غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ١

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ١

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: عباس تبريزيان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-182-7
الصفحات: ٥٨٤

وأما اشتراط عدم زيادة الوزن (١) فهو بعيد ، وأبعد منه توقّف الطهارة على العلم به ، ولا ريب في بطلانه.

ولا يضرّ التعدّي عن المخرج إلّا إذا خرج به عن اسم الاستنجاء.

واشتراط سبق الماء على اليد ضعيف ، لإطلاق الأدلّة. نعم لو أصابت اليد المخرج من دون قصد الاستنجاء وتنجّست ثم أراد الاستنجاء فينجس بذلك ، لأنّ غسل هذه النجاسة لا يسمّى استنجاءً ، فيلزم صدق عنوان الاستنجاء ، وهذا مركّب من غُسالة الاستنجاء وغُسالة اليد النجسة قبل الاستنجاء.

ولا يذهب عليك أنّه لا تناقض فيما ما ذكرنا سابقاً وهاهنا من مدخليّة القصد في أمثال ذلك ، وعدم اشتراط النيّة في الواجبات التوصليّة كما يظهر بالتأمّل.

ثم إنّ الظاهر أنّه لا خلاف في عدم وجوب غسل ملاقي غُسالة الاستنجاء ، وقد تقدّم نقل الإجماع عن الفاضلين في عدم جواز رفع الحدث بمطلق الغُسالة أيضاً (٢).

ويبقى الإشكال في جواز رفع الخبث ثانياً وشربه ، وفي هذا تظهر ثمرة نزاعهم المشهورة في أنّ عدم وجوب الاجتناب عن ذلك إنّما هو للعفو أو للطهارة ، والأظهر بالنظر إلى الأدلّة هو الثاني.

ولعلّ نظر القائل بالأوّل إلى أنّ رفع الخبث مثلاً مشروط بالماء الطاهر ، ولا يستفاد من تلك الأخبار والأدلّة إلّا عدم وجوب غسل الملاقي ، وهو ليس بنصّ في الطهارة ، فلم يتحقّق شرط إزالة الخبث ، والشك في الشرط يستلزم الشك في المشروط.

السادس : المعروف بين الأصحاب توقّف طهارة الثياب وغيرها مما يرسب فيه

__________________

(١) كما في نهاية الأحكام ١ : ٢٤٤ ، والذكرى : ٩.

(٢) المعتبر ١ : ٩٠ ، المنتهي ١ : ١٤٢.

٤٦١

الماء على العصر (١) ، واستشكل العلامة فيما لو جفّ الثوب بعد الغسل من غير عصر (٢) ، وقال في البيان : لو أخلّ بالعصر في موضعه فالأقرب عدم الطهارة ، لأنّا نتخيّل (٣) خروج أجزاء النجاسة به (٤).

وقد يستدل عليه بأنّ النجاسة ترسخ في الثوب فلا تزول إلّا بالعصر. وفيه : أنّ ذلك لا يتمّ فيما لم يبق فيه للنجاسة عين.

وبأنّ الغُسالة نجسة ، فيجب إخراجها ، وفيه المنع المتقدّم.

وبقوله عليه‌السلام : «ثم يعصره» في رواية الحسين بن أبي العلاء المتقدّمة في بول الرضيع (٥). وهو أضعف من صاحبيه ، ويظهر وجهه مما مرّ ، فيحمل على الاستحباب أو على ما ذكرنا ثمة.

وأغرب المحقّق رحمه‌الله حيث استند في هذا المطلب إلى أنّ العصر داخل في مفهوم الغسل ، وبدون العصر يكون صبّاً.

واستشهد على ذلك برواية الحسين بن أبي العلاء ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البول يصيب الجسد ، قال : «صبّ عليه الماء مرّتين ، فإنّما هو ماء» وسألته عن الثوب يصيبه البول ، قال : «اغسله مرّتين» (٦) (٧).

وفيه نظر ظاهر ، إذ لو أراد أنّ العصر داخل في مطلق مفهوم الغسل فلا يساعده اللغة والعرف ، والكتاب والسنة مشحونة بخلافه في الوضوء والغسل وغيرهما. وإن

__________________

(١) منهم المحقّق في المعتبر ١ : ٤٣٥ ، والعلامة في المنتهي ٢ : ٢٦٥ ، ونهاية الأحكام ١ : ٢٧٨ ، والشهيد في الذكرى : ١٤ ، والكركي في جامع المقاصد ١ : ١٧٣.

(٢) التذكرة ١ : ٨٢.

(٣) في «ح» : نتحيّل. وما أثبتناه من المخطوطين هو الموافق للمصدر.

(٤) البيان : ٩٤.

(٥) الكافي ٣ : ٥٥ ح ١ ، التهذيب ١ : ٢٤٩ ح ٧١٤ ، الاستبصار ١ : ١٧٤ ح ٦٠٣ ، الوسائل ٢ : ١٠٠١ أبواب النجاسات ب ١ ح ٤ ، وب ٣ ح ١.

(٦) الكافي ٣ : ٥٥ ح ١ ، التهذيب ١ : ٢٤٩ ح ٧١٤ ، الاستبصار ١ : ١٧٤ ح ٦٠٣ ، الوسائل ٢ : ١٠٠١ أبواب النجاسات ب ١ ح ٤ ، وب ٣ ح ١.

(٧) المعتبر ١ : ٤٣٥.

٤٦٢

أراد أنّه داخل في خصوص غسل الثوب ، فلم نجد هذا الفرق في اللغة ولا في العرف.

مع أنّ ما استدلّ به من الرواية يضرّه ، إذ ظاهر مقابلة الصبّ بالغسل أنّه لا يجب الغسل في البدن ، وفيه أنّ الأمر به في الأخبار سيّما في الاستنجاء من البول وغيره مما لا يحصى.

مع أنّ الرواية التي نقلناها في بول الرضيع ناطقة بأن بول الرضيع قبل الأكل يصبّ عليه الماء ، وإذا أكل فيجب غسله ، وعلى هذا فيجب أن يكون بول الفطيم أقوى من بول الرجل.

وقد ذكرنا ثمة أنّ المراد بالصبّ هو الأعمّ من الغسل ، وأنّه لا يجب في بول الرضيع انفصال الماء ، بل ولا جريانه ، بخلاف ما لو أكل ، فيجب الجريان والانفصال ، سواء في ذلك البدن والثوب ، لإطلاق الرواية.

فعلى ما ذكرنا لا بدّ لنا من تأويل هذه الرواية : بأنّ المراد فيها أنّ الصبّ يكتفى به ، يعني لا حاجة إلى الدلك ، لا أنّه لا يجب تحصيل مسمى الغسل عرفاً ، لأنّ وجوب إجراء الماء وانفصاله مما ثبت بالإجماع والأخبار ، وإلّا فلم يبق فرق بينه وبين بول الرضيع.

فعلم أنّ المراد بالصبّ ليس هو الصبّ المذكور ثمة ، بل المراد نوع مخصوص من الغسل ، وذلك لا يوجب عدم وجوب الغسل وعدم صدق الغسل عليه ، ولا يوجب اختصاص الغسل بما كان فيه عصر. وحينئذٍ فيلزم ارتكاب خلاف الظاهر في اللفظين هنا (١) وإبقاؤهما على حقيقتهما في بول الرضيع.

نعم لو خصصت رواية الرضيع بالثوب ، وجعل معنى الصبّ في الروايتين واحداً ، لحصل فرق بين بول الرضيع وغيره في الثوب فقط ، لكنه تقييد لا دليل عليه. مع أنّه يلزم على هذا التجوّز في الروايتين بخلاف ما ذكرنا.

__________________

(١) ارتكاب خلاف الظاهر إنّما هو من جهة إطلاق الكلّي وإرادة الفرد مع قيد الخصوصيّة فليتدبر (منه رحمه‌الله).

٤٦٣

والتحقيق : أنّ الغسل في اللغة والعرف هو إجراء الماء على الجسم وفصله عنه ، ففيما لا حاجة في تحقّق ذينك المعنيين إلى أمر خارج سوى صبّ الماء فيتحقّق الغسل ، وأما ما يحتاج إليه فهو الذي يجب فيه العصر والتغميز لإجراء الماء على جميع أجزاء ذلك الجسم وفصله عنه ، وذلك لا يوجب دخول العصر في مفهوم الغسل ، بل إنّما هو شرط فيما لا يتمّ إلّا به في تحقّق المفهوم ، ولا يوجب عدم كون الصبّ على الأجسام الصلبة وفصله عنها غسلاً ، بل ومثل صبّ الماء على الصوف وما ينسج منه ، فإنّه يخرج منه الماء بنفسه بسهولة ، وهذا واضح لا سترة فيه.

ثمّ إنّ الغسل أمر متأصّل قد يطلب هو بنفسه وقد يتعدّى بمن ، فقد يقال : اغسل يديك وقد يقال اغسل يديك من البول ، فما يتعدّى إلى الغير تجب فيه ملاحظة إزالة ذلك الشي‌ء أيضاً سواء كان حدثاً أو خبثاً ، وسواء كان الخبث ذا جسم عيني أو لا ، فيجب الغسل فيما لا عين له لإزالة حكمه ، وفيما له عين لإزالة العين والحكم كليهما ، فقد يكون العصر دخيلاً في إزالة العين أيضاً.

فما ذكرنا من الأمرين هو السرّ في اعتبار الفقهاء العصر ، لا أنّه داخل في مفهوم الغسل.

وأما إخراج الماء وفصله بالجفاف فهو لا يفيد إتمام تحقّق مفهوم الغسل عرفاً.

وظهر مما ذكرنا ضعف ما قد يستدل على عدم لزوم العصر : بأنّ إطلاق ما دل على طهارة الثوب بالغسل يقتضي طهارة الماء المتخلّف في المحلّ ، وأنّه لا فرق بينه وبين المتخلّف بعد العصر وإنّ أمكن إخراجه بقوّة ، وهو ضعيف ، لما عرفت. والأخير (١) قياس.

وكذلك ما قيل : إنّ التحقيق يقتضي إناطة الحكم بما يتحقّق منه مسمى الغسل في العرف ، ويعلم منه إزالة النجاسة بأسرها ؛ وبناء الزائد على ذلك على نجاسة الغُسالة

__________________

(١) في «م» ، «ز» : والآخر.

٤٦٤

وطهارتها (١) ، ويتفرع عليه أنّ وضع الثوب النجس في المركن في الماء القليل بدون الغمز والعصر وتحقّق الغسل العرفي يوجب نجاسته وإن أُخرج من ساعته ، بخلاف ما لو تحقّقت المذكورات على القول بطهارة الغُسالة أو نجاستها مع القول بطهارة المحلّ أيضاً.

ثم إنّ المحقّق أوجب بعد كلّ غسل عصراً (٢) ، والشهيد في اللمعة عصراً بين الغسلتين (٣) ، والصدوق عصراً بعدهما (٤).

ولعلّ الأوّل ناظر إلى اعتبار العصر في مفهوم الغسل ، فوجوب الغسلتين يوجب العصرتين. وبناء الثاني على أنّه لإخراج أجزاء النجاسة. وبناء الثالث على أنّه لنجاسة الغُسالة مطلقاً ، فلا فائدة في العصر الأوّل ، والأحوط بل الأظهر هو الأوّل.

وفي لزوم العصر إذا غسل في الكثير قولان ، أشهرهما العدم (٥) ، بل الأظهر ، لعدم الإشكال في حكاية الغُسالة بعد زوال العين ، إنّما الإشكال في اشتراط انفصال الغُسالة في تحقّق الغسل ، ولا يبعد جعله نظير الغسل الارتماسي.

ويمكن أن يقال : إذا دخل الجسم في الماء تدريجاً فكلّ جزء يدخل في الماء فيمرّ عليه الماء وينفصل منه ولا ينفعل ، ثم يمر على الجزء الأخر (٦) وهكذا ، وذلك هو السر فيما اخترنا في الغسل الارتماسي أنّه يتمّ بتمام الانغماس ، ولا يحتاج إلى الخروج أو التحرّك بعده ؛ وإن كان ما اخترناه موافقاً لإطلاق النص الوارد فيه أيضاً.

ثم بعد ظهور وجه اعتبار العصر ، فلا فرق فيه بين الليّ والكبس والغمز.

ويكفي في اللحاف والفرش الثخينة والوسائد الكثيرة الحشو الدقّ والتغميز

__________________

(١) المعالم : ٣٢٣ ، ونقله عن بعض أفاضل المتأخّرين في الذخيرة : ١٦٢.

(٢) المعتبر ١ : ٤٣٥.

(٣) اللمعة الدمشقيّة : ١٦.

(٤) الفقيه ١ : ٤٠.

(٥) ذهب إليه العلّامة في التذكرة ١ : ٨١ ، ونهاية الأحكام ١ : ٧٩ ، والشهيد في البيان : ٩٣.

(٦) في «م» ، «ز» : الأخير.

٤٦٥

ونحو ذلك مما يُخرج الماء إذا سرت النجاسة إلى باطنها ، وإلّا فيغسل ظاهرها ويمسح عليها بقوّة ليخرج منها أجزاء النجاسة وماء الغسل. أما مع عدم العلم بالنفوذ إلى الباطن فظاهر (١) ، وأما مع النفوذ فيكفي أيضاً غسل الظاهر في طهارة الظاهر ، لبطلان السراية.

ويظهر من الشيخ في الخلاف عدم الخلاف في ذلك ، حيث نسب القول به إلى بعض العامّة في مبحث عدم جواز تطهير بعض الثوب النجس ، معلّلاً بأنّه مجاور لأجزاء نجسة فتسري إليه النجاسة فيتنجّس ، ثم دفعه (٢).

والدليل على البطلان هو عدم الدليل عليه ، وإشعار كثير من الروايات به ، وللزوم نجاسة مفازة رحبة الفضاء إذا ابتلّ جميعها بمجرّد نجاسة جزء منها لو قلنا بها ، لأنّ الرطوبة لا يصدق عليها أنّها ماء قليل حتّى يشملها ما دلّ على نجاسته ، مع أنّ أدلّة نجاسة القليل أخبار في موارد خاصّة لا يتمّ الاستدلال بها في أصل الماء إلّا بضميمة الإجماع المركب ، فكيف بما ليس بماء.

وأما ما يتوهّم أنّ النجاسة إذا لاقت شيئاً رطباً تنجّسه ، فإذا انضمّ إليه أنّ المتنجّس ينجس فتثبت السراية ، ففيه مع منع مثل ذلك العموم : أنّ ذلك إذا لاقى النجس شيئاً رطباً ، أو لاقى رطب نجساً ، لا إذا تنجّس أحد المتلاقيين وإن كان مجاورة رطباً.

وأما الأخبار التي أشرنا إليها ، فمنها ما ورد في السمن والعسل إذا ماتت فيه فأرة : أنّه تلقى هي وما حولها ، ويؤكل الباقي (٣).

ومنها صحيحة إبراهيم بن أبي محمود في غسل الطنفسة والفراش الثخين

__________________

(١) في «م» : فطاهر.

(٢) الخلاف ١ : ١٨٥ مسألة ١٤١ ، نقل الخلاف في ذلك عن ابن القاص. وقد حكاه عنه النووي في المجموع ٢ : ٥٩٤.

(٣) الوسائل ١٦ : ٤٦١ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤٣.

٤٦٦

يصيبهما البول ، كيف يصنع بهما وهو ثخين كثير الحشو؟ قال : «يغسل منه ما ظهر في وجهه» (١). وتؤيّده رواية إبراهيم بن عبد الحميد (٢).

وبالجملة الأصل عدمه ، وعدم الدليل دليل العدم. ويؤيّده تطهير اللوح الوسيع بمثل الإبريق ونحوه.

فمن فروع المسألة : جواز تطهير ما حول موضع الفصد إذا تعدّى الدم ، ولو وضع الإصبع عليه فأظهر ، بل وجواز غسل علم من سطح جسم محاط بالنجاسة ، ويبقى طرفاه على النجاسة.

بقي الكلام في مقامات :

الأوّل : المشهور في كلام المتأخّرين أنّ ما لا يمكن إخراج الغُسالة منه كالتراب والدقيق لا يمكن تطهيره بالقليل ، ويظهر وجهه بعد التأمّل فيما تقدّم من اعتبار العصر أو نجاسة الغُسالة.

وأما تطهيره بالكثير فلعلّه لا خلاف فيه إذا علم وصول الماء إلى جميع الأجزاء وإزالة النجاسة ، وإن كان قد يستشكل فيه على القول بدخول العصر في الغسل ، وقد عرفت التحقيق.

وعن الشيخ في الخلاف (٣) : جواز تطهير الأرض بأن يصبّ الماء عليها حتّى يكاثره ويقهره فيزيل لونه وطعمه ورائحته ، واحتجّ بأنّ التكليف بما زاد حرج ، وبالرواية العاميّة المتضمّنة لأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بإهراق ذَنوب من ماء على بول الأعرابي في المسجد ، وقوله بعده : «علّموا ويسّروا ولا تعسّروا» (٤).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٥ ح ٢ ، الفقيه ١ : ٤١ ح ١٥٩ ، التهذيب ١ : ٢٥١ ح ٧٢٤ ، الوسائل ٢ : ١٠٠٤ أبواب النجاسات ب ٥ ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٥٥ ح ٣ ، الوسائل ٢ : ١٠٠٤ أبواب النجاسات ب ٥ ح ٢.

(٣) الخلاف ١ : ٤٩٤ مسألة ٢٣٥.

(٤) سنن ابن ماجة ١ : ١٧٦ ح ٥٢٩ ، ٥٣٠ ، سنن الترمذي ١ : ٢٧٥ ح ١٤٧ ، ١٤٨ ، سنن أبي داود ١ : ١٥٧ ح ٣٨٠ ، ٣٨١ ، مسند أحمد ٢ : ٢٣٩.

٤٦٧

وقد يستدلّ على ذلك بما ورد من الأمر برش الماء في البِيَع والكنائس وبيوت المجوس والصلاة عليه في صحيحة عبد الله بن سنان (١) ورواية أبي بصير (٢) ، فإنّ فيهما إشعار بإمكان التطهير. والاعتماد على هذه الأدلّة مشكل وإن كان لا يخلو من قرب.

نعم لا يمكن الحكم بوجوب غسل الملاقي بعد ذلك ، لتعارض الاستصحابين.

وقد يقال : إنّه يكفي في تطهير الأرض إجراء الماء على وجه الأرض بحيث يغمرها ثم يجري إلى موضع آخر ، فيكون ما انتهى إليه نجساً ، ويشكل ذلك مع رخاوة الأرض.

نعم هذا حسن فيما لو كانت الأرض مفروشة بالأجر والساج ونحوهما ، إلّا أن يتشبّث بعموم مثل قوله عليه‌السلام : «الماء يطهّر» و: «جعل الله الماء طهوراً» (٣) وهو أيضاً مشكل.

الثاني : ذكر جمع من الأصحاب أنّه لا يجوز تطهير مثل الصابون والفواكه والخبز والقرطاس والحبوب والجبن مما لا تنفصل عنه الغُسالة بالعصر في القليل ، ولا ينقل عنهم خلاف في الكثير.

ولا بدّ أن يكون مرادهم من الصابون هو ما إذا كان رطباً ، ومن الفاكهة ما إذا كانت مقطوعة ، وإلّا فالصابون اليابس كالحجر ، والتفّاح الصحيح ليس بأرخى من البدن ، وكذلك قشر الرقّي ، ووجهه معلوم مما سبق.

وقد يستشكل في ذلك : بأنّه مستلزم للحرج والضرر. وأنّ المتخلّف في المذكورات ربّما يكون أقلّ من المتخلّف في الحشايا بعد الدق والتغميز. وقد حكموا بطهارتها ، بإطلاق الأمر بالغسل (٤).

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٢٢ ح ٨٧٥ ، الوسائل ٣ : ٤٣٨ أبواب مكان المصلّي ب ١٣ ح ٢.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٢٢ ح ٨٧٧ ، الوسائل ٣ : ٤٣٩ أبواب مكان المصلّي ب ١٤ ح ٣.

(٣) الوسائل ١ : ٩٩ أبواب الماء المطلق ب ١.

(٤) انظر المدارك ٢ : ٣٣١.

٤٦٨

والأوّل لا يمكن الاعتماد عليه في المقام ، والثاني قياس ، والثالث غير معلوم ، فإنّ الأمر بالغسل إنّما هو في الثوب والبدن والأواني وبعض الموارد المخصوصة التي ليس ما نحن فيه منها ، إلّا أن يتشبث بمثل عموم : «الماء يطهر».

وظنّي أنّه لا إشكال في تطهير مثل الفواكه الصلبة مثل التفّاح والكمّثرى والسفرجل وبعض أفراد البطيخ بعد القطع بالقليل أيضاً ، لانفصال الغُسالة عنها عرفاً ، ولبطلان السراية.

نعم يشكل في مثل حبّ العنب المقطوع ، وما يتليّن من المباطخ والخوخ والمشمش ونحو ذلك إلى أن يخرج إلى حد المضاف فيندرج فيما يأتي.

وأما مثل اللحم وألية الضأن ونحوهما ، فالظاهر جواز التطهير بالقليل ، وفي خصوص تطهير اللحم الذي ينجس في المرق بموت الفأرة أو بمسكر روايتان معمولتان (١) ، ولكن يشكل فيما يشرب الماء النجس إلّا أن يعلم وصول الماء إلى أعماقه ، ولا تدل الروايتان صريحاً على هذه الصورة (٢) ، بل الظاهر تنزيلهما على ما لم يعلم مكث النجس في المرق كثيراً أو غليه معه ، ولا يبعد دعوى ظهورهما في ذلك أيضاً.

أما تطهيرهما في الكثير بعد التشرّب أيضاً فالظاهر عدم الإشكال فيه ، وعدم لزوم العصر أيضاً.

الثالث : المشهور بين الأصحاب عدم جواز تطهير المائعات النجسة إلّا الماء ، وإن قيل إنّه أيضاً ليس بتطهير له ، لعدم بقائه قائماً بحاله متميزاً ، والمتبادر من التطهير هو

__________________

(١) انظر الوسائل ٢ : ١٠٥٦ أبواب النجاسات ب ٣٨ ح ٨ ، وج ١٦ : ٤٦٣ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤٤ ح ١.

(٢) ويمكن أن يقال : إنّ إطلاق الروايتين مؤيّد للقول بجواز الغسل في المركن مع ورود النجاسة على الماء أيضاً كما مرّ ، فيجوز تطهير اللحم بالقليل مطلقاً ، وفي صورة أن يلقى اللحم النجس في المركن الذي فيه الماء ويبقى فيه حتى يحصل العلم بوصول الماء إلى أعماقه ثم يفرغ منه الماء ، ثم يفعل به كذلك ثانياً ، ومن ذلك تظهر قوّة القول بحصول التطهير وإن لم يقصد في الصورة التي ذكرناها في تطهير الأوّل له واستشكلنا فيها ، ولا بدّ من التأمّل فإنّ المقام لا يصفو عن الإشكال (منه رحمه‌الله).

٤٦٩

ذلك. نعم إن قلنا بكفاية الاتصال فيتحقّق في بعض الصور كما يأتي ، لكنه ضعيف.

وذهب العلامة إلى جوازه بممازجتها للمطلق الكثير وإن خرج عن إطلاقه أو بقي اسمها في أحد قوليه (١) ، وله قول آخر بطهارة الدهن خاصّة إذا صبّ في الكثير وضرب فيه حتّى اختلطت أجزاؤه وإن اجتمعت بعد ذلك على وجهه (٢).

وهو ضعيف ، لوجوب وصول الماء إلى جميع أجزاء النجس ، وهو غير ممكن إلّا بصيرورته مطلقاً ، فتنتفي الفائدة ، إلّا في مثل العسل والدبس بأن يغلي الماء حتّى يذهب ويبقى الدبس والعسل.

وأما الدهن فهو لا تختلط أجزاؤه مع الماء بالعيان ، إلّا أن يغلي في الكثير حتّى يختلط ، ومع ذلك أيضاً لا يخلو عن تأمّل. ويدلّ عليه مضافاً إلى ما تقدّم من الأخبار المعتبرة الإمرة بالاستصباح بالدهن المتنجّس الناهية عن الأكل (٣).

ثم إنّ الظاهر جواز الصبغ بالمائع النجس ثم تطهير المصبوغ بالماء حتّى يزول المائع النجس الموجود فيه واستهلاكه بالمطلق ، وإن جفّ فيكفي وضعه في الماء الكثير حتّى يصل الماء إلى أغواره.

وأما ليقة (٤) الحبر والشنجرف المتنجّسين ، فالظاهر عدم جواز تطهيرها رطبة ، إلّا بعد زوالهما بالكليّة. وأما بعد التجفيف فالظاهر التطهير بالكثير إن فرض عدم خروج الماء عن الإطلاق بالتداخل والتخلخل ، والظاهر إمكانه.

السابع : يشترط في ماء الغسل الطهارة بالإجماع أعني ابتداء والإطلاق ، لأنّه المتبادر من الغسل عند الإطلاق ، والمنصوص عليه في الأخبار ، مثل حسنة

__________________

(١) التذكرة ١ : ٨٨.

(٢) المنتهي ٢ : ٢٩١.

(٣) الوسائل ١٦ : ٤٦١ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٤٣.

(٤) الليقة صوفة الدواة. المنجد : ٧٩٦.

٤٧٠

الحسين بن أبي العلاء (١) وحسنة أبي إسحاق النحوي (٢) المتقدّمتين.

وصحيحة محمّد الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام : عن رجل أجنب في ثوبه وليس معه غيره ، قال : «يصلي فيه ، فإذا وجد الماء غسله» (٣).

ولو سلّم شمول إطلاقات الغسل لغير المطلق فنحملها على المقيد لو لم نقل بأنّ الأمر بالغسل بالماء ورد مورد الغالب ، وإلّا فتكفي الإطلاقات ، لانصرافها إلى المطلق ، فيبقى غيره مسكوتاً عنه ، ومطهريته تحتاج إلى دليل ، ولأنّ النجاسة اليقينيّة يحتاج زوالها إلى اليقين ، وليس إلّا في المطلق.

مع أنّ الدخول في الصلاة مشروط بطهارة البدن والثوب ، وحصول الطهارة مشكوك فيه ، إلّا في المطلق.

وما يقال : إنّ عموم قوله عليه‌السلام : «كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر» يفيد أنّ الماء القليل إذا لاقى ما غسل بالمضاف لا يتنجّس ، لعدم حصول العلم ، فيكون ذلك الجسم المطهّر بالمضاف طاهراً. لا يخفى ما فيه ، لأنّ المراد والله يعلم حتّى أنّه ينجس بملاقاته للنجس الواقعي ، لا أنّه طاهر حتّى يعلم أنّ ما لاقاه نجس ، مع أنّه لا منافاة بين إعمال الدليلين لتعارض الاستصحابين.

وعن السيد (٤) والمفيد (٥) جواز الإزالة بسائر المائعات ، وكذا عن ابن أبي عقيل عند الضرورة (٦).

احتجّ السيد بالإجماع ، وهو غريب.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٥ ح ١ ، التهذيب ١ : ٢٤٩ ح ٧١٤ ، الاستبصار ١ : ١٧٤ ح ٦٠٣ ، الوسائل ٢ : ١٠٠١ أبواب النجاسات ب ١ ح ٤.

(٢) التهذيب ١ : ٢٤٩ ح ٧١٦ ، الوسائل ٢ : ١٠٠١ أبواب النجاسات ب ١ ح ٣.

(٣) الفقيه ١ : ٤٠ ح ١٥٥ ، الوسائل ٢ : ١٠٦٦ أبواب النجاسات ب ٤٥ ح ١.

(٤) المسائل الناصريّة (الجوامع الفقهيّة) : ١٨٣ ، ونقله عن شرح الرسالة في المعتبر ١ : ٨٢.

(٥) نقله عنه في المعتبر ١ : ٨٢.

(٦) نقله عنه في المختلف ١ : ٢٢٢.

٤٧١

وبقوله تعالى (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (١) وهو أغرب ، لأنّ المعنى اللغوي لا يجدي في المطلوب ، وثبوت المعنى الشرعي بالمضاف أوّل الدعوى. مع ما ورد تفسيره بقصّر وشمّر وغير ذلك.

وبإطلاق الأوامر بغسل البدن والثوب ، وهو يشمل الغسل بالمضاف لغةً وعرفاً. وفيه مع أنّ الإطلاقات تنصرف إلى المتعارف كما في قولك : «اسقني» يحمل على المقيّد كما ذكرنا.

وبأنّ الغرض من الطهارة إزالة العين ، وهي تحصل به ، مستشهداً بما دلّ على جواز إزالة الدم بالبصاق كما دلّت عليه موثّقتا غياث بن إبراهيم (٢) ، وعمل عليهما ابن الجنيد (٣) ، وبرواية حكم بن حكيم المتقدّمة في مسألة المتنجّس (٤).

وفيه : أنّ انحصار الغرض ممنوع ، والروايتان شاذتان مهجورتان مؤوّلتان ، وما أشبه هذا الاستدلال بأن يكون مأخذ ما ذهب إليه السيد رحمه‌الله في جواز إزالة النجاسة ، عن الأجسام الصقيلة كالمرأة والسيف بالمسح بما يذهب عين النجاسة (٥) ، وهو أيضاً شاذ مطروح ، ولا يمكن الاعتماد على هذا الدليل ، وزوال النجاسة يحتاج إلى دليل شرعي.

وأفرط بعضهم حيث جعل المعيار في غرض الشارع وجوب إزالة العين كيف ما اتفق ، خرج ما خرج بالدليل على وجوب الغسل بالماء مثل الثوب والبدن ، وبقي الباقي.

وفرّع على ذلك جواز إزالة عين النجاسة من الأجسام الصقيلة بالمسح ، كما

__________________

(١) المدثر : ٤.

(٢) التهذيب ١ : ٤٢٣ ح ١٣٣٩ ، وص ٤٢٥ ح ١٣٥٠.

(٣) نقله عنه في المختلف ١ : ٤٩٣.

(٤) الكافي ٣ : ٥٦ ح ٧ ، الوسائل ٢ : ١٠٣٦ أبواب النجاسات ب ٢٦ ح ١٣.

(٥) نقله عنه في المختلف ١ : ٤٩٢.

٤٧٢

ذهب إليه السيد ، وطهارة البواطن بمجرّد زوال العين ، وطهارة أعضاء الحيوان المتنجّسة غير الآدمي (١).

ويظهر بطلانه من تتبع موارد ما ورد في أقسام التطهير ، والنجاسة حكم ثابت من الشرع ، ورفعها يحتاج إلى دليل ، وطهارة البواطن إنّما تثبت بالاتفاق ظاهراً ، وبلزوم الحرج ، وبموثّقة عمار ، عن الصادق عليه‌السلام : عن رجل يسيل من أنفه الدم ، هل عليه أن يغسل باطنه ، يعني جوف الأنف؟ فقال : «إنّما عليه أن يغسل ما ظهر منه» (٢).

وتؤيّده صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أحدهما عليه‌السلام : في الرجل يمسّ أنفه في الصلاة فيرى دماً ، كيف يصنع؟ قال : «إن كان يابساً فليرم به ، ولا بأس» (٣).

وموثّقة زرارة : في المضمضة والاستنشاق وأنّهما ليسا بفريضة ولا سنّة : «إنّما عليه أن يغسل ما ظهر» (٤).

ويشكل ببقايا الغذاء خلال الأسنان ، ولا يبعد تطهيرها بالمضمضة مرّتين.

والأظهر أنّ الرطوبة الخارجة من الأنف مثلاً طاهرة إذا خلت عن النجاسة ، وإن كان في باطنه دم ، ويشكل مع العلم بمرورها على عين النجاسة.

وأما طهارة أعضاء الحيوان غير الآدمي بزوال العين ، فيدلّ عليه ظاهر الإجماع المنقول عن الخلاف ، فإنّه بعد ما قال «إنّ الهرّة لو أكلت ميتاً ثم شربت من الماء القليل لم ينجس بذلك سواء غابت أو لم تغب ، وحكى عن بعض العامّة أنّه قال : إن شربت قبل أن تغيب عن العين لا يجوز الوضوء به» استدلّ بإجماع الفرقة على طهارة سؤر الهرّ ، وعدم فصلهم ، والأخبار الصحيحة المستفيضة الدالة على طهارة

__________________

(١) كالكاشاني في المفاتيح ١ : ٧٧.

(٢) الكافي ٣ : ٥٩ ح ٥ ، التهذيب ١ : ٤٢٠ ح ١٣٣٠ ، الوسائل ٢ : ١٠٣٢ أبواب النجاسات ب ٢٤ ح ٥.

(٣) الكافي ٣ : ٣٦٤ ح ٥ ، التهذيب ٢ : ٣٢٤ ح ١٣٢٧ ، الوسائل ٢ : ١٠٣١ أبواب النجاسات ب ٢٤ ح ٢.

(٤) التهذيب ١ : ٧٨ ح ٢٠٢ ، الاستبصار ١ : ٦٧ ح ٢٠١ ، الوسائل ٢ : ١٠٣٢ أبواب النجاسات ب ٢٤ ح ٧.

٤٧٣

سؤر الحيوانات ، سيّما الهرّة ، مع أنّ الغالب في الهرّة أنّها تأكل الميتة (١).

ويمكن القدح فيها : بأنّ التأمّل فيها يقتضي أنّ عدم المنع ونفي البأس إنّما هو من جهة كونه سؤراً لها.

وموثّقة عمار ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سئل عما يشرب منه باز أو صقر أو عُقاب فقال : «كلّ شي‌ء من الطير يتوضّأ مما يشرب منه إلّا أن ترى في منقاره دماً ، فإن رأيت في منقاره دماً فلا تتوضّأ ولا تشرب» (٢) وزاد الشيخ : وسئل عما شربت منه الدجاجة ، فقال : «إن كان في منقارها قذر لم يتوضّأ منه ولم يشرب ، وإن لم تعلم في منقارها قذراً فتوضّأ واشرب» (٣).

وذهب العلامة في النهاية إلى اعتبار الغيبة في الهرّة واحتمال ولوغها في الجاري أو الكر (٤) ، وحاصله يرجع إلى تعارض الاستصحابين ، فالاعتماد على استصحاب طهارة الملاقي ، لا ثبوت الطهارة للهرة ، وهو بعيد للزوم الحرج الشديد.

والظاهر أنّ تلك الأخبار مع الإجماع المنقول وعمل الأصحاب كافية في إثبات الطهارة.

وأما الآدمي فتشترط الغيبة بمقدار إمكان التطهير فيه قطعاً ، ولكن اشترط بعضهم علمه بالنجاسة وأهليّته للإزالة (٥) ، وزاد بعضهم تلبّسه بما يشترط بالطهارة أيضاً.

والحقّ أن يقال : إن أُريد الحكم بطهارة الإنسان فيشترط فيه التلبّس بالمذكور ، وإن أُريد عدم نجاسة الملاقي فهو يثبت بمجرّد حصول احتمال الطهارة له على

__________________

(١) الخلاف ١ : ٢٠٣ مسألة ١٦٧ ، ونقل الخلاف عن بعض أصحاب الشافعي. وانظر المجموع ١ : ١٧٠ ، وأما روايات سؤر الهرّة فهي في الوسائل ١ : ١٦٤ أبواب الأسآر ب ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٩ ح ٥ ، التهذيب ١ : ٢٢٨ ح ٦٦٠ ، الاستبصار ١ : ٢٥ ح ٦٤ ، الوسائل ١ : ١٦٦ أبواب الأسآر ب ٤ ح ٢.

(٣) التهذيب ١ : ٢٨٤ ح ٨٣٢ ، الاستبصار ١ : ٢٥ ح ٦٤ ، الوسائل ١ : ١٦٦ أبواب الأسآر ب ٤ ح ٣.

(٤) نهاية الأحكام ١ : ٢٣٩.

(٥) المقاصد العليّة : ٩٠.

٤٧٤

أيّ وجه اتفق.

الثامن : إذا علم موضع النجاسة غُسل ، وإن اشتبه غُسل ما يحصل فيه الاشتباه وإن كان كلّه فإن كان في ثوب واحد مثلاً فالظاهر عدم الخلاف فيه ، وتظهر دعوى الإجماع عليه من الفاضلين وغيرهما (١). ويدلّ عليه مضافاً إلى الاستصحاب وعدم جواز نقض اليقين بالشك المستفاد من الصحاح وغيرها : خصوص الصحاح المستفيضة (٢). وكذلك الكلام في البدن.

وإن كان في ثياب متعدّدة أو فرش متعدّدة أو نحو ذلك ، فإن كانت محصورة ، فالمشهور وجوب اجتناب ما حصل فيه الاشتباه ، وقيل : ظاهر جماعة من الأصحاب أنّه لا خلاف في ذلك (٣).

وعندي فيه تأمّل ، فإنّ الأصل براءة الذمة عن التكليف حتّى يثبت المخرج ، وليس إلّا فيما حصل العلم بالنجاسة ، وحصول العلم إنّما هو إذا استعمل الجميع ، والكلام فيه كالكلام في المشتبه بالحرام. ويؤيّده عدم وجوب الغسل إذا وجد المني في الثوب المشترك على أحد منهما.

وما يتمسّك به من أنّ الحرام والنجس يجب الاجتناب عنهما ، ومع العلم بحصولهما في المجموع لا يتمّ الاجتناب إلّا بترك الجميع ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب. ففيه أنّ ما ثبت وجوب الاجتناب عنه هو ما علمت نجاسته أو ما علمت حرمته ، لا ما يكون حراماً أو نجساً. نعم لما لم يمكن الاجتناب فيما لو تناول الجميع فيجب التجنّب عنه. ويؤيّده في الحرام صحيحة عبد الله بن سنان (٤) وغيرها.

__________________

(١) المحقّق في المعتبر ١ : ٤٣٨ ، والعلامة في المنتهي ١ : ٢٩٤ ، والتذكرة ١ : ٨٨.

(٢) الوسائل ٢ : ١٠٠٦ أبواب النجاسات ب ٧.

(٣) المنتهي ١ : ٤٧٥.

(٤) الفقيه ٣ : ٢١٦ ح ١٠٠٢ ، التهذيب ٩ : ٧٩ ح ٣٣٧ ، الوسائل ١٦ : ٤٩٥ أبواب الأطعمة المحرّمة ب ٦٤ ح ٢.

٤٧٥

وبالجملة النسبة بين أصل البراءة وقاعدة وجوب المقدّمة عموم من وجه ، وفي الأحكام والأخبار لكلّ واحد منهما مخالف في الجملة ، كحلّيّة مال الغاصب المختلط ومال السارق ونجاسة الإناءين المشتبهين ، فإما أن تخصص قاعدة وجوب المقدّمة ، أو قاعدة أصل البراءة ، والترجيح لأصل البراءة. سيّما وقاعدة وجوب المقدّمة لا تتم فيما نحن فيه كما عرفت.

وبالجملة الحكم بوجوب الاجتناب في المحصور غير واضح المأخذ ، إلّا أن يدّعى عليه الإجماع ، وهو غير معلوم.

وكيف كان ، فالأظهر أنّ المراد بنجاسة الجميع : هو أنّه لا يجوز استعمالها في المشروط بالطهارة ، كالثوب في الصلاة ، والأرض في السجود ، والماء في الوضوء ، لا أنّ حكمها حكم النجاسة حتّى يجب الاجتناب عما لاقاها رطباً ، فإنّ الأصل طهارة الملاقي ، ولا يجوز نقض اليقين بالشك. ويظهر من العلامة في مسألة الإناءين جعلها من باب النجاسات (١) ، وهو ضعيف.

وأما غير المحصور ، فلم يختلفوا في عدم وجوب الاجتناب ، وجميع الأجزاء باقية على الطهارة ، ويؤيّده لزوم الحرج والعسر.

وذكروا في تحديد المحصور وغير المحصور وجوهاً ، أوجهها : حمل غير المحصور على ما يعدّ اجتنابه حرجاً وعسراً ، وعدم تحديد ذلك في الأخبار وكلام الأصحاب أيضاً مؤيّد لما ذكرنا.

وقد جعلوا من المشتبه ما لو اشتبه من جهة تعارض البينتين على تقدير قبولها في إثبات النجاسة ، فقد تتعارضان في شي‌ء واحد ، بأن تشهد إحداهما بطهارته والأُخرى بنجاسته ، فقيل : إنّه ملحق بالمشتبه بالنجس (٢) ، وهو ضعيف ، لعدم حصول العلم بالنجس في الجملة ، لتعارضهما وتساقطهما. وقيل : بترجيح بينة

__________________

(١) المنتهي ١ : ١٧٨.

(٢) القواعد ١ : ١٩٠.

٤٧٦

الطهارة لاعتضادها بالأصل (١) ، وقيل : تترجّح بينة النجاسة لتقديم الناقل على المقرر (٢) ، وهو ضعيف.

وإن تعارضتا في إناءين ، وتصحيح فرضه بأن تنحصر النجاسة في شي‌ء واحد ، ولم يعلم قبل البينة وصولها إلى أحدهما ، فشهدت إحدى البينتين على وقوعها على أحد الإناءين والأُخرى على وقوعها على الأخر ، فذهب جماعة إلى إلحاقه بالمشتبه بالنجس (٣) ، ولا وجه له ، لتعارض البينتين ، وتساقطهما.

وما يقال : إنّهما مجتمعتان على نجاسة أحدهما ، فهو كلام ظاهريّ ، إذ أحدهما الذي تشهد عليه إحداهما غير أحدهما الذي تشهد عليه الأُخرى ، كما لا يخفى.

وأما لو فرضت صورة يمكن الجمع بينهما فيعمل عليهما ، ولكنه خارج عن المتنازع.

واعلم أنّه يظهر من تتبع الأخبار ، مثل ما ورد في المني والبول المشكوكين ، وملاقاة الكلب وأخويه يابساً ، والمذي وعرق الجنب وبول البعير والشاة ، وما مرّ من نضح البِيَع والكنائس وغير ذلك : أنّ ما شك في حصول النجاسة أو توهّم هناك نجاسة ، أو لاقى مكروهاً ، فيستحب نضح الماء عليه.

وادّعى المحقّق على استحبابه في ملاقاة الكلب والخنزير والكافر يابساً إجماع علمائنا (٤).

وتدل عليه صحيحة البقباق في الكلب (٥) ، ومرسلة حريز وغيرهما (٦) ، وصحيحة عليّ بن جعفر في الخنزير (٧).

__________________

(١) حكاه في الإيضاح ١ : ٢٤ ، ونقله عن المعالم واختاره في الحدائق ١ : ٥٢٢.

(٢) السرائر ١ : ٨٧.

(٣) التحرير ١ : ٦ ، جامع المقاصد ١ : ١٥٥.

(٤) المعتبر ١ : ٤٤٠.

(٥) التهذيب ١ : ٢٦١ ح ٧٥٩ ، الوسائل ٢ : ١٠٣٤ أبواب النجاسات ب ٢٦ ح ٢.

(٦) الكافي ٣ : ٦٠ ح ١ ، التهذيب ١ : ٢٦٠ ح ٧٥٦ ، الوسائل ٢ : ١٠٣٤ أبواب النجاسات ب ٢٦ ح ٣ ، ٤ ، ٧.

(٧) التهذيب ١ : ٢٦١ ح ٧٦٠ ، الوسائل ٢ : ١٠١٧ أبواب النجاسات ب ١٣ ح ١.

٤٧٧

وأما الكافر ، فقال في المدارك : لم أقف فيه على نص ، وكذا في الذخيرة (١). ويمكن أن يستدل عليه بصحيحة الحلبي ، عن الصادق عليه‌السلام : عن الصلاة في ثوب المجوسي فقال : «يرشّ بالماء» (٢) وعن ابن حمزة القول بالوجوب تبعاً لظاهر الأمر (٣) ، والأظهر الاستحباب ؛ لأنّ فهم الأصحاب وعملهم وسياق الأخبار قرينة على الاستحباب ظاهرة.

وعن الشيخ استحباب المسّ بالتراب للبدن إذا لاقى النجس يابساً (٤) ، قال المحقّق : ولم يثبت (٥) ، وفي المدارك لم نقف على سنده (٦).

أقول : وتكفي فتوى الشيخ ، مع أنّ رواية خالد القلانسي تدلّ عليه قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ألقى الذمّي فيصافحني ، قال : «امسحها بالتراب» (٧).

واختلفوا فيما إذا حصل الظنّ بالنجاسة ، فاعتبره أبو الصلاح مطلقاً (٨) ، ومنعه ابن البرّاج كذلك (٩).

والمشهور بين المتأخّرين اعتباره إذا حصل من شهادة العدلين (١٠) ، واشترط بعضهم تبيين السبب (١١) ، واعتبر بعضهم العدل الواحد مطلقاً (١٢) ، وقيّده بعضهم بما إذا أخبر

__________________

(١) المدارك ٢ : ٣٤١ ، الذخيرة : ١٧٩.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٦٢ ح ١٤٩٨ ، الوسائل ٢ : ١٠٩٣ أبواب النجاسات ب ٧٣ ح ٣.

(٣) الوسيلة : ٧٧.

(٤) المبسوط ١ : ٣٨.

(٥) الشرائع ١ : ٤٦.

(٦) المدارك ٢ : ٣٤٣.

(٧) الكافي ١ : ٤٧٥ ح ١١ ، الوسائل ٢ : ١٠١٩ أبواب النجاسات ب ١٤ ح ٤ ، بزيادة : وبالحائط.

(٨) الكافي في الفقه : ١٤٠.

(٩) المهذب ١ : ٢٧ ، جواهر الفقه : ٩.

(١٠) المبسوط ١ : ٩ ، السرائر ١ : ٨٦ ، المختلف ١ : ٢٥٠.

(١١) حكاه عن بعض الأصحاب واستحسنه في المعالم : ١٦٣.

(١٢) التذكرة ١ : ٩٠ ، الذكرى : ١٢.

٤٧٨

بنجاسة إنائه (١) ، واكتفى بعضهم باعتبار قول ذي اليد الفاسق أيضاً (٢) ، وقيّد جماعة قبول خبر ذي اليد بما قبل استعمال الغير فلا يسمع بعد الاستعمال (٣).

حجّة أبي الصلاح : أنّ الشرعيّات ظنيّة ، وأنّ العمل بالمرجوح مع قيام الراجح باطل.

وردّ بمنع الأوّل ، وأنّ العمل بالمرجوح قبيح بعد ثبوت الدليل الراجح ، ومطلق الظن ليس بدليل.

وربّما يستدلّ له بأنّ الصلاة مشروطة بالثوب الطاهر ، والوضوء بالماء الطاهر ، والألفاظ أسامٍ للأُمور النفس الأمريّة ، فلا أقلّ من لزوم تحصيل الظنّ بالطهارة ، فكيف يصحّ مع ظن النجاسة؟

ولو منع وجود ما يدلّ على اشتراط الطاهر ، فلا أقلّ مما دلّت عليه الأخبار والأدلّة من اشتراط عدم وقوع القذر في الماء ، وعدم وصول شي‌ء من النجاسات إلى الثوب والبدن (٤) ، فنقول أيضاً : حصول ذلك مضرّ في نفس الأمر ، ولا أقلّ من كفاية الظن به.

وتدفعه الأخبار المستفيضة المعتبرة الواردة في أنّ الماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر ، أو كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر ، وما في معناها (٥). والصحاح المصرّحة بعدم جواز نقض اليقين إلّا بيقين (٦). وتتبّع موارد الأحكام الشرعيّة الدالّة على ذلك في عدم غسل الرجل إذا خرج من الحمّام ، وطهارة منسوجات الكفار وملبوساتهم وأوانيهم وما أُعير لهم ، والتوضّؤ من فضل وضوء المسلمين وغيرها ، مع عمل

__________________

(١) المنتهي ١ : ٥٦.

(٢) القواعد ١ : ١٩٠.

(٣) التذكرة ١ : ٢٤.

(٤) الوسائل ١ : ١٢٥ أبواب الماء المطلق ب ١٣.

(٥) الوسائل ١ : ١٠٦ أبواب الماء المطلق ب ٤.

(٦) الوسائل ١ : ١٧٤ أبواب نواقض الوضوء ب ١.

٤٧٩

السلف من غير نكير ، ولزوم العسر والحرج.

بل الظاهر عدم استحباب اعتبار الظن غالباً ، إلّا أن يكون عليه نص بالخصوص ، لاستلزامه كسر قلوب المسلمين ، وانجراره إلى الوسواس غالباً ، بل و (١) عدم إمكان ذلك في الجميع ، وعدم المرجّح للبعض.

ومما ذكرنا ظهرت حجّة ابن البرّاج ، وهي في غاية القوّة.

وأما مستند قبول قول العدلين ، فهو أنّه معتبر في الشرع ، ولذلك يردّ المبيع إذا ادّعى عيبه بالنجاسة وشهد عليه عدلان.

وردّ بعدم ثبوت ما يدلّ على اعتباره فيما نحن فيه عموماً أو خصوصاً ، وثبوت الرد بذلك العيب لا يستلزم نجاسته مطلقاً ، ولي في ذلك توقّف ، فلا بدّ من الاحتياط إلى أن يقع التأمّل التام.

وأما قبول قول العدل الواحد ، فلا حجّة عليه إلّا القياس بالرواية ، وهو كما ترى.

وأما قبول قول ذي اليد فهو أيضاً مما لم تظهر عليه حجّة واضحة ، وما قرع سمعك من تنزيل أقوال وأفعال المسلمين على الصحّة والصدق لا يكفي في إثبات الحكم ، فإنّ المراد من ذلك حمل قوله على الصحّة ، يعني أنّه مظنون الصدق ، ولا يلزم من ذلك أن يكون حجّة على غيره في إثبات حكم أو تكليف أو رفع شي‌ء ثابت موافق لأصل البراءة.

والحاصل أنّ أفعالهم صحيحة ، وأقوالهم صادقة يعمل على مقتضى صحّتها وصدقها ، إلّا أن تكون معارضة بمثلها ، أو موجبة لتكليف ، أو مستلزمة لضرر على الغير.

ولذلك تراهم لا يتعرّضون لمن في يده شي‌ء أو تحته زوجة أو غيرهما إلى أن يدّعي عليه آخر ، وحينئذٍ يحتاج إلى قواعد أُخر في طي الدعوى.

__________________

(١) في «ح» : وقد.

٤٨٠