أيضاً ، والإجماع المركّب غير معلوم ، وحسنة الكاهلي أيضاً لا تدلّ عليه ، لأنّ الظاهر أنّ المراد من الرواية إصابة النجس ،

__________________

(١) الفقيه ١ : ٧ ح ٦ ، ٧ ، التهذيب ١ : ٤١١ ح ١٢٩٧ ، وص ٤١٨ ح ١٣٢١ ، الوسائل ١ : ١٠٨ أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٢ ، قرب الإسناد : ١٧٧ ، ١٩١ ، البحار ٨٠ : ١١ ح ٨ ، وح ١.

(٢) قرب الإسناد : ١٧٧ ح ٦٥٤ ، وص ١٩١ ح ٧١٩.

(٣) المنتهي ١ : ٢٩.

٥٢٩

وهي لا تحصل إلّا للقطعة الفوقانيّة ، وما سيجي‌ء في القول بكفاية الاتّصال في التطهير من أنّ طهارة السطح الفوقاني مستلزمة لتطهير ما سواه ، فستعرف بطلانه.

وبالجملة القدر الثابت بالدليل هو ما حصلت الممازجة المذكورة ، والظاهر أنّ الطهارة بها إجماعيّة ، والظاهر أنّ من يكتفي بالاتصال في التطهير بالجاري يكتفي هنا أيضاً إذا جرى.

وأما ما نقله الشهيد الثاني عن بعض معاصريه من أنّه يكفي في تطهير الماء النجس وقوع قطرة واحدة (١) فهو في غاية البعد.

والأظهر أنّ الماء القليل المجتمع من المطر يتقوّى بالمطرحين النزول (٢) ، للعمومات ، وخصوصاً صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة ، وكذلك الأخبار الدالّة على طهارة ما يكفّ من السطح النجس ، سيّما إذا كان كنيفاً وموضعاً للعذرة ، ويظهر من بعض الأخبار حصولها فيه (٣) ، فإنّه يجتمع في السطح غالباً ، ثم يكفّ.

وأما القليل المجتمع من غير المطر فهل يتقوّى بالمطر؟ فيه وجهان ، أظهرهما نعم (٤) ، لمنع شمول ما يدلّ على نجاسة القليل لذلك ، مع أنّه حال النزول فيه قليل من المطر مع شي‌ء زائد من الماء ، فيصير بذلك أقوى.

ولكن مقتضى هذا الدليل اعتبار النجاسة بمقدار ماء المطر ، فلو فرض التغيّر لو انحصر في المطر لصار نجساً (٥) ، والحاصل أنّ الأصل والاستصحاب والعمومات تقتضي الطهارة ، ولم يظهر مخصص له.

__________________

(١) روض الجنان : ١٣٩ ، والظاهر هو السيد حسن ابن السيد جعفر أُستاذ الشهيد.

(٢) خلاف الأظهر ما ذكره صاحب المعالم حيث يخصّه بالماء القليل (منه رحمه‌الله) ، أقول : الموجود في المعالم : ١٢٢ ، هو حكايته عن بعض الأصحاب.

(٣) انظر الوسائل ١ : ١٠٨ أبواب الماء المطلق ب ٦ ح ٢ ، ٥ ، ٧.

(٤) خلاف الأظهر ما ذكره صاحب المعالم حيث أراد بالماء القليل (منه رحمه‌الله).

(٥) أي : وإن لم يكن متغيّراً بالفعل نتيجة لتقوّيه بالماء القليل الذي كان من السابق ، يعني يقدّر أنّه لو كان ماء المطر وحده وكانت فيه تلك النجاسة هل يتغيّر أم لا؟

٥٣٠

ثم إنّ العلامة لم يعتبر الكرّيّة في ماء المطر وإنّ ألحقه بالجاري (١) ، ولا بأس به ، لكون دلالة أخبار المطر أظهر وأقوى من أدلة الجاري.

السادس : في ماء البئر.

وهو يصدق في العرف على أُمور ، والمراد بها هنا نوع واحد منها ، وهو مجمع ماء نابع من الأرض ، ولا يتعدّاها غالباً ، كما يستفاد من ملاحظة الأخبار وكلام الأصحاب ، ولا خلاف في نجاسته إذا تغيّر بالنجاسة.

وأما بدونه ، فالمشهور بين القدماء حتّى ادّعى عليه السيّد الإجماع هو النجاسة (٢).

وذهب ابن أبي عقيل (٣) وابن الغضائري (٤) وأكثر المتأخّرين إلى الطهارة واستحباب النزح (٥).

وذهب في المنتهي إلى الطهارة والنزح تعبّداً ، ولم يقيّده بعدم جواز الاستعمال قبله ليفرّع عليه بطلان الوضوء به قبل النزح ، لفساد المنهي عنه (٦).

وذهب الشيخ في كتابي الأخبار إلى الطهارة ووجوب النزح ، فيحكم ببطلان الوضوء قبل النزح إذا علم بوقوع النجاسة قبله (٧).

وذهب البصروي (٨) من القدماء إلى نجاسة ما دون الكرّ منه (٩) ، وعن الجعفي

__________________

(١) نهاية الأحكام ١ : ٢٢٩.

(٢) الانتصار : ١١ ، الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٥١ ، السرائر ١ : ٦٩.

(٣) نقله عنه في المختلف ١ : ١٨٧.

(٤) نقله عنه في المدارك ١ : ٥٤.

(٥) كالعلامة في المختلف ١ : ١٨٧ ، وفخر المحقّقين في الإيضاح ١ : ١٧ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ١ : ١٢١.

(٦) المنتهي ١ : ٦٨.

(٧) التهذيب ١ : ٢٣٢ ، الاستبصار ١ : ٣٢ ، ولكن يشكل استفادة ذلك من الإستبصار فإنّ كلامه مضطرب.

(٨) بُصري كحبلى بلدة بالشام وقرية ببغداد قرب عكبراء.

(٩) نقله عنه في الذكرى : ٩.

٥٣١

نجاسة ما لم يكن كلّ واحد من أبعاده ذراعين (١).

والأقرب مختار المتأخّرين ، للأصل ، والعمومات ، والأخبار المستفيضة جدّاً ، كصحيحة ابن بزيع المذكورة في التهذيب والاستبصار والكافي (٢) ، عن الرضا عليه‌السلام وفي بعض المواضع من التهذيب الرواية مكاتبة (٣) ، ولا يضرّ سيّما مع ورودها بدونها أيضاً «ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء ، إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح منه حتّى يذهب الريح ويطيب طعمه ، لأنّ له مادّة» ومما يؤكّده الاكتفاء بمزيل التغيّر لا أكثر الأمرين منه ومن المقدّر كما يقوله الأوّلون.

وصحيحة معاوية بن عمّار (٤) ، والقدح باشتراك حمّاد ضعيف (٥).

وصحيحة عليّ بن جعفر ورواها الحميري أيضاً (٦) ، والمراد بالعذرة فيها غائط الإنسان بشهادة اللغة والعرف ، وذكر السرقين بعدها أيضاً.

وموثّقة عمار المشتملة على مثلها (٧). وتقييد مائها بالكثرة فيها لا يضرّ ، لما سنبطل مذهب البصروي ، مع منع دلالتها على النجاسة في القليل أيضاً.

__________________

(١) نقله عنه في الذكرى : ٩.

(٢) الكافي ٣ : ٥ ح ٢ ، التهذيب ١ : ٤٠٩ ح ١٢٨٧ ، الاستبصار ١ : ٣٣ ح ٨٧ ، الوسائل ١ : ١٢٦ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٦ ، ٧.

(٣) التهذيب ١ : ٢٣٤ ح ٦٧٦.

(٤) التهذيب ١ : ٢٣٢ ح ٦٧٠ ، الاستبصار ١ : ٣٠ ح ٨٠ ، وفي الوسائل ١ : ١٢٧ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٠.

(٥) فإنّه يعلم من رواية الحسين بن سعيد عنه أو روايته عن معاوية بن عمار أنّه حماد بن عيسى الثقة. انظر هداية المحدثين : ٤٩.

(٦) التهذيب ١ : ٢٤٦ ح ٧٠٩ ، الاستبصار ١ : ٤٢ ح ١١٨ ، قرب الإسناد : ٨٤ ، الوسائل ١ : ١٢٧ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٨ ، عن بئر ماء وقع فيها زبيل من عذرة رطبة أو يابسة أو زبيل من سرقين أيصلح الوضوء منها؟ قال : لا بأس. والزبيل وعاء يحمل فيه. لسان العرب ١١ : ٣٠٠.

(٧) التهذيب ١ : ٤١٦ ح ١٣١٢ ، الاستبصار ١ : ٤٢ ح ١١٧ ، الوسائل ١ : ١٢٨ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٥ ، وفيها لا بأس إذا كان فيها ماء كثير.

٥٣٢

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليه‌السلام ، الدالّة بمفهوم الشرط (١).

وصحيحة عبد الله بن المغيرة عن معاوية بن عمّار (٢) ، وصحيحة أبان والظاهر أنّه ابن عثمان (٣) ، وصحيحة الشحّام وأبي يوسف (٤) ، وموثّقة أبي بصير (٥) ، وقويّة أبي عيينة (٦) ، ومرسلة الصدوق في الفقيه عن الصادق عليه‌السلام (٧) ، ورواية محمّد بن القاسم الاتية في مسألة البئر والبالوعة (٨).

وقد مرّت صحيحة زرارة المشتملة على جواز التوضّؤ من بئر يُستقى منها بحبل من شعر الخنزير (٩) ، وموثّقة ابنه حسين (١٠) ، وقويّة زرارة (١١) ، ورواية عليّ بن حديد (١٢) ، ورواية أبي مريم الأنصاري (١٣).

ويدلّ عليه استقراء سائر الأخبار الواردة في الباب لشدة اختلافها ، ففي بعضها ينزح دلاء يسيرة ، وفي بعضها التخيير ، وفي بعضها الجمع بين المتخالفات في التقدير ، وفي آخر الجمع بين الطاهر والنجس ، وفي آخر ذكر الطاهر فقط ، مع

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٥ ح ٣٤ ، الوسائل ١ : ١٤٢ أبواب الماء المطلق ب ٢٢ ح ١ ، عن البئر يقع فيها الميتة فقال : إن كان لها ريح ينزح منها سبع دلاء.

(٢) التهذيب ١ : ٢٣٣ ح ٦٧١ ، الوسائل ١ : ١٢٧ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٩.

(٣) التهذيب ١ : ٢٣٣ ح ٦٧٢ ، الاستبصار ١ : ٣١ ح ٨٢ ، الوسائل ١ : ١٢٧ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١١.

(٤) التهذيب ١ : ٢٣٣ ح ٦٧٤ ، الاستبصار ١ : ٣١ ح ٨٤ ، الوسائل ١ : ١٢٨ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٢.

(٥) التهذيب ١ : ٢٣٤ ح ٦٧٧ ، الاستبصار ١ : ٣٢ ح ٨٥ ، الوسائل ١ : ١٢٦ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٥.

(٦) التهذيب ١ : ٢٣٣ ح ٦٧٣ ، الاستبصار ١ : ٣١ ح ٨٣ ، الوسائل ١ : ١٢٨ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٣.

(٧) الفقيه ١ : ١٥ ح ٣٣ ، الوسائل ١ : ١٣٠ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٢٠.

(٨) الكافي ٣ : ٨ ح ٤ ، الفقيه ١ : ١٣ ح ٢٣ ، التهذيب ١ : ٤١١ ح ١٢٩٤ ، الاستبصار ١ : ٤٦ ح ١٢٩ ، الوسائل ١ : ١٢٦ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٤.

(٩) الكافي ٣ : ٦ ح ١٠ ، التهذيب ١ : ٤٠٩ ح ١٢٨٩ ، الوسائل ١ : ١٢٥ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٢.

(١٠) الكافي ٦ : ٢٥٨ ح ٣ ، الوسائل ١ : ١٢٦ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٣.

(١١) التهذيب ١ : ٤١٣ ح ١٣٠١ ، الفقيه ١ : ٩ ح ١٤ ، الوسائل ١ : ١٢٩ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٦.

(١٢) التهذيب ١ : ٢٣٩ ح ٦٩٣ ، الاستبصار ١ : ٤٠ ح ١١٢ ، الوسائل ١ : ١٢٨ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٤.

(١٣) التهذيب ١ : ٤١٦ ح ١٣١٣ ، الاستبصار ١ : ٤٢ ح ١١٩ ، الوسائل ١ : ١٧٥ أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١٢.

٥٣٣

اختلافها في التقدير فيما له مقدّر أيضاً.

هذا كلّه مع عدم تعيين الدلو وكميّته إلى غير ذلك مما هو من شأن المستحبّات ، ويؤيّده الاعتبار ، فإن جعل الكثير مع المادّة أضعف منه بدون مادّة بعيد.

ومما ذكرنا ظهر بطلان القول بوجوب النزح تعبّداً أيضاً ، مع أنّه يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ظاهراً فيما لم يبيّن المقدار.

حجّة الأوّلين : صحيحة ابن بزيع ، قال : كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن البئر تكون في المنزل للوضوء ، فيقطر فيها قطرات من بول أو دم ، أو يسقط فيها شي‌ء من عذرة كالبعرة ونحوها ، ما الذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع عليه‌السلام بخطه في كتابي : «ينزح دلاء منها» (١) فإنّها في قوّة أن طهرها بأن ينزح منها دلاء ليطابق السؤال.

وفيه : أنّ الامتثال بالأمر بالجمع المنكّر يحصل بالثلاثة ، ولا يقولون به ، والقول بأنها مقيّدة بغيرها مع أنّها خلاف الأصل يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ظاهراً. والظاهر أنّ في الجواب تنبيهاً على الخطأ في السؤال ، ولا تجب المطابقة عموماً.

وصحيحة عليّ بن يقطين (٢) ، ويظهر الجواب عنها مما ذكر ، سيّما ودلالتها أضعف ، وسياقها كالسابقة سياق المستحبات.

وصحيحة عبد الله بن أبي يعفور الناهية عن اغتسال الجنب في البئر وعدم إفساد ماء القوم الإمرة بالتيمّم (٣).

وفيه منع ظاهر ، إذ لا نجاسة في الجنب من حيث إنّه جنب ، سيّما والظاهر أنّ

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥ ح ١ ، التهذيب ١ : ٢٤٤ ح ٧٠٥ ، الاستبصار ١ : ٤٤ ح ١٢٤ ، الوسائل ١ : ١٣٠ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٢١.

(٢) التهذيب ١ : ٢٣٧ ح ٦٨٦ ، الاستبصار ١ : ٣٧ ح ١٠١ ، الوسائل ١ : ١٣٤ أبواب الماء المطلق ب ١٧ ح ٢ ، عن البئر تقع فيها الحمامة والدجاجة والفأرة أو الكلب أو الهرّة فقال : يجزئك أن تنزح منها دلاءً ، فإنّ ذلك يطهّرها إنّ شاء الله تعالى.

(٣) التهذيب ١ : ١٨٥ ح ٥٣٥ ، الوسائل ١ : ١٣٠ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٢٢.

٥٣٤

الوقوع للغسل ، ولا يجوز الغسل مع النجاسة. وعلى هذا فالمراد بعدم الإفساد هنا لعله إثارة الحمأة أو الطين ، أو حصول النفرة ، ونحو ذلك ، والأمر بالتيمّم أيضاً يكفي فيه هذا العذر ، بل الحرج اللازم من تحمّل مشقة الدخول أيضاً كافٍ في جواز التيمّم ، كما تدلّ عليه صحيحة الحسين بن أبي العلاء (١).

ورواية العلاء بن سيابة (٢) ، وهي ضعيفة محمولة على الاستحباب أو التغيّر.

وأما ما دلّ على عدم جواز التوضّؤ منها إلّا بعد النزح مثل صحيحة عليّ بن جعفر (٣) ، فالجواب عنها مع أنّها غير صريحة في الحرمة ، وعدم دلالة الحرمة على النجاسة أيضاً كما هو مذهب الشيخ : سياقها سياق الاستحباب ، كما مرّ.

وكذلك يحمل على الاستحباب كلّ ما ورد من الأمر بالنزح ، لعدم ظهورها في الوجوب ، وعدم دلالة الوجوب على النجاسة.

والشهرة بين القدماء وإن كانت مرجّحاً قويّاً لكنها مع معارضتها بالشهرة بين المتأخّرين تتوقّف حجيّتها على وجود دليل يمكن الاعتماد عليه ، إذ الشهرة في نفسها لا حجّيّة فيها ، وقد عرفت عدم دلالة الأخبار عليها ، وإذا منعنا دلالة الأخبار على الوجوب يبطل مذهب الشيخ أيضاً ، وكذلك يظهر ضعف قول المنتهي بالتعبّد ، فالظاهر أنّه لرفع الكراهة والنفرة لا محض التعبّد.

وأما حجّة قول البُصروي : فهي عمومات قولهم عليهم‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء» وخصوص موثّقة عمار (٤) ، ورواية الحسن بن صالح

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٤ ح ٧ ، التهذيب ١ : ١٨٤ ح ٥٢٧ ، الوسائل ٢ : ٩٦٦ أبواب التيمم ب ٣ ح ٤.

(٢) التهذيب ١ : ٤١٩ ح ١٣٢٤ ، الوسائل ٢ : ٨٧٥ أبواب الدفن ب ٥١ ح ١.

(٣) الكافي ٣ : ٦ ح ٨ ، الفقيه ١ : ١٥ ح ٢٩ ، التهذيب ١ : ٢٤٦ ح ٧٠٩ ، وص ٤٠٩ ح ١٢٨٨ ، الاستبصار ١ : ٤٤ ح ١٢٣ ، الوسائل ١ : ١٤١ أبواب الماء المطلق ب ٢١ ح ١.

(٤) التهذيب ١ : ٤١٦ ح ١٣١٢ ، الاستبصار ١ : ٤٢ ح ١١٧ ، الوسائل ١ : ١٢٨ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٥ ، عن البئر يقع فيها زبيل عذرة قال : لا بأس إذا كان فيها ماء كثير.

٥٣٥

المتقدّمة في مبحث الكرّ (١) ، وعبارة الفقه الرضوي (٢) ، والعمومات مع كونها مفاهيم مخصصة بما تقدّم ، والموثّقة لا تقاوم الصحاح وغيرها ، ورواية الحسن ضعيفة ، والاحتياط سبيل النجاة.

السابع : الماء قابل للتطهير تغيّر بالنجاسة أو لا بالإجماع بل ربما يعدّ من الضروريات ، وتدلّ عليه الإطلاقات ، وخصوص رواية ابن أبي يعفور المتقدّمة في ماء الحمّام (٣) ، ورواية السكوني وما في معناها ، القائلة «إنّ الماء يطهّر ولا يطهر» (٤) ، وجه الدلالة فيها : أنّ حذف المفعول يفيد العموم ، مع أنّه لو لم يحمل عليه لزم اللغو في كلام الحكيم ، فيلزم منه تخصيص قوله عليه‌السلام : «لا يطهر» بأن يراد من غير الماء ، وإلا لزم التناقض ، والثاني أولى بالتخصيص كما لا يخفى.

وما يتوهّم في تفسيره من أنّه إنّما لا يطهر لأنّه إن غلب على النجاسة حتّى استهلكت فيها طهّرها ولم ينجس حتّى يحتاج إلى التطهير ، وإن غلبت عليه النجاسة حتّى استهلك فيها صار في حكم تلك النجاسة ، ولم يقبل التطهير إلّا بالاستهلاك في الماء الطاهر ، وحينئذ لم يبق منه شي‌ء. فهو في غاية الضعف ، أما الأوّل فلأنه يبنى على عدم انفعال القليل ، وقد مرّ بطلانه.

وأما الثاني ، فمبنيّ على انحصار تطهير المتغيّر في الاستهلاك ، وسيظهر لك خلافه ، مع أنّه لا ينحصر تنجّس الماء عند من لا يقول بانفعال القليل أيضاً في الاستهلاك بالنجاسة ، ويكفي محض التغيّر في الجملة.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢ ح ٤ ، التهذيب ١ : ٤٠٨ ح ١٢٨٢ ، الاستبصار ١ : ٣٣ ح ٨٨ ، الوسائل ١ : ١١٨ أبواب المطلق ب ٩ ح ٨.

(٢) فقه الرضا (ع) : ٩١ ، وفيه : وكلّ غدير فيه من الماء أكثر من كرّ لا ينجّسه ما يقع فيه من النجاسات.

(٣) الكافي ٣ : ١٤ ح ١ ، الوسائل ١ : ١١٢ أبواب الماء المطلق ب ٧ ح ٧ ، إنّ ماء الحمّام كماء النهر يُطهّر بعضه بعضاً.

(٤) الكافي ٣ : ١ ح ١ ، التهذيب ١ : ٢١٥ ح ٦١٨ ، الوسائل ١ : ١٠٠ أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٦ ، ٧.

٥٣٦

الثامن : يطهر القليل بأُمور :

الأوّل : إلقاء الكرّ عليه دفعة عرفيّة ، وهو في الجملة إجماعيّ. ولكن الكلام في اشتراط الممازجة وعدمه ، واعتبار الدفعة وعدمه.

أما الأوّل ؛ فالأقوى فيه : نعم ، لكونه اتفاقيّاً ، ولم تثبت كفاية مجرّد الاتّصال ، ولأنه لا ريب في أنّ الكرّ إذا وقعت فيه النجاسة وشاعت فيه لا يجب الاجتناب عنه ولا عن شي‌ء من أجزائه ، إلّا إذا تغيّر ، وذلك مستلزم لإلغاء حكمها حينئذٍ ، فكذلك الماء النجس ، بل هو أولى بذلك ، بل نقول : إنّ «شيئاً» في قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء» نكرة في سياق النفي فيشمل المتنجّس ، ومقتضى الرواية إلغاء حكم الملاقي.

لا يقال : إنّه معارض بمفهومه ، ولا وجه للترجيح.

لأنا نقول : تساقطهما يفيد المطلوب أيضاً ، وإعمالهما معاً غير ممكن بأن يجتنب عنه في المشروط بالطهارة ، ولا يحكم بنجاسة الملاقي ، لعدم القائل بالفصل ، فمن قال بطهارة الملاقي قال بجواز الطهارة به ، مع أنّ المنطوق أقوى دلالةً واعتضاداً كما لا يخفى.

واحتجّ من قال بكفاية الاتصال (١) بالأصل. وبعدم تحقّق الامتزاج ، لعدم حصول العلم به لو أُريد الحقيقي ، ولزوم الاكتفاء بالاتصال في البعض إن أُريد الامتزاج في الجملة. وبأن الأجزاء الملاقية للمطهّر تطهر بالملاقاة ، فيطهر ما يليها بالاتّصال بها ، وهكذا.

والجواب عن الأوّل : أنّه قد ارتفع بالنجاسة ، وأصالة عدم الاشتراط معارضة بأصالة بقاء النجاسة ، وأصالة عدم تحقّق المطهّر الشرعيّ

__________________

(١) روض الجنان : ١٣٨.

٥٣٧

وعن الثاني : بأنّ المراد هو الامتزاج العرفي الحاصل بامتزاج أكثر الأجزاء ، والإجماع دلّ على كفايته.

وعن الثالث : بمنع طهارة ما يلي الأجزاء الملاقية للمطهّر ، والقدر المسلّم هو طهارة السطح الملاقي لا الأجزاء الجسميّة ، وإصابة المطهّر شرط في التطهير ، والاكتفاء بإصابة البعض في الامتزاج بالإجماع لا يوجب كفايته مطلقاً (١).

وأما الثاني ؛ فالأقوى فيه أيضاً اعتباره ، للاتفاق على كونه مطهّراً ، والشك بدونه ، سيّما على ما اخترناه من اعتبار استواء السطوح في الكرّ في عدم الانفعال. وربما يُعلّل بالنصّ أيضاً ، ولم نقف عليه ، فهذا كلّه إذا لم يتغيّر القليل.

وأما إذا كان متغيّراً بالنجاسة فلا بد من أن يكون اتّصال الكرّ أو ممازجته بعد زوال التغيّر ، فإذا تغيّر بعض أجزاء الكرّ قبل الممازجة فلا يكفي ، لتنجّسه بالملاقاة ، فلا بدّ من كون الغير المتغيّر كرّاً أو إلقاء كرّ آخر حتّى يزول ، وصرّح بذلك في المعالم (٢).

لا يقال : إنّ هذا مستلزم لعدم التطهير في صورة التغيّر ، أو اعتبار الممازجة إلّا مع العلم بعدم انقطاع أجزاء الكرّ أو الظن به ، وهو إما متعذّر أو متعسّر.

لأنا نقول : عدم العلم أو الظن بالانقطاع كافٍ ، لأنّ الأصل عدمه ، فيحصل الظن بذلك أيضاً. مع أنّ الإجماع واقع على ذلك مع اعتبار الدفعة. وكذلك يكفي عدم العلم أو الظنّ بحصول الاختلاف في السطوح ، والخروج عن الوحدة العرفيّة.

الثاني : إلقاؤه في كرّ ، ولا إشكال فيه مع حصول المزج ، فلا يكفي إدخال الكوز الممتلئ من الماء في الكرّ في التطهير ، بل لا بد من التداخل والامتزاج ، وهو يحصل إما بقوّة انصباب المطهّر أو بعدم امتلاء الكوز بحيث يحصل التداخل ، هذا إذا لم يكن متغيّراً ،

__________________

(١) يعني : أنّ ما قيل سابقاً من عدم حصول الامتزاج الحقيقي وكفاية اتّصال بعض الأجزاء في الامتزاج لا يمكن الاستدلال به لكفاية مجرد الاتّصال ، لأنّه لا يلزم منه كفاية مطلق الاتّصال.

(٢) معالم الفقه : ٢١.

٥٣٨

وإلا فيجب بقاء كرّ غير متغيّر بعد رفع التغيّر كما أشرنا.

الثالث : تطهيره بالجاري ، ولا إشكال فيه إذا استولى عليه ومازجه وقهره ، أو بعد إزالة التغيّر أيضاً إن كان متغيّراً.

وأما مجرّد الاتّصال ، فالأظهر عدم التطهير لما مرّ.

ومثله الجاري عن مادّة كماء الحمّام ، ولكنه يعتبر بقاء المادّة بمقدار الكرّ بعد المزج والقهر ، فإنّ المعتمد هنا هو التقوّي بالمادّة ، لا كونه كرّاً من ماء ، لما أشرنا إليه من اعتبار تساوي السطوح في عدم الانفعال ، والمادّة هنا بمنزلة المنبع في النابع من الأرض.

وقد مرّ وجه اشتراط الكرّيّة في المادّة حين الملاقاة ، فلا بدّ من الاعتماد على المادّة حتّى يحصل تمام التطهير ، فلو نقص قبل تمام المزج عن الكرّ فيصدق عليه أنّه قليل لاقى النجاسة. وهذا فيما كانت المادّة أعلى ظاهر.

وأما في صورة التساوي ، فالأقوى أنّه يطهر مع الجريان والممازجة ، واكتفى بعضهم كالعلامة في المنتهي بمجرّد الاتّصال ، كما اختاره في صورة إلقاء الكرّ (١).

والفرق بين هذه الصورة وسابقتها أنّه لا يعتبر ههنا كون المطهّر أزيد من الكرّ ، لأنّه يندرج تحت قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء» فيثبت التطهير بالتقريب المتقدّم في إلقاء الكرّ ، كما أنّه يثبت في السابقة من جهة ما دلّ على عدم تنجّس الجاري عن مادّة مما مرّ في ماء الحمّام بذلك التقريب بعينه ، وإن أمكن جريان هذه الطريقة في الصورة الأخيرة أيضاً لو كان المطهّر أزيد.

وأما لو كان المطهّر أسفل ، فلو كان فورانه من تحت القليل مع صدق الوحدة عليهما عرفاً ، بأن يكون القراران متوازيين ، وكان الفوران داخل الماء لا كالفوّارات المتعارفة التي يَثِب الماء منها إلى الهواء ، ثم يرجع ، فيمكن إجراء الطريقتين فيه.

__________________

(١) المنتهي ١ : ٢٩.

٥٣٩

وأما لو كان قرار المنبع أعلى ، أو كان من قبيل الفوّارات المتعارفة ، فيمكن إجراء طريقة ماء الحمّام فيه.

وهذه الأحكام مما لم يرد فيها نصّ ، وعمومات قولهم عليهم‌السلام : «الماء يطهر ويطهر بعضه بعضاً» وغيرها لا يدلّ إلّا على ثبوت التطهير في الجملة. وغاية ما يمكن أن يتمسّك به هو الطريقة المستفادة من عموم قولهم عليهم‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء» وعموم ما دلّ في ماء الحمّام بالعلّة المنصوصة وغيرها بالتقريب المتقدّم ، فعليك بالتحرّي والاجتهاد ثم الاحتياط ، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.

الرابع : إتمام القليل كرّاً ، وقد اختلفوا فيه على أقوال ، ثالثها الفرق بين الطاهر والنجس (١) ، والأقوى عدم التطهير.

لنا : أنّ الطهارة حكم شرعي يحتاج ثبوته إلى دليل ، وما اقتضاه الأصل والعمومات فقد ارتفع يقيناً ، وعوده يحتاج إلى دليل ، والنجاسة مستصحبة ، ولا ترتفع إلّا باليقين ، ودعوى أصالة طهارة الطارئ مع أنّها غير مجدية في النجسين لا تفيد فائدة مع الامتزاج.

احتجّوا بأنّ البلوغ يستهلك النجاسة ، فيستوي وقوعها قبل البلوغ وبعده. وبأنه لولاه لما حكم بطهارة الماء الكثير إذا وجدت فيه نجاسة ، لاحتمال وقوعها فيه قبل البلوغ.

والأوّل قياس مع الفارق ، إذا لعلّ لطهارة الجميع مدخليّة في رفع النجاسة ، وهو منتفٍ فيما نحن فيه.

والثاني مدفوع بأنّ الأصل طهارة الماء ، ولم يثبت لها رافع ، واحتمال طروئها

__________________

(١) القول بعدم الطهارة للشيخ في الخلاف ١ : ١٩٤ مسألة ١٤٩ ، والمحقّق في المعتبر ١ : ٥١ ، والشرائع ١ : ١٢ ، والعلامة في التذكرة ١ : ٢٣ ، والقول بالطهارة للشيخ في المبسوط ١ : ٧ ، وابن البرّاج في المهذب ١ : ٢٣ ، ويحيى بن سعيد في الجامع للشرائع : ١٨ ، والتفصيل لابن حمزة في الوسيلة : ٧٣.

٥٤٠