غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: عباس تبريزيان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-182-7
الصفحات: ٥٨٤

وقد مرّ في نجاسة الكفار ما يدل عليه من الأخبار ، وكذا في نجاسة الخمر والنبيذ ومطهريّة الأرض.

ويدلّ عليه أيضاً كلّ ما ورد في تحديد الكرّ كما سيجي‌ء ، وخصوص صحيحة ابن بزيع الاتية في ماء البئر ، وما يدلّ على اشتراط الاتصال بالمادة في ماء الحمّام كما سيأتي ، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

حجّة ابن أبي عقيل : الأصل ، وعموم الآيات والأخبار ، مثل ما نقل عنه أنّه قال : تواتر عن الصادق عليه‌السلام أنّ الماء طاهر لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته (١) ، وهو غير مذكور في الكتب المشهورة.

نعم أسند هذا المضمون الفاضلان في المعتبر والمنتهى إلى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض المواضع مرسلاً ، وفي بعضها رواه الجمهور عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

نعم روى الكليني والصدوق ، عن الصادق عليه‌السلام : «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر» (٣).

وفي الاستدلال به كلام.

والتحقيق في الجواب أنّ العلم قد حصل بما ذكرنا.

ومرسلة حريز أو صحيحته على ما في التهذيب (٤) ، وإن كان فيها إشكال ،

__________________

(١) المستدرك ١ : ١٨٦ نقلاً عن درر اللآلي ، وفي الوسائل ١ : أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٩ خلق الله الماء طهوراً لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر .. نقلاً عن المعتبر.

(٢) المعتبر ١ : ٤١ ، ٤٤ ، المنتهي ١ : ٢٠ ، ٢٨.

(٣) الكافي ٣ : ١ ح ٣ ، الفقيه ١ : ٦ ح ١ مرسلاً بتفاوت ، وينظر التهذيب ١ : ٢١٥ ح ٦١٩ ، والوسائل ١ : ٩٩ أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٢ ، ٥.

(٤) التهذيب ١ : ٢١٦ ح ٦٢٥ ، وينظر الكافي ٣ : ٤ ح ٣ ، والاستبصار ١ : ١٢ ح ١٩ ، والوسائل ١ : ١٠٢ أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١ ، كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب ، فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا توضّأ منه ولا تشرب.

٥٠١

وصحيحة عبد الله بن سنان (١) وإن كان في صحّتها كلام (٢) ، وصحيحة أبي خالد القماط (٣) ، وقويّة سماعة (٤) (٥).

وكلّ هذه مع أنّ ظاهرها كثرة الماء كما لا يخفى على المتأمّل في سوق السؤال والجواب عمومات وإطلاقات ، وما مرّ من الأدلّة خصوصات ، والخاصّ حاكم على العام ، سيّما مثل هذا الخاصّ.

وحسنة محمَّد بن ميسر (٦) ، وفيه : مع أنّ الحسن لا يقاوم الصحاح وغيرها ، ومثل هذه دلالتها موقوفة على ثبوت الحقيقة الشرعيّة في القذر وفي الماء القليل ، ولا يبعد حملها على التقيّة.

وموثّقة الحسين بن زرارة في حكاية الاستقاء بشعر الخنزير (٧) ، ورواية زرارة في الاستقاء بجلده (٨) ، المتوقّفة دلالتهما على نجاسة البئر بالملاقاة ، وهو خلاف التحقيق. فيحمل الأوّل على نفي البأس عن ماء البئر ، لا ما لاقاه (٩) شعر الخنزير ، والثاني على ذلك ، وعلى جواز الانتفاع في غير الشرب والتوضّؤ ، ونقلنا روايات أُخر أيضاً في كتابنا الكبير.

وبالجملة أخبار هذا المذهب إما ضعيف السند ، أو قاصر الدلالة ، أو

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤ ح ٤ ، الوسائل ١ : ١٠٥ أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١١.

(٢) لأنّها رواية محمّد بن عيسى عن يونس.

(٣) التهذيب ١ : ٤٠ ح ١١٢ ، الاستبصار ١ : ٩ ح ١٠ ، الوسائل ١ : ١٠٣ أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٤.

(٤) التهذيب ١ : ٢١٦ ح ٦٢٤ ، الاستبصار ١ : ١٢ ح ١٨ ، الوسائل ١ : ١٠٤ أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٦.

(٥) في «م» : موثّقة سماعة ، كما في الجواهر ، ولكن في طريقها الحسين بن الحسن بن أبان ولم يثبت توثيقه.

(٦) الكافي ٣ : ٤ ح ٢ ، التهذيب ١ : ١٤٩ ح ٤٢٥ ، الاستبصار ١ : ١٢٨ ح ٤٣٨ ، الوسائل ١ : ١١٣ أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ٥.

(٧) الكافي ٦ : ٢٥٨ ح ٣ ، الوسائل ١ : ١٢٦ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٣.

(٨) التهذيب ١ : ٤١٣ ح ١٣٠١ ، وفي الفقيه ١ : ٩ ح ١٤ مرسلاً ، الوسائل ١ : ١٢٩ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ١٦.

(٩) في «ز» : لا ملاقاة.

٥٠٢

عام ضعيف ، فلا يعارض به ما قدمنا ، مع اعتضادها بعمل جل الأصحاب والإجماعات المنقولة ، ومخالفتها لأكثر العامّة ، بل كونها متواترة بالمعنى كما ادّعاه بعضهم.

وأما ما ذكره في المفاتيح من أنّه لو انفعل القليل لما جاز تطهير النجاسة بالماء القليل ، وهو باطل بالضرورة (١) ، فهو بمكان من الوهن ، إذ هذه الأحكام مما لا تبلغها عقولنا ، فأيّ مانع من صيرورة المطهّر نجساً وتطهيره للمحلّ؟ وأيّ مانع من تخصيص ماء الغُسالة بعدم التنجّس مما ذكرنا بنص الشارع (٢) كماء الاستنجاء الطاهر بالإجماع والصحاح؟

وكذلك ما أيّده به من الاختلاف الوارد في تحديد الكر ، مستنداً بأنّ الواجب لا تختلف مراتبه ، فهو قرينة الاستحباب ، مستشهداً بما ذكره جماعة من المتأخّرين في طهارة ماء البئر نظير ذلك في الاختلافات الواردة في منزوحات البئر.

وفيه : مع أنّ هذا الاختلاف مع تكرره وتداوله في الواجبات ومسلّميّة صحّته بحمل الأزيد على الأفضل كما في التسبيحات وغيرها ، وأنّ الزائد أفضل أفراد الواجب التخييري أنّ هذا الكلام في البئر ، لعدم ثبوت النجاسة عندهم ، وأما بعد ثبوت النجاسة في القليل بالدليل فنحمل القدر الزائد في الكرّ على الاستحباب.

وزاد في كتاب الوافي كلمات سخيفة واهية ، يظهر وهنها لمن لمحها (٣) ، ولا حاجة إلى ذكرها وردّها.

ثم إنّ ههنا أُموراً :

الأوّل : إنّه لا فرق في نجاسة القليل بين وروده عليها ، وورودها عليه ، واقتصر

__________________

(١) المفاتيح ١ : ٨٢.

(٢) كذا.

(٣) الوافي ٦ : ١٨ ، ١٩.

٥٠٣

السيد في المسائل الناصريّة على الثاني (١) ، وفاقاً للشافعي (٢) ، وقال هذه المسألة : لا أعرف فيها نصّاً لأصحابنا ، ولا قولاً صريحاً ، والشافعي يفرّق بين ورود الماء على النجاسة وورودها عليه. واستدل عليه بأنّه لولاه لم يمكن التطهير بالقليل ، وقد مرّت الإشارة إلى جوابه.

ومال إلى هذا الفرق صاحب المدارك ، مدّعياً أنّ الأخبار في نجاسة القليل إنّما وردت فيما وردت النجاسة على الماء (٣) ، وقد أشرنا سابقاً إلى أنّه ليس كذلك ، وقد عرفت الأخبار.

الثاني : حكم الشيخ بعدم نجاسة القليل بما لا يمكن التحرّز منه مثل رؤس الإبر من الدم وغيره ، فإنّه معفوّ عنه (٤) وخصّه في الاستبصار بمثل رؤس الإبر من الدم (٥) والمشهور خلافه ، وهو الأقوى.

احتجّ الشيخ بصحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل رعف فامتخط فصار ذلك الدم قطعاً صغاراً فأصاب إناءه ، هل يصلح الوضوء منه؟ قال : «إن لم يكن شي‌ء يستبين في الماء فلا بأس ، فإن كان شيئاً بيّناً فلا تتوضّأ منه» (٦).

وجوابه : أنّ الظاهر منه أنّه من جهة أنّه لم يحصل العلم بوصوله إلى الماء ، ولا يضرّ الشك ، لا أنّه لا بأس به إذا وصل إلى الماء. «وكان» في المقامين ناقصة «وشي‌ء» اسمها ، و «يستبين» خبرها ، وضمير كان الثانية يعود إلى الشي‌ء الحاصل

__________________

(١) المسائل الناصريّة (الجوامع الفقهيّة) : ١٧٩.

(٢) الام ١ : ٥.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٤٠.

(٤) المبسوط ١ : ٧.

(٥) الاستبصار ١ : ٢٣.

(٦) الكافي ٣ : ٧٤ ح ١٦ ، التهذيب ١ : ٤١٢ ح ١٢٩٩ ، الاستبصار ١ : ٢٣ ح ٥٧ ، الوسائل ١ : ١١٢ أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١.

٥٠٤

من الامتخاط.

ويؤيّده أنّ الكليني رواها صحيحاً وزاد في آخرها : «وسألته عن رجل رعف وهو يتوضّأ ، فتقطر قطرة في إنائه ، هل يصلح الوضوء منه؟ قال : لا».

وأما في غير الدم ، فلم نقف على دليل.

وأما ما يستفاد من كلام الشيخ من عدم إمكان التحرّز ، فإن أُريد الاستحالة فواضح البطلان ، وإن أُريد الحرج فلم يثبت نفي مثل ذلك في الدين.

الثالث : الجمد حكمه حكم القليل ، وإن كان كرّاً ، لعدم صدق اسم الماء ، وأغرب العلامة فجعله كالكرّ ، بل آكد منه باعتبار قوّة الأثر الصادر من الحقيقة ، وهي البرودة. مع أنّه حكم في الجمد الأقلّ من الكرّ بنجاسة موضع الملاقاة فقط (١) ، وكذا الكلام في الثلج.

الثاني : في الكرّ من الراكد

ولا ينجّسه شي‌ء ، إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته ، وهو في الجملة إجماعيّ.

وخلاف المفيد (٢) وسلار (٣) ومن تبعهما (٤) في نجاسة الكرّ من مياه الحياض والأواني بالملاقاة ؛ ضعيف ، ولعلّ نظرهم إلى عموم ما ورد من عموم النهي عن استعمال الأواني بعد ملاقاة النجاسة ، وهو محمول على الغالب من كونها أقلّ من الكر ، مع أنّه لا يتمّ في الحياض أصلاً.

ويدلّ عليه الأصل ، والإجماع ، والآيات (٥) ، والأخبار بالعموم ، مثل قولهم

__________________

(١) المنتهي ١ : ١٧٢.

(٢) المقنعة : ٦٤.

(٣) المراسم : ٣٦.

(٤) كالشيخ في النهاية : ٤.

(٥) الأنفال : ١١ ، الفرقان : ٤٨.

٥٠٥

عليهم‌السلام : «كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» و «كلّ شي‌ء نظيف» ونحو ذلك (١). وبالخصوص مثل ما دلّ على اشتراط الكريّة في عدم نجاسة الماء (٢) ، وقد مرّت الإشارة إليها وغيرها.

وأما نجاسته مع التغيّر بالنجاسة ، فهو أيضاً إجماعيّ ، مدلول عليه بالأخبار ، مثل الخبر النبوي المشهور (٣) ، وصحيحة حريز (٤) ، وصحيحة عبد الله بن سنان (٥) ، وموثّقة العلاء بن الفضيل في زيادات التهذيب المشتملة على ذكر اللون (٦) ، وصحيحة شهاب بن عبد ربه على الظاهر المرويّة في بصائر الدرجات المشتملة على حكم النجاسة بتغيّر اللون (٧) ، وكذا ما روي في دعائم الإسلام (٨).

فلا وجه لمنع صاحب المدارك ورود ذكر اللون في الأخبار الخاصّة (٩) ، مع أنّ العاميّة تكفي لانجبارها بالعمل.

وتغيّر بعض الماء أيضاً ينجّس إذا لم يكن الباقي كرّاً ، لأنّ الباقي قليل لاقى نجاسة ، فيدلّ عليه مفهوم قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجّسه شي‌ء» (١٠)

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠٠ أبواب الماء المطلق ب ١.

(٢) الوسائل ١ : ١١٧ أبواب الماء المطلق ب ٩.

(٣) السرائر ١ : ٦٤ ، المعتبر ١ : ٤٠ ، الوسائل ١ : ١٠١ أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٩ ، وانظر سنن البيهقي ١ : ٢٥٩ ، وسنن الدارقطني ١ : ٢٨.

(٤) الكافي ٣ : ٤ ح ٣ ، التهذيب ١ : ٢١٦ ح ٦٢٥ ، الاستبصار ١ : ١٢ ح ١٩ ، الوسائل ١ : ١٠٢ أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١ ، وفيها : فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا تتوضّأ ولا تشرب.

(٥) الكافي ٣ : ٤ ح ٤ ، الوسائل ١ : ١٠٥ أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١١ ، وفيه : محمّد بن عيسى عن يونس.

(٦) التهذيب ١ : ٤١٥ ح ١٣١١ ، ورواه في الاستبصار ١ : ٢٢ ح ٥٣ ، الوسائل ١ : ٧٠٤ أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ٧ ، وفي طريقه محمّد بن سنان.

(٧) بصائر الدرجات : ٢٥٨ ح ١٣ ، الوسائل ١ : ١١٩ أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١١.

(٨) دعائم الإسلام ١ : ١١١ ، مستدرك الوسائل ١ : ١٨٨ أبواب الماء المطلق ب ٣ ح ١ ٣.

(٩) المدارك ١ : ٥٧.

(١٠) الوسائل ١ : ١١٧ أبواب الماء المطلق ب ٩.

٥٠٦

والظاهر عدم الخلاف فيه أيضاً.

وما يتوهّم من أنّ الثابت من تنجّس الكرّ هو ما إذا تغيّر جميعه فإنّ الظاهر من الماء في الخبر النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمثاله هو مجموع الماء الواحد لا بعضه ، ويصدق على هذا أنّه ماء لم يتغيّر مجموعة ، فإذا كان كرّاً فلا ينجس ، لأنّ غاية ما ثبت خروجه من عموم الخبر النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمثاله هو الماء القليل ، وأما الكرّ فيبقى على العموم.

وفيه أوّلاً : إنّه مقلوب على المتوهّم ، بأنّ ما ثبت تنجّسه من الرواية أنّه هو مجموع الماء الواحد لا بعضه ، فيلزم أن لا يكون هذا القدر المتغيّر منه أيضاً نجساً.

وثانياً : إنّ الماء اسم جنس يشمل الماء الواحد وبعضه ، ولا منافاة بين إعمال منطوق قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كر» ومفهومه ، والجزء الإثباتي من الخبر النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلبه.

فنقول : إنّ القدر المتغيّر من الكرّ ينجس بالجزء الإثباتي من الخبر النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والغير المتغيّر منه الأقلّ من الكرّ بمفهوم قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كر» وأما عدم تنجّس الكرّ بالملاقاة فبمنطوق قوله عليه‌السلام.

مع أنّه لا ريب في نجاسته إذا صارت تلك القطعة مضافةً ، ولا قائل بالفصل كما سنشير إليه في الجاري أيضاً.

ولا يضرّ التغيّر بالمتنجّس ، للأصل ، وانصراف الأخبار إلى النجس. وخلاف الشيخ ضعيف (١) ، ولا دلالة في الخبر النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ النكرة في سياق الإثبات لا تعم. ولا يضرّ التغيّر بالمجاورة ، بل المستفاد من الأدلّة تغيّره بملاقاتها ، والظاهر عدم الخلاف فيه.

__________________

(١) المبسوط ١ : ٥.

٥٠٧

والمراد بالتغيّر : هو الحسّي على المشهور ، واعتبار (١) العلامة للتقديري (٢) ضعيف.

لنا (٣) : التبادر من الأدلّة ، فلا يضرّ الشك في التغيّر ، كما لو كان الماء متغيّراً بطاهر محتملاً للتغيّر لو لم يكن التغيّر (٤) ؛ ولا كون النجاسة مسلوبة الصفات بمقدارٍ لو كان متّصفاً بها لغيّرها ، إلّا أن يسلبه الإطلاق.

وأما ما شك في الإطلاق فيقع الإشكال ، لتعارض الاستصحابين ، والأظهر أن يقال حينئذٍ بوجوب الاجتناب في المشروط بالطهارة ، وعدم تنجّس الملاقي ، كالشبهة المحصورة.

ويمكن توجيه قول العلامة بأنّ المراد من قوله عليه‌السلام : «إلّا ما غيّر لونه» إلّا مقدار من النجاسة يغيّر الماء ، والقيد وارد مورد الغالب من كون النجاسة ذات وصف مغيّر ، وفاقد الوصف يحمل على واجده.

وإن أراد ولده رحمه‌الله من استدلاله على مذهبه بأنّ الماء مقهور بالنجاسة ، لأنّه كلّما لم يصر مقهوراً لم يتغيّر بها على تقدير المخالفة ، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا : «كلّما تغيّر على تقدير المخالفة كان مقهوراً» (٥) نظير ما ذكرنا فله وجه ، لكن الكلام في ظهور إرادة المقدار من الأدلّة ، وهو في محل المنع ، بل الظاهر منها هو المغيّر بالفعل ، وإلا فكلّيّة الأُولى ممنوعة.

ولو فرض تسليم اعتبار التقديري ، فإنّما يصح في غير مثل الجيفة في الماء ، بل مطلق الريح ، إلّا في مثل البول الممزوج بالماء كما ذكره بعضهم.

__________________

(١) في «م» : اعتماد ، وفي «ز» : اعتباط.

(٢) نهاية الأحكام ١ : ٢٣٣ ، القواعد ١ : ١٨٣ ، المنتهي ١ : ٤٢.

(٣) في «ح» : وأما.

(٤) يريد أنّه لو كان الماء متغيّراً بطاهر كالزعفران واحتمل وجود التغيّر بالنجاسة بحيث يطهر لو لم يكن التغيّر بالزعفران فإنه لا يضرّ هذا الاحتمال وهذا الشك في التغير.

(٥) إيضاح الفوائد ١ : ١٦.

٥٠٨

والمعتبر حال أوساط الماء بسبب الصفاء والكدورة والعذوبة والملوحة ، هذا كلّه في المتغيّر بالنجاسة.

وأما المتغيّر بالطاهر فهو طاهر مطهّر ما لم يسلب عنه الإطلاق ، سواء كان مما دخل في الماء ولا يمكن التحرّز منه ، أو مما خرج ، خلافاً لبعض العامة (١) ، وهو ضعيف.

تذنيبان :

الأوّل : إنّ ظاهر الأخبار مثل قولهم عليهم‌السلام:«إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء» سيّما مع ملاحظة سؤال الرواة ونحو ذلك اعتبار استواء سطوح الكرّ في الاتّحاد وعدم التنجّس ، أو مع انحدارها قليلاً ، وهو المستفاد من كلام الأصحاب كالمحقّق في المعتبر والعلامة في المنتهي والتحرير والتذكرة (٢).

وكلام التذكرة صريح في ذلك ، حيث حكم بعدم تنجّس الأعلى بتنجّس الأسفل دون العكس. وصرّح باعتباره الشهيد (٣) والمحقّق الشيخ عليّ (٤) رحمه‌الله.

وردّ عليهما الشهيد الثاني بأنّ كلام الأصحاب كالأخبار مطلق يشمل المتساوي وغيره ، واستشهد ببعض الإطلاقات التي لا تدلّ على ما ذكره ، مثل ما أطلقوا عدم نجاسة ما تحت المتغيّر من الجاري إذا انقطع عمود الماء إذا كان كرّاً ، ولم يشترطوا استواء السطوح ومسألة الغديرين وغيرهما (٥).

وأنت خبير بأنّ الإطلاق في الأوّل محمول على الغالب من الاستواء أو

__________________

(١) الأُم ١ : ١١. المغني والشرح الكبير ١ : ١١.

(٢) المعتبر ١ : ٥٠ ، المنتهي ١ : ٥٣ ، التحرير ١ : ٤ ، التذكرة ١ : ٢٣.

(٣) البيان : ٩٩ ، الدروس ١ : ١١٩ ، الذكرى : ٩.

(٤) جامع المقاصد ١ : ١١٢ ، ١١٥.

(٥) روض الجنان : ١٣٥.

٥٠٩

الانحدار الغير المفرط ، مع أنّهم في هذا المقام ليسوا في صدد بيان حكم المسألة باعتبار الكرّيّة والاتّحاد ، بل غرضهم بيان ما يتعلّق بالجاري. وأما مسألة الغديرين فهي ظاهرة في كلامهم في المتساوي ، فلاحظ المعتبر والمنتهى والتحرير وصريح التذكرة (١).

والتحقيق أنّ ههنا مقامين ، أحدهما : إنّ عدم تنجّس الماء الذي هو بمقدار الكرّ من حيث إنّه كرّ مشروط باتصال أجزائه واتّحادها عرفاً ، أو يكفي مطلق الاتصال.

وثانيهما : إنّ الماء القليل إذا اتصل بالكرّ أو الجاري ، هل يشترط في تقوّية بهما وعدم تنجّسه مساواة سطحيهما أم لا؟ وقد يجتمع الاعتباران.

والحقّ في الأوّل الأوّل ، وفي الثاني الثاني ، لكن مع علو الجاري أو الكثير. ووجه الأوّل ما ذكرنا ، ووجه الثاني مضافاً إلى صدق الوحدة أيضاً في بعض أفراده كما إذا كان العالي هو الجاري كلّ ما ورد في ماء الحمّام كما سيجي‌ء ، وصحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع (٢) ، والكلام في ماء الحمّام من المقام الثاني ، واستثناؤهم ماء الحمّام من أعظم الشواهد على أنّه لا يعدّ هذا القليل متّحداً مع الكثير ، ولذلك ألحقوه بالجاري.

وقد اختلط المقام على كثيرٍ منهم ، فربما قيل باشتراط استواء السطوح ، وأن استثناء الحمّام من هذا الحكم بسبب الأخبار ولزوم الحرج. وربما قيل إنّ الاكتفاء بكون ماء الحمّام مع المادّة كرّاً كما ذكره بعضهم (٣) لأجل عدم اعتبار استواء ونحو هذا.

ومن تأمّل فيما ذكرنا بعين الإنصاف ، وفرّق بين المقامين لا يشتبه عليه الأمر ،

__________________

(١) المعتبر ١ : ٥٠ ، المنتهي ١ : ٥٣ ، التحرير ١ : ٤ ، التذكرة ١ : ٢٣.

(٢) التهذيب ١ : ٢٣٤ ح ٦٧٦ ، الوسائل ١ : ١٢٧ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٧ ، ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر ريحه وطعمه فينزح منه حتّى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادّة.

(٣) نقله عن والده في المعالم : ١٥.

٥١٠

وقد حقّقنا المقام وأطنبنا الكلام في الكتاب الكبير.

الثاني : في تحديد الكرّ.

أما بالوزن. فهو : ألف ومائتا رطل ، بلا خلاف ظاهر بيننا ، قال في المعتبر بعد نقل الرواية الدالّة عليه : إنّي لا أعرف من الأصحاب رادّاً لها (١) ، وكذلك يظهر من العلامة في المنتهي (٢) ، وفي المعالم : ظاهرهم الاتفاق عليه (٣) وادّعى عليه في الجملة الإجماع في الانتصار وورود آثار معروفة مرويّة (٤) ، وكذلك جعله الصدوق في الأمالي من دين الإماميّة (٥) ، ولكنهما فسّراه بالمدني ، والأكثرون بالعراقي ، وهو ثلثا المدني ونصف المكي ، وهو أقوى ، والرطل العراقي مائة وثلاثون درهماً.

والأصل في هذا التحديد هو صحيحة ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابنا ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «الكرّ من الماء الذي لا ينجّسه شي‌ء ألف ومائتا رطل» (٦) وقال في المقنع : وروى أنّ الكرّ ألف ومائتا رطل (٧). ولا يضر إرسال ابن أبي عمير ، سيّما مع اعتضادها بالعمل.

وقد يستدلّ على التحديد بالعراقي بأصل طهارة الماء ، وأنه خلق للانتفاع ، ومرجعه إلى الاستصحاب ، وإلا فلا منافاة. وبأن الأقلّ متيقّن والزائد مشكوك فيه ، ومرجعه أيضاً إلى الاستصحاب ، أما الأوّل فاستصحاب جواز الانتفاع وعموم الحكم ، وأما الثاني فاستصحاب عدم ثبوت الشرط الزائد.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٤٧.

(٢) المنتهي ١ : ٣٧.

(٣) معالم الفقه : ٧.

(٤) الانتصار : ٨.

(٥) الأمالي المترجم : ٦٤٦ المجلس الثالث والتسعون.

(٦) الكافي ٣ : ٣ ح ٦ ، التهذيب ١ : ٤١ ح ١١٣ ، الاستبصار ١ : ١٠ ح ١٥ ، الوسائل ١ : ١٢٣ أبواب الماء المطلق ب ١١ ح ١.

(٧) المقنع : ١٠.

٥١١

والإيراد بأنّ ذلك إنّما يتمّ في مثل النجاسة ووجوب الاجتناب ، أما في مثل العدول إلى التيمّم فلا ، لاستصحاب شغل الذمة بالصلاة بالمائيّة (١) ، هو معارض باستصحاب عدم وجوب الاجتناب عمّا لاقته النجاسة ، فإنّ وجوبه مشروط بانتفاء الكرّيّة.

والحق أنّ أمثال ذلك لا يستلزم الكرّيّة ولا عدمها ، بل إنّما يثبت حكمها ، فيتبع حكم كلّ في موضعه.

نعم يمكن إثباتها مع قطع النظر عن الموارد الخاصة بالأصل ، فيكون ظنّاً شرعياً اجتهادياً يقوم مقام اليقين.

وكذلك الاستدلال بقولهم عليهم‌السلام : «كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (٢) بعد الإيراد بما تقدّم والجواب عنه.

والأحسن الاستدلال بصحيحة محمّد بن مسلم ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء ، والكرّ ستمائة رطل» (٣) وما رواه الشيخ عن ابن أبي عمير بهذا المضمون (٤) ، فإنّه لا يجوز حمل الرطل ههنا إلّا على المكّي ،

__________________

(١) حاصل الاستدلال : أنّ الماء الراكد الذي هو كرّ باعتبار الرطل العراقي وليس بكرّ باعتبار المكّي والمدني إذا لاقته نجاسة مشكوك في كونه الكرّ الذي حكم الشارع بعدم تنجسه بالملاقاة أم لا ، فمقتضى استصحاب جواز الانتفاع واستصحاب عدم شرط زائد على هذا القدر يقتضي طهارته وعدم وجوب الاجتناب عنه وجواز الانتفاع به في الشرب والطهارة الخبثيّة والحدثيّة وغيرها. وحاصل الإيراد أنّ اشتغال الذمّة بالطهارة المائيّة لأجل الصلاة مستصحب ولا يحصل البرء بأدائه بالطهارة بهذا الماء ولا يصح الوضوء والغسل به إلّا إذا علم كون هذا الماء بمقدار الكرّ الذي اعتبره الشارع في عدم تنجسه بالملاقاة ، فهذا الاستصحاب مدافع للاستصحابين المتقدّمين ، وحاصل المعارضة أنّ هذا الماء المذكور قبل ملاقاة النجاسة لم يجب الاجتناب عنه إلّا إذا علم أنّه ليس بمقدار الكرّ المعتبر في الشرع فشرط وجوب الاجتناب عنه هو العلم بانتفاء كرّيته والانتفاء غير معلوم فوجوب الاجتناب غير معلوم ، فيجوز الانتفاع به حتّى في الطهارة فلا ينتقل إلى التيمم (منه رحمه‌الله).

(٢) الوسائل ١ : ١١٧ أبواب الماء المطلق ب ٩.

(٣) التهذيب ١ : ٤١٤ ح ١٣٠٨ ، الاستبصار ١ : ١١ ح ١٧ ، الوسائل ١ : أبواب الماء المطلق ب ١١ ح ٣.

(٤) التهذيب ١ : ٤٣ ح ١١٩ ، الاستبصار ١ : ١١ ح ١٦ ، الوسائل ١ : ١٥٨ أبواب الماء المطلق ب ١١ ح ٢.

٥١٢

وهو ضِعف العراقي ، فينطبق على المدّعى. ويؤيّده أنّ الحمل على العراقي يوجب موافقة التقدير بالمساحة على المشهور كما سيجي‌ء.

واحتجّ من فسّره بالمدني : بأنهم عليهم‌السلام من أهل المدينة ، فينبغي الحمل على عرفهم. وبالاحتياط.

وفيه : أنّهم عارفون بكل الاصطلاحات ، والأنسب للحكيم ملاحظة حال المخاطب ، ولعلّه كان عراقيا ، بل الظاهر أنّه عراقي ، لأنّ المرسل هو ابن أبي عمير ، وقيل : إنّ مشايخه كانوا عراقيين.

وأما الاحتياط فمع أنّه معارض بمثله ، ليس بدليل شرعي ، سيّما مع ملاحظة قولهم عليهم‌السلام : «كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (١).

نعم يؤيّد هذا المذهب ظاهر دعوى الإجماع في الانتصار (٢) ، والظاهر أنّ مراده من الإجماع هو الإجماع على أصل العدد ، والتفسير بالمدني كان من اجتهاده وترجيحه في فهم الأخبار ، مع أنّه لا يعارض ما ذكرنا.

وأما بالمساحة ، فالمشهور أنّه ما يبلغ تكسيره اثنين وأربعين شبراً وسبعة أثمان شبر ، وذهب القميّون وجماعة من المتأخّرين إلى أنّه ما يبلغ تكسيره سبعة وعشرين شبراً (٣) ، والراوندي إلى أنّه ما تبلغ مساحته عشرة أشبار ونصفاً طولاً وعرضاً وعمقاً (٤).

لنا : موثّقة أبي بصير ، قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الكرّ من الماء كم يكون قدره؟ قال : «إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصفاً ، في مثله ثلاثة أشبار ونصف ، في عمقه في الأرض ، فذلك الكرّ من الماء» (٥).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٩٩ أبواب الماء المطلق ب ١.

(٢) الانتصار : ٨.

(٣) الفقيه ١ : ٦ ، المقنع ١٠ ، وحكاه عن جمع القميين واختاره من المتأخّرين العلامة في المختلف ١ : ١٨٣.

(٤) نقله عنه في المختلف ١ : ١٨٤.

(٥) الكافي ٣ : ٣ ح ٥ ، التهذيب ١ : ٤٢ ح ١١٦ ، الاستبصار ١ : ١٠ ح ١٤ ، الوسائل ١ : ١٢٢ أبواب الماء المطلق ب ١٠ ح ٦.

٥١٣

ووجود عثمان بن عيسى في السند غير مضر ، لكونه موثّقاً (١). مع اعتضادها بالعمل ، بل ادّعى ابن زهرة الإجماع عليه (٢) ، وكذلك أبو بصير ، لأنّ الظاهر أنّه ليث ، أو مشترك بين الثقات.

ولا يرد القدح بترك أحد الأبعاد إما العرض أو العمق ، لأنّ من المتعارف الاكتفاء بذكر بعض الأبعاد ، مع احتمال رجوع ضمير عمقه إلى ثلاثة أشبار ونصف ، لا الماء ، وكون الإضافة بيانيّة.

والأولى أن يعتمد على ما رواه في الكافي بجر لفظ نصف في الموضعين ، على ما في النسخ المتعددة عندنا ، بأن يكون جرّه جرّ الجوار ، أو بحذف المضاف إليه وإعطاء إعرابه المضاف ، فيكون ثلاثة أشبار ونصف الثاني خبراً بعد خبر لكان ، وتتم الأبعاد الثلاثة.

ورواية الحسن بن صالح الثوري ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «إذا كان الماء في الركيّ كرّاً لم ينجّسه شي‌ء» قلت : وكم الكرّ؟ قال : «ثلاثة أشبار ونصف عمقها ، في ثلاثة أشبار ونصف عرضها» (٣).

ولا وجه للقدح في السند لما مرّ ، ولا في المتن لما مرّ ، ولأنّ البُعد الباقي لو كان أقلّ مما ذكر لما كان طولاً ، فلا أقلّ من التساوي ، والأصل عدم الزيادة. مع أنّ الشيخ رواها في الاستبصار مشتملة على الأبعاد الثلاثة صريحاً.

وربما تحمل رواية أبي بصير معتضدة بهذه الرواية على المدور ، لتقارب كرّ القميين ، ولا وجه له لما عرفت وستعرف.

__________________

(١) عدّه الشيخ من جملة الموثوق بهم من الواقفة في عدّة الأُصول ١ : ٣٨١ ، وعدّه من ثقات الإمام موسى بن جعفر (ع) ابن شهرآشوب في مناقبه ٤ : ٣٢٥.

(٢) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٥١.

(٣) الكافي ٣ : ٢ ح ٤ ، التهذيب ١ : ٤٠٨ ح ١٢٨٢ ، الاستبصار ١ : ٣٣ ح ٨٨ وفي بعض نسخه زيادة «ثلاثة أشبار ونصف طولها» ، الوسائل ١ : ١١٨ أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٨.

٥١٤

وقد يتوهم من كلام الشيخ حمل رواية الحسن على التقيّة (١) ، وليس بذلك ، إذ مراد الشيخ التقيّة في حكم البئر ، لا في مقدار الكرّ كما لا يخفى.

احتجّوا للقميين بصحيحة إسماعيل بن جابر ، عن الصادق عليه‌السلام قلت : وما الكرّ؟ قال : «ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار» (٢) ولا يضر عدم ذكر جميع الأبعاد ، لما مرّ ، مع أنّه روى الصدوق في المجالس وفي المقنع مرسلاً بذكر الأبعاد الثلاثة.

وتؤيّده صحيحته الأُخرى عنه عليه‌السلام ، قلت : الماء الذي لا ينجّسه شي‌ء؟ قال : «ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته» (٣) فإنّ الظاهر أنّه في المستدير ، وحاصل ضربه إنّ جعلنا الذراع عبارة عن شبرين يبلغ ثمانية وعشرين شبراً مع شي‌ء زائد.

وتوهّم بعضهم أنّ هذا أقرب إلى التقدير الوزني من مساحة المشهور (٤) ، وهو باطل ، بل المشهور أقرب إليه ، فإنّ أقلّيّة كرّ القميين عن المشهور أكثر من أكثريّة كرّ المشهور كما لا يخفى على من وزنهما.

نعم إن فرضنا الصحيحة الأُخرى في المربع تكون أقرب الكلّ إليه ، وتكسيره حينئذٍ ستة وثلاثون شبراً ، وأين هو مما نحن فيه.

وتحقيق المقام أنّ الكرّ أمر تحقيقي لا تقريبي ، لكونه معياراً لحكم شرعي ، والأصل فيه الوزن لكونه أضبط ، والمفروض أنّ الطرفين يجمعون على اعتبار ألف ومائتي رطل كما مرّ ، ولا ريب أنّ كرّ القميين في الوزن أقلّ من ذلك ، فيسقط

__________________

(١) حيث قال بعدها : قد بيّنا أنّ حكم الآبار مفارق لحكم الغدران ، وأنّها تنجس بما يقع فيها ، وتطهر بنزح شي‌ء منها ، سواء كان الماء فيها قليلاً أو كثيراً ، والوجه في هذا الخبر أن نحمله على ضرب من التقيّة لأنّه موافق لمذهب بعض العامة. التهذيب ١ : ٤٠٨.

(٢) الكافي ٣ : ٣ ح ٧ ، التهذيب ١ : ٣٧ ح ١٠١ ، وص ٤١ ح ١١٥ ، الوسائل ١ : ١١٨ أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٧.

(٣) التهذيب ١ : ٤١ ح ١٤ ، الوسائل ١ : ١٢١ أبواب الماء المطلق ب ١٠ ح ١.

(٤) نقله عن الأمين الأسترآبادي في الحدائق ١ : ٢٧٦.

٥١٥

اعتباره ، بخلاف كرّ المشهور فإنّه يزيد عليه بشي‌ء زائد يحمل على الاستحباب ، فلا مناص عن العمل على المشهور.

فتوجيه التحديد بالأشبار أنّه توسعة في التحديد بأخذ جانب الاحتياط غالباً فيما تعذّر التحديد بالوزن ، فهو تقريب وتخمين في الأمر التحقيقي ، أو اعتبار زيادة للاستحباب في الأغلب ، واعتبار التوجيه في ذلك أحسن منه في التحديد الوزني ، لدعواهم الإجماع عليه ، وكونه أصلاً وغير ذلك.

وأما قول الراوندي فهو غير واضح المراد والمأخذ ، فربما قيل إنّ مراده أن تكون أبعاده الثلاثة عشرة أشبار ونصفاً بالجمع لا بالضرب ، وهو قد يكون مساوياً للمشهور ، وقد يكون أنقص بقليل ، وقد يكون أنقص بكثير (١).

وقيل : أن يكون تكسيره بهذه المقدار (٢) ، وقيل غير ذلك (٣) ، ولا دليل على واحد منها.

وهناك مذاهب أُخر ، فقال ابن الجنيد : إنّ حدّه قلّتان ، ومبلغه وزناً ألف ومائتا رطل ، وتكسيره بالذراع نحو من مائة شبر (٤) ، والشلمغاني : إنّه ما لا يتحرّك جنباه عند طرح حجر في وسطه (٥) ، وليس لهما ما يُعتمد عليه ، مع تهافتهما.

وابن طاوس قال بجواز العمل بكل ما روي (٦) ، والظاهر أنّه يأخذ بالأقلّ ، ويحمل الأزيد على الاستحباب ، جمعاً بين الأدلّة ، والتحقيق ما ذكرنا.

__________________

(١) فإنّه قد يكون كلّ واحد من أبعاده ثلاثة أشبار ونصفاً فحينئذٍ يكون مساوياً للمشهور ، وقد يكون طوله تسعة أشبار وعرضه شبراً وعمقه نصف شبر ، فإنّ مجموع أبعاده كما قال عشرة أشبار ونصفاً ، ولكن تكسيره يكون أربعة أشبار ونصف وتكسير كرّ المشهور كما مر يزيد على اثنين وأربعين شبراً.

(٢) مشارق الشموس : ١٩٨.

(٣) الحبل المتين : ١٠٨.

(٤) نقله عنه في المختلف ١ : ١٨٣.

(٥) نقله عنه في الذكرى : ٩.

(٦) نقله عنه في الذكرى : ٨.

٥١٦

الثالث : في الماء الجاري

وهو السائل على وجه الأرض ، النابع منها ، أو ما نبع منها ولم يكن بئراً ، وهو لا ينجس بملاقاة النجاسة ، إلّا إذا تغيّر أحد أوصافه الثلاثة.

أما عدم التنجّس إذا لم يتغيّر فهو في الجملة إجماعيّ ، لكن العلامة اشترط كرّيته في أكثر كتبه (١).

لنا : الإجماع ، نقله ابن زهرة (٢) والمحقّق (٣) ، وهو ظاهر كلام الشيخ في الخلاف (٤) ، وفي الذكرى : إنّه لم يقف على مخالف ممن سلف (٥).

وأصالة البراءة والطهارة الثابتة بالأخبار ، مثل : «كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (٦) و «كلّ شي‌ء نظيف» (٧) ونحوهما.

وقد يتوهّم أنّ المستفاد منهما إنّما هي الطهارة إذا شك في عروض النجاسة ، لا في كون الشي‌ء سبباً للنجاسة شرعاً ، فإنّ الحمل على أنّ الجهل بالحكم الشرعي موجب للطهارة بعيد غير مأنوس.

وفيه نظر واضح ، فإنّ الجهل بالحكم الشرعي لا يوجب ذلك مطلقاً ، بل بعد استفراغ الوسع وبذل الجهد ، كما في أصل البراءة ، وهو نظير قوله عليه‌السلام : «كلّ شي‌ء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (٨).

__________________

(١) القواعد ١ : ١٨٢ ، المنتهي ١ : ٢٨ ، نهاية الأحكام ١ : ٢٢٨ ، التحرير ١ : ٤.

(٢) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٥١.

(٣) المعتبر ١ : ٤١.

(٤) الخلاف ١ : ١٩٥.

(٥) الذكرى : ٨.

(٦) الوسائل ١ : ١٠٦ أبواب الماء المطلق ب ٤ ح ٢.

(٧) الوسائل ٢ : ١٠٥٤ أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.

(٨) الفقيه ١ : ٢٠٨ ح ٩٣٧ ، الوسائل ١٨ : ١٢٧ أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٦٠.

٥١٧

والاستصحاب والصحاح المستفيضة الحاكمة بعدم جواز نقض اليقين إلّا بيقين (١).

وصحيحة محمَّد بن إسماعيل الاتية في ماء البئر ، الدالّة بالعلّة المنصوصة (٢) ، ويؤيّده ما ورد في ماء الحمّام أيضاً كما سيجي‌ء.

وعن نوادر الراوندي ، عن عليّ عليه‌السلام : «الماء الجاري لا ينجّسه شي‌ء» (٣) وغير ذلك من الأخبار عموماً وخصوصاً.

واحتجّ العلامة بقولهم عليهم‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء» (٤) في الأخبار الصحاح المستفيضة ، وترك الاستفصال في رواية إسماعيل بن جابر ، عن الصادق عليه‌السلام : عن قدر الماء الذي لا ينجّسه شي‌ء فقال : «كرّ» قلت : وما الكرّ؟ قال : «ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار» (٥) وصحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة في الماء القليل (٦).

والتحقيق في الجواب : أنّ تلك الأخبار وإن كانت خاصة ، والخاص يقدّم على العام ، لكنه مشروط بالمقاومة ، ولا تقاوم تلك ما ذكرنا. أما دلالة فلأنها مفاهيم ، وظاهرها الراكد كما لا يخفى على المتأمّل في سياق السؤال والجواب في كثير منها.

وأما رواية إسماعيل فالسؤال فيها عن قدر الماء الذي لا ينجّسه شي‌ء ، وتحديد عدم التنجّس من جهة المقدار لا ينافي عدم التنجّس من جهة وصف آخر كالجريان ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١ ، ٦.

(٢) التهذيب ١ : ٢٣٤ ح ٦٧٦ ، الوسائل ١ : ١٢٧ أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٧ ، ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر .. لأنّ له مادّة.

(٣) نوادر الراوندي : ٣٩ ، مستدرك الوسائل ١ : ١٩١ أبواب الماء المطلق ب ٥ ح ٤.

(٤) انظر الوسائل ١ : ١١٧ أبواب الماء المطلق ب ٩.

(٥) الكافي ٣ : ٣ ح ٧ ، التهذيب ١ : ٣٧ ح ١٠١ ، وص ٤١ ح ١١٥ ، الوسائل ١ : ١١٨ أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٧.

(٦) التهذيب ١ : ٤١٩ ح ١٣٢٦ ، الاستبصار ١ : ٢١ ح ٤٩ ، الوسائل ١ : ١١٥ أبواب الماء المطلق ب ٨ ح ١٣.

٥١٨

مع أنّ في سندها نوع تأمّل.

وأما اعتضاداً ، فلموافقة أدلّتنا للأصل والكتاب والسنة وعمل الطائفة ، واليسر والسهولة ونفي الحرج ، وغير ذلك.

مع أنّ النسبة بين تلك الأخبار وصحيحة محمَّد بن إسماعيل بن بزيع عموم من وجه ، ولا بدّ فيها من الرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة ، وهي مع أدلّتنا.

ثم إنّ الجاري إذا انقطع عن المادّة بحائل ونحوه فيخرج عن حكم الجاري.

ولعلّه إلى ذلك ينظر اشتراط الشهيد دوام النبع (١) ، لا إلى ما فهمه بعضهم من لزوم استمراره طول السنة (٢) ، وإلا لزم نجاسة العيون العظيمة التي تجري في الربيع وتنقطع في الصيف.

ولا ما فهمه بعضهم من أنّ المراد أن لا يكون بعنوان الرشح ، فإنّ ترشّحه آناً فآناً يدلّ على انعدام المادّة بين الأنين (٣). وفيه أنّه يصحّ إذا انحصر دليل الجاري في حكاية المادّة ، بل تكفي العمومات والصدق العرفي.

وإذا اتّصل القليل بالجاري فهو في حكمه إذا استويا أو كان الجاري أعلى ، وقد مرّ وجهه.

وذكر جماعة منهم الشهيد (٤) والمحقّق الثاني (٥) ، أنّ القليل يتقوّى بفوران الجاري من تحته ، والظاهر ذلك. وأما تقوّيه بالكثير كذلك فالظاهر أنّه أيضاً كذلك ، لصيرورتهما ماء واحداً ، هذا إذا كانت الفوّارة متّصلة بالماء.

وأما إذا كانت خارج الماء ، ولم تتصل من تحت ، فالأظهر عدم التقوّي في

__________________

(١) الدروس ١ : ١١٩.

(٢) روض الجنان : ١٣٥.

(٣) معالم الفقه : ١١٣.

(٤) الدروس ١ : ١١٩.

(٥) جامع المقاصد ١ : ١١٥.

٥١٩

الكرّ ، وفي الجاري إشكال ، ولا يبعد القول به ، لصدق الجاري. مع إمكان القول به في الكثير أيضاً ، لاندارجه في المقام الثاني من المقامين المتقدّمين في الكرّ ، وتنبّه صحيحة محمّد بن إسماعيل وغيرها عليه ، وليس ببعيد.

وأما نجاسته إذا تغيّر أحد أوصافه ، فبالإجماع ، والأخبار المستفيضة (١) ، وقد مرت الإشارة إليها. والكلام في التغيّر وأحكامه.

ثم إن تغيّر الجميع فلا ريب في نجاسة الجميع ، وإن تغيّر بعضه فإن قطع عمود الماء وهو ما بين حافّتيه فينجس المتغيّر وما تحته إن لم يكن كرّاً ، ويبقى ما تحته على الطهارة إن كان كرّاً متساوي السطوح أو منحدرة كما مرّ ، وأما ما فوقه فيبقى على الطهارة مطلقاً على الأقوى.

وقد يستشكل في الحكم الأوّل : بأنّه لم ينقطع عمّا فوق فلا يدخل في القليل ، فإنّ الماء يجري إلى ما تحت ، ولا يضره توسّط ماء نجس ، والأصل الطهارة.

وفيه : أنّه لو سلب الإطلاق بسبب التغيّر فلا ريب في الانقطاع ، ولا قائل بالفصل. مع أنّ الظاهر أنّ المتبادر من الأدلة والمستفاد من العلّة وهو الاستمداد من المادّة هو الاتصال بالمنبع ظاهراً ، مع أنّ الظاهر أنّه لا خلاف في المسألة.

تذنيب :

الظاهر من كلام جماعة من الأصحاب منهم العلامة مع قوله باشتراط الكرّيّة في الجاري : عدم نجاسة ما فوق النجاسة من الجاري ، وإن لم يكن كرّاً ، وإن كان الجاري لا عن مادّة (٢) ، ولكن الظاهر أنّ الإطلاق في الجاري لا عن مادّة وعلى القول باشتراط الكرّيّة مطلقاً إنّما هو فيما لو كان منحدراً ، ولم أجد خلاف ذلك في كلامهم ، وذلك لأنّه يدفع النجاسة عمّا فوق بتدافعه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٠٢ أبواب الماء المطلق ب ٣.

(٢) المنتهي ١ : ٢٩ ، جامع المقاصد ١ : ١١١.

٥٢٠