غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: عباس تبريزيان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-182-7
الصفحات: ٥٨٤

مطهّريّة ماء المطر........................................................ ٥٢٩

تقوّي القليل بماء المطر.................................................... ٥٣٠

عدم اعتبار الكريّة في ماء المطر............................................ ٥٣٠

ماء البئر

تعريف ماء البئر......................................................... ٥٣١

عدم نجاسة ماء البئر بالملاقاة.............................................. ٥٣١

تطهير المياه

تطهير القليل بإلقاء كّر عليه............................................... ٥٣٧

تطهيره بإلقائه في الكّر.................................................... ٥٣٨

تطهيره بالجاري.......................................................... ٥٣٩

اتمام القليل كرّاّ.......................................................... ٥٤٠

تطهير الكرّ............................................................. ٥٤٢

طهارة الجاري بالتدافع.................................................... ٥٤٣

تطهير ماء الحمام........................................................ ٥٤٤

تطهير البئر بالنزح....................................................... ٥٤٥

نزح الجميع لوقوع المسكر................................................. ٥٤٥

نزح الجميع لموت البعير................................................... ٥٤٦

ما ينزح لموت الثور....................................................... ٥٤٧

ما ينزح للمني والدماء الثلاثة وعرق الإبل الجلالة............................. ٥٤٧

ما لم يرد فيه نصّ........................................................ ٥٤٨

لزوم التراوح مع تعذّر نزح الجميع........................................... ٥٥٠

نزح كّر لموت الدابّة...................................................... ٥٥٣

نزح سبعين لموت الانسان................................................. ٥٥٥

نزح خمسين للعذرة او عشرة............................................... ٥٥٦

ما ينزح للدم............................................................ ٥٥٧

٢١

ما ينزح للثعلب والأرنب والكلب و........................................ ٥٦٠

ما ينزح للبول........................................................... ٥٦١

نزح ثلاثين لماء المطر المخالط للبول والعذرة.................................. ٥٦١

ما ينزل له سبع دلاء..................................................... ٥٦٣

نزح خمس دلاء لذرق الدجاج............................................. ٥٦٨

نزح ثلاثة للحيّة......................................................... ٥٦٩

نزح دلو للعصفور........................................................ ٥٧١

نزح دلو لبول الرضيع..................................................... ٥٧٢

حكم تغيّر النجاسة...................................................... ٥٧٣

عدم تداخل النزح........................................................ ٥٧٦

حكم أبعاض المقدّر...................................................... ٥٧٧

النزح بعد إخراج النجاسة................................................. ٥٧٨

الدلو.................................................................. ٥٧٩

عفو المتساقط من الدلو................................................... ٥٧٩

حكم الدلو والرشا....................................................... ٥٨٠

تطهير البئر بغير النزح.................................................... ٥٨٠

إذا غار الماء ثّم عاد...................................................... ٥٨١

حكم البئر قرب البالوعة.................................................. ٥٨٢

٢٢

مقدّمة التحقيق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمدُ لله ربّ العالمين ، بارئ الخلائق أجمعين ، وباعثِ الرسل بما فيه حياةُ أهل الأرضين ، وواهب مصابيح الظلم ومشكاة الديجور لعبادهِ الصالحين ، حمداً لا انقطاع له ولا أمد كما هو أهله.

ونصلّي على خير خلقِهِ محمّد كما حَمَل وحيه ، وبلّغ رسالاته ، وأحلّ حلاله ، وحرّم حرامه. وعلى الأوصياء من بعده ، ومستودع علمه ، وباب حِكمته ، الناطقين بحجّته ، والداعين إلى شريعته.

وبعد ، فإنّ فضيلة العلم وفضيلة حامليه لا تخفى على أحد ، وقد قال تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) و (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ).

وأيضاً لا يخفى شرفُ علم الفقه وأفضليّته ، كما يُرشد إلى ذلك التأكيد عليه كلّ التأكيد في الآيات والروايات ، فقد قال تعالى (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ).

وأضف إلى ذلك أنّ فيه سعادة الدارين ، فإنّ العُلوم والتجارب والأبحاث الحديثة أثبتت وما زالت تُثبت أرقاماً ذهبيّةً خالدةً في لوحة الإسلام العريقة ، فقد رَسَمَ الإسلام

٢٣

قبل ألف وأربعمائة عام المسير الذي أخذت تثبته التجارب والبحوث شيئاً فشيئاً ، وما زالت تبلغنا فوائد وحِكَم ما جاء به الإسلام من الأحكام من غرب الأرض وشرقها ، ، وما زِلنا نشاهد الوثائق تلوَ الوثائق على صحّة ما نعتقده من تبعيّة أحكام الإسلام للمصالح والمفاسد العائدة إلى البشر. بل كان دأبُ النبيّ (ص) والأئمّة المعصومين (ع) هو دعم التشريع ببيان بعض المصالح الدنيويّة التي توصّل البشر إليها اليوم ، أو يمكن التوصّل إليها يوماً ما ، فقد نصّ القرآن على أنّ مضارّ الخمر أكثر من منافعه ، وقد باتَ هذا الشي‌ء في أذهان مثقّفي الغرب وحافظي النّظم من الأُمور البديهيّة ، وكذا فقد صار تجويز الزنا واللواط عند مدّعي الحرّيّة كإرثه ووبالاً أورثَ عندهم الداء القاتل ، بالإضافة إلى ضياع الأنساب وتفكّك المجتمعات ، وغيرها مما لا يحصى.

هذا بالإضافة إلى ما في التزام الجوانب العباديّة والامتثال أمام الخالق والانصياع لأوامره وحمده وتسبيحه وذكره من الاطمئنان الذي لا يمكن إدراكه بأيّ وسيلة أُخرى ، ألا بذكر الله تطمئن القلوب.

ونتيجة لوقوف الشارع والمتشرّعة يعني النبيّ والأئمّة (ع) على عِظم خطر الفقه ، وخطر تفويت مصالح الأحكام الشرعيّة ، فقد بذلوا كلّ ما بوسعهم في سبيل نشر الأحكام الشرعيّة وتعليمها والحثّ على تطبيقها ، ولم يتردّدوا في التضحية في هذا السبيل ، وأوقفوا أعمارهم الشريفة على ذلك.

وكان نتيجة كلّ ذلك الاهتمام والتأكيد أن قام رجال من ذوي العقول الشامخة والآراء الصائبة بتعلّم فنون الفقه وتدوينه واستنباط أحكامه منذ بزوغ شمس الإسلام ، وعلى مرّ العصور والأعوام ، حاملين أدواته عن السابقين إلى اللاحقين ، فأبرموا بذلك عُقدة الدين القويم ، ونفوا عنه تحريف الغالين ، وعمّروا به أرجاء الأرضين.

ونتيجة ذلك الاهتمام وطرو بعض الظروف كغيبة الإمام أخذ الفقه يتطوّر على مرّ الأعصار ، وصارت كيفيّة استنباط الأحكام والفتيا بها تتغيّر بمرور الزمان ، وساعد على ذلك الابتعاد عن زمان صدور الأحكام والتعاليم السّامية.

٢٤

تطوّر الفقه

إنّ مسألة تعلّم الأحكام وجمعها وتدوينها كانت من زمان النبيّ (ص) ، واشتدّت بعد لحوقه بالرفيق الأعلى ، وقد تخرّج من مدرسة أهل البيت (ع) وعلى أيدي الأئمّة الأطهار (ع) عدّة من الفقهاء العظام ، نظير عليّ بن أبي رافع الذي كان من خواصّ أمير المؤمنين (ع). وسعيد بن المسيّب ، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر ، وهما من ثقاة عليّ بن الحسين (ع).

وكذا نظير زرارة بن أعين ، ومحمّد بن مسلم ، وأبي بصير الأسدي ، وجميل بن درّاج ، وعبد الله بن مسكان من خِرّيجي مدرسة الإمام الباقر والإمام الصادق (ع).

كما أجمع العلماء على فقاهة آخرين من تلاميذ الإمام موسى بن جعفر (ع) ، نظير يونس بن عبد الرحمن ، وصفوان بن يحيى ، ومحمّد بن أبي عمير ، وغيرهم ؛ ويعبّر عنهم بأصحاب الإجماع ، وحالهم وفقاهتهم معلومة لكلّ من راجع كتب الحديث ، وكان لأكثرهم كُتُب ، إلّا أنّ كتبهم كانت مقصورة على نقل الروايات بأسنادها.

وهكذا فقد كانت عمليّة التفقّه بسماع كلام المعصوم ، أو تلقّي الجواب منه بعد توجيه السؤال من دون بذل جهد ، وكان الإفتاء بنقل نصّ الرواية مع الإسناد ، واستمرّ على هذا الحال طول القرون الثلاثة الأُولى.

ولكن قُبيل وبعد غيبة الإمام الثاني عشر (عجّل الله تعالى فرجه) يعني أوائل القرن الرابع طرأ تغيير على كيفيّة الفُتيا ، وحلّ محلّ تلك الطريقة طريقة جديدة ، وهي إلقاء الأحكام إلى الناس بنصّ كلام الإمام من دون ذكر السند والإمام المنقول عنه ، أو نقل مضمونه بعد الترجيح والجمع بين الأخبار ، وبهذا تركَ الفقه قالب نقل الأخبار ، وخرج بقالب الإفتاء.

وأوّل من فَتَحَ هذا الباب على مِصراعيه والد الشيخ الصدوق ، فألّف كتاب

٢٥

«الشرائع». وتبعهُ ولده الشيخ الصدوق ، فألّف كتاب «المقنع» وكتاب «الهداية» على هذه الطريقة ، وتبعهما الشيخ المفيد في كتاب «المقنعة» ، والشيخ الطوسي في كتاب «النهاية».

ولمّا كانت مُتون هذه الكتب والمؤلّفات هي نصوص الروايات ، فلذلك صار البعض يعتمد عليها ويُعاملها معاملة الرواية عند إعواز النصوص.

وفي مقابل هذه الطريقة خرج بعض الفقهاء بطريقة اخرى ، وهي الاعتماد على القواعد الكليّة ، الأُصوليّة والفقهيّة ، في استنباط الأحكام ، والخروج عن الأخبار ، وأوّل من فتح هذا الباب القديمان : ابن أبي عقيل العماني ، وابن الجُنيد الإسكافي ، فألّف الأوّل كتاب «المتمسّك بحبل آل الرسول» ، وألّف الثاني كتاب «تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة» ، وكتاب «الأحمدي للفقه المحمّدي».

وكان ابن أبي عقيل من معاصري الشيخ الكليني المتوفّى عام ٣٢٨ ، وإلّا فلم يُضبط عام وفاته في الكتب.

واختار الشيخ الطوسي طريقة ثالثة تعدّ حدّا وسطاً بين الطريقتين ، وهي الإفتاء بمضامين آيات الكتاب والأخبار في أُمّهات المسائل وسمّاها الأُصول ، ومن ثم التفرّع على ما تقتضيه القواعد الكليّة وسمّاها الفروع ، وقد سلك هذه الطريقة في كتاب المبسوط وكتاب الخلاف ، بينما اختار طريقة القميين في كتاب النهاية ، وقد ذكر ذلك كلّه الشيخ في مقدّمة المبسوط فراجعها.

وهذه الطريقة هي الطريقة التي سادَت من بعد الشيخ وغلبت ، وإن كان لكلّ من الطرُقُ الأُخرى أتباعها.

حوزة قم

إن أوّل المعاهد هو مَعهَد الرسول الأعظم (ص) ، وكان تلامذة هذا المعهد هم أصحابه ، وبالخصوص أهل بيته ، فكانوا يتلقّون الأحكام بالمشافهة من النبيّ (ص) ،

٢٦

فيسمعون منه آيات القرآن ويحفظونها ، ويتعلمون منه أحكام دينهم ، وينقلونها إلى الآخرين.

ويتلوه معهد كلّ واحد من الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام بنفس الطريقة ، وهكذا استمرّ هذا النحو إلى زمان الغيبة. فأخذت المعاهِد العلميّة تتأطّر في اجتماع مجاميع من العلماء والمتعلّمين في بلد يتدارسون فيه الأحكام الشرعيّة ، ويزاولون عمليّة الاستنباط ، ويُسمّى بالحوزة العلميّة.

فمن أوائل هذه الحوزات : هي حوزة قم المقدّسة ، وتليها حوزة بغداد ، وحوزة النجف الأشرف ، وحوزة الحلة ، وحوزة جبل عامل ، وحوزة كربلاء وغيرها من الحوزات العلميّة.

ونخصّ الكلام في حوزة قم المقدّسة ، وقبل بيان ما يتعلّق بالحوزة العلميّة نتعرّض جملةً إلى تاريخ مدينة قم وما يختصّ بها.

ذكر أهل المعاجم والتواريخ بلدة قم ، وصنّف الحسن بن محمّد بن الحسن القمي كتاباً سمّاه «تاريخ قم» تعرّض فيه لتاريخها وما جرى عليها على مرّ العصور.

وذكرها اليعقوبي في كتاب البلدان ، وقال : مدينة قم الكبرى ، ويقال لها منيجان ، وهي جليلة القدر ، وإلى جانبها مدينة يُقال لها كمندان ، ولها وادٍ يجري فيه الماء بين المدينتين ، وأهلها الغالبون عليها من مذحج ، ثم من الأشعريين ، وبها عجم قُدُم ، ومن الموالي يذكرون أنهم موالٍ لعبد الله بن العباس بن عبد المطلب ، وذكر حصونها وأبوابها وأنهارها وقنواتها ..

وذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان ، وقال : هي مدينة إسلاميّة مستحدثة لا أثر للأعاجم فيها ، وأوّل من مصرها طلحة بن الأحوص الأشعري ، وهي حسنة طيّبة ، وأهلها كلّهم شيعة إماميّة ، وكان بدء تمصيرها في أيام الحجّاج بن يوسف سنة ٨٣ هجريّة ، وذلك أنّ عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث بن قيس كان أمير سجستان من جهة الحجاج ، ثم خرج عليه ، وكان في عسكره سبعة عشر نفراً من علماء التابعين

٢٧

من العراقيين ، فلما انهزمَ ابن الأشعث ورجع إلى كابل منهزماً كان في حملته إخوة يقال لهم عبد الله بن الأحوص ، وعبد الرحمن وإسحاق ونعيم وغيرهم ، وهم بنو سعد بن مالك بن عامر الأشعري ، وقعوا إلى قم ، وكان هناك سبع قرى ، اسم إحداها كمندان ، فنزل هؤلاء الإخوة على هذه القرى حتّى افتتحوها ، واستولوا عليها ، واستوطنوها ، واجتمع إليهم بنو عمهم ، وصارت السبع قرى سبع محالّ بها.

وكان متقدّم هؤلاء الإخوة عبد الله بن سعد ، وكان له ولد قد ربا بالكوفة ، فانتقل منها إلى قم ، وكان إماميّاً ، فهو الذي نقل التشيّع إلى أهلها ، فلا يوجد فيها سنيّ قط.

ومن ظريف ما يُحكى : أنه وَليَ عليهم والٍ وكان سنيّاً متشدّداً ، فبلغه عنهم أنهم لبُغضهم الخلفاء لا يوجد فيهم من اسمه أبو بكر ولا عمر ، فجمعهم يوماً وقال لرؤسائهم : بلغني أنّكم تبغضون الخلفاء ، وأنّكم لِبُغضكم إيّاهم لا تسمّون أولادكم بأسمائهم ، وأنا أُقسم بالله العظيم لئن لم تجيئوني برجلٍ منكم اسمه أبو بكر أو عمر ، ويثبت عندي أنّه اسمه ، لأفعلنّ بكم ، ولاصنعنّ.

فاستمهلوه ثلاثة أيام ، وفتّشوا مدينتهم واجتهدوا فلم يروا إلّا رجلاً صعلوكاً حافياً عارياً أحول أقبح خلق الله منظراً اسمه أبو بكر ، لأنّ أباه كان غريباً استوطنها فسمّاه بذلك ، فجاؤوا به.

فشتمهم ، وقال : جئتموني بأقبح خلق الله تتنادرون عليّ ، وأمر بصفعهم ، فقال له بعض ظرفائهم : أيّها الأمير اصنع ما شئت ، فإنّ هواء قم لا يجي‌ء منه من اسمه أبو بكر أحسن صورة من هذا ، فغلبه الضحك وعفا عنهم. ونقل غير ذلك في وجه نزولهم قم وعلّة المقاتلة.

وعلى أيّ حال فإنّ لبلدة قم تاريخاً عريقاً ، ومفاخر كبيرة ، وخدمات جليلة في مجال العلم والفقه ، فقد خرج منها علماء عظماء ، ومحدّثون كبار ، قاموا بحفظ معالم الدين ، وأسّسوا مسيرته الفقهيّة وأحكموها.

وقد جاء في فضل قم وأهلها أخبار كثيرة ، ففي بعضها : «إنّ الله احتجّ ببلدة قم

٢٨

على سائر البلاد ، وبأهلها على جميع أهل المشرق والمغرب من الجنّ والإنس ، ولم يَدَع الله قم وأهله مستضعفاً ، بل وفّقهم وأيّدهم ، وإنّ البلايا مدفوعة عن قم وأهلها ، وسيأتي زمان تكون قم وأهلها حجّة على الخلائق ، وذلك في زمان غيبة قائمنا (ع) إلى ظهوره ، ولو لا ذلك لساخت الأرض بأهلها ، وأنّ الملائكة لتدفع البلايا عن قم وأهله».

وفي اخرى : «ستخلو كوفة من المؤمنين ، ويأرز عنها العلم كما تأرز الحيّة في جحرها ، ثم يظهر العلم ببلدة يقال لها قم ، وتصير معدناً للعلم والفضل حتّى لا يبقى في الأرض مستضعف في الدين ، حتّى المخدّرات في الحجال ، وذلك عند ظهور قائمنا ، فيجعل الله قم وأهله قائمين مقام الحجّة ، ولو لا ذلك لساخت الأرض بأهلها ، ولم يبقَ في الأرض حجّة ، فيفيض العلم منها إلى سائر البلاد في المشرق والمغرب ، فتتمّ حجّة الله على الخلق حتّى لا يبقى أحد على الأرض لم يبلغ إليه الدين والعلم ، ثم يظهر القائم ويسير سبباً لنقمة الله وسخطه على العباد ، لأنّ الله لا ينتقم من العباد إلّا بعد إنكارهم حجّة» وغيرها من الروايات.

والمستفاد من هذه الروايات أنّ قم هي مهد العلم بعد زمان الأئمّة المعصومين ، ومع ذلك هي آخر مركز للعلم يحتجّ به الله تعالى على الخلائق ، وينتشر منه العلم إلى جميع أنحاء الأرض ، وأنّ مركز العلم ينتقل في آخر الزمان من الكوفة إلى قم.

وكلّ ذلك قد تحقّق وشاهدناه بأُمّ أعيُننا ، فإنّ أوّل الحوزات بعد الغيبة هي حوزة قم ، وشاهدنا انتقال الحوزة في هذه الأزمنة من الكوفة إلى قم.

وهكذا كانت قم وعلى مرور الزمن مهد العلم ، ويبرز بين الفترة والأُخرى منها علماء عظام وتأسّست فيها مدارس.

ومن هؤلاء المحدّثين والفقهاء : أبو جرير ، وزكريا بن إدريس ، وزكريا بن آدم ، وعيسى بن عبد الله ، وإبراهيم بن هاشم ، وابنه عليّ بن إبراهيم المحدّث والمفسّر الكبير ، ومحمّد بن الحسن الصفّار ، وعليّ بن إبراهيم القمي ، والشيخ الصدوق ،

٢٩

والقطب الراوندي ، والميرزا القمي.

وكان لإبراهيم بن هاشم الدَّور الكبير في نقلِ العُلوم إلى قم ، فقد قيل : إنه أوّل من نشر أحاديث الكوفيين بقم ، وكان شيخ القميين ووجههم ، وقيل : إنه لَقِي الرضا (ع).

وكذا ابنه عليّ بن إبراهيم القمي صاحب التفسير ، فإنّه من أجلّ رواة أصحابنا ، ونقل المشايخ الثلاثة أكثر رواياتهم عنه ، ونقل هو الكثير من رواياته عن أبيه ، وكان في عصر الإمام العسكري عليه‌السلام.

عليّ بن بابويه القمي

شيخ القميين في عصره ، وفقيههم ومتقدّمهم وثقتهم ، وبيته في قم من أعظم بيوت الشيعة ، قد نَبَغَ منه جماعة كثيرة من أساطين العلم ، وخرج منه عِدّة من روّاد الفضيلة وحملة الحديث والفقه ، ومنهم ولده الشيخ الصدوق ، وابنه الأخر الحسين. ويكفي في تعريفه ما كتب إليه الإمام العسكري (ع) ما نصّه : يا شيخي ومعتمدي وفقيهي.

ولد أبو الحسن عليّ بن بابويه في قم ، وكانت ولادته أواسط القرن الثالث ، ونشأ بها ، وتتلمذَ على العشرات من مشايخها وغيرهم ، منهم سعد بن عبد الله الأشعري القمي ، وعليّ بن إبراهيم بن هاشم القمي صاحب التفسير ، وأبو العباس عبد الله بن جعفر الحميري صاحب كتاب قرب الإسناد ، وهو من الكتب المعتمدة عند الطائفة ، وأبو جعفر محمَّد بن عليّ الشلمغاني ، والقاسم بن محمّد بن إبراهيم النهاوندي وكيل الناحية ، والشيخ محمّد بن الحسن الصفّار.

وتتلمذ عليه وروى عنه في قم الكثير الذين صاروا من عظماء مؤلّفي الطائفة وعلمائها ، منهم جعفر بن محمّد بن قولويه القمي صاحب كامل الزيارات ، وولده الشيخ الصدوق الذي سنتكلّم عنه لاحقاً ، وولده الأخر الحسين ، وأحمد بن داود

٣٠

القمي ، والحسين بن الحسن بن محمّد بن موسى بن بابويه ، وزيد بن محمّد بن جعفر المعروف بابن إلياس الكوفي ، وغيرهم.

وأمّا عن رحلاته فقد قَدِمَ العراق حيناً ، واجتمع مع أبي القاسم الحسين بن روح ، وسأله مسائل ، وقدم مرّة أُخرى العراق سنة ٣٢٨ ، وأجاز في تلك السنة العباس بن عمر.

وأما عن مصنفاته فقد قال ابن النديم في «الفهرست» ، ص ٢٧٧ : قرأت بخط ابنه محمّد بن عليّ على ظهر جزء ؛ قد أجزت لفلان بن فلان كتب أبي عليّ بن الحسين ، وهي مائتا كتاب ، وكتبي وهي ثمانية كتب ، انتهى ، فهذا يدلّ على أن للشيخ عليّ بن بابويه مائتي كتاب ، ولكن لم يبيّن أكثرها في الفهارس ، ولم يُنقل أسماء سوى عشرين منها ، ولم يصل إلينا منها شي‌ء سوى ما نقله عنها ولده في «الفقيه» و «المقنع» ، وغيره كالعلامة والمحقّق ، وأهمّ كتبه على ما يبدو كتاب «الشرائع» الذي تكلّمنا عنه سابقاً.

توفّي رحمه‌الله في سنة ٣٢٩ وهي السنة التي تناثرت فيها النجوم بعد رجوعه من العراق إلى بلدته قم ، ودفن بها ، وقبره معروف فيها ، وعليه قبّة عالية سامية ، يزوره الصالحون ، ويتبرّكون بصاحبه.

الشيخ الصدوق

حصن الشريعة ، وجامع شتاتها ، وحامل آياتها ، وحافظ سنّتها ، أوّل الأعلام بعد غياب الإمام ، والسند المعتمد والبحر القمقام ، جامع الحقائق ، وغانم الدقائق ، الفاتق الراتق ، الذي لا يخفى مقامه العلمي ، محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى القمي ، المعروف بالشيخ الصدوق.

وما ظنّك بمن ولد بدعوة الإمام المنجي ، صاحب الزمان المهدي عجل الله فرجه في بيت العلم والفضيلة ، وقد قال في حقّ أبيه : «سيولد له ولد مبارك ينفعه الله عزوجل به وبعده أولاد».

٣١

ولد في قم ، ونشأ بها ، وتتلمذ على أساتذتها ، وتخرّج على مشايخها ، ودرّس فيها ، ثم هاجر منها وجال في الأمصار ، كنيشابور ومشهد وبغداد ومرو والكوفة ومكة وهمدان وما وراء النهر وبلخ وسرخس وإيلاق وسمرقند وغيرها ، فجمع الأحاديث ، وسمع من الكثير ، وروى وسمع على مشايخ كلّ بلدة ، حتّى بلغ أساتذته والراوي عنهم ما يقرب من ثلاثمائة عالم من الخاصّة والعامّة.

والقميّون من أساتذته منهم أحمد بن عليّ بن إبراهيم القمي ، وأحمد بن يحيى العطّار الأشعري القمي ، وجعفر بن الحسين بن عليّ بن شهريار القمي شيخ أصحابنا القميين ، وأبو القاسم جعفر بن محمّد بن موسى بن قولويه القمي ، والحسن بن إبراهيم بن هاشم ، والحسن بن أبي عليّ أحمد بن إدريس الأشعري القمي ، والحسين ابن إبراهيم بن بابويه ، وحمزة بن محمّد بن جعفر بن محمّد بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (ع) ، ومحمّد بن الحسن بن الوليد القمي وهو أبو جعفر شيخ القميين وفقيههم ، والشيخ نجم الدين أبو سعيد محمّد بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن أحمد بن عليّ بن الصلت القمي ، ومحمّد بن ماجيلويه القمي ، ومحمّد بن يحيى بن عمران الأشعري ، وغيرهم.

وأمّا تلامذته فهم كثير أيضاً ، ومن القميين منهم : جعفر بن أحمد بن عليّ أبو محمّد القمي ، وأبو الحسن جعفر بن حسكة القمي ، والحسن بن الحسين بن عليّ ابن بابويه القمي ، وأبو عليّ الحسن بن محمّد بن الحسن الشيباني القمي مؤلّف تاريخ قم ، والحسين بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي أخ الشيخ الصدوق ، وأبو الحسن محمّد بن أحمد بن عليّ بن الحسن بن شاذان القمي ، ابن أُخت أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه مؤلّف كتاب إيضاح دفائن النواصب ، ومن غير القميين الرجالي المعروف الشيخ النجاشي.

وأما آثارة ومصنّفاته فقد تبلغ إلى ثلاثمائة مصنّف ، أورد النجاشي نحو مائتين من كتبه ومصنّفاته ، وذكر الشيخ أربعين منها ، وهي مصنّفات قيّمة في شتّى العلوم الدينيّة

٣٢

وفنونها ، ومنها «من لا يحضره الفقيه» والذي هو أحد الأُصول الأربعة المعتمدة اليوم ، ومنها الخصال ، التوحيد ، علل الشرائع ، معاني الأخبار ، الشرائع وغيرها.

وأما حياته فقد نَذَرَ الشيخ الصدوق نفسَهُ للدين والعلم ، ووقف عُمره على جمع الأحاديث والتصنيف في الحديث والفقه وغيرهما ، وأدّت مساعيه إلى حِفظ كثير من الأحاديث من الضياع ، فكان له بذلك حقّ عظيم على عاتق الطائفة.

ومن جانب آخر فقد كان له اتّصال بالملك ركن الدولة البويهي الديلمي صار سبباً لبذر البذرات الأولى لانتشار التشيّع في إيران ، وذلك على أثر سعاية بعض المخالفين عليه وطعنهم على الشيعة ، بعد أن بلغ صيت الشيخ الآفاق ، وعُرفت فضائله وسجاياه الحسنة ، وصار رئيساً لمذهب الشيعة الإماميّة ، ووصل ذلك إلى الملك ، فاستدعاه وطلب حضوره عنده ، فلمّا حضرَ عظّمه وأجلسه إلى جَنبه وتلطّف به ، ولما استوى المجلس قال له : إنّ أهل الفضل اختلفوا في أمر الشيعة وبعض معتقداتهم ، وساق الكلام في ما يذكر من القدح على مذهب الإماميّة ، فأجاب الشيخ بأجوبة شافية ، وأثبت أحقيّة المذهب ببراهين قاطعة وواضحة أثارت إعجاب الملك والحاضرين ، واعترف بصحّتها المخالفون ، وقد كتب تلميذه الشيخ جعفر بن محمّد الدوريستي رسالة في شرح مجلسه بحضرة رُكن الدولة ، وأوردها التستري في مجالس المؤمنين ، والخوانساري في الروضات ، وذكر النجاشي مجالس أُخَر غير ذلك المجلس.

ومع ذلك فقد صار مرجعاً للفُتيا ، حيث تواترت عليه المسائل من جميع الأطراف ، ويُرشدك إلى ذلك ما ذكره النجاشي من كتبه المؤلّفة في جوابات المسائل ، مثل كتاب جواب المسائل الواردة من واسط ، وكتاب جواب المسائل الواردة من قزوين ، والمسائل الواردة من مصر ، والواردة من البصرة ، والكوفة ، والمدائن ، ونيشابور ، وغيرها.

وقد كانت ولادته في أوائل القرن الرابع ولم تُضبط ، وذكر النجاشي : أنّ عليّ ابن الحسين رحمه‌الله كتب إلى الصاحب عليه‌السلام يسأله الولد؟ فكتب إليه : قد دعونا لك بذلك ، وستُرزق ولدين ذكرين خيرين.

٣٣

وكان ابن سورة يقول : كلّما روى أبو جعفر وأبو عبد الله ابنا عليّ بن الحسين شيئاً يتعجّب الناس من حفظهما ويقولون لهما : هذا الشأن خصوصيّة لكما بدعوةِ الإمام لكما ، وهذا أمر مستفيض في أهل قم.

وأمّا وفاته ، فقد توفّي سنة ٣٨١ ه‍ بالري ، وقبره بالقرب من قبر عبد العظيم الحسني ، وعليه قبّة عالية يزوره الناس ويتبرّكون به ، وقد جدّد بناءه السلطان فتحعلي شاه في القرن الرابع عشر بعد ما ظهرت له كرامة في تلك الأيام ذكرها أصحاب المعاجم ، فذكروا أنه ظهر في مرقده الشريف ثلمة وانشقاق من طغيان المطر ، فلما فتّشوها وتتبّعوها بقصد إصلاح ذلك الموضع بلغوا إلى سردابة فيها مدفنه الشريف ، فلمّا دخلوها وجدوا جثّته الشريفة هناك مسجّاة عارية غير بادية العورة ، جسيمة وسيمة على أظفارها أثر الخضاب ، وفي أطرافها أشباه الفتائل من أخياط كفنه البالية على وجه التراب ، فشاع هذا الخبر في مدينة طهران إلى أن وصل إلى سمع السلطان فتحعلي شاه ، فحضرَ هناك بنفسه ، وأرسل جماعة من أعيان البلدة وعلمائهم إلى داخل تلك السردابة بعد ما لم يروا أُمناء دولته المصلحة في دخوله بنفسه إلى أن انتهى الأمر عنده من كثرة من دخل وأخبر إلى مرحلة عين اليقين ، فأمر بسدّ تلك الثلمة وتجديد عمارة تلك البقعة.

القطب الراوندي

الشيخ الفاضل المتبحّر ، والفقيه المحدّث ، والشاعر الأديب ، جامع الفضائل والمناقب قطب الدين أبو الحسين سعيد بن هبة الله الراوندي ، المدفون في صحن فاطمة المعصومة ، هو الأخر من العلماء المختصّين بالتمجيد والتقدير ، وله مصنّفات جليلة ، كالخرائج والجرائح ، وقصص الأنبياء ، وفقه القرآن ، وغيرها ، وينقل له كرامات آخرها أنه عند بناء صحن المعصومة الشريف انهدم قبره وظهر بدنه الشريف طريّاً بعد سبعمائة عام وليس فيه أقلّ تغيّر وكأنه نائم فيه.

٣٤

الميرزا القمي

اسمه ولقبه

هو المحقّق الصمداني ، والفقيه المسلّم ، والأُصولي البارع ، مقنّن القوانين ، وعماد الأساطين ، المجتهد المدقّق النبيه ، مولانا الميرزا أبو القاسم ابن المولى محمّد حسن بن نظر عليّ الجيلاني الشفتي الجابلاقي القمي ، المعروف بصاحب القوانين ، ويعرف بالمحقّق القمي ، والفاضل القمي.

وإنّما عرف بالمحقّق لكثرة تحقيقاته ، وكمال قُدرته على التصرُّف بأدوات الاستنباط في الأُصول والفروع ، وبراعتهِ في جمعها وتوجيهها بالاتّجاه المطلوب ، فيجعل منها مصبّاً واحداً يروي عطش الظمآن في عالم الاستنباط ، ويَلقي ستائر القدم والزيف على سائر الاحتمالات.

فهو الجوّالة في عالم المعاني القُدسيّة بنفس زكيّة ، والرائد في سماء الأدلّة القطعيّة ، وصاحب السطوة على أوهام المتوهّمين ، واحتمالات المحتملين ، وسادّ أبواب الجهل والضلال.

فكم من باب سدّها بعد تأرجحها إلى آخر الدهر السحيق ، وكم من ترددات أحكمها وصيّرها جزماً ويقيناً ، وكم من زيف أبان زيفه وبطلانه بكتاب مُبين.

أقوال العلماء فيه

لقد أطنبَ العلماء في مدحه والثناء عليه ، ولكن أنقل لك جانباً مما قيل فيه ، فقد قال السيد حسن الصدر في تكملة أمل الأمل وما أحسن ما قال وأصوبه ، قال : هو أحد أركان الدين ، والعلماء الربّانيين ، والأفاضل المحقّقين ، وكبار المؤسسين ، وخلف السلف الصالحين ؛ كان من بُحور العلم ، وأعلام الفقهاء المتبحّرين ، طويل الباع ، كثير الاطّلاع ، حسن الطريقة ، معتدل السليقة ، له غَور في الفقه والأُصول مع تحقيقات

٣٥

رائقة ، وله تبحّر في الحديث والرجال والتاريخ والحكمة والكلام ، كما يظهر كلّ ذلك من مصنّفاته الجليلة ، هذا مع ورع واجتهاد وسداد وتقوى واحتياط ، ولا شكّ في كونه من علماء آل محمّد وفقهائهم المقتفين آثارهم ، والمهتدين بهُداهم ، إلى آخر ما قال.

وقال المحدّث النوري في خاتمة المستدرك : العالم الكامل ، المحقّق الجليل ، الميرزا أبو القاسم بن المولى محمّد حسن الجيلاني ، المتوطّن في دار الإيمان قم ، صاحب الغنائم والقوانين ، وقد أذعن ببلوغه الغاية في الدقّة والتحقيق في الفقه والأُصول من عاصره ومن تأخّر عنه من المشايخ والفُحول ، وكان مؤيّداً مسدّداً ، كيّساً في دينه ، فَطِناً في أُمور آخرته ، شديداً في ذات الله ، مجانباً لهواه ، مع ما كان عليه من الرئاسة ، وخضوع ملك عصره وأعوانه له.

وقال في قصص العلماء : عَلَم تدقيق ، وعلم تحقيق ، علّامة فهّامة ، مقنّن القوانين ، وناهِج مناهج الصدق واليقين ، قُدوة العلماء العاملين ، وأُسوة الفقهاء الراسخين ، ورئيس الدنيا والدين ، أزهد أهل زمانه ، وأورع المتورّعين ، وأعلم وأفقه المعاصرين ، رئيس الإماميّة.

وقال تلميذه الشيخ أسدُ الله التستري صاحب المقابس : الشيخ المعظّم ، العالم العلم المقدّم ، مسهّل سبيل التدقيق والتحقيق ، مبيّن قوانين الأُصول ، ومناهج الفروع ، كما هو به حقيق ، المتسنّم ذروة المعالي بفضائله الباهرة ، الممتطي صَهوةَ المجدِ بفواضله الزاهرة ، بحر العلوم الغائصِ بالفوائد والفرائد ، الكاشف بفكره الثاقب عن عوالي الخرائد ، شمس النجوم المشرقة بأنوار العوائد على الأماثل والأماجد ، والأداني والأباعد.

وقال في روضات الجنّات : كان رحمه‌الله محقّقاً في الأُصول والعربيّة ، مدقّقاً في المسائل النظريّة ، مؤيّداً من عند الله من بَدوِ أمره إلى النهاية ، منتهياً إليه رئاسة الإماميّة بأجود العناية ، وأحسن الكفاية ، وشأنه أجلّ من أن يوصف بالبيان والتقرير ، وأدقّ من أن يُعرف بالبنان والتحرير ، وكان ورعاً جليلاً وجامعاً نبيلاً ،

٣٦

وبارعاً نِحريراً ، ومقدّماً كبيراً ، وأديباً ماهراً ، وخطيباً باهراً ، جميل السياق جليل الإشفاق ، كثير الخشوع ، غزير الدموع ، دائم الأنين ، وافر الحنين ، باكي العينين ، زاكي الملوين ، حسن المفاكهة ، طيّب المعاشرة ، لطيف المحاورة ، جيّد الخط والكتابة بقسميها المشهورين ، إلى أخره.

وهكذا ساق الكلام عنه وعن مؤلّفاته وأحواله ومدحه والثناء والإطراء عليه ما لم يذكره في أحد من العلماء العظام ، وليس هذا أوّل معجب به ، ولا آخر مبهوت أمام جلالة قدره ، فكم من كاتب تركَ عنانَ قلمه طاوياً الصفحات مسحوراً ببهائه ، وكم من مُظهر للعجزِ عن إدراك فضائله ، وكم من مُدافع عن حريم قوانينه ، فقد كتب صاحب قصص العلماء تعليقة على القوانين دافَعَ فيها عن الميرزا ، وفنّد إيرادات الموردين وسمّاها المحاكمات.

وقد ذكره قدس‌سره خصيمه القلبي وعنيده الواقعي محمّد بن عبد النبيّ النيشابوري الأخباري ، الذي جعله في عداد أصحاب الرأي وأهل الاجتهاد بالباطل ، وعبّر عنه وعن أتباعه وأوليائه بالبقاسمة ، كما عن صاحب الرياض وأصحابه بالأزارقة ، وعن الشيخ جعفر وقومه بالامويّة لا أفلحه الله فيما قال وفعل ، ولا عاجله إلّا بالخوف والوجل قال في رجاله الكبير عند بلوغه إلى ترجمة هذا النحرير : أبو القاسم بن الحسن الجيلاني أصلاً ، الجابلقي مولداً ومنشأً ، القمي جواراً ، فقيه أُصولي مجتهد مصوّب ، له كتاب القوانين في أُصول الفقه ، وكتاب مُرشد العوام في الفقه بالفارسيّة ، معاصر يروي عن شيخنا محمّد باقر البهبهاني «مع» انتهى ، و «مع» تعني عنده معتبر الحديث ، ولعلّه عنى بمصوّب هو قوله بحجيّة مطلق الظن ، وإلّا فالميرزا القمي من القائلين بالتخطئة.

وقال في معجم المؤلّفين : أبو القاسم بن محمّد حسن الجيلاني الشفتي القمي ، فقيه ، أُصولي شاعر ، ولد في جابلاق من أعمال رشت ، وهاجر إلى العراق فمكث في كربلاء مدّة طويلة ، ثم انتقل إلى أصفهان ، ثم إلى شيراز ، ثم إلى قم وتوفّي بها ،

٣٧

ودفن في مقبرتها الشهيرة بشيخون ..

وقال الزركلي : أبو القاسم بن محمّد حسن القمي فقيه من علماء الإماميّة يلقّب بالميرزا القمي ، أصله من بلدة رشت بايران ، ومولده في قرية من توابع قم ، ووفاته بقم ، له مؤلّفات كثيرة بالعربيّة والفارسيّة إلى أن قال ورسائل كثيرة جدّاً قيل : إنّها تناهز الألف في مباحث شتّى.

مولده

كان والد الميرزا القمي من أهل شَفت من أعمال مدينة رشت من محافظة جيلان في شمال إيران ، فهاجر إلى أصفهان للتلمّذ على يد ميرزا حبيب الله وميرزا هداية الله ، وعندها سافر هذان العالمان بأمر السلطان للتبليغ والقضاء والحكم إلى جابلاق بجيم فارسيّة وباء فارسيّة مضمومة وهي ناحية مشتملة على ثلاثمائة قرية من توابع دار السرور التابعة لبروجرد ، فسافر والد الميرزا القمي هو وزوجته بنت ميرزا هداية الله معهما أيضاً ، فولد له الميرزا القمي هناك حوالي عام ١١٥٢ ه‍ ، وفي عام ولادته أقوال أُخر فقيل : إنه ولد عام ١١٥٠ ه‍ ، أو ١١٥١ ه‍ ، أو ١١٥٣ ه‍.

حياته

ولد الميرزا القمي في جابلاق التي هي من أعمال دار السرور كما بيّنا فأخذ يرتفع على أقرانه في الفهم والإدراك ، حتّى إذا بلغ مبلغ الرجال ، وفرغ من تشييد مقدّمات الكمال ، اشتغل في علوم العربيّة على والده الذي هو أحد العلماء والفضلاء ، وله تأليفات ، ومشهور بالزهد والعبادة.

ثم انتقل إلى بلدة خونسار في زمن رئاسة المحقّق الأمير السيد حسين الخونساري جدّ صاحب الروضات ، فاشتغل عليه في تلك البلدة عدّة سنين في الفقه والأُصول القديمة دون الجديدة ، وكان السيد حسين من أعاظم الفقهاء في ذلك العصر ، ومن

٣٨

مشايخ الإجازة ، وله رسالة في علم الرجال ، فأجازه ، وتزوّج الميرزا القمي بأُخته السعيدة من شدّة اتّصاله به ، ثم ترخّص من عنده في التوجّه إلى العتبات العاليات في العراق.

فانتقل إلى النجف الأشرف حيث الأُستاذ الأكبر الوحيد البهبهاني ، فاشتغل عليه سنوات عديدة إلى أن بلغ في حضرته غاية من الغايات ، ونهاية من الدرايات. وقيل : إنّ الوحيد البهبهاني في أوائل الأمر كان يصلّي بالأُجرة ويدفع ما يأخذه من هذا الطريق إلى الميرزا القمي الذي بلغ الغاية في الفقر والفاقة ، ليُدير بها معاشه ، ويحصل له فراغ البال عند الاشتغال بطلب العلم ، ثم إنه قدس‌سره أجاز له في الرواية والاجتهاد ، ومعروف أنّ الميرزا القمي جاء بعد وفاة الوحيد البهبهاني بكربلاء إلى باب بيت الوحيد أوّلاً فقبّلها ، وبعدها ذهب إلى زيارة الإمام الحسين (ع).

وقيل : إنّه دخل النجف ولم يناهِز العشرين عاما ، ويستفاد ذلك من بعض إشعاره بالفارسيّة ، والذي جاء فيه :

 .. بهر زماني كه شدم داخل فيض

عقل فتا«به جنان قاسم حي هشت قدم»

وكتب بعده : يوجد نكتة في تضمين كلمة «حي» فلا يُعترض على ذلك.

وحساب جملة «به جنان ..» الذي هو تاريخ وروده النجف ١١٧٤ ه‍ ، وحساب كلمة «حي» ١٨ ، فيكون دخوله النجف في عام ١١٧٤ ه‍ ، عند ما كان عمره ١٨ سنة ، وفي هذه السنة شرع بالاشتغال عند الأُستاذ الأكمل الوحيد البهبهاني ، وهذه الفترة هي الفترة التي استفاد فيها أعظم الاستفادة ، وتحمّل فيها القسط الأوفى من العلم والترقّي فكانت منعطفاً كبيراً في حياته العلميّة.

وبعد أن أخذ قسطاً وافياً من العلوم ، وبلغ مرتبة عالية في أنواع الفنون عاد إلى إيران إلى موطن أبيه (درّ باغ) وهي قرية من قرى جابلاق.

ولكن لما كانت هذه القرية صغيرة وأسباب المعاش فيها محدودة ، انتقل منها إلى

٣٩

قرية (قلعة بابو) من قرى جابلاق ، وصار المتكفّل باموره الحاج محمّد سلطان من أعيان جابلاق وأرباب الثروة والتديّن ، وأحبّ الميرزا وأعانه. وقرأ عليه هناك رجلان ، أحدهما ميرزا هداية أخو الحاج محمّد سلطان ، والآخر عليّ دوستخان ابن الحاج طاهر خان ، فقرءا عليه في النحو والمنطق ، في شرح الجامي وحاشية ملا عبد الله ، ولم يكن أهل تلك القرية يعرفون قدره ، بل إنّهم استخفّوا به.

ويذكر أنه كان في تلك القرية شيخ قرويّ ثَقُل عليه وجود الميرزا القمي ، فأراد الاستخفاف به ، فجمع أهل القرية وطلبوا حضور الميرزا ، فقال هذا الشيخ لأهل القرية اطلبوا من الميرزا أن يكتب حيّة ، فكلّموه في ذلك ، فكتب الميرزا حيّة ، ورسم ذلك الشيخ صورة حيّة ، فأرى ذلك الشيخ أهل القرية الخطّين وقال لهم : انظروا أيّهما الحيّة ، ما كتبت أنا أو ما كتب الميرزا؟ ولما كان أهل القرية أُميين لا يعرفون الكتابة رجّحوا ما رسمه الشيخ ، فتأثّر الميرزا من ذلك.

فانتقل بعدها إلى أصفهان وأخذَ يدرّس في مدرسة (كاسه‌كران) مدّة من الزمان ، فألحق به بعض علماء الدنيا أذى حسداً ، لما رأى فيه من آثار الرشد.

فسافر إلى شيراز ، وكان ذلك في أيام سلطنة كريم خان زند ، فبقي هناك سنتين أو ثلاثاً ، وأعانه الشيخ عبد المحسن أو ابنه الشيخ مفيد بمبلغ سبعين توماناً أو مائتي تومان على اختلاف الحكايتين ، فرجع إلى أصفهان ، ولم يكن عنده كتب ، فاشترى بعض كتب الاستدلال واللغة والحديث ، ويقال إن الكتب يومئذ كانت تباع بالوزن ، فلما استوت كفّتا الميزان ومن أجل ترجيح كفّة المبيع أضاف كتاب الروضة البهيّة إليها.

ثم رجع إلى قرية بابو ، فاشتغل عليه بعض الطلاب في الفقه والأُصول ، ولكن لما كان البلد خالياً من العلماء والفضلاء والطلبة وأمر معاشه فيها ضيّقاً ، واتفق أن استخفّ به بعض أهل القرية أشدّ من السابق لا نتعرّض له ، فبكى على أثر ذلك ، ورفع يديه إلى السماء وقال : اللهم لا تقدّر ذلّي أكثر من ذلك.

فاتّفق أن طلب منه أهل قم الإقامة في بلدهم ، فأجابهم إلى ذلك ، وتوطّن قماً ،

٤٠